Translate

الأربعاء، 30 مارس 2022

مجلد2-كتاب المورد العذب في المواعظ والخطب

 

ج2.كتاب المورد العذب في المواعظ والخطب

والثاني أنها ساعات الليل من غير تعيين قاله قتادة في آخرين
وفي قوله تعالى وهم يسجدون قولان
أحدهما أنه كناية عن الصلاة قاله مقاتل و الفراء و الزجاج
والثاني أنه السجود المعروف وليس المراد انهم يتلون في حال السجود ولكنهم جمعوا الأمرين التلاوة والسجود
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين
قوله تعالى وما يفعلوا من خير فلن يكفروه قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم تفعلوا وتكفروه بالتاء في الموضعين على الخطاب لقوله تعالى كنتم خير أمة قال قتادة فلن تكفروه لن يضل عنكم وقرأ قوم منهم حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وعبد الوارث عن أبي عمرو يفعلوا ويكفروا بالياء فيهما إخبارا عن الأمة القائمة وبقية أصحاب أبي عمرو يخبرون بين الياء والتاء
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا اولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون
قوله تعالى مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا اختلفوا فيمن انزلت على أربعة أقوال

أحدها أنها في نفقات الكفار وصدقاتهم قاله مجاهد
والثاني في نفقة سفلة اليهود على علمائهم قاله مقاتل
والثالث في نفقة المشركين يوم بدر
والرابع في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي وقال السدي إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم وفي الصر ثلاثة أقوال
أحدها أنه البرد قاله الاكثرون
و الثاني أنه النار قاله ابن عباس وقال ابن الأنباري و إنما وصفت النار بأنها صر تصويتها عند الالتهاب
والثالث أن الصر التصويت والحركة من الحصى والحجارة ومنه صرير النعل ذكره ابن الأنباري والحرث الزرع وفي معنى ظلموا أنفسهم قولان
أحدهما ظلموها بالكفر والمعاصي ومنع حق الله تعالى
والثاني بأن زرعوا في غير وقت الزرع
قوله تعالى وما ظلمهم الله قال ابن عباس أي ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه و إنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة وحدثنا عن ثعلب قال بدأ الله تعالى هذه الآية بالريح والمعنى على الحرث كقوله تعالى كمثل الذي ينعق بما لا يسمع و إنما المعنى على المنعوق به وقريب منه قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن فخبر عن الازواج وترك الذين كأنه قال أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن فبدأ بالذين ومراده بعد الأزواج وأنشد

لعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ديان أن يتندما ...
فخبر عن ابن أبي ديان وترك نفسه و إنما أراد لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلة وقد يبدأ بالشيء والمراد التأخير كقوله تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة الزمر60 والمعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم قال ابن عباس و مجاهد نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار والرضاع والحلف فنهوا عن مباطنتهم قال الزجاج البطانة الدخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم يقال فلان بطانة لفلان أي مداخل له مؤانس ومعنى لا يألونكم لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يضركم
قوله تعالى ودوا ما عنتم أي ودوا عنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه وضر يقال فلان يعنت فلانا أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه وأصل هذا من قولهم أكمة عنوت إذا كانت طويلة شاقة المسلك قال ابن قتيبة ومعنى من دونكم أي من غير المسلمين والخبال الشر
قوله تعالى قد بدت البغضاء من أفواههم قال ابن عباس أي قد ظهر لكم منهم

الكذب والشتم ومخالفة دينكم قال القاضي أبو يعلى وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة باهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال أحمد لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب وروي عن عمر أنه بلغه أن ابا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وقال لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم الله
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا آمنا و إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور
قوله تعالى ها أنتم أولاء تحبونهم قال ابن عباس كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود فنزلت هذه الآية والخطاب بهذه الآية للمؤمنين قال ابن قتيبة ومعنى الكلام ها أنتم يا هؤلاء فأما تحبونهم فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال
أحدها أنها الميل اليهم بالطباع لموضع القرابة والرضاع والحلف وهذا المعنى منقول عن ابن عباس
والثاني أنها بمعنى الرحمة لهم لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد وهذا المعنى منقول عن قتادة
والثالث أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان روي عن أبي العالية
والرابع أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم وهم يريدون المسلمين على الكفر وهذا قول المفضل و الزجاج والكتاب بمعنى الكتب قاله الزجاج

قوله تعالى و إذا لقوكم قالوا آمنا هذه حالة المنافقين وقال مقاتل هم اليهود والأنامل أطراف الأصابع قال ابن عباس والغيظ الحنق عليكم وقيل هذا من مجاز الكلام ضرب مثلا لما حل بهم و إن لم يكن هناك عض على أنملة ومعنى موتوا بغيظكم ابقوا به حتى تموتوا و إنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما قال ابن جرير هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا من الغيظ
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط
قوله تعالى إن تمسسكم حسنة قال قتادة وهي الألفة والجماعة والسيئة الفرقة والاختلاف وإصابة طرف من المسلمين وقال ابن قتيبة الحسنة النعمة والسيئة المصيبة
قوله تعالى وإن تصبروا فيه قولان أحدهما على أذاهم قاله ابن عباس
والثاني على أمر الله قاله مقاتل
وفي قوله تعالى وتتقوا قولان
أحدهما الشرك قاله ابن عباس والثاني المعاصي قاله مقاتل
قوله تعالى لا يضركم قرأ ابن كثير ونافع و ابو عمرو يضركم بكسر الضاد وتخفيف الراء وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء قال الزجاج الضر والضير بمعنى واحد فأما الكيد فقال ابن قتيبة هو المكر قال أبو سليمان الخطابي والمحيط الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه وأحاط علمه بالأشياء كلها
وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم

قوله تعالى وإذ غدوت من أهلك قال المفسرون في هذا الكلام تقديم وتأخير تقديره ولقد نصركم الله ببدر وإذ غدوت من أهلك وقال ابن قتيبة توىء من قولك بوأتك منزلا إذا أفدتك إياه أو أسكنتكه ومعنى مقاعد للقتال المعسكر والمصاف واختلفوا في أي يوم كان ذلك على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم أحد قاله عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود و ابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن اسحاق وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال والثاني أنه يوم الأحزاب قاله الحسن ومجاهد ومقاتل
والثالث يوم بدر نقل عن الحسن أيضا قال ابن جرير والأول أصح لقوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد
قوله تعالى والله سميع عليم قال أبو سليمان الدمشقي سميع لمشاورتك إياهم في الخروج ومرادهم للخروج عليم بما يخفون من حب الشهادة
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا قال الزجاج كنت النبوئة في ذلك الوقت وتفشلا تجبنا ويخورا والله وليهما أي ناصرهما قال جابر بن عبد الله نحن هم بنو سلمة وبنو حارثة وما نحب أن لو لم يكن ذلك لقول الله والله وليهما وقال الحسن هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك فعصمهما الله وقيل لما رجع عبد الله ابن أبي في أصحابه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه فعصمهما الله

فصل
فأما التوكل فقال ابن عباس هو الثقة بالله وقال ابن فارس هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك ويقال فلان وكله تكلة أي عاجز يكل أمره إلى غيره وقال غيره هو تفعل من الوكالة يقال وكلت أمري إلى فلان فتوكل به أي ضمنه وقام به وأنا متوكل عليه وقال بعضهم هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره
ولقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون
قوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر في تسمية بدر قولاان
أحدهما أنها بئر لرجل اسمه بدر قاله الشعبي
والثاني أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه ذكره الواقدي عن أشياخه
قوله تعالى وأنتم أذلة أي لقلة العدد والعدد لعلكم تشكرون أي لتكونوا من الشاكرين
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين
قوله تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم قال الشعبي قال كرز بن جابر لمشركي مكة إني أمدكم بقومي فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان
أحدهما يوم بدر قاله ابن عباس وعكرمة و مجاهد وقتادة

والثاني يوم أحد وعدهم فيه بالمدد إن صبروا فلما لم يصبروا لم يمدوا روي عن عكرمة و الضحاك و مقاتل والأول أصح والكافية مقدار سد الخلة والاكتفاء الاقتصار على ذلك والإمداد إعطاء الشيء بعد الشيء
قوله تعالى منزلين قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي وشددها ابن عامر
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
قوله تعالى ويأتوكم من فورهم هذا فيه قولان
أحدهما أن معناه من وجههم وسفرهم هذا قاله ابن عباس والحسن وقتادة و مقاتل و الزجاج
والثاني من غضبهم هذا قاله عكرمة و مجاهد و الضحاك في آخرين قال ابن جرير من قال من وجههم أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر ومن قال من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه يقال فارت القدر إذا ابتدأ مافيها بالغليان ثم اتصل وقال ابن فارس الفور الغليان يقال فارت القدر تفور وفار غضبه إذا جاش ويقولون فعله من فوره أي قبل أن يسكن

وفي يوم فورهم قولان
أحدهما أنه يوم بدر قاله قتادة
والثاني يوم أحد قال مجاهد و الضحاك كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا
قوله تعالى مسومين قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها فمن فتح الواو أراد أن الله سومها ومن كسرها أراد أن الملائكة سومت أنفسها وقال الأخفش سومت خيلها وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم بدر سوموا فان الملائكة قد سومت ونسب الفعل اليها فهذا دليل الكسر قال ابن قتيبة ومعنى مسومين معلمين بعلامة الحرب وهو من السيماء مأخوذ والسومة العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه قال علي رضي الله عنه وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها وقال أبو هريرة العهن الأحمر وقال مجاهد كانت أذناب خيولهم مجزوزة وفيها العهن وقال هشام بن عروة كانت الملائكة على خيل بلق وعليهم عمائم صفر وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال حضرت انا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا فأقبلت سحابة فلما دنت من الخيل سمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعنا فارسا يقول أقدم حيزوم فأما صاحبي فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم انتعشت وقال أبو داود المازني إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه

فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله
وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال
أحدها خمسة آلاف قاله الحسن وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه قال بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه
والثاني أربعة آلاف قاله الشعبي والثالث ألف قاله مجاهد
والرابع تسعة آلاف ذكره الزجاج

والخامس ثمانية آلاف ذكره بعض المفسرين
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
قوله تعالى وما جعله الله يعني المدد إلا بشرى أي إلا بشارة تطيب أنفسكم ولتطمئن قلوبكم به فتسكن في الحرب ولا تجزع والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر وقال مجاهد يوم أحد وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم في اليومين بالملائكة جميعا غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر
قوله تعالى وما النصر إلا من عند الله أي ليس بكثرة العدد والعدد
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين
قوله تعالى ليقطع طرفا معناه نصركم ببدر ليقطع طرفا قال الزجاج أي ليقتل قطعة منهم وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان
أحدهما في يوم بدر قاله الحسن وقتادة والجمهور
والثاني يوم أحد قتل منهم ثمانية وعشرون قاله السدي
قوله تعالى أويكبتهم فيه سبعة أقوال
أحدها أن معناه يهزمهم قاله ابن عباس و الزجاج
والثاني يخزيهم قاله قتادة و مقاتل
والثالث يصرعهم قاله أبو عبيد واليزيدي وقال الخليل هو الصرع على الوجه
والرابع يهلكهم قاله أبو عبيدة والخامس يلعنهم قاله السدي
والسادس يظفر عليهم قاله المبرد

والسابع يغيظهم قاله النضر بن شميل واختاره ابن قتيبة وقال ابن قتيبة أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال كأن الأصل فيه يكبدهم أي يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ وشدة العداوة ومنه يقال فلان قد أحرق الحزن كبده وأحرقت العداوة كبده والعرب تقول العدو اسود الكبد قال الأعشى ... فما أجشمت من إتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود ...
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت ومنه يقال للعدو كاشح لأنه يخبأ العداوة في كشحه والكشح الخاصرة و إنما يريدون الكبد لأن الكبد هناك قال الشاعر ... وأضمر أضغانا علي كشوحها ...
والتاء والدال متقاربتا المخرج والعرب تدغم احداهما في الاخرى وتبدل احداهما من الاخرى كقولهم هرت الثوب وهرده إذا خرقه وكذلك كبت العدو وكبده ومثله كثير
قوله تعالى فينقلبوا خائبين قال الزجاج الخائب الذي لم ينل ما أمل وقال غيره الفرق بين الخيبة واليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد الامل واليأس قد يكون من غير أمل

ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون
قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز و جل فنزلت هذه الآية أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لعن قوما من المنافقين فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم هم بسب الذين انهزموا يوم أحد فنزلت هذه الآية فكف عن ذلك نقل عن ابن مسعود و ابن عباس
والرابع أن سبعين من أهل الصفة خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم عصية وذكوان فقتلوا جميعا فدعا النبي صلى الله عليه و سلم عليهم أربعين يوما فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ابن سليمان

والخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى حمزة ممثلا به قال لأمثلن بكذا وكذا منهم فنزلت هذه الآية قاله الواقدي وفي معنى الآية قولان
أحدهما ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء
والثاني ليس لك من النصر والهزيمة شيء وقيل إن لك بمعنى إليك
قوله تعالى أو يتوب عليهم قال الفراء في نصبه وجهان إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى ليقطع طرفا وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتى كما تقول لا أزال معك حتى تعطيني ولما نفى الأمر عن نبيه أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى ولله ما السموات وما في الأرض
ولله ما في ما السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا قال أهل التفسير هذه الآية نزلت

في ربا الجاهلية قال سعيد بن جبير كان الرجل يكون له على الرجل المال فاذا حل الأجل فيقول أخر عني وأزيدك على مالك فتلك الأضعاف المضاعفة

واتقوا النار التي أعدت للكافرين
قوله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا قال الزجاج والمعنى اتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا
وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات و الأرض أعدت للمتقين
قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم كلهم أثبت الواو في وسارعوا إلا نافعا وابن عامر فانهما لم يذكراها وقال أبو علي وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام فمن قرأ بالواو عطف وسارعوا على وأطيعوا ومن حذفها فلأن الجملة الثانية متلبسة بالأولى فاستغنت عن العطف ومعنى الآية بادروا إلى ما يوجب المغفرة وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال
أحدها أنه الاخلاص قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه
والثاني أداء الفرائض قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
والثالث الإسلام قاله ابن عباس

والرابع التكبيرة الاولى من الصلاة قاله أنس بن مالك
والخامس الطاعة قاله سعيد بن جبير والسادس التوبة قاله عكرمة
والسابع الهجره قاله أبوالعالية والثامن الجهاد قاله الضحاك
والتاسع الصلوات الخمس قاله يمان والعاشر الأعمال الصالحة قاله مقاتل
قوله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض قال ابن قتيبة أراد بالعرض السعة ولم يرد العرض الذي يخالف الطول والعرب تقول بلاد عريضة أي واسعة وقال النبي صلى الله عليه و سلم للمنهزمين يوم أحد لقد ذهبتم فيها عريضة
قال الشاعر ... كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل ...
قال وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول و إذا عرض الشيء اتسع و إذا لم يعرض ضاق ودق وقال سعيد بن جبير لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين
قوله تعالى الذين ينفقون في السراء والضراء قال ابن عباس في العسر واليسر ومعنى الآية انهم رغبوا في معاملة الله فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا
قوله تعالى والكاظمين الغيظ قال الزجاج يقال كظمت الغيظ إذا

أمسكت على ما في نفسك منه وكظم البعير على جرته إذا رددها في حلقه وقال ابن الأنباري الأصل في الكظم الإمساك على غيظ وغم وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى
قوله تعالى والعافين عن الناس فيه قولان
أحدهما أنه العفو عن المماليك قاله ابن عباس والربيع
والثاني أنه على إطلاقه فهم يعفون عمن ظلمهم قاله زيد بن أسلم و مقاتل
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفورا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين
قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمرا فضمها وقبلها ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس

والثاني أن أنصاريا وثقفيا آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينها فخرج الثقفي مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فدخل ولم يستأذن فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبله ثم ندم فأدبر راجعا فقالت سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك قال فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله من ذنبه فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فندم على صنيعه فوافقه ساجدا يقول ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك مخرجا فرجع إلى المدينة فنلزت هذه الآية بتوبته رواه أبو صالح عن ابن عباس وذكره مقاتل
والثالث أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان احدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأ هذه الآية والتي قبلها هذا قول عطاء واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء أم لقوم آخرين على قولين
أحدهما أنها نعت لهم قاله الحسن
والثاني أنها لصنف آخر قاله ابو سليمان الدمشقي
والفاحشة القبيحة وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش وفي المراد بها هاهنا قولان
أحدهما أنها الزنى قاله جابر بن زيد والسدي و مقاتل
والثاني أنها كل كبيرة قاله جماعة من المفسرين

واختلفوا في الظلم المذكور بعدها فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة وقالوا الظلم للنفس فاحشة أيضا وفرق آخرون فقالوا هو الصغائر وفي قوله تعالى ذكروا الله قولان
أحدهما أنه ذكر اللسان وهو الاستغفار قاله ابن مسعود وعطاء في آخرين
والثاني أنه ذكر القلب ثم فيه خمسة أقوال
أحدها أنه ذكر العرض على الله قاله الضحاك
والثاني أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة قاله الواقدي
والثالث ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا قاله ابن جرير
والرابع ذكر نهي الله لهم عنه
والخامس ذكر غفران الله ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي
فأما الإصرار فقال الزجاج هو الإقامة على الشىء وقال ابن فارس هو العزم على الشىء والثبات عليه وللمفسرين في المراد بالاصرار ثلاثة أقوال
أحدها أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به وهذا مذهب مجاهد
والثاني أنه الثبوت عليه من غير استغفار وهذا مذهب قتادة وابن اسحاق

والثالث أنه ترك الاستغفار منه وهذا مذهب السدي وفي معنى وهم يعلمون ثلاثة أقوال
أحدها وهم يعلمون أن الإصرار يضر وان تركه أولى من التمادي قاله ابن عباس والحسن
والثاني يعلمون أن الله يتوب على من تاب قاله مجاهد و أبو عمارة
والثالث يعلمون انهم قد أذنبوا قاله السدي و مقاتل
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن السنن جمع سنة وهي الطريقة وفي معنى الكلام قولان
أحدهما قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم وهذا قول ابن عباس
والثاني قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم فاعتبروا بهم وهذا قول مجاهد وفي معنى فسيروا في الأرض قولان
أحدهما أنه السير في السفر قاله الزجاج إذا سرتم في أسفاركم عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم والثاني أنه التفكر ومعنى فانظروا اعتبروا والعاقبة آخر الأمر
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
قوله تعالى هذا بيان للناس قال سعيد بن جبير هذه الآية أول ما نزل من آل عمران وفي المشار إليه ب هذا قولان
أحدهما أنه القرآن قاله الحسن وقتادة و مقاتل
والثاني أنه شرح أخبار الأمم السالفة قاله ابن اسحاق والبيان الكشف عن الشىء وبان الشىء اتضح وفلان أبين من فلان اي أفصح قال الشعبي هذا بيان للناس من العمى وهدى من الضلالة وموعظة من الجهل
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا سبب نزولها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أنهزموا يوم أحد أقبل خالد بن الوليد يخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال

النبي صلى الله عليه و سلم اللهم لا يعلون علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك فنزلت هذه الآيات قاله ابن عباس قال ابن عباس و مجاهد ولا تهنوا أي ولا تضعفوا وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال
أحدها أنه قتل إخوانهم من المسلمين قاله ابن عباس
والثاني أنه هزيمتهم يوم أحد وقتلهم قاله مقاتل
والثالث أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه و سلم من شجه وكسر رباعيته ذكره الماوردي
والرابع أنه ما فات من الغنيمة ذكره علي بن أحمد النيسابوري
قوله تعالى وأنتم الأعلون قال ابن عباس يقول أنتم الغالبون فآخر لكم
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين
قوله تعالى إن يمسسكم قرح قال ابن عباس أصابهم يوم أحد قرح فشكوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما لقوا فنزلت هذه الآية فأما المس فهو الإصابة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو وابن عامر ونافع قرح بفتح القاف وقرأ حمزة والكسائي و أبو بكر عن عاصم قرح بضم القاف واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا فقال أبو عبيد القرح بالفتح الجراح والقتل والقرح بالضم ألم الجراح وقال الزجاج هما في اللغة بمعنى واحد ومعناه الجراح وألمها قال ومعنى نداولها أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون فأما إذا أطاعوا فهم منصورون قال

ومعنى ليعلمه الله أي ليعلم واقعا منهم لأنه عالم قبل ذلك و إنما يجازي على ما وقع وقال ابن عباس معنى العلم هاهنا الرؤية
قوله تعالى ويتخذ منكم شهداء قال أبو الضحى نزلت في قتلى أحد قال ابن جريج كان المسلمون يقولون ربنا أرنا يوما كيوم بدر نلتمس فيه الشهادة فاتخذ منهم شهداء يوم أحد قال ابن عباس والظالمون هاهنا المنافقون وقال غيره هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبي المنافق
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
قوله تعالى وليمحص الله الذين آمنوا قال الزجاج معنى الكلام جعل الله الايام مداولة بين الناس ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين وفي التمحيص قولان
أحدهما أنه الابتلاء والاختبار وأنشدوا ... رأيت فضيلا كان شيئا ملففا ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا ...
وهو قول الحسن و مجاهد والسدي و مقاتل و ابن قتيبة في آخرين
والثاني أنه التنقية والتخليص وهو قول الزجاج وحكي عن المبرد قال يقال محص الحبل محصا إذا ذهب منه الوبر حتى تخلص ومعنى قولهم اللهم محص عنا ذنوبنا أذهبها عنا وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص التخليص يقال محصت الشىء أمحصه محصا إذا أخلصته فعلى القول الأول التمحيص ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم وعلى الثاني هو تنقيتهم من الذنوب بذلك قال الفراء معنى الآية وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا

قوله تعالى ويمحق الكافرين فيه أربعة أقوال
أحدها يهلكهم قاله ابن عباس والثاني يذهب دعوتهم قاله مقاتل
والثالث ينقصهم ويقللهم قاله الفراء
والرابع يحبط أعمالهم ذكره الزجاج
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم تنظرون
قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت قال ابن عباس لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة رغبوا في ذلك فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون باخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فنزل فيهم ولقد كنتم تمنون الموت يعني القتال من قبل أن تلقوه أي من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد فقد رأيتموه يومئذ قال الفراء و ابن قتيبة أي رأيتم أسبابه وهي السيف ونحوه من السلاح وفي معنى و وأنتم تنظرون ثلاثة أقوال
أحدها تنظرون إلى السيوف قاله ابن عباس
والثاني أنه ذكر للتوكيد قاله الأخفش وقال الزجاج معناه فقد رأيتموه و انتم بصراء كما تقول رأيت كذا وكذا وليس في عينك علة أي رأيته رؤية حقيقة

والثالث أن معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم وفي الآية إضمار أي فقد رأيتموه و انتم تنظرون فلم انهزمتم
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
قوله تعالى وما محمد إلا رسول قال ابن عباس صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فقال قوم لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا ولو كان محمد حيا لم نهزم فترخصوا في الفرار فنزلت هذه الآية وقال الضحاك قال قوم من المنافقين قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول فنزلت هذه الآية وقال قتادة قال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال ناس من علية أصحاب رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به فنزلت هذه الآية ومعنى الآية أنه يموت كما ماتت قبله الرسل إفان مات على فراشه أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء أتنقلبون على أعقابكم أي ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا على سبيل المثل يقال لكل من رجع عما كان عليه قد انقلب على عقبيه وأصله رجعة القهقرى والعقب مؤخر القدم
قوله تعالى فلن يضر الله شيئا أي لن ينقص الله شيئا برجوعه و إنما يضر نفسه وسيجزي أي يثيب الشاكرين وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها انهم الثابتون على دينهم قاله علي رضي الله عنه وقال كان أبو بكر أمير الشاكرين
والثاني انهم الشاكرون على التوفيق والهداية و الثالث على الدين

وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين
قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله في الإذن قولان
أحدهما أنه الأمر قاله ابن عباس والثاني الإذن نفسه قاله مقاتل
قال الزجاج ومعنى الآية وما كانت نفس لتموت إلا باذن الله
قوله تعالى كتابا مؤجلا توكيد والمعنى كتب الله ذلك كتابا مؤجلا أي كتابا ذا أجل والأجل الوقت المعلوم ومثله في التوكيد كتاب الله عليكم النساء 24 لأنه لما قال حرمت عليكم امهاتكم النساء 22 دل على أنه مفروض فأكد بقوله كتاب الله عليكم النساء 24 وكذلك قوله تعالى صنع الله النمل 88 لأنه لما قال وترى الجبال تحسبها جامدة النمل 88 دل على أنه خلق الله فأكد بقوله صنع الله
قوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها أي من قصد بعمله الدنيا أعطي منها قليلا كان أو كثيرا ومن قصد الاخرة بعمله أعطي منها وقال مقاتل عنى بالآية من ثبت يوم أحد ومن طلب الغنيمة
فصل
وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الاسراء 18 والصحيح أنه محكم لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته
ومعنى قوله تعالى نؤته منها أي ما نشاء وما قدرنا له ولم يقل ما يشاء هو

وكأين من نبي قاتل مع ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
قوله تعالى وكأين من نبي قرأ الجمهور وكأين في وزن كعين وقرأ ابن كثير وكائن في وزن كاعن قال الفراء أهل الحجاز يقولون كأين مثل كعين ينصبون الهمزة ويشددون الياء وتميم يقولون وكائن كأنها فاعل من كئت وأنشدني الكسائي ... وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا ... على ابن غدا منه شجاع وعقرب ...
وقال آخر ... وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة ... على الله عقباها ومنه ثوابها ...
وقال ابن قتيبة كائن بمعنى كم مثل قوله وكأين من قريةعتت عن أمر ربها الطلاق 8 وفيها لغتان كأين بالهمزة وتشديد الياء وكائن على وزن قائل وبائع وقد قرىء بهما جميعا في القرآن والأكثر والأفصح تخفيفها قال الشاعر ... وكائن أرينا الموت من ذي تحية ... إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم
وقال الآخر ... وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم ...
قوله تعالى قاتل معه ربيون قرأ ابن كثير ونافع أبو عمرو وأبان والمفضل

كلاهما عن عاصم قتل بضم القاف وكسر التاء من غير ألف وقرأ الباقون قاتل بألف وقرأ ابن مسعود و أبورزين و أبو رجاء والحسن وابن يعمر وابن جبير وقتادة وعكرمة وأيوب ربيون بضم الراء وقرأ ابن عباس وأنس وابو مجلز و أبوالعالية والجحدري بفتحها فعلى حذف الألف يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون قتل للنبي وحده ويكون المعنى وكأين من نبي قتل ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتله
والثاني أن يكون قتل للربيين ويكون فما وهنوا لمن بقي منهم وعلى إثبات الألف يكون المعنى أن القوم قاتلوا فما وهنوا وفي معنى الربيين خمسة أقوال
أحدها انهم الألوف قاله ابن مسعود و ابن عباس في رواية واختاره الفراء
والثاي الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة و الضحاك وقتادة والسدي والربيع واختاره ابن قتيبة
والثالث انهم الفقهاء والعلماء رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الحسن واختاره اليزيدي و الزجاج والرابع أنهم الاتباع قاله ابن زيد
والخامس أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى قاله ابن فارس
قوله تعالى فما وهنوا فيه قولان
أحدهما أنه الضعف قاله ابن عباس و ابن قتيبة والثاني أنه العجز قاله قتادة
قال ابن قتيبة والاستكانه الخشوع والذل ومنه أخذ المسكين وفي معنى الكلام قولان
أحدهما فما وهنوا بالخوف وما ضعفوا بنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع

والثاني فما وهنوا لقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
قوله تعالى وما كان قولهم يعني الربيين إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا أي لم يكن قولهم غير الاستغفار والإسراف مجاوزة الحد وقيل أريد بالذنوب الصغائر وبالإسراف الكبائر
قوله تعالى وثبت اقدامنا قال ابن عباس على القتال وقال الزجاج معناه ثبتنا على دينك فإن الثابت على دينه ثابت في حربه
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين
قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا فيه قولان
أحدهما أنه النصر قاله قتادة والثاني الغنيمة قاله ابن جريج وروي عن ابن عباس أنه قال النصر والغنيمة
وفي حسن ثواب الآخرة قولان احدهما أنه الجنة
والثاني الأجر والمغفرة وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا قال ابن عباس نزلت في قول ابن أبي للمسلين لما رجعوا من أحد لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المنافقون على قول ابن عباس و مقاتل
والثاني أنهم اليهود والنصارى قاله ابن جريج
و الثالث أنهم عبدة الأوثان قاله السدي قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم ومعنى يردوكم على أعقابكم يصرفوكم إلى الشرك فتنقلبوا خاسرين بالعقوبة
بل الله مولكم وهو خير الناصرين قوله تعالى بل الله مولاكم أي وليكم ينصركم عليهم فاستغنوا عن موالاة الكفار
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين
قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب قال السدي لما ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق وقالوا قتلتموهم حتى إذا لم يبق الا الشرذمة تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب ونزلت هذه الآية والإلقاء القذف والرعب الخوف قرأ ابن كثير ونافع وعاصم و أبو عمرو

وحمزة الرعب ساكنة العين خفيفة وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقول و أبو جعفر مضمومة العين مثقله أين وقعت والسلطان هاهنا الحجة في قول الجماعة والمأوى المكان الذي يؤوى إليه والمثوى المقام والثوى الإقامة قال ابن عباس والظالمون هاهنا الكافرون
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين
قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده قال محمد بن كعب القرظي لما رجع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه من أحد قال قوم منهم من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت هذه الآية وقال المفسرون وعد الله تعالىالمؤمنين النصر بأحد فنصرهم فلماخالفوا وطلبوا الغنيمة هزموا وقال ابن عباس ما نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في موطن ما نصر في أحد فأنكر ذلك عليه فقال بيني وبينكم كتاب الله إن الله يقول ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه فأما الحس فهو القتل قاله ابن عباس والحسن و مجاهد والسدي والجماعة وقال ابن قتيبة تحسونهم أي تستأصلونهم بالقتل يقال سنة حسوس إذا أتت على كل شيء وجراد محسوس إذا قتله البرد
وفي قوله تعالى باذنه ثلاثة أقوال

أحدها بأمره قاله ابن عباس والثاني بعلمه قاله الزجاج
و الثالث بقضائه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى حتى إذا فشلتم قال الزجاج أي جبنتم وتنازعتم أي اختلفتم من بعد ما أراكم ما تحبون يعني النصرة وقال الفراء فيه تقديم وتاخير معناه حتى إذا تناعزعم في الأمر فشلتم وعصيتم وهذه الواو زائدة كقوله تعالى فلما أسلما وتله للجبين وناديناه الصافات 103 معناه ناديناه فأما تنازعهم فان بعض الرماة قال قد انهزم المشركون فما يمنعنا من الغنيمة وقال بعضهم بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فترك المركز بعضهم وطلب الغنيمة وتركوا مكانهم فذلك عصيانهم وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد أوصاهم لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم
قوله تعالى منكم من يريد الدنيا قال المفسرون هم الذين طلبوا الغنيمة وتركوا مكانهم ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا وقال بان مسعود ما كنت أظن أحدا من أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية
قوله تعالى صرفكم عنهم أي ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم ليبتليكم أي ليختبركم فيبين الصابر من الجازع
قوله تعالى ولقد عفا عنكم فيه قولان
أحدهما عفا عن عقوبتكم قاله ابن عباس
والثاني عفا عن استئصالكم قاله الحسن وكان يقول هؤلاء مع رسول الله في سبيل الله غضاب لله يقاتلون في سبيل الله نهوا عن شيء فضيعوه فما تركوا حتى غموا بهذا الغم والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم

قوله تعالى والله ذو فضل على المؤمنين فيه قولان
أحدهما إذ عفا عنهم قاله ابن عباس والثاني إذ لم يقتلوا جميعا قاله مقاتل
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون
قوله تعالى إذ تصعدون ولا تلوون قال المفسرون إذ متعلقة بقوله تعالى ولقد عفا عنكم وأكثر القراء على ضم التاء وكسر العين من قوله تصعدون وهو من الإصعاد وروى أبان عن ثعلب عن عاصم فتحها وهي قراءة الحسن و مجاهد وهو من الصعود قال الفراء الإصعاد في ابتداء الأسفار والمخارج تقول أصعدنا من بغداد إلى خراسان فاذا صعدت على سلم أو درجة قلت صعدت ولا تقول أصعدت وقال الزجاج كل من ابتدأ مسيرا من مكان فقد أصعد فأما الصعود فهو من أسفل إلى فوق ومن فتح التاء ومعين أراد الصعود في الجبل وللمفسرين في معنى الآية قولان
أحدهما أنه صعودهم في الجبل قاله ابن عباس و مجاهد
والثاني أنه الإبعاد في الهزيمة قاله قتادة و ابن قتيبة و تلوون بمعنى تعرجون
وقوله تعالى على أحد عام وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبي صلى الله عليه و سلم قال والنبي صلى الله عليه و سلم يناديهم من خلفهم إلى عباد الله أنا رسول الله وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد على أحد بضم الألف والحاء يعنون الجبل
قوله تعالى فأثابكم أي جازاكم قال الفراء الإثابة هاهنا بمعنى عقاب ولكنه كما قال الشاعر

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا ...
المحدرجة السياط والسود فيما يقال القيود
قوله تعالى غما بغم في هذه الباء أربعة أقوال
أحدها أنها بمعنى مع والثاني بمعنى بعد
و الثالث بمعنى على فعلى هذه الثلاثة الاقوال يتعلق الغمان بالصحابة وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال
أحدها أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل والثاني إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أن الأول فرارهم الأول والثاني فرارهم حين سمعوا أن محمد قد قتل قاله مجاهد
والثالث أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل قاله قتادة
والرابع أن الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح والثاني إشراف أبي سفيان عليهم قاله السدي
والخامس أن الأول اشراف خالد بن الوليد عليهم والثاني إشراف أبي سفيان عليهم ذكره الثعلبي

والقول الرابع أن الباء بمعنى الجزاء فتقديره غمكم كما غممتم غيركم فيكون أحد الغمين للصحابة وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين ويكون الغم الذي جوزوا لأجله لغيرهم وفي المراد بغيرهم قولان
أحدهما أنهم المشركون غموهم يوم بدر قاله الحسن
والثاني أنه النبي صلى الله عليه و سلم غموه حيث خالفوه فجوزوا على ذلك بأن غمو بما أصابهم قاله الزجاج
قوله تعالى لكيلا تحزنوا في لا قولان
أحدهما أنها باقية على أصلها ومعناها النفي فعلى هذا في معنى الكلام قولان
أحدهما فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل نسوا ما أصابهم وما فاتهم
والثاني أنه متصل بقوله ولقد عفا عنكم فمعنى الكلام عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم لأن عفوه يذهب كل غم
والقول الثاني أنها صلة ومعنى الكلام لكي تحزنوا على ما فاتكم واصابكم عقوبة لكم في خلافكم ومثها قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله الحديد 29 أي ليعلم هذا قول المفضل قال ابن عباس والذي فاتهم الغنيمة والذي أصابهم القتل والهزيمة
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله

لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور
قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة قال ابن قتيبة الأمنة الأمن يقال وقعت الأمنة في الأرض وقال الزجاج معنى الآية أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا تنامون معه لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام و نعاسا منصوب على البدل من أمنة يقال نعس الرجل ينعس نعاسا فهو ناعس وبعضهم يقول نعسان قال الفراء قد سمعتها ولكني لا أشتهيها قال العلماء النعاس أخف النوم وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان
أحدهما أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا فالمنة بزوال الخوف لأن الخائف لا ينام والثاني قواهم بالاستراحة على القتال
قوله تعالى يغشى طائفة منكم قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وعاصم وابن عامر يغشى بالياء مع التفخيم وهو يعود إلى النعاس وقرأ حمزة والكسائي وخلف تغشى بالتاء مع الإمالة وهو يرجع إلى الأمنةفأما الطائفة التي غشيها النوم فهم المؤمنون والطائفة الذين أهمتهم انفسهم المنافقون أهمهم خلاص أنفسهم فذهب النوم عنهم قال أبو طلحة كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه ثم يسقط وآخذه من النعاس وجعلت انظر وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته

من النعاس وقال الزبير ارسل الله علينا النوم فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفطتها منه
قوله تعالى يظنون بالله غير الحق فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم كذبوا بالقدر رواه الضحاك عن ابن عباس
و الثالث أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل قاله مقاتل
والرابع ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم مضمحل قاله الزجاج
قوله تعالى ظن الجاهلية قال ابن عباس أي كظن الجاهلية
قوله تعالى يقولون هل لنا من الأمر من شيء لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الجحد تقديره ما لنا من الأمر من شيء قال الحسن قالوا لو كان الأمر إلينا ما خرجنا و إنما أخرجنا كرها وقال غيره المراد بالأمر النصر والظفر قالوا إنما النصر للمشركين قل إن الأمر كله أي النصر والظفر والقضاء والقدر لله والاكثرون قرؤوا إن الأمر كله لله بنصب اللام وقرأ أبو عمرو برفعها قال أبو علي حجة من نصب أن كله بمنزلة أجمعين في الإحاطة والعموم فلو قال إن الأمر

أجمع لم يكن إلا النصب وكله بمنزلة أجمعين ومن رفع فلآنه قد ابتدأ به كما ابتدأ بقوله تعالى وكلهم آتية
قوله تعالى يخفون في أنفسهم في الذي أخفوه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قولهم لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا
والثاني أنه إسرارهم الكفر والشك في أمر الله
و الثالث الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد
قال أبو سليمان الدمشقي والذي قال هل لنا من الأمر من شيء عبد الله ابن أبي والذي قال لو كان لنا من الأمر من شيء معتب بن قشير
قوله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم أي لو تخلفتم لخرج منكم من كتب عليه القتل ولم ينجه القعود والمضاجع المصارع بالقتل قال الزجاج ومعنى برزوا صاروا إلى براز وهو المكان المنكشف ومعنى وليبتلي الله ما في صدوركم أي ليختبره بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة
قوله تعالى وليمحص الله ما في قلوبكم قال قتادة أراد ليظهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة وإظهار سرائر المنافقين وهذا التمحيص خاص للمؤمنين وقال غيره أراد بالتمحيص إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين فهو خطاب للمنافقين
قوله تعالى والله عليم بذات الصدور أي بما فيها وقال ابن الأنباري معناه عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة كما تقول العرب لقيته ذات يوم فيؤنثون لأن مقصدهم لقيته مرة في يوم

إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم
قوله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان الخطاب للمؤمنين وتوليهم فرارهم من العدو والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين وذلك يوم أحد واستزلهم طلب زللهم قال ابن قتيبة هو كما تقول استعجلت فلانا أي طلبت عجلته واستعملته طلبت عمله والذي كسبوا يريد به الذنوب وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان
أحدها أنهم سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل فترخصوا في الفرار قاله ابن عباس في آخرين
و الثاني أن الشيطان أذكرهم خطاياهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها قاله الزجاج
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق وقيل إخوانهم في النسب قال الزجاج و إنما قال إذا ضربوا ولم يقل إذ ضربوا لأنه يريد شأنهم هذا أبدا تقول فلان إذا حدث صدق و إذا ضرب صبر و إذا لما يستقبل إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى قال المفسرون ومعنى ضربوا في الأرض ساروا وسافروا و غزى جمع غازي وفي الكلام محذوف تقديره إذا ضربوا في الأرض فماتوا أوغزوا فقتلوا
قوله تعالى ليجعل الله ذلك قال ابن عباس ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم سلموا حسرة في قلوبهم أي حزنا قال ابن فارس الحسرة التلهف على الشيء الفائت
قوله تعالى والله يحيي ويميت أي ليس تحرز الانسان يمنعه من أجله
قوله تعالى والله بما تعملون بصير قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء وقرأ الباقون بالتاء قال أبو علي حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة وهو قوله تعالى وقالوا لإخوانهم ومن قرأ بالتاء فحجته لا تكونوا كالذين كفروا
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون
قوله تعالى ولئن قتلتم اللام في لئن لام القسم تقديره والله لئن قتلتم في الجهاد أو متم في إقامتكم قرأ ابن كثير و أبو عمرو وابن عامر و أبو بكر عن عاصم مت و متم ومتنا برفع الميم في جميع القرآن وروى حفص عن عاصم أو متم ولئن متم برفع الميم في هذين دون باقي القرآن وقرأ نافع وحمزة والكسائي كل ما في القرآن بالكسر

قوله تعالى لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون أي من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها وقرأ حفص عن عاصم يجمعون بالياء ومعناه خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه قال ابن عباس خير مما يجمع المنافقون في الدنيا
ولئن متم أو قتلتم لإلي الله تحشرون
قوله تعالى ولئن متم أي في إقامتكم أو قتلتم في جهادكم لإلى الله تحشرون وهذا تخويف من القيامة والحشر الجمع مع سوق
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظنا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين
قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم قال الفراء و ابن قتيبة و الزجاج ما هاهنا صلة ومثله فبما نقضهم ميثاقهم قال ابن الأنباري دخول ما هاهنا يحدث توكيدا
قال النابغة ... المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عيش ما يضره ...
فأكد بذكر ما وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان
أحدهما أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم والثاني بالمؤمنين

قال قتادة ومعنى لنت لهم لأن جانبك وحسن خلقك وكثر احتمالك قال الزجاج والفظ الغليظ الجانب السىء الخلق يقال فظظت تفظ فظاظة وفظظا والفظ ماء الكرش والفرث و إنما سمي فظا لغلظ مشربه فأما الغليظ القلب فقيل هو القاسي القلب فيكون ذكر الفظاظة والغلظ وإن كانا بمعنى واحد توكيدا وقال ابن عباس الفظ في القول والغليظ القلب في الفعل
قوله تعالى لانفضوا أي تفرقوا وتقول فضضت عن الكتاب ختمه إذا فرقته عنه فاعف عنهم أي تجاوز عن هفواتهم وسل الله المغفرة لذنوبهم وشاورهم في الأمر معناه استخرج آراءهم واعلم ما عندهم ويقال إنه من شرت العسل

وأنشدوا ... وقاسمها بالله حقا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها ...
قال الزجاج يقال شاورت الرجل مشاورة وشورا وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول المشورة ويقال فلان حسن الصورة والشورة أي حسن الهيئة واللباس ومعنى قولهم شاورت فلانا أظهرت ما عنده وما عندي وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشار قال الأعشى ... كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مشارا

والأرى العسل واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي تام التدبير على ثلاثة أقوال
أحدها ليستن به من بعده وهذا قول الحسن وسفيان بن عيينة
و الثاني لتطيب قلوبهم وهو قول قتادة والربيع وابن إسحاق و مقاتل قال الشافعي رضي الله عنه نظير هذا قوله صلى الله عليه و سلم البكر تستأمر في نفسها إنما أراد استطابة نفسها فانها لو كرهت كان للأب أن يزوجها وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه
و الثالث للاعلام ببركة المشاورة وهو قول الضحاك ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه ومنها أنه قد يعزم على أمر فيبين له الصواب في قول غيره فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح قال علي رضي الله عنه الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ولا حصنت النعم بمثل المواساة ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر واعلم أنه إنما أمر

النبي صلى الله عليه و سلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي وعمهم بالذكر والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان حكاهما القاضي أبو يعلى
أحدهما أنه أمر الدنيا خاصة والثاني أمر الدين والدنيا وهو أصح
وقد قرأ ابن مسعود و ابن عباس وشاورهم في بعض الأمر
قوله تعالى فإذا عزمت قال ابن فارس العزم عقد القلب على الشىء ويريد أن يفعله وقد قرأ أبو رزين و أبو مجلز و أبوالعالية وعكرمة والجحدري فاذا عزمت بضم التاء فأما التوكل فقد سبق شرحه
ومعنى الكلام فاذا عزمت على فعل شيء فتوكل على الله لا على المشاورة
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى إن ينصركم الله قال ابن فارس النصر العون والخذلان ترك العون وقيل الكناية في قوله من بعده تعود إلى خذلانه
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل في سبب نزولها سبعة أقوال

أحدها أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر فقال ناس لعل النبي صلى الله عليه و سلم أخذها فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
و الثاني أن رجلا غل من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس
و الثالث أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخصهم بشىء من الغنائم فنزلت هذه الآية نقل عن ابن عباس أيضا
و الرابع أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث طلائعا فغنم النبي صلى الله عليه و سلم غنيمة ولم يقسم للطلائع فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا فنزلت هذه الآية قاله الضحاك
و الخامس أن قوما غلوا يوم بدر فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والسادس أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخاف أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم من أخذ شيئا فهو له فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا أظننتم أنا نغل فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب و مقاتل
والسابع أنها نزلت في غلول الوحي قاله القرظي وابن اسحاق
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتم فسألوه أن يطوي ذلك فنزلت هذه الآية

واختلف القراء في يغل فقرا ابن كثير وعاصم و أبو عمرو بفتح الياء وضم الغين ومعناها يخون وفي هذه الخيانة قولان
أحدهما خيانة المال على قول الأكثرين
والثاني خيانة الوحي الوحب على قول القرظي وابن اسحاق وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين ولها وجهان
أحدهما أن يكون المعنى يخان ويجوز أن يكون يلفى خائنا يقال أغللت فلانا أي وجدته غالا كما يقال أحمقته وجدته أحمق وأحمدته وجدته محمودا قاله الحسن و ابن قتيبة
والثاني يخون قاله الفراء وأجازه الزجاج ورده ابن قتيبة فقال لو أراد يخون لقال يغلل كما يقال يفسق ويخون ويفجر
وقيل اللام في قوله لنبي منقولة ومعنى الآية وما كان النبي ليغل ومثله ما كان لله أن يتخذ من ولد مريم 36 أي ما كان الله ليتخذ ولدا
وهذه الآية من الطف التعريض إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه و سلم من الغلول فدل على أن الغلول في غيره ومثله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين سبأ 25 وقد ذكر عن السدي نحو هذا
قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة الغلول أخذ شيء من المغنم خفية ومنه الغلالة وهي ثوب يلبس تحت الثياب والغلل وهو الماء الذي يجري بين الشجر والغل وهو الحقد الكامن في الصدر وأصل الباب الاختفاء وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال

أحدها أنه يأتي بما غله يحمله ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فاقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والنفس ما يغل من السبي والرقاع الثياب والصامت المال
والقول الثاني أنه يأتي حاملا إثم ما غل
والثالث أنه يرد عوض ما غل من حسناته والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح

قوله تعالى ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تعطى جزاء ما كسبت
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
قوله تعالى أفمن اتبع رضوان الله اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين
أحدهما أن معناها أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل هذا قول سعيد بن جبير و الضحاك والجمهور
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أحد اتبعه المؤمنون وتخلف جماعة من المنافقين فأخبر الله بحال من تبعه ومن تخلف عنه هذا قول الزجاج
هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون
قوله تعالى هم درجات قال الزجاج معناه هم ذوو درجات وفي معنى درجات قولان
أحدهما أنها درجات الجنة قاله الحسن
والثاني أنها فضائلهم فبعضهم أفضل من بعض قاله الفراء و ابن قتيبة
وفيمن عنى بهذا الكلام قولان
أحدهما أنهم الذين اتبعوا رضوان الله والذين باؤوا بسخط من الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب ولمن باء بسخطه العذاب هذا قول ابن عباس
والثاني أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط فانهم يتفاوتون في المنازل هذا قول سعيد بن جبير و أبي صالح و مقاتل

لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
قوله تعالى لقد من الله علىالمؤمنين أي أنعم عليهم و أنفسهم جماعتهم وقيل نسبهم وقرأ الضحاك وأبو الجوزاء من أنفسهم بفتح الفاء وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال
أحدها لكونه معروف النسب فيهم قاله ابن عباس وقتادة
والثاني لكونهم قد خبروا أمره وعلموا صدقه قاله الزجاج
والثالث ليسهل عليهم التعلم منه لموافقة لسانه للسانهم قاله أبو سليمان الدمشقي
والرابع لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم قاله الماوردي
وهل هذه الآية خاصة أم عامة فيه قولان
احدهما أنها خاصة للعرب روي عن عائشة والجمهور
والثاني أنها عامة لسائر المؤمنين فيكون المعنى أنه ليس بملك ولا من غير بني آدم وهذا اختيار الزجاج وقد سبق في البقرة بيان باقي الآية

أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير أحدهما أنها خاصة للعرب روي عن عائشة والجمهور
والثاني أنها عامة لسائر المؤمنين فيكون المعنى أنه ليس بملك ولا من غير نبي آدم وهذا اختيار الزجاج وقد سبق في البقرة بيان ناقي الآية أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
قوله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يوم أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى قل هو من عند أنفسكم قال بأخذكم الفداء
قوله تعالى أو لما قال الزجاج هذه واو النسق دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها ومثل ذلك قول القائل تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له أو هو ممن يقول ذلك فأما المصيبة فما أصابهم يوم أحد وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر لانهم قتل منهم سبعون فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وهذا قول ابن عباس و الضحاك وقتادة والجماعة إلا أن الزجاج قال قد أصبتم يوم أحد مثلها ويوم بدر مثلها فجعل المثلين في اليومين
قوله تعالى أنى هذا قال ابن عباس من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون
قوله تعالى قل هو من عند أنفسكم فيه ثلاثة أقوال

أحدها أن معناه بأخذكم الفداء يوم بدر قاله عمر بن الخطاب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك للناس فقالوا عشائرنا وإخواننا بل نأخذ منهم الفداء ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى قل هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم
والثاني أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أحد وتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس و مقاتل في آخرين
والثالث أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد فانه أمرهم بالتحصن فيها فقالوا بل نخرج قاله قتادة والربيع قال مقاتل إن الله على كل شيء من النصر والهزيمة قدير
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون
قوله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان الجمعان النبي وأصحابه و أبو سفيان وأصحابه وذلك في يوم أحد وقد سبق ذكر ما أصابهم

قوله تعالى فبإذن الله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أمره والثاني قضاؤه رويا عن ابن عباس والثالث علمه قاله الزجاج
قوله تعالى وليعلم المؤمنين أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم قال ابن قتيبة والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه قال الزيادي عن الأصمعي ولليربوع أربعة أجحرة النافقاء وهو الذي يخرج منه كثيرا ويدخل منه كثيرا والقاصعاء سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر ثم يقصع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر ومنه يقال جرح فلان قد قصع بالدم إذا امتلأ ولم يسل والداماء سمي بذلك لأنه يخرج التراب من فم الجحر ثم يدم به فم الجحر كأنه يطليه به ومنه يقال ادمم قدرك بشحم أي اطلها به والراهطاء ولم يذكر اشتقاقه و إنما يتخذ هذه الجحر عددا فاذا أخذ عليه بعضها خرج من بعض قال أبو زيد فشبه المنافق به لأنه يدخل في الإسلام بلفظه ويخرج منه بعقدة كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب قال ابن قتيبة والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام قال ابن عباس والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه قال موسى بن عقبة خرج النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد ومعه المسلمون وهم ألف رجل والمشركون ثلاثة آلاف فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة فأما القتال فمباشرة الحرب وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال
أحدها أنه التكثير بالعدد رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن وعكرمة و الضحاك والسدي وابن جريج في آخرين

والثاني أن معناه ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول مقاتل والثالث أنه بمعنى القتال أيضا قاله ابن زيد
قوله تعالى لو نعلم قتالا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم ذكره ابن اسحاق
والثاني لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم
والثالث إنما معناه أن هناك قتلا وليس بقتال ذكرهما الماوردي
قوله تعالى هم للكفر أي إلى الكفر أقرب منهم للايمان أي إلى الايمان و إنما قال يومئذ لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الايمان
قوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فيه وجهان ذكرهما المارودي
أحدهما ينطقون بالإيمان وليس في قلوبهم إلا الكفر
والثاني يقولون نحن أنصار وهم أعداء وذكر في الذي يكتمون وجهين
أحدهما أنه النفاق والثاني العداوة
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين
قوله تعالى الذين قالوا لإخوانهم قال ابن عباس نزلت في عبد الله بن أبي وفي إخوانهم قولان
أحدهما أنهم إخوانهم في النفاق قاله ابن عباس

والثاني إخوانهم في النسب قاله مقاتل فعلى الأول يكون المعنى قالوا لإخوانهم المنافقين لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا وعلى الثاني يكون المعنى قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد لو أطاعونا ما قتلوا
قوله تعالى وقعدوا يعني القائلين قعدوا عن الجهاد
قوله تعالى فادرؤوا أي فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين أن الحذر لا ينفع مع القدر
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في شهداء أحد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول سعيد بن جبير وابي الضحى
والثاني أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله تعالى وقالوا ربنا أعلم

إخواننا فنزلت هذه الآية والتي بعدها رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مقاتل
و الثالث أنها نزلت في شهداء بئر معونة روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد فلما نزلوا بئر معونة خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينظر فيه عامر وخرج رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم قال أنس بن مالك فأنزل الله تعالى فيهم بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم رفعت فنزلت هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا

فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال
أحدها أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم وقد ذكرناه عن ابن عباس
والثاني أن رجلا قال يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا فنزلت قاله مقاتل
والثالث أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فنزلت هذه الآية ذكره علي بن أحمد النيسابوري
فأما التفسير فمعنى الآية لا تحسبنهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله وقد بينا هذا المعنى في البقرة وذكرنا أن معنى حياتهم أن ارواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها قال مجاهد يرزقون من ثمر الجنة
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون

قوله تعالى فرحين قال ابن قتيبة الفرح المسرة فأما الذي آتاهم الله فما نالوا من كرامة الله ورزقه والاستبشار السرور بالبشارة بالذين لم يحلقوا بهم من خلفهم إخوانهم من المسلمين وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال
أحدها أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم واخبرته بأمركم فاستبشروا وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة قاله سعيد بن جبير
والثاني يستبشرون باخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة يقولون إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل قاله قتادة
والثالث أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه و وأهله وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا فيستبشر بقدومه كما يستبشر أهل الغائب به هذا قول السدي و الهاء والميم في قوله تعالى أن لا خوف عليهم تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم قال الفراء معناه يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن وفي ماذا يرتفع الخوف والحزن عنهم فيه قولان
أحدهما لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم ولا يحزنون على ما خلفوا من اموالهم
والثاني لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة
يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
قوله تعالى قى يستبشرون بنعمة من الله و فضل قال مقاتل برحمة ورزق
قوله تعالى وأن الله قرأ الجمهور بالفتح على معنى ويستبشرون بأن الله وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف

الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم
قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول في سبب نزولها قولان
أحدهما أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد ندب النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه لاتباعهم ثم خرج بمن انتدب معه فلقي أبو سفيان قوما فقال إن لقيتم محمدا فأخبروه اني في جمع كثير فلقيهم النبي صلى الله عليه و سلم فسألهم عنه فقالوا لقيناه في جمع كثير ونراك في قلة فأبى إلا أن يطلبه فسبقه أبو سفيان فدخل مكة فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس والجمهور
والثاني أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أحد قال يا محمد موعد بيننا وبينك موسم بدر فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان ثم ألقى الله في قلبه الرعب فبدا له الرجوع فلفي نعيم بن مسعود فقال إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وهذا عام جدب لا يصلح لنا فثبطهم عنا وأعلمهم أنا في جمع كثير فلقيهم فخوفهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وخرج النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزل قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول الآيات وهذه المعنى مروي عن مجاهد وعكرمة والاستجابة الإجابة وأنشدوا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
أي فلم يجبه
وفي المراد النبي صلى الله عليه و سلم وخروجه وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال
أحدها ليرهب العدو باتباعهم والثاني لموعد أبي سفيان
و الثالث لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا أصبتم شوكتهم ثم تركتموهم وقد سبق الكلام في القرح
قوله تعالى للذين أحسنوا منهم أي أحسنوا بطاعة الرسول واتقوا مخالفته
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
قوله تعالى الذين قال لهم الناس في المراد بالناس ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ركب لقيهم أبو سفيان فضمن لهم ضمانا لتخويف النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قاله ابن عباس وابن اسحاق
والثاني أنه نعيم بن مسعود الأشجعي قاله مجاهد وعكرمة و مقاتل في آخرين

و الثالث أنهم المنافقون لما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم يتجهمز نهوا المسلمين عن الخروج وقالوا إن أتيتموهم في ديارهم لم يرجع منكم أحد هذا قول السدي
قوله تعالى إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه
قوله تعالى فزادهم إيمانا قال الزجاج زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم وقالوا حسبنا الله أي هو الذي يكفينا أمرهم فأما الوكيل فقال الفراء الوكيل الكافي واختاره ابن القاسم وقال ابن قتيبة هو الكفيل قال ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله له وقام به وقال الخطابي الوكيل الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم وحقيقته أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه وحكى ابن الأنباري أن قوما قالوا الوكيل الرب
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم
قوله تعالى فانقلبوا بنعمة من الله الانقلاب الرجوع وفي النعمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأجر قاله مجاهد والثاني العافية قاله السدي

و الثالث الإيمان والنصر قاله الزجاج وفي الفضل ثلاثة أقوال
أحدها ربح التجارة قاله مجاهد والسدي وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان قال الزهري لما استنفر النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر خرجوا ببضائع لهم وقالوا إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا إليه وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا وكانت بدر متجرا يوافى كل عام فانطلقوا فقضوا حوائجهم واخلف أبو سفيان الموعد
والثاني أنهم أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله مقاتل
و الثالث أنه الثواب ذكره الماوردي
قوله تعالى لم يمسسهم سوء قال ابن عباس لم يؤذهم أحد واتبعوا رضوان الله في طلب القوم والله ذو فضل أي ذو من بدفع المشركين عن المؤمنين
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان قال الزجاج معناه ذلك التخويف كان فعل الشيطان سوله للمخوفين
وفي قوله تعالى يخوف اولياءه قولان
أحدهما أن معناه يخوفكم بأوليائه قاله الفراء واستدل بقوله تعالى لينذر بأسا شديدا الكهف 4 أي ببأس وبقوله تعالى لينذر يوم التلاق غافر 15 أي بيوم التلاق وقال الزجاج معناه يخوفكم من أوليائه بدليل قوله تعالى فلا تخافوهم وخافون
وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة و إبراهيم و ابن قتيبة

وأنشد ابن الأنباري في ذلك ... وايقنت التفرق يوم قالوا ... تقسم مال أربد بالسهام ...
أراد أيقنت بالتفرق قال فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه قال والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه تقول العرب قد أعطيت الأموال يريدون أعطيت القوم الأموال فيحذفون القوم ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني فهذا أشبه من ادعاء باء ما عليها دليل ولا تدعوا اليها ضرورة
والثاني أن معناه يخوف أولياءه المنافقين المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين قاله الحسن والسدي وذكره الزجاج
قوله تعالى فلا تخافوهم يعني اولياء الشيطان وخافون في ترك أمري وفي إن قولان
أحدهما أنها بمعنى إذ قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أنها للشرط وهو قول الزجاج في آخرين
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم
قوله تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر قرأ نافع يحزنك ليحزنني وليحزن بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأنبياء 103 فانه فتح الياء وضم الزاي وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي قال أبو علي يشبه أن يكون نافع تبع في سورة الأنبياء أثرا أو أحب أن يأخذ بالوجهين وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال

أحدها أنهم المنافقون ورؤساء اليهود قاله ابن عباس
والثاني المنافقون قاله مجاهد والثالث كفار قريش قاله الضحاك
والرابع قوم ارتدوا عن الإسلام ذكره الماوردي
وقيل معنى مسارعتهم في الكفر مظاهرتهم للكفار ونصرهم إياهم فان قيل كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر فالجواب لا يحزنك فعلهم فانك منصور عليهم
قوله تعالى إنهم لن يضروا الله شيئا فيه قولان
أحدهما لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني لن يضروا أولياء الله شيئا قاله عطاء قال ابن عباس والحظ النصيب والآخرة الجنة ولهم عذاب عظيم في النار
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم
قوله تعالى إن الذين اشتروا الكفر بالايمان قال مجاهد المنافقون آمنوا ثم كفروا وقد سبق في البقرة معنى الاشتراء
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين
قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها في اليهود والنصارى والمنافقين قاله ابن عباس
والثاني في قريظة والنضير قاله عطاء والثالث في مشركي مكة قاله مقاتل

والرابع في كل كافر قاله أبو سليمان الدمشقي
وقرأ ابن كثير و أبو عمرو ونافع ولا يحسبن الذين كفروا آل عمران 178 ولا يحسبن الذين يبخلون آل عمران 180 ولا يحسبن الذين يفرحون آل عمران 188 بالياء وكسر السين ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين وقرأهن حمزة بالتاء وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين ولا يحسبن الذين كفروا ولا يحسبن الذين يبخلون فانهما بالياء إلا أن عاصما فتح السين وكسرها الكسائي ولم يختلفوا في ولا تحسبن الذين قتلوا أنها بالتاء ونملي لهم أي نطيل لهم في العمر ومثله واهجرني مليا قال ابن الأنباري واشتقاق نملي لهم من الملوة وهي المدة من الزمان يقال ملوة من الدهر وملوة وملوة وملاوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ومنه قولهم البس جديدا وتمل حبيبا أي لتطل أيامك معه
قال متمم بن نويرة ... بودي لو أني تمليت عمره ... بمالي من مال طريف وتالد ...
وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم
قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه في سبب نزولها خمسة أقوال

أحدها أن قريشا قالت تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة ومن خالفك فهو في النار فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت هذه الآية هذا قول أبيالعالية
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا فنحن معه ولا يعرفنا فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والرابع أن اليهود قالت يا محمد قد كنتم راضين بديننا فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم فنزلت هذه الآية هذا قول عمر مولى غفرة
والخامس أن قوما من المنافقين ادعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية هذا قول أبي سليمان الدمشقي
وفي المخاطب بهذه الآية قولان
أحدهما أنهم الكفار والمنافقون وهو قول ابن عباس و الضحاك
والثاني أنهم المؤمنون فيكون المعنى ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق قال الثعلبي وهذا قول أكثر أهل المعاني
قوله تعالى حتى يميز الخبيث من الطيب قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وابن

عامر حتى يميز و ليميز الله الخبيث بفتح الياء والتخفيف وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب يميز بالتشديد وكذلك في الأنفال 37 ليميز الله الخبيث
قال أبو علي مزت وميزت لغتان قال ابن قتيبة ومعنى يميز يخلص فأما الطيب فهو المؤمن وفي الخبيث قولان
أحدهما أنه المنافق قاله مجاهد وابن جريج
والثاني الكافر قاله قتادة والسدي وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال
أحدها أنه الهجرة والقتال قاله قتادة وهو قول من قال الخبيث الكافر
والثاني أنه الجهاد وهو قول من قال هو المنافق قال مجاهد فيميز الله يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين حيث أظهروا النفاق وتخلفوا
والثالث أنه جميع الفرائض والتكاليف فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار فاذا جاءت التكاليف بان أمره هذا قول الكسائي ابن كيسان
وفي المخاطب بقوله وما كان الله ليطلعكم على الغيب قولان
أحدهما أنهم كفار قريش فمعناه ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر لأنهم طلبوا ذلك فقالوا أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن هذا قول ابن عباس
والثاني أنه النبي صلى الله عليه و سلم فمعناه وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب قاله السدي ويجتبي بمعنى يختار قاله الزجاج وغيره فمعنى الكلام على القول الأول أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم وعلى القول الثاني أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل

هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات و الأرض والله بما تعملون خبير
قوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم وهو قول ابن مسعود و أبي هريرة و ابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي و مجاهد وفي رواية السدي في آخرين
والثاني أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه و سلم ونبوته رواه عطية عن ابن عباس وابن جريج عن مجاهد واختاره الزجاج
قال الفراء ومعنى الكلام لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم فاكتفى بذكر يبخلون من البخل كما تقول قدم فلان فسررت به أي سررت بقدومه
قال الشاعر ... إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف ...
يريد جرى إلى السفه والذي آتاهم الله على قول من قال البخل بالزكاة هو المال وعلى قول من قال البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه و سلم هو العلم

قوله تعالى هو إشارة إلى البخل وليس مذكورا ولكنه مدلول عليه ب يبخلون وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال
أحدها أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وهذا مذهب ابن مسعود ومقاتل
والثاني أنه يجعل طوقا من نار رواه منصور عن مجاهد و إبراهيم
و الثالث أن معنى تطويقهم به تكليفهم أن يأتوا به رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والرابع أن معناه يلزم أعناقهم إثمه قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ولله ميراث السموات والارض قال ابن عباس يموت أهل السموات وأهل الأرض ويبقى رب العالمين قال الزجاج خوطب القوم بما يعقلون لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له وقال ابن الأنباري معنى الميراث

انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به فلما مات الخلق وانفرد عز و جل صار ذلك له وراثة
قوله تعالى والله بما تعملون خبير قرأ ابن كثير و أبو عمرو يعملون بالياء إتباعا لقوله تعالى سيطوقون وقرأ الباقون بالتاء لأن قبله وإن تؤمنوا وتتقوا
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق
قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير في سبب نزولها قولان
أحدهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم اسمه فنحاص فقال أبو بكر اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله فقال والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأخبره أبو بكر بما قال فجحد فنحاص فنزلت هذه الآية ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا آل عمران 186 هذا قول ابن عباس و إلى نحوه ذهب مجاهد وعكرمة والسدي و مقاتل
والثاني أنه لما نزل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا البقرة 245 قالت اليهود إنما يستقرض الفقير من الغني فنزلت هذه الآية هذا قول الحسن وقتادة
وفي الذين قالوا إن الله فقير أربعة أقوال

أحدها أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني حيي بن أخطب قاله الحسن و قتادة
و الثالث أن جماعة من اليهود قالوه قال مجاهد صك أبو بكر رجلا من الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء لم يستقرضنا وهو غني
والرابع أنه النباش بن عمرو اليهودي ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى سنكتب ما قالوا قرأ حمزة وحده سيكتب بياء مضمومة وقتلهم بالرفع و يقول بالياء وقرأ الباقون سنكتب ما قالوا بالنون وقتلهم بالنصب ونقول بالنون وقرأ ابن مسعود ويقال وقرأ الأعمش وطلحة و يقول
وفي معنى سنكتب ما قالوا قولان
أحدهما سنحفظ عليهم ما قالوا قاله ابن عباس
والثاني سنأمر الحفظة بكتابته قاله مقاتل
قوله تعالى وقتلهم الأنبياء أي ونكتب ذلك فان قيل هذا القائل لم يقتل نبيا قط فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك كما بينا في قوله تعالى ويقتلون النبيين بغير الحق قال الزجاج ومعنى عذاب الحريق عذاب محرق أي عذاب بالنار لأن العذاب قد يكون بغير النار
ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد
قوله تعالى ذلك إشارة إلى العذاب والذي قدمت أيديهم الكفر والخطايا

الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
قوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا قال ابن عباس نزلت في كعب ابن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وجماعة من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الله عهد إلينا أي أمرنا في التوراة أن لا نؤمن لرسول أي لا نصدق رسولا يزعم أنه رسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قال ابن قتيبة والقربان ما تقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره و إنما طلبواالقربان لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين وكان نزول النار علامة القبول قال ابن عباس كان الرجل يتصدق فاذا قبلت منه نزلت نار من السماء فأكلته وكانت نارا لها دوي وحفيف وقال عطاء كان بنو اسرائيل يذبحون لله فيأخذون اطايب اللحم فيضعونها في وسط البيت تحت السماء فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجدا فيوحي الله إليه ما يشاء قال ابن عباس قل يا محمد لليهود قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات أي بالآيات وبالذي سألتم من القربان
فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
قوله تعالى فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك معناه لست بأول رسول كذب قال أبو علي وقرأ ابن عامر وحده بالبينات والزبر بزيادة باء وكذلك في مصاحف أهل الشام ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد ووجه قراءة الجمهور

أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل تقول مررت بزيد وعمرو فتستغني عن تكرير الباء وقال الزجاج والزبر جمع زبور والزبور كل كتاب ذي حكمة
قوله تعالى والكتاب المنير قال أبو سليمان يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج
كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت قال ابن عباس لما نزل قوله قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم السجدة11 قالوا يا رسول الله إنما نزل في بني آدم فأين ذكر الموت في الجن والطير والأنعام فنزلت هذه الآية وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل
وفي قوله تعالى إنما توفون أجوركم يوم القيامة بشارة للمحسنين وتهديد للمسيئين
قوله تعالى فمن زحزح قال ابن قتيبة نجي وأبعد فقد فاز قال الزجاج تأويل فاز تباعد عن المكروه ولقي ما يحب يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به قد فاز

قوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من يشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور
قوله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وعبد الله بن رواحة فغشي المجلس عجاجة الدابة فخمر ابن أبي أنفه بردائه وقال لا تغبروا علينا فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم دعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبي إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا في مجالسنا وقال ابن رواحة اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله فانا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود فنزلت هذه الآية رواه عروة عن أسامة بن زيد

والثاني أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أشد الأذى فنزلت هذه الآية قاله كعب بن مالك الأنصاري
و الثالث أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق وبين فنحاص اليهودي وقد سبق ذكره عن ابن عباس
والرابع أنها نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر الصديق قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره مقاتل وقال عكرمة نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر الصديق وفنحاص اليهودي

والخامس أنها نزلت في كعب بن الأشرف كان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه في شعره وهذا مذهب الزهري
قال الزجاج ومعنى لتبلون لتختبرن أي توقع عليكم المحن فيعلم المؤمن حقا من غيره و النون دخلت مؤكدة مع لام القسم وضمت الواو لسكونها وسكون النون وفي البلوى في الأموال قولان
أحدهما ذهابها ونقصانها والثاني ما فرض فيها من الحقوق
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال
أحدها المصائب والقتل والثاني ما فرض من العبادات
و الثالث الأمراض والرابع المصيببة بالأقارب والعشائر
وقال عطاء هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم
قوله تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والذين أشركوا مشركو العرب وإن تصبروا على الأذى وتتقوا الله بمجانبة معاصيه
قوله تعالى فان ذلك من عزم الأمور أي ما يعزم عليه لظهور رشدة
فصل
والجمهور على إحكام هذه الآية وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون

قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود قاله ابن عباس وابن جبير والسدي و مقاتل فعلى هذا الكتاب التوراة
والثاني أنهم اليهود والنصارى والكتاب التوراة والانجيل
و الثالث أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس
قوله تعالى لتبيننه للناس
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابو بكر والمفضل عن عاصم وزيد عن يعقوب ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء فيهما وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء فيهما وفي هاء الكناية في لتبيننه وتكتمونه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول من قال هم اليهود
والثاني أنها ترجع إلى الكتاب قاله الحسن وقتادة وهو أصح لأن الكتاب أقرب المذكروين و لأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
قوله تعالى فنبذوه قال الزجاج أي رموا به يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به قد جعلت هذا الأمر بظهر قال الفرزدق ... تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر ولا يعيا على جوابها

معناه لا تكونن حاجتي مهملة عندك مطرحة وفي هاء فنبذوه قولان
أحدهما أنها تعود إلى الميثاق والثاني إلى الكتاب
قوله تعالى واشتروا به يعني استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به ووعدهم عليه الجنة ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم
قوله تعالى ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا وقرأ أهل الكوفة لا تحسبن بالتاء وفي سبب نزولها ثمانية أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل اليهود عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه فنزلت هذه الآية

والثاني أنها نزلت في قوم من اليهودفرحوا بما يصيبون من الدنيا وأحبوا أن يقول الناس إنهم علماء وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس
والثالث أن اليهود قالوا نحن على دين إبراهيم وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير
والرابع أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ففرحوا بذلك وقالوا نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله فنزلت هذه الآية هذا قول الضحاك والسدي
والخامس أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا نحن على رأيكم ونحن لكم ردء وهم مستمسكون بضلالتهم فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والسادس أن ناسا من اليهود جهزوا جيشا إلى النبي صلى الله عليه و سلم واتفقوا عليهم فنزلت هذه الآية قاله إبراهيم النخعي
والسابع أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها فحمدوهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا فنزلت هذه الآية ذكره الزجاج
والثامن أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم فاذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية قاله

أبو سعيد الخدري وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين وما قبله من الأقوال يدل على انها في اليهود
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال
أحدها أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق
والثاني تبديلهم التوراة والثالث إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب
والرابع إضلالهم الناس والخامس اجتماعهم على تكذيب النبي
والسادس نفاقهم باظهار ما في قلوبهم ضده
والسابع اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم وهذه أقوال من قال هم اليهود
والثامن تخلفهم في الغزوات وهذا قول من قال هم المنافقون
وفي قوله تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ستة أقوال

أحدها أحبوا أن يحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء سألهم عنه وما أجابوه
والثاني أحبوا أن يقول الناس هم علماء وليسو كذلك
و الثالث أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام وهذه الاقوال الثلاثة عن ابن عباس
والرابع أحبوا أن يحمدوا على قولهم نحن على دين إبراهيم وليسوا عليه قاله سعيد بن جبير
والخامس أحبوا أن يحمدوا على قولهم إنا راضون بما جاء به النبي وليسوا كذلك قاله قتادة وهذه أقوال من قال هم اليهود
والسادس أنهم كانوا يحلفون للمسلمين إذا نصروا إنا قد سررنا بنصركم وليسوا كذلك قاله أبو سعيد الخدري وهو قول من قال هم المنافقون
قوله تعالى فلا يحسبنهم قرأ ابن كثير و أبو عمرو فلا يحسبنهم بالياء وضم الباء وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء وفتح الباء قال الزجاج إنما كررت تحسبنهم لطول القصة والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها إعلاما أن الذي يجرى متصل بالأول وتوكيدا له فتقول لا تظنن زيدا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا فلا تظننه صادقا
قوله تعالى بمفازة قال ابن زيد و ابن قتيبة بمنجاة
ولله ملك السموات والارض والله على كل شيء قدير
قوله تعالى ولله ملك السموات والارض فيه تكذيب القائلين بأنه فقير
وفي قوله تعالى والله على كل شيء قدير تهديد لهم أي لو شئت لعجلت عذابهم

إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لألي الألباب
قوله تعالى إن في خلق السموات والارض في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن قريشا قالوا لليهود ما الذي جاءكم به موسى قالوا عصاه ويده البيضاء وقالوا للنصارى ما الذي جاءكم به عيسى قالوا كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فنزلت هذه الآية رواه ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
و الثالث أنه لما نزل قوله تعالى وإلهكم إله واحد البقرة 163 قالت قريش قد سوى بين آلهتنا إئتنا بآية فنزلت هذه الآية قاله أبو الضحى واسمه مسلم بن صبيح فأما تفسير الآية فقد سبق

الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
قوله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا في هذا الذكر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذكر في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب هذا قول علي وابن مسعود و ابن عباس وقتادة
والثاني أنه الذكر في الصلاة وغيرها وهو قول طائفة من المفسرين
و الثالث أنه الخوف فالمعنى يخافون الله قياما في تصرفهم وقعودا في دعتهم وعلى جنوبهم في منامهم
قوله تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض قال ابن فارس التفكر تردد القلب في الشيء قال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه
قوله تعالى ربنا قال الزجاج معناه يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا أي خلقته دليلا عليك وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك ومعنى سبحانك براءة لك من السوء وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا فقنا عذاب النار فقد صدقنا أن لك جنة ونار
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار

قوله تعالى ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال الزجاج المخزى في اللغة المذل المحقور بأمر قد لزمه وبحجة يقال أخزيته أي ألزمته حجة أذللته معها وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان
أحدهما أنه يتعلق بمن يدخلها مخلدا قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وابن جبير وقتادة وابن جريج و مقاتل
والثاني أنه يتعلق بكل داخل إليها وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله واختاره ابن جرير الطبري و أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى وما للظالمين من انصار قال ابن عباس وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
قوله تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا في المنادي قولان
أحدهما أنه النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد ومقاتل
والثاني أنه القرآن قاله محمد بن كعب القرظي واختاره ابن جرير الطبري
قوله تعالى ينادي للإيمان فيه قولان
أحدها أن معناه ينادي إلى الإيمان ومثله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 بأن ربك أوحى لها الزلزلة 5 يريد هدانا إلى هذا واوحى إليها قاله الفراء
والثاني بأنه مقدم ومؤخر والمعنى سمعنا مناديا للايمان ينادي قاله أبو عبيدة

قوله تعالى وكفر عنا سيئاتنا قال مقاتل امح عنا خطايانا وقال غيره غطها عنا وقيل إنما جمع بين غفران الذنوب وتكفير السيئات لأن الغفران بمجرد الفضل والتكفير بفعل الخير وتوفنا مع الأبرار قرأ نافع وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي الأبرار والأشرار وذات قرار وما كان مثله بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وعاصم بالفتح ومعنى مع الأبرار فيهم قال ابن عباس وهم الأنبياء والصالحون
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد
قوله تعالى ربنا وآتنا ما وعدتنا قال ابن عباس يعنون الجنة على رسلك أي على ألسنتهم فإن قيل ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه خرج مخرج المسألة ومعناه الخبر تقديره فآمنا فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا
والثاني أنه سؤال له أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده لا أنهم استحقوا ذلك إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم
و الثالث أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء لأنه وعدهم نصرا غير مؤقت فرغبوا في تعجيله ذكر هذه الأجوبة ابن جرير وقال أولى الاقوال بالصواب أن هذه صفة المهاجرين رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم فكانهم قالوا لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجل خزيهم وظفرنا بهم
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم

وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب
قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم روي عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزلت هذه الآية واستجاب بمعنى أجاب والمعنى أجابهم بأن قال لهم إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان أم أنثى
وفي معنى قوله تعالى بعضكم من بعض ثلاثة أقوال
أحدها بعضكم من بعض في الدين والنصرة والموالاة
والثاني حكم جميعكم في الثواب واحد لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور والثالث كلكم من آدم وحواء
قوله تعالى فالذين هاجروا أي تركوا الأوطان والأهل والعشائر وأخرجوا من ديارهم يعني المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين فهاجروا وقاتلوا المشركين وقتلوا قرأ ابن كثير وابن عامر وقاتلوا وقتلوا مشددة التاء وقرأ نافع وابو عمرو وعاصم وقاتلوا وقتلوا خفيفة وقرأ حمزة والكسائي و قتلوا وقاتلوا قال أبو علي تقديم قتلوا جائز لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى مؤخرا في اللفظ
قوله تعالى ثوابا من عند الله قال الزجاج هو مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى

لأدخلنهم جنات لأثيبنهم
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد
قوله تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في اليهود ثم في ذلك قولان
أحدهما أن اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه و سلم لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض فنزلت ذكره أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء فقال بعض المؤمنين قد أهلكنا الجهد وأعداء الله فيما ترون فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل قال

قتادة والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره وقال غيره إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا وإن كان لا يغتر وفي معنى تقلبهم ثلاثة أقوال
أحدها تصرفهم في التجارات قاله ابن عباس و الفراء وابن قتيبة و الزجاج
والثاني تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم قاله عكرمة و مقاتل
والثالث تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم ذكره بعض المفسرين قال الزجاج ذلك الكسب والربح متاع قليل وقال ابن عباس منفعة يسيرة في الدنيا والمهاد الفراش
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار
قوله تعالى لكن الذين اتقوا ربهم قرأ أبو جعفر لكن بالتشديد هاهنا وفي الزمر قال مقاتل وحدوا قال ابن عباس النزل الثواب قال ابن فارس النزل ما يهيأ للنزيل والنزيل الضيف
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا اولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في النجاشي لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقال قائل يصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت هذه الآية هذا قول جابر ابن عبد الله و ابن عباس وأنس وقال الحسن وقتادة فيه وفي أصحابه

والثاني أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث في عبد الله بن سلام وأصحابه قاله ابن جريج وابن زيد و مقاتل
والرابع في أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم قاله عطاء
قوله تعالى وما أنزل إليكم يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني كتابهم والخاشع الذليل لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود وقد سلف بيان سرعة الحساب
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة وليس يؤمئذ غزو يرابط وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال
احدها البلاء والجهاد قاله ابن عباس

الثاني الدين قاله الحسن والقرظي و الزجاج
والثالث المصائب روي عن الحسن أيضا والرابع الفرائض قاله سعيد بن جبير
والخامس طاعة الله قاله قتادة وفي الذي امروا بمصابرته قولان
أحدهما العدو قاله ابن عباس والجمهور
والثاني الوعد الذي وعدهم الله قاله عطاء والقرظي وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان
أحدهما الجهاد للأعداء قاله ابن عباس والحسن وقتادة في آخرين قال ابن قتيبة وأصل المرابطة والرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر كل يعد لصاحبه
والثاني أنه الصلاة أمروا بالمرابطة عليها قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن وقد ذكرنا في البقرة معنى لعل ومعنى الفلاح
تم بعون الله تبارك وتعالى الجزء الأول من كتاب زاد المسير في علم التفسير ويليه الجزء الثاني وأوله تفسير سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم
4 - سورة النساء يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
اختلفوا في نزولها على قولين
أحدهما أنها مكية رواه عطية عن ابن عباس وهو قول الحسن ومجاهد وجابر بن زيد وقتادة
والثاني إنها مدنية رواه عطاء عن ابن عباس وهو قول مقاتل وقيل إنها مدنية إلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة فيسلمها إلى العباس وهي قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ذكره الماوردي
قوله تعالى اتقوا ربكم فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى الطاعة قاله ابن عباس و الثاني بمعنى الخشية قاله مقاتل
و النفس الواحدة آدم وزوجها حواء و من في قوله و خلق منها للتبعيض في قول الجمهور و قال ابن بحر منها أي من جنسها
و اختلفوا أي وقت خلقت له على قولين

أحدهما أنها خلقت بعد دخوله الجنة قاله ابن مسعود و ابن عباس
و الثاني قبل دخوله الجنة قاله كعب الأحبار ووهب و ابن اسحاق
قال ابن عباس لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلم تؤذه بشيء و لو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا فلما استيقظ قيل يا آدم ما هذه قال حواء
قوله تعالى و بث منهما قال الفراء بث نشر ومن العرب من يقول أبث الله الخلق ويقولون بثثتك ما في نفسي و أبثثتك
قوله تعالى الذي تساءلون به قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و البرجمي عن أبي بكر عن عاصم واليزيدي و شجاع و الجعفي و عبد الوارث عن أبي عمرو تساءلون بالتشديد و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي و كثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف
قال الزجاج الأصل تتساءلون فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكان هذه من هذه و من قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين
و في معنى تساءلون به ثلاثة أقوال
أحدها تتعاطفون به قاله ابن عباس و الثاني تتعاقدون و تتعاهدون به قاله الضحاك والربيع

والثالث تطلبون حقوقكم به قاله الزجاج
فأما قوله والأرحام فالجمهور على نصب الميم على معنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها و فسرها على هذا ابن عباس و مجاهد وعكرمة والسدي و ابن زيد وقرأ الحسن وقتادة و الأعمش و حمزة بخفض الميم على معنى تساءلون به وبالأرحام و فسرها على هذا الحسن و عطاء و النخعي
و قال الزجاج الخفض في الأرحام خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تحلفوا بآبائكم وذهب إلى نحو هذا الفراء و قال ابن الأنباري إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به فالمعنى الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية قال أبو علي من جر عطف على الضمير المجرور بالباء وهو ضعيف في القياس قليل في الاستعمال فترك الأخذ به أحسن
فأما الرقيب فقال ابن عباس ومجاهد الرقيب الحافظ وقال الخطابي هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ

الشيء المترصد له المتحرز عن الغفلة فيه يقال منه رقبت الشيء أرقبه رقبة و ءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلا أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
قوله تعالى و آتوا اليتامى أموالهم سبب نزولها أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب ماله فمنعه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت قاله سعيد بن جبير و الخطاب بقوله وآتوا للأولياء و الأوصياء قال الزجاج و إنما سموا يتامى بعد البلوغ بالاسم الذي كان لهم و قد كان يقال للنبي صلى الله عليه و سلم يتيم أبي طالب

قوله ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب قرأ ابن محيصن تبدلوا بتاء واحدة 2 ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما أنه إبدال حقيقة ثم فيه قولان
أحدهما أنه أخذ الجيد و إعطاء الرديء مكانه قاله سعيد بن المسيب و الضحاك والنخعي والزهري والسدي قال السدي كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم و يجعل مكانها المهزولة ويأخذ الدراهم الجياد ويطرح مكانها الزيوف
و الثاني أنه الربح على اليتيم واليتيم غر لا علم له قاله عطاء
والقول الثاني أنه ليس بابدال حقيقة وإنما هو أخذه مستهلكا ثم فيه قولان
أحدهما أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال فنصيب الرجل من الميراث طيب و ما أخذه من حق اليتيم خبيث هذا قول ابن زيد
والثاني أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم قاله الزجاج
و إلى بمعنى مع والحوب الإثم و قرأ الحسن وقتادة و النخعي بفتح الحاء
قال الفراء أهل الحجاز يقولون حوب بالضم وتميم يقولونه بالفتح
قال ابن الأنباري وقال الفراء المضموم الاسم والمفتوح المصدر قال ابن قتيبة وفيه ثلاث لغات حوب و حوب وحاب و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا

قوله تعالى و إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال
أحدها أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية ولا يتحرجون من ترك العدل بينهن وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى فقيل لهم بهذه الآية احذروا من ترك العدل بين النساء كما تحذرون من تركه في اليتامى وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة و السدي ومقاتل
والثاني أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى فلما كثر النساء مالوا على أموال اليتامى فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا و عكرمة
والثالث أن معناها و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل الله لكم وهذا المعنى مروي عن عائشة

و الرابع أن معناها و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن وحذرتم سوء الصحبة لهن وقلة الرغبة فيهن فانكحوا غيرهن وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا والحسن
و الخامس أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فأمروا بالتحرج من الزنى أيضا وندبوا إلى النكاح الحلال وهذا المعنى مروي عن مجاهد
و السادس أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم فرخص الله لهم بهذه الآية وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه فكأنه قال وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن فانكحوهن ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا فان خفتم أن لا تعدلوا فيهن فواحدة وهذا المعنى مروي عن الحسن
قال ابن قتيبة ومعنى قوله و إن خفتم أي فان علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى يقال أقسط الرجل إذا عدل ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة و يقال قسط الرجل إذا جار ومنه قول الله وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وفي معنى العدل في اليتامى قولان
أحدهما في نكاح اليتامى و الثاني في أموالهم
قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم أي ما حل لكم
قال ابن جرير وأراد بقوله ما طاب لكم الفعل دون أعيان النساء ولذلك قال ما ولم يقل من واختلفوا هل النكاح من اليتامى أو من غيرهن على قولين قد سبقا
قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع

قال الزجاج هو بدل من ما طاب لكم و معناه اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا و إنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنتين و ثلاث وأربع لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد فيكون عيا في الكلام
وقال ابن الأنباري هذه الواو معناها التفرق وليست جامعة فالمعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى وانكحوا رباع في غير الحالين
وقال القاضي أبو يعلى الواو هاهنا لإباحة أي الأعداد شاء لا للجمع وهذا العدد إنما هو للأحرار لا للعبيد وهو قول أبي حنيفة والشافعي
وقال مالك هم كالأحرار ويدل على قولنا أنه قال فانكحوا فهذا منصرف إلى من يملك النكاح والعبد لا يملك ذلك بنفسه وقال في سياقها فواحدة أو ما ملكت أيمانكم والعبد لا ملك له فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين

قوله تعالى فان خفتم فيه قولان أحدهما علمتم و الثاني خشيتم
قوله تعالى أن لا تعدلوا قال القاضي أبو يعلى أراد العدل في القسم بينهن
قوله تعالى فواحدة أي فانكحوا واحدة وقرأ الحسن والأعمش و حميد فواحدة بالرفع المعنى فواحدة تقنع
قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم يعني السراري قال ابن قتيبة معنى الآية فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن فقصرهم على أربع ليقدروا على العدل ثم قال فان خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع فانكحوا واحدة واقتصروا على ملك اليمين
قوله تعالى ذلك أدنى أي أقرب وفي معنى تعولوا ثلاثة أقوال
أحدهما تميلوا قاله ابن عباس والحسن ومجاهد و عكرمة وعطاء وإبراهيم وقتادة والسدي ومقاتل والفراء وقال أبو مالك وأبو عبيد تجوروا
قال ابن قتيبة والزجاج تجوروا وتميلوا بمعنى واحد واحتكم رجلان من العرب إلى رجل فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه إنك والله تعول علي أي تميل وتجور

و الثاني تضلوا قاله مجاهد و الثالث تكثر عيالكم قال ابن زيد ورواه أبو سليمان الدمشقي في تفسيره عن الشافعي ورده الزجاج فقال جميع أهل اللغة يقولون هذا القول خطأ لأن الواحدة يعولها وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين
أحدهما أنهم الأزواج وهو قول الجمهور واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم وهذا معطوف عليه وقال مقاتل كان الرجل يتزوج بلا مهر فيقول أرثك وترثيني فتقول المرأة نعم فنزلت هذه الآية والثاني أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان

أحدهما أن الرجل كان إذا زوج أيمة جاز صداقها دونها فنهوا بهذه الآية هذا قول أبي صالح واختاره الفراء وابن قتيبة
والثاني أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر فنهوا عن هذا بهذه الآية رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه
قال ابن قتيبة والصدقات المهور واحدها صدقة وفي قوله نحلة أربعة أقوال
أحدها أنها بمعنى الفريضة قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل والثاني أنها الهبة والعطية قاله الفراء
قال ابن الأنباري كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن فلما فرض الله لهن المهر كان نحلة من الله أي هبة للنساء فرضا على الرجال
وقال الزجاج هو هبة من الله للنساء قال القاضي أبو يعلى وقيل إنما سمي المهر نحلة لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة لا الملك
والثالث أنها العطية بطيب نفس فكأنه قال لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون قاله أبو عبيدة
والرابع أن معنى النحلة الديانة فتقديره وآتوهن صدقاتهن ديانة يقال فلان ينتحل كذا أي يدين به ذكره الزجاج عن بعض العلماء

قوله تعالى فان طبن لكم يعني النساء المنكوحات وفي لكم قولان
أحدهما أنه يعني الأزواج
والثاني الأولياء و الهاء في منه كناية عن الصداق قال الزجاج و منه هاهنا للجنس كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان معناه فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن فكأنه قال كلوا الشيء الذي هو مهر فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله ونفسا منصوب على التمييز
فالمعنى فان طابت أنفسهن لكم بذلك فكلوه هنيئا مريئا وفي الهنيء ثلاثة أقوال أحدها أنه ما تؤمن عاقبته والثاني ما أعقب نفعا وشفاء
والثالث أنه الذي لا ينغصه شيء وأما المريء فيقال مرئ الطعام إذا انهضم وحمدت عاقبته ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم المراد بالسفهاء خمسة أقوال
أحدها أنهم النساء قاله ابن عمر
والثاني النساء والصبيان قاله سعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل والفراء وابن قتيبة وعن الحسن ومجاهد كالقولين
والثالث الأولاد قاله أبو مالك وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس وروي عن الحسن قال هم الأولاد الصغار
والرابع اليتامى قاله عكرمة وسعيد بن جبير في رواية
قال الزجاج ومعنى الآية ولا تؤتوا السفهاء أموالهم بدليل قوله وارزقوهم فيها

وإنما قال أموالكم ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للناس وقال غيره أضافها إلى الولاة لأنهم قوامها
والخامس أن القول على إطلاقه والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه ذكره ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما وهو ظاهر الآية
وفي قوله أموالكم قولان أحدهما أنه أموال اليتامى والثاني أموال السفهاء
قوله تعالى التي جعل الله لكم قياما قرأ الحسن اللاتي جعل الله لكم قواما وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو قياما بالياء مع الألف هاهنا وقرأ نافع وابن عامر قيما بغير ألف
قال ابن قتيبة قياما وقواما بمنزلة واحدة تقول هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك وذكر أبو علي الفارسي أن قواما وقياما وقيما بمعنى القوام الذي يقيم الشأن قال وليس قول من قال القيم هاهنا جمع قيمة بشيء
قوله تعالى وارزقوهم فيها أي منها وفي القول المعروف ثلاثة أقوال
أحدها العدة الحسنة قال ابن عباس وعطاء ومجاهد ومقاتل

والثاني الرد الجميل قاله الضحاك والثالث الدعاء كقولك عافاك الله قاله ابن زيد وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فاذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
قوله تعالى وابتلوا اليتامى سبب نزولها أن رجلا يقال له رفاعة مات وترك ولدا صغيرا يقال له ثابت فوليه عمه فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله فنزلت هذه الآية ذكر نحوه مقاتل والابتلاء الاختبار وبماذا يختبرون فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم يختبرون في عقولهم قاله ابن عباس والسدي وسفيان ومقاتل والثاني يختبرون في عقولهم ودينهم قاله الحسن وقتادة وعن مجاهد كالقولين
والثالث في عقولهم ودينهم وحفظهم أموالهم ذكره الثعلبي قال القاضي أبو يعلى وهذا الابتلاء قبل البلوغ
قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح قال ابن قتيبة أي بلغوا أن ينكحوا النساء فان آنستم أي علمتم وتبينتم وأصل أنست أبصرت وفي الرشد أربعة أقوال
أحدها الصلاح في الدين وحفظ المال قاله ابن عباس والحسن

والثاني الصلاح في العقل وحفظ المال روي عن ابن عباس والسدي
والثالث أنه العقل قاله مجاهد والنخعي والرابع العقل والصلاح في الدين روي عن السدي
فصل
واعلم أن الله تعالى علق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين بالبلوغ والرشد وأمر الأولياء باختبارهم فإذا استبانوا رشدهم وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء الاحتلام واستكمال خمس عشرة سنة والإنبات وشيئان يختصان بالنساء الحيض والحمل

قوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا خطاب للأولياء قال ابن عباس لا تأكلوها بغير حق وبدارا تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصبي ومن كان غنيا فليستعفف بماله عن مال اليتيم وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال
أحدها أنه الأخذ على وجه القرض وهذا مروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة وأبي وائل ومجاهد ومقاتل
والثاني الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف وهذا مروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة وعطاء والنخعي وقتادة والسدي
والثالث أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا روي عن ابن عباس وعائشة وهي رواية أبي طالب وابن منصور عن أحمد رضي الله عنه
والرابع أنه الأخذ عند الضرورة فان أيسر قضاه وإن لم يوسر فهو في حل وهذا قول الشعبي

فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة على قولين
أحدهما محكمة وهو قول عمر وابن عباس والحسن والشعبي وأبي العالية ومجاهد وابن جبير والنخعي وقتادة في آخرين وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف
وهل عليه الضمان إذا أيسر فيه قولان لهم
أحدهما أنه لا ضمان عليه بل يكون كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وقتادة وأحمد بن حنبل
والثاني إذا أيسر وجب عليه القضاء روي عن عمر وغيره وعن ابن عباس أيضا كالقولين
والقول الثاني أنها منسوخة بقوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل النساء 29 وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح
قوله تعالى فأشهدوا عليهم قال القاضي أبو يعلى هذا على طريق الاحتياط لليتيم والولي وليس بواجب فأما اليتيم فإنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعي عدم القبض وأما الولي فإن تظهر أمانته ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدفع وفي الحسيب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشهيد قاله ابن عباس والسدي ومقاتل
والثاني أنه الكافي من قولك أحسبني هذا الشيء أي كفاني والله حسيبي وحسيبك أي كافينا أي يكون حكما بيننا كافيا

قال الشاعر ... ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع ...
أي نعطيه ما يكفيه حتى يقول حسبي قاله ابن قتيبة والخطابي
والثالث أنه المحاسب فيكون في مذهب جليس وأكيل وشريب حكاه ابن قتيبة والخطابي للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا
قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة فقام رجلان من بني عمه يقال لهما قتادة وعرفطة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك وشكت الفقر فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال قتادة كانوا لا يورثون النساء فنزلت هذه الآية
والمراد بالرجال الذكور وبالنساء الإناث صغارا كانوا أو كبارا

والنصيب الحظ من الشيء وهو مجمل في هذه الآية ومقداره معلوم من موضع آخر وذلك مثل قوله وآتوا حقه يوم حصاده الأنعام 141 وقوله خذ من أموالهم صدقة التوبة 103 والمفروض الذي فرضه الله وهو آكد من الواجب وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى في هذه القسمة قولان
أحدهما قسمة الميراث بعد موت الموروث فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين وبهذا قال الأكثرون منهم ابن عباس والحسن والزهري
والثاني أنها وصية الميت قبل موته فيكون مأمورا بأن يعين لمن لا يرثه شيئا روي عن ابن عباس وابن زيد قال المفسرون والمراد بأولي القربى الذين لا يرثون فارزقوهم منه أي أعطوهم منه وقيل أطعموهم وهذا على الاستحباب عند الأكثرين وذهب قوم إلى أنه واجب في المال فان كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم وإن كانوا صغارا تولى ذلك عنهم ولي مالهم فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام فأمر بشاة فاشتريت من مالهم وبطعام فصنع وقال لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد ابن سيرين في أيتام وليهم وكذلك روي عن مجاهد أن ما تضمنته هذه الآية واجب
وفي القول المعروف أربعة أقوال
أحدها أن يقول لهم الولي حين يعطيهم خذ بارك الله فيك رواه سالم الأفطس عن ابن جبير

والثاني أن يقول الولي إنه مال يتامى ومالي فيه شيء رواه أبو بشر عن ابن جبير وفي رواية أخرى عن ابن جبير قال إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيتهم وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كانوا صغارا قال وليهم إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار فذلك القول المعروف
والثالث أنه العدة الحسنة وهو أن يقول لهم أولياء الورثة إن هؤلاء الورثة صغار فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم رواه عطاء بن دينار عن ابن جبير
والرابع أنهم يعطون من المال ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق بورك فيكم وهذا القول المعروف قال الحسن والنخعي أدركنا الناس يفعلون هذا
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها محكمة وهو قول أبي موسى الأشعري وابن عباس

والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين وواجب عند بعضهم
والقول الثاني أنها منسوخة نسخها قوله يوصيكم الله في أولادكم رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة في آخرين وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا

قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أنه خطاب للحاضرين عند الموصي وفي معنى الآية على هذا القول قولان أحدهما وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه فيفرقه ويترك ورثته كما لو كانوا هم الموصين لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل
والثاني على الضد من هذا القول وهو أنه نهي لحاضري الموصي أي يمنعوه من الوصية لأقاربه وأن يأمروه بالاقتصار على ولده وهذا قول مقسم وسليمان التيمي في آخرين
والقول الثاني أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله ولا تأكلوها إسرافا وبدارا فمعنى الكلام أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى كما تحبون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وابن السائب
والثالث أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي وأن تكون الوجوه التي عينها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ثم نسخ ذلك بقوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه البقرة 182 فأمر الوصي بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحق أن يستعمل قضية الشرع ويصلح بين الورثة ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره في الناسخ والمنسوخ فعلى هذا تكون الآية منسوخة وعلى ما قبله تكون محكمة

والضعاف جمع ضعيف وهم الأولاد الصغار وقرأ حمزة ضعافا بامالة العين
قال أبو علي ووجهها أن ما كان على فعال وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا نحو ضعاف وقفاف وخفاف حسنت فيه الإمالة لأنه قد يصعد بالحرف المستعلي ثم يحدر بالكسر فيستحب أن لا يصعد بالتفخيم بعد التصوب بالكسر فيجعل الصوت على طريقة واحدة وكذلك قرأ حمزة خافوا عليهم بامالة الخاء والإمالة هاهنا حسنة وإن كانت الخاء حرفا مستعليا لأنه يطلب الكسرة التي في خفت فينحو نحوها بالإمالة والقول السديد الصواب إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رجلا من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال ابن أخيه فأكله فنزلت هذه الآية قاله مقاتل بن حيان
والثاني أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما فأكل ماله فنزلت هذه الآية ذكره بعض المفسرين وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم المقصود وقيل عبر به عن الأخذ
قال سعيد بن جبير ومعنى الظلم أن يأخذه بغير حق وأما ذكر البطون فللتوكيد كما تقول نظرت بعيني وسمعت بأذني وفي المراد بأكلهم النار قولان
أحدهما أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم كقوله أعصر خمرا يوسف 36 قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلما ولهب

النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وأنفه وعينيه يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم
والثاني أنه مثل معناه يأكلون ما يصيرون به إلى النار كقوله ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه آل عمران 143 أي رأيتم أسبابه
قوله تعالى وسيصلون سعيرا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وسيصلون بفتح الياء وقرأ الحسن وابن عامر بضم الياء ووافقهما ابن مقسم إلا أنه شدد والمعنى سيحرقون بالنار ويشوون والسعير النار المستعرة واستعار النار توقدها
فصل
وقد توهم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة لأنهم سمعوا أنها لما نزلت تحرج القوم عن مخالطة اليتامى فنزل قوله وإن تخالطوهم فإخوانكم البقرة 220 وهذا غلط وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح لا على إباحة الظلم
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فان كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين

ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما
قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كيف أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت هذه الآية رواه البخاري ومسلم
والثاني أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم بابنتين لها فقالت يا رسول قتل أبو هاتين معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما فنزلت روي عن جابر بن عبد الله أيضا
والثالث أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات وترك امرأة وخمس بنات فأخذ ورثته ماله ولم يعطوا امرأته ولا بناته شيئا فجاءت امرأته تشكو إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول السدي

قال الزجاج ومعنى يوصيكم يفرض عليكم لأن الوصية منه فرض وقال غيره إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين
أحدهما أن الوصية تزيد على الأمر فكانت آكد
والثاني أن في الوصية حقا للموصي فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه وقرأ الحسن وابن أبي عبلة يوصيكم بالتشديد
قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين يعني للإبن من الميراث مثل حظ الأنثيين ثم ذكر نصيب الإناث من الأول فقال فإن كن يعني البنات نساء فوق اثنتين وفي قوله فوق قولان
أحدهما أنها زائدة كقوله فاضربوا فوق الأعناق الأنفال 13
والثاني أنهم بمعنى الزيادة قال القاضي أبو يعلى إنما نص على ما فوق الاثنتين والواحدة ولم ينص على الاثنتين لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث كان لها مع الأنثى الثلث أولى
قوله تعالى وإن كانت واحدة قرأ الجمهور بالنصب وقرأ نافع بالرفع على معنى وإن وقعت أو وجدت واحدة
قوله تعالى ولأبويه قال الزجاج أبواه تثنية أب وأبة والأصل في الأم أن يقال لها أبة ولكن استغنى عنها بأم والكناية في قوله لأبويه عن الميت وإن لم يجر له ذكر
وقوله تعالى فلأمه الثلث أي إذا لم يخلف غير أبوين فثلث ماله لأمه والباقي للأب وإنما خص الأم بالذكر لأنه لو اقتصر على قوله وورثه أبواه ظن الظان أن المال يكون بينهما نصفين فلما خصها بالثلث دل على التفضيل

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر فلأمه و في بطون أمهاتكم الزمر6 و في أمها القصص 59 و في أم الكتاب الزخرف4 بالرفع وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا وحجتهما أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها من ياء أو كسرة
قوله تعالى فإن كان له إخوة أي مع الأبوين فإنهم يحجبون الأم عن الثلث فيردونها إلى السدس واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة حجبوا فإن كانا أخوين فهل يحجبانها فيه قولان
أحدهما يحجبانها عن الثلث قاله عمر وعثمان وعلي وزيد والجمهور
والثاني لا يحجبها إلا ثلاثة قاله ابن عباس واحتج بقوله إخوة والأخوة اسم جمع واختلفوا في أقل الجمع فقال الجمهور أقله ثلاثة وقال قوم اثنان والأول أصح وإنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه وقد يسمى الاثنان بالجمع قال الزجاج جميع أهل اللغة يقولون

إن الأخوين جماعة وحكى سيبويه أن العرب تقول وضعا رحالهما يريدون رحلي راحلتيهما
قوله تعالى من بعد وصية أي هذه السهام إنما تقسم بعد الوصية والدين وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يوصى بها بفتح الصاد في الحرفين وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي يوصي فيهما بالكسر وقرأ حفص عن عاصم الأولى بالكسر والثانية بالفتح
واعلم أن الدين مؤخر في اللفظ مقدم في المعنى لأن الدين حق عليه والوصية حق له وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إذا كانت الوصية في ثلث المال و أو لا توجب الترتيب إنما تدل على أن أحدهما إن كان فالميراث بعده وكذلك إن كانا

قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فيه قولان أحدهما أنه النفع في الآخرة ثم فيه قولان
أحدهما أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده رفع إليه ولده وكذلك الولد رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه شفاعة بعضهم في بعض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والقول الثاني أنه النفع في الدنيا قاله مجاهد ثم في معناه قولان
أحدهما أن المعنى لا تدرون هل موت الآباء أقرب فينتفع الأبناء بأموالهم أو موت الأبناء فينتفع الآباء بأموالهم قاله ابن بحر
والثاني أن المعنى أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ذكره القاضي أبو يعلى
وقال الزجاج معنى الكلام أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتضعون الأموال على غير حكمة إن الله كان عليما بما يصلح خلقه حكيما فيما فرض
وفي معنى كان ثلاثة أقوال
أحدها أن معناها كان عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما يقدر تدبيره منها قاله الحسن
والثاني أن معناها لم يزل قال سيبوبه كأن القوم شاهدوا علما وحكمة

فقيل لهم إن الله كان كذلك أي لم يزل على ما شاهدتم ليس ذلك بحادث
والثالث أن لفظة كان في الخبر عن الله عز و جل يتساوى ماضيها ومستقبلها لأن الأشياء عنده على حال واحدة ذكر هذه الأقوال الزجاج ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم
قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة قرأ الحسن يورث بفتح الواو وكسر الراء مع التشديد وفي الكلالة أربعة أقوال
أحدها أنها ما دون الوالد والولد قاله أبو بكر الصديق وقال عمر ابن الخطاب أتى على حين وأنا لا أعرف ما الكلالة فإذا هو من لم يكن له والد ولا ولد وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس

والحسن وسعيد بن جبير وعطاء والزهري وقتادة والفراء وذكر الزجاج عن أهل اللغة أن الكلالة من قولهم تكلله النسب أي لم يكن الذي يرثه ابنه ولا أباه قال والكلالة سوى الوالد والولد وإنما هو كالاكليل على الرأس وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب إذا أحاط به والابن والأب طرفان للرجل فاذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه نحو هذا قولهم وجهت الشيء أخذت وجهه وثغرت الرجل كسرت ثغره
والثاني أن الكلالة من لا ولد له رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب وهو قول طاووس
والثالث أن الكلالة ما عدا الوالد قاله الحكم
والرابع أن الكلالة بنو العم الأباعد ذكره ابن فارس عن ابن الأعرابي
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال
أحدها أنه اسم للحي الوارث وهذا مذهب أبي بكر الصديق وعامة

العلماء الذين قالوا إن الكلالة من دون الوالد والولد فانهم قالوا الكلالة اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد قال بعض الأعراب مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم
والثاني أنه اسم للميت قاله ابن عباس والسدي وأبو عبيدة في جماعة قال القاضي أبو يعلى الكلالة اسم للميت ولحاله وصفته ولذلك انتصب
والثالث أنه اسم للميت والحي قاله ابن زيد
وفيما أخذت منه الكلالة قولان
أحدهما أنه اسم مأخوذ من الإحاطة ومنه الاكليل لإحاطته بالرأس
والثاني أنه مأخوذ من الكلال وهو التعب كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء قال الأعشى ... فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تزور محمدا

قوله وله أخ أو أخت يعني من الأم باجماعهم
قوله تعالى فهم شركاء في الثلث قال قتادة ذكرهم وأنثاهم فيه سواء
قوله تعالى غير مضار قال الزجاج غير منصوب على الحال والمعنى يوصي بها غير مضار يعني للورثة تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
قوله تعالى تلك حدود الله قال ابن عباس يريد ما حد الله من فرائضه في الميراث ومن يطع الله ورسوله في شأن المواريث يدخله جنات قرأ ابن عامر ونافع ندخله بالنون في الحرفين جميعا والباقون بالياء فيهما ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين
قوله تعالى ومن يعص الله فلم يرض بقسمه يدخله نارا فان قيل كيف قطع للعاصي بالخلود فالجواب أنه إذا رد حكم الله وكفر به كان كافرا مخلدا في النار واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة قال الزجاج التي تجمع اللاتي واللواتي قال الشاعر

من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كبرت لداتي ...
وتجمع اللاتي باثبات التاء وحذفها قال الشاعر ... من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا ...
والفاحشة الزنى في قول الجماعة وفي قوله فاستشهدوا عليهن قولان
أحدهما أنه خطاب للأزواج
والثاني خطاب للحكام فالمعنى اسمعوا شهادة أربعة منكم ذكرهما الماوردي قال عمر بن الخطاب إنما جعل الله عز و جل الشهور أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم ومعنى منكم من المسلمين
قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت قال ابن عباس كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت فجعل الله لهن سبيلا وهو الجلد أو الرجم
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
قوله تعالى واللذان قرأ ابن كثير واللذان بتشديد النون وهذان في طه و الحج وهاتين في القصص إحدى ابنتي هاتين وفذانك

كله بتشديد النون وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف ذلك كله وشدد أبو عمرو فذانك وحدها
وقوله واللذان يعني الزانيين وهل هو عام أم لا فيه قولان
أحدهما أنه عام في الأبكار والثيب من الرجال والنساء قاله الحسن وعطاء
والثاني أنه خاص في البكرين إذا زنيا قاله أبو صالح والسدي وابن زيد وسفيان قال القاضي أبو يعلى والأول أصح لأن هذا تخصيص بغير دلالة
قوله تعالى يأتيانها يعني الفاحشة قوله فآذوهما فيه قولان
أحدهما أنه الأذى بالكلام والتعيير رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال قتادة والسدي والضحاك ومقاتل
والثاني أنه التعيير والضرب بالنعال رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فان تابا من الفاحشة وأصلحا العمل فأعرضوا عن أذاهما وهذا كله كان قبل الحد
فصل
كان حد الزانيين فيما تقدم الأذى لهما والحبس للمرأة خاصة فنسخ الحكمان جميعا واختلفوا بماذا وقع نسخهما فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة

وقال قوم نسخ بقوله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة النور 2 قالوا وكان قوله واللذان يأتيانها للبكرين فنسخ حكمهما بالجلد ونسخ حكم الثيب من النساء بالرجم
وقال قوم يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن ثم رفع رسمه وبقي حكمه لأن في حديث عبادة قد جعل الله لهن سبيلا والظاهر أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته قال القاضي أبو يعلى وهذا وجه صحيح يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة قال ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة لأنه من أخبار الآحاد والنسخ لا يجوز بذلك إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال الحسن إنما التوبة التي يقبلها الله فأما السوء فهو المعاصي سمي سوءا لسوء عاقبته

قوله تعالى بجهالة قال مجاهد كل عاص فهو جاهل حين معصيته وقال الحسن وعطاء وقتادة والسدي في آخرين إنما سموا جهالا لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين
وقال الزجاج ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يوقع سوءا وإنما يحتمل أمرين
أحدهما أنهم عملوه وهو يجهلون المكروه فيه
والثاني أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة وآثروا العاجل على الآجل فسموا جهالا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعاقبة الدائمة
وفي القريب ثلاثة أقوال
أحدها أنه التوبة في الصحة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي وابن السائب
والثاني أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال أبو مجلز
والثالث أنه التوبة قبل الموت وبه قال ابن زيد في آخرين

وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما
قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات في السيئات ثلاثة أقوال
أحدها الشرك قاله ابن عباس وعكرمة والثاني أنها النفاق قاله أبو العالية وسعيد بن جبير والثالث أنها سيئات المسلمين قاله سفيان الثوري واحتج بقوله ولا الذين يموتون وهم كفار
قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت في الحضور قولان
أحدهما أنه السوق قاله ابن عمر
والثاني أنه معاينة الملائكة لقبض الروح قاله أبو سليمان الدمشقي وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال أنزل الله تعالى بعد هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية النساء 116 فحرم المغفرة على من مات مشركا وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها سبب

نزولها أن الرجل كان إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال في رواية أخرى كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل قام أقرب الناس منه فيلقى على امرأته ثوبا فيرث نكاحها وقال مجاهد كان إذا توفي الرجل فابنه الأكبر أحق بامرأته فينكحها إن شاء أو ينكحها من شاء وقال أبو أمامة بن سهل ابن حنيف لم توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده وكان ذلك لهم في الجاهلية فنزلت هذه الآية قال عكرمة واسم هذه المرأة كبيشة بنت معن بن عاصم وكان هذا في العرب وقال أبو مجلز كانت الأنصار تفعله وقال ابن زيد كان هذا في أهل المدينة وقال السدي إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة فتذهب إلى أهلها فإن ذهبت فهي أحق بنفسها
وفي معنى قوله أن ترثوا النساء كرها قولان
أحدهما أن ترثوا نكاح النساء وهذا قول الجمهور
والثاني أن ترثوا أموالهن كرها روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان يلقي حميم الميت على الجارية ثوبا فان كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها

2 - واختلف القراء في فتح كاف الكره وضمتها في أربعة مواضع هاهنا وفي التوبة وفي الأحقاف في موضعين فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن وضمهن حمزة وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح في النساء والتوبة وبالضم في الأحقاف وهما لغتان قد ذكرناهما في البقرة
وفيمن خوطب بقوله ولا تعضلوهن ثلاثة أقوال
أحدها أنه خطاب للأزواج ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال
أحدها أن الرجل كان يكره صحبة امرأته ولها عليه مهر فيحبسها ويضربها لتفتدي قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي
والثاني أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ويشهد على ذلك فاذا خطبت فأرضته أذن لها وإلا عضلها قاله ابن زيد
والثالث أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون كما كانت الجاهلية تفعل فنهوا عن ذلك روي عن ابن زيد أيضا وقد ذكرنا في البقرة أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يراجعها ثم يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية يقصد إضرارها حتى نزلت الطلاق مرتان البقرة 229
والقول الثاني أنه خطاب للأولياء ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال
أحدها أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة ألقى عليها ثوبه فلم تتزوج أبدا غيره إلا بإذنه قاله ابن عباس
والثاني أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل فيحبسها حتى تموت أو تتزوج بابنه قاله مجاهد

والثالث أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج ليرثوهن روي عن مجاهد أيضا
والقول الثالث انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها كان الرجل يرث امرأة قريبة فيعضلها حتى تموت أو ترد عليه صداقها هذا قول ابن عباس في آخرين وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله أن ترثوا النساء
وفي الفاحشة قولان أحدهما أنها النشوز على الزوج قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة في جماعة
والثاني الزنى قاله الحسن وعطاء وعكرمة في جماعة وقد روى معمر عن عطاء الخراساني قال كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ زوجها ماساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحد قال ابن جرير وهذا القول ليس بصحيح لأن الحد حق الله والافتداء حق للزوج وليس أحدهما مبطلا للآخر

والصحيح أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت من زنى الفرج أو بذاءة اللسان جاز له أن يعضلها ويضيق عليها حتى تفتدي فأما قوله مبينة فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم مبينة و آيات مبينات بفتح الياء فيهما جميعا وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الياء فيهما وقرأ نافع أبو عمرو مبينة كسرا و آيات مبينات فتحا وقد سبق ذكر العشرة
قوله تعالى فعسى أن تكرهوا شيئا قال ابن عباس ربما رزق الله منهما ولدا فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين أحدهما أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح فرب مكروه عاد محمودا ومحمود عاد مذموما
والثاني أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى ... ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ... ومن يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج هذا الخطاب للرجال والزوج المرأة وقد سبق ذكر القنطار في آل عمران
قوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا إنما ذلك في حق من وطئها أو خلا بها وقد بينت ذلك الآية التي بعدها قال القاضي أبو يعلى وإنما خص النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال وإن كان المنع عاما لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها وجب أن يسقط حقها من المهر أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها لقيامها مقامها
وفي البهتان قولان أحدهما أنه الظلم قاله ابن عباس وابن قتيبة
والثاني الباطل قاله الزجاج ومعنى الكلام أتأخذونه مباهتين آثمين وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا قوله تعالى وكيف تأخذونه أي كيف تستجيزون أخذه وفي الإفضاء قولان
أحدهما أنه الجماع قاله ابن عباس ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة
والثاني الخلوة بها وإن لم يغشها قاله الفراء
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال الإمساك بمعروف أو التسريح باحسان هذا قول ابن عباس والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل

والثاني أنه عقد النكاح قاله مجاهد وابن زيد والثالث أنه أمانة الله قاله الربيع ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف قال ابن عباس كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية وقال بعض الأنصار توفي أبو قيس بن الأسلت فخطب ابنه قيس امرأته فأتت النبي صلى الله عليه و سلم تستأذنه وقالت إنما كنت أعده ولدا فنزلت هذه الآية
قال أبو عمر غلام ثعلب الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة اسم للجمع بين الشيئين وقد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد قال الأعشى
ومنكوحة غير ممهورة
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد قال القاضي أبو يعلى قد يطلق النكاح على العقد قال الله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن الأحزاب 49 وهو حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه اسم للجمع والجمع إنما يكون بالوطء فسمي العقد نكاحا لأنه سبب إليه
قوله تعالى إلا ما قد سلف فيه ستة أقوال
أحدها أنها بمعنى بعد ما قد سلف فان الله يغفره قاله الضحاك والمفضل

وقال الأخفش المعنى لا تنكحوا ما نكح آباؤكم فانكم تعذبون به إلا ما قد سلف فقد وضعه الله عنكم
والثاني أنها بمعنى سوى ما قد سلف قاله الفراء
والثالث أنها بمعنى لكن ما قد سلف فدعوه قاله قطرب وقال ابن الأنباري لكن ما قد سلف فإنه كان فاحشة
والرابع أن المعنى ولا تنكحوا كنكاح آباؤكم النساء أي كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليتكم من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام فإنه معفو لكم عنه وهذا كقول القائل لا تفعل ما فعلت أي لا تفعل مثل ما فعلت ذكره ابن جرير
والخامس أنها بمعنى الواو فتقديرها ولا ما قد سلف فيكون المعنى إقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ولا تبتدئوا قاله بعض أهل المعاني
والسادس أنها للاستثناء فتقدير الكلام لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح فإنهن حلال لكم قاله ابن زيد
قوله تعالى إنه يعني النكاح و الفاحشة ما يفحش ويقبح والمقت أشد البغض وفي المراد بهذا المقت قولان
أحدهما أنه اسم لهذا النكاح وكانوا يسمون نكاح امرأة الأب في الجاهلية مقتا ويسمون الولد منه المقتي فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم هذا قول الزجاج

والثاني أنه يوجب مقت الله لفاعله قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله وساء سبيلا قال ابن قتيبة أي قبح هذا الفعل طريقا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم قال الزجاج الأصل في أمهات أمات ولكن الهاء زيدت مؤكدة كما زادوها في أهرقت الماء وإنما أصله أرقت
قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إنما سمين أمهات لموضع الحرمة
واختلفوا هل يعتبر في الرضاع العدد أم لا فنقل حنبل عن أحمد أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن وطاووس والشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأصحابه ونقل محمد بن العباس عن أحمد أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات ونقل أبو الحارث عن أحمد لا يتعلق بأقل من

خمس رضعات متفرقات وهو قول الشافعي
قوله تعالى وأمهات نسائكم أمهات النساء يحرمن بنفس العقد على البنت سواء دخل بالبنت أو لم يدخل وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين ومسروق وعطاء وطاووس والحسن والجمهور وقال علي رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد وعكرمة
قوله تعالى وربائبكم الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعنى الربيبة مربوبة لأن الرجل يربيها وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل لا على الشرط قوله وحلائل أبنائكم قال الزجاج الحلائل الأزواج وحليلة بمعنى محلة وهي مشتقة من الحلال وقال غيره سميت بذلك لأنها

تحل معه أينما كان و قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال الحليل الزوج والحليلة المرأة وسميا بذلك إما لأنهما يحلان في موضع واحد أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي ينازله أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه قوله الذين من أصلابكم قال عطاء إنما ذكر الأصلاب لأجل الأدعياء و الكلام في قوله إلا ما قد سلف على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها وقد زادوا في هذا قولين آخرين أحدهما إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام لأنه جمع بين أم يوسف و أختها وهذا مروي عن عطاء و السدي وفيه ضعف لوجهين
أحدهما أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا وليس كل الشرائع تتفق ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا والثاني أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله لعسر عليه
والقول الثاني أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون للانسان أن يختار إحداهما ومنه حديث فيروز الديلمي قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقال طلق إحداهما ذكره القاضي أبو يعلى

والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
قوله والمحصنات من النساء أما سبب نزولها فروى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فاستحللناهن
وأما خلاف القراء فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها وقرأ سائر القرآن بالكسر و المحصنات ومحصنات قال ابن قتيبة والإحصان أن يحمي الشيء ويمنع منه فالمحصنات من النساء ذوات الأزواج لأن الأزواج أحصنوهن ومنعوا منهن قال الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم والمحصنات الحرائر وإن لم يكن متزوجات لأن الحرة تحصن وتحصن وليست كالأمة قال الله تعالى ومن لم

يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات النساء 25 وقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب النساء 25 يعني الحرائر والمحصنات العفائف قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات النور 4 يعني العفائف وقال الله تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها التحريم 12 أي عفت
وفي المراد بالمحصنات هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها ذوات الأزواج وهذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن وابن جبير والنخعي وابن زيد والفراء وابن قتيبة والزجاج
والثاني العفائف فانهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وهذا قول عمر بن الخطاب وأبي العالية وعطاء وعبيدة والسدي
والثالث الحرائر فالمعنى أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أول السورة روي عن ابن عباس وعبيدة
فعلى القول الأول في معنى قوله إلا ما ملكت أيمانكم قولان
أحدهما أن معناه إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب وعلى هذا تأول الآية علي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس و كان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا
والثاني إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج بسبي أو غير سبي وعلى هذا تأول الآية ابن مسعود وأبي بن كعب وجابر وأنس وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا وقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن أنهم قالوا بيع الأمة طلاقها والأول أصح

لأن النبي صلى الله عليه و سلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها وبين فراقه ولم يجعل النبي صلى الله عليه و سلم عتق عائشة إياها طلاقا ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إياها معنى ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية
وعلى القول الثاني العفائف حرام إلا بملك والملك يكون عقدا ويكون ملك يمين
وعلى القول الثالث الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء فانهن لم يحصرن بعدد
قوله تعالى كتاب الله عليكم قال الزجاج هو منصوب على التوكيد محمول على المعنى لأن معنى حرمت عليكم أمهاتكم كتب الله عليكم هذا كتابا قال ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر ويكون عليكم مفسرا له فيكون المعنى إلزموا كتاب الله قال وأحل لكم ما وراء ذلكم أي ما بعد هذه الأشياء إلا أن السنة قد حرمت تزويج المرأة على عمتها وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع وأبو عمران كتب الله عليكم

بفتح الكاف والتاء والباء من غير ألف ورفع الهاء وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأحل بفتح الحاء وقرأ حمزة والكسائي بضم الألف
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم تحليل ورد بلفظ العموم وأنه عموم دخله التخصيص والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها وليس هذا على سبيل النسخ وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث
قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم أي تطلبوا إما بصداق في نكاح أو ثمن في ملك محصنين قال ابن قتيبة متزوجين وقال الزجاج عاقدين التزويج وقال غيرهما متعففين غير زانين والسفاح الزنى قال ابن قتيبة أصله من سفحت القربة إذا صببتها فسمي الزنى سفاحا لأن يسافح يصب النطفة وتصب المرأة النطفة وقال ابن فارس السفاح صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهو كالشيء يسفح ضياعا
قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فيه قولان

أحدهما أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور
والثاني أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء فقالوا المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخا بقوله وأما الآية

فانها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح قال الزجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج فآتوهن أجورهن أي مهورهن ومن ذهب في الآية إلى غير هذا فقد أخطأ وجهل اللغة
قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيه ستة أقوال
أحدها أن معناه لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ووهبته لزوجها هذا مروي عن ابن عباس وابن زيد
والثاني ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام أو فرقة بعد أداء الفريضة روي عن ابن عباس أيضا
والثالث ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يبرئنكم قاله أبو سليمان التيمي

والرابع لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء قاله السدي وهو يعود إلى قصة المتعة
والخامس لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه قاله الزجاج
والسادس أنه عام في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء قاله القاضي أبو يعلى
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الطول الغنى والسعة في قول الجماعة والمحصنات الحرائر قال الزجاج والمعنى من لم يقدر على مهر

الحرة يقال قد طال فلان طولا على فلان أي كان له فضل عليه في القدرة
والمراد بالفتيات هاهنا المملوكات يقال للأمة فتاة وللعبد فتى وقد سمي بهذا الاسم من ليس بمملوك قرأت على شيخنا الإمام أبي منصور اللغوي قال المتفتية الفتاة والمراهقة ويقال للجارية الحدثة فتاة وللغلام فتى قال القتيبي وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال
فأما ذكر الايمان فشرط في إباحتهن ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية هذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة يجوز
قوله تعالى والله أعلم بايمانكم قال الزجاج معناه إعملوا على ظاهركم في الإيمان فانكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض قال وفي قوله بعضكم من بعض وجهان

أحدهما أنه أراد النسب أي كلكم ولد آدم ويجوز أن يكون معناه دينكم واحد لأنه ذكر هاهنا المؤمنات وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تطعن في الأنساب وتفخر بالأحساب وتسمي ابن الأمة الهجين فأعلم الله عز و جل أن أمر العبيد وغيرهم مستو في باب الإيمان وإنما كره التزويج بالأمة وحرم إذا وجد إلى الحرة سبيلا لأن ولد الأمة من الحر يصيرون رقيقا ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال وذلك يشق على الزوج
قال ابن الأنباري ومعنى الآية كلكم بنو آدم فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء عند الضرورة
وقال ابن جرير في الكلام تقديم وتأخير تقديره ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض أي لينكح هذا فتاة هذا
قوله تعالى فانكحوهن يعني الإماء باذن أهلهن أي سادتهن والأجور المهور
وفي قوله بالمعروف قولان
أحدهما انه مقدم في المعنى فتقديره انكحوهن باذن أهلهن بالمعروف أي بالنكاح الصحيح وآتوهن أجورهن
والثاني أن المعنى وآتوهن أجورهن بالمعروف كمهور أمثالهن قال ابن عباس محصنات عفائف غير زوان ولا متخذات أخدان يعني أخلاء كان الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ويستحلون ما خفي وقال في رواية أخرى المسافحات المعلنات بالزنى والمتخذات أخدان ذات الخليل

الواحد وقال غيره كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره
قوله تعالى فاذا أحصن قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر أحصن مضمومة الألف وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والمفضل عن عاصم بفتح الألف والصاد قال ابن جرير من قرأ بالفتح أراد أسلمن فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام ومن قرأ بالضم أراد فاذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج
فأما الفاحشة فهي الزنى والمحصنات الحرائر والعذاب الحد قال القاضي أبو يعلى وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد على الأمة بل يجب وإن عدما وإنما شرط الإحصان في الحد لئلا يتوهم متوهم أن عليها نصف ما على الحرة إذا لم تكن محصنة وعليها مثل ما على الحرة إذا كانت محصنة
قوله تعالى ذلك الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء وفي العنت خمسة أقوال أحدها أنه الزنى قاله ابن عباس والشعبي وابن جبير ومجاهد والضحاك وابن زيد ومقاتل وابن قتيبة
والثاني أنه الهلاك ذكره أبو عبيدة والزجاج والثالث لقاء المشقة في محبة الأمة حكاه الزجاج والرابع أن العنت هاهنا الإثم والخامس أنه العقوبة التي تعنته وهي الحد ذكرهما ابن جرير الطبري
قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين أحدهما عدم طول الحرة

والثاني خوف الزنى وهذا قول ابن عباس والشعبي وابن جبير ومسروق ومكحول وأحمد ومالك والشافعي وقد روي عن علي والحسن وابن المسيب ومجاهد والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
قوله تعالى وأن تصبروا خير لكم قال ابن عباس والجماعة عن نكاح الإماء وإنما ندب إلى الصبر عنه لاسترقاق الأولاد يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم
قوله تعالى يريد الله ليبين لكم اللام بمعنى أن وهذا مذهب جماعة من أهل العربية واختاره ابن جرير ومثله وأمرت لأعدل بينكم الشورى 15 وأمرنا لنسلم الأنعام 71 يريدون ليطفئوا الصف 8
والبيان من الله تعالى بالنص تارة وبدلالة النص أخرى قال الزجاج والسنن الطرق فالمعنى يدلكم على طاعته كما دل الأنبياء وتابعيهم وقال غيره معنى الكلام يريد الله ليبين لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق ويهديكم إلى الحق
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم قال الزجاج يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم

وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال
أحدها أنهم الزناة قاله مجاهد ومقاتل والثاني اليهود والنصارى قاله السدي والثالث أنهم اليهود خاصة ذكره ابن جرير والرابع أهل الباطل قاله ابن زيد
قوله تعالى أن تميلوا ميلا عظيما أي عن الحق بالمعصية
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا
قوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم التخفيف تسهيل التكليف أو إزالة بعضه قال ابن جرير والمعنى يريد أن ييسر لكم باذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا لحرة وفي المراد بضعف الانسان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الضعف في أصل الخلقة قال الحسن هو أنه خلق من ماء مهين والثاني أنه قلة الصبر عن النساء قاله طاووس ومقاتل والثالث أنه ضعف العزم عن قهر الهوى وهذا قول الزجاج وابن كيسان
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الباطل ما لا يحل في الشرع
قوله تعالى إلا أن تكون تجارة قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر تجارة بالرفع وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بالنصب وقد بينا العلة في آخر البقرة
قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فيه خمسة أقوال

أحدها أنه على ظاهره وأن الله حرم على العبد قتل نفسه وهذا الظاهر
والثاني أن معناه لا يقتل بعضكم بعضا وهذا قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل وابن قتيبة
والثالث أن المعنى لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم قال له يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقال يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة وأشفقت إن إغتسلت أن أهلك فذكرت قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم

والرابع أن المعنى لا تغفلوا عن حظ أنفسكم فمن غفل عن حظها فكأنما قتلها هذا قول الفضيل بن عياض والخامس لا تقتلوها بارتكاب المعاصي
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا
قوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما في المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قتل النفس قاله ابن عباس وعطاء والثاني أنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هاهنا روي عن ابن عباس أيضا والثالث قتل النفس وأكل الأموال بالباطل قاله مقاتل
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما
قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه اجتناب الشيء تركه جانبا وفي الكبائر أحد عشر قولا
أحدها أنها سبع فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث

أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات
وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الكبائر سبع الإشراك بالله أولهن وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا والفرار من الزحف ورمي المحصنات وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة
وروي عن علي رضي الله عنه قال هي سبع فعد هذه

وروي عن عطاء أنه قال هي سبع وعد هذه إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرب شهادة الزور وعقوق الوالدين
والثاني أنها تسع روى عبيد بن عمير عن أبيه وكان من الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل ما الكبائر فقال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل نفس المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والسحر وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا
والثالث أنها أربع روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس

وروى أنس بن مالك قال ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبائر أو سئل عنها فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور وروي عن ابن مسعود أنه قال الكبائر أربع الإشراك بالله والأمن لمكر الله والقنوط من رحمة الله والإياس من روح الله وعن عكرمة نحوه
والرابع أنها ثلاث فروى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز قال والزور وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله فقال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وأخرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك مخافة أن

يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك
والخامس أنها مذكورة من أول السورة إلى هذه الآية قاله ابن مسعود وابن عباس
والسادس أنها إحدى عشرة الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وقتل النفس وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات وشهادة الزور والسحر والخيانة روي عن ابن مسعود أيضا
والسابع أنها كل ذنب يختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثامن أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة والحد في الدنيا روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والتاسع أنها كل ما عصي الله به روي عن ابن عباس وعبيدة وهو قول ضعيف
والعاشر أنها كل ذنب أوعد الله عليه النار قاله الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك في رواية والزجاج
والحادي عشر أنها ثمان الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل المؤمن وقذف المحصنة والزنا وأكل مال اليتيم وقول الزور واقتطاع الرجل بيمينه وعهده ثمنا قليلا رواه محرز عن الحسن البصري

قوله تعالى نكفر عنكم سيئاتكم روى المفضل عن عاصم يكفر ويدخلكم بالياء فيهما وقرأ الباقون بالنون فيهما وقرأ نافع وأبان عن عاصم والكسائي عن أبي بكر عن عاصم مدخلا بفتح الميم هاهنا وفي الحج وضم الباقون الميم ولم يختلفوا في ضم ميم مدخل صدق و مخرج صدق الإسراء 80 قال أبو علي الفارسي يجوز أن يكون المدخل مصدرا

ويجوز أن يكون مكانا سواء فتح أو ضم قال السدي السيئات هاهنا هي الصغائر والمدخل الكريم الجنة قال ابن قتيبة والكريم بمعنى الشريف ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما
قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أم سلمة قالت يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والثاني أن النساء قلن وددن أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت هذه الآية قاله عكرمة
والثالث أنه لما نزل للذكر مثل حظ الانثيين قال الرجال إنا لنرجو

أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث وقال النساء إنا لنرج أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم فنزلت هذه الآية قاله قتادة والسدي
وفي معنى هذا التمني قولان أحدهما أن يتمنى الرجل مال غيره قاله ابن عباس وعطاء والثاني أن يتمنى النساء أن يكن رجالا وقد روي عن أم سلمة أنها قالت يا ليتنا كنا رجال فنزلت هذه الآية
وللتمني وجوه
أحدها أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره ويزول عن الغير فهذا الحسد
والثاني أن يتمنى مثل ما لغيره ولا يحب زواله عن الغير فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمني قال الحسن لا تمن مال فلان ولا مال فلان وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال
والثالث أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا ونحو هذا مما لا يقع فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح فليرض بقضاء الله ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة

قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن فيه قولان
أحدهما أن المراد بهذا الاكتساب الميراث وهو قول ابن عباس وعكرمة
والثاني أنه الثواب والعقاب فالمعنى أن المرأة تثاب كثواب الرجل وتأثم كاثمه هذا قول قتادة وابن السائب ومقاتل واحتج على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل
قوله تعالى واسألوا الله من فضله قرأ ابن كثير والكسائي وأبان وخلف في اختياره وسلوا الله فسل الذين فسل بني إسرائيل وسل من أرسلنا وما كان مثله من الأمر المواجه به وقبله واو أو فاء فهو غير مهموز عندهم وكذلك نقل عن أبي جعفر وشيبة وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله ولم يختلفوا في قوله وليسألوا ما أنفقوا الممتحنة 10 أنه مهموز
وفي المراد بالفضل قولان أحدهما أن الفضل الطاعة قاله سعيد ابن جبير ومجاهد والسدي والثاني أنه الرزق قاله ابن السائب فيكون المعنى سلوا الله ما تتمنوه من النعم ولا تتمنوا مال غيركم ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا

قوله تعالى ولكل جعلنا موالي الموالي الأولياء وهم الورثة من العصبة وغيرهم ومعنى الآية لكل إنسان موالي يرثون ما ترك وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب
أحدهما أن يكون الرفع على خبر الابتداء والتقدير وهم الوالدان والأقربون ويكون تمام الكلام قوله مما ترك
والثاني أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال فيكون الوالدان هم المولى
قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر عاقدت بالألف وقرأ عاصم وحمزة والكسائي عقدت بلا ألف قال أبو علي من قرأ بالألف فالتقدير والذين عاقدتهم أيمانكم ومن حذف الألف فالمعنى عقدت حلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أهل الحلف كان الرجل يحالف الرجل فأيهما مات ورثه الآخر فنسخ ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروى عنه عطية قال كان الرجل يلحق الرجل

في الجاهلية فيكون تابعه فاذا مات الرجل صار لأهله الميراث وبقي تابعه بغير شيء فأنزل الله والذين عاقدت أيمانكم فأعطي من ميراثه ثم نزل من بعد ذلك وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وممن قال هم الحلفاء سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة
والثاني أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم المهاجرون والأنصار كان المهاجرون يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال ابن زيد
والثالث أنهم الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية هذا قول سعيد ابن المسيب فأما أرباب القول الأول فقالوا نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخر الأنفال وإليه ذهب ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة والثوري والأوزاعي ومالك وأحمد والشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة وذهب قوم إلى أن المراد فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة إنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك وإنما قرره فقال النبي صلى الله عليه و سلم أيما حلف كان في الجاهلية فان الإسلام لم يزده

إلا شدة أراد النصر والعون وهذا قول سعيد بن جبير وهو يدل على أن الآية محكمة الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
قوله تعالى الرجال قوامون على النساء سبب نزولها أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وذكر المفسرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري قال ابن

عباس قوامون أي مسلطون على تأديب النساء في الحق وروى هشام ابن محمد عن أبيه في قوله الرجال قوامون على النساء قال إذا كانوا رجالا وأنشد ... أكل امرئ تحسبين امرءا ... ونارا توقد بالليل نارا ...
قوله تعالى بما فضل الله بعضهم على بعض يعني الرجال على النساء وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل وتوفير الحظ في الميراث والغنيمة والجمعة والجماعات والخلافة والإمارة والجهاد وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك
قوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم قال ابن عباس يعني المهر والنفقة عليهن
وفي الصالحات قولان أحدهما المحسنات إلى أزواجهن قاله ابن عباس والثاني العاملات بالخير قاله ابن مبارك قال ابن عباس والقانتات المطيعات لله في أزواجهن والحافظات للغيب أي لغيب أزواجهن وقال عطاء

وقتادة يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم
قوله تعالى بما حفظ الله قرأ الجمهور برفع اسم الله وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال
أحدها بحفظ الله إياهن قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل وروى ابن المبارك عن سفيان قال بحفظ الله إياها أن جعلها كذلك
والثاني بما حفظ الله لهن مهورهن وإيجاب نفقتهن قاله الزجاج
والثالث أن معناه حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله حكاه الزجاج وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله والمعنى بحفظهن الله في طاعته
قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن في الخوف قولان
أحدهما أنه بمعنى العلم قاله ابن عباس والثاني بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النشوز قاله الفراء وأنشد ... وما خفت يا سلام أنك عائبي ...
قال ابن قتيبة والنشوز بغض المرأة للزوج يقال نشزت المرأة على زوجها ونشصت إذا فركته ولم تطمئن عنده وأصل النشوز الانزعاج قال الزجاج أصله من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض
قوله تعالى فعظوهن قال الخليل الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب

قال الحسن يعظها بلسانه فان أبت وإلا هجرها واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال
أحدها أنه ترك الجماع رواه سعيد بن جبير وابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير ومقاتل
والثاني أنه ترك الكلام لا ترك الجماع رواه أبو الضحى عن ابن عباس وخصيف عن عكرمة وبه قال السدي والثوري
والثالث أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة فيكون المعنى قولوا لهن في المضاجع هجرا من القول
والرابع أنه هجر فراشها ومضاجعتها روي عن الحسن والشعبي ومجاهد والنخعي ومقسم وقتادة قال ابن عباس اهجرها في المضجع فان أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح وقال جماعة من أهل العلم الآية على الترتيب فالوعظ عند خوف النشوز والهجر عند ظهور النشوز والضرب عند تكرره واللجاج فيه ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز قال القاضي أبو يعلى وعلى هذا مذهب أحمد وقال الشافعي يجوز ضربها في ابتداء النشوز
قوله تعالى فان أطعنكم قال ابن عباس يعني في المضجع فلا تبغوا عليهن سبيلا أي فلا تتجن عليها العلل وقال سفيان بن عيينة لا تكلفها الحب لأن قلبها ليس في يدها وقال ابن جرير المعنى فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك لست لي محبة فتضربها أو تؤذيها

قوله تعالى إن الله كان عليا كبيرا قال أبو سليمان الدمشقي لا تبغوا على أزواجكم فهو ينتصر لهن منكم وقال الخطابي الكبير الموصوف بالجلال وكبر الشأن يصغر دون جلاله كل كبير ويقال هو الذي كبر عن شبه المخلوقين وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما في الخوف قولان أحدهما أنه الحذر من وجود ما لا يتيقن وجوده قاله الزجاج
والثاني أنه العلم قاله أبو سليمان الدمشقي قال الزجاج والشقاق العداوة واشتقاقه من المتشاقين كل صنف منهم في شق والحكم هو القيم بما يسند إليه وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان أحدهما أنه السلطان إذا ترافعا إليه قاله سعيد بن جبير والضحاك والثاني الزوجان قاله السدي
قوله تعالى إن يريدا إصلاحا قال ابن عباس يعني الحكمين وفي قوله يوفق الله بينهما قولان أحدهما أنه راجع إلى الحكمين قاله ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والسدي والجمهور والثاني أنه راجع إلى الزوجين ذكره بعض المفسرين
فصل
والحكمان وكيلان للزوجين ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به هذا

قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه وقال مالك والشافعي لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزوجين واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا

قوله تعالى واعبدوا الله قال ابن عباس وحدوه
قوله تعالى وبالوالدين إحسانا قال الفراء أغراهم بالإحسان إلى الوالدين
قوله تعالى والجار ذي القربى فيه قولان
أحدهما أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد ومقاتل في آخرين
والثاني أنه الجار المسلم قاله نوف الشامي فيكون المعنى ذي القربى منكم بالإسلام
قوله تعالى والجار الجنب روى المفضل عن عاصم والجار الجنب بفتح الجيم وإسكان النون قال أبو علي المعنى والجار ذي الجنب فحذف المضاف وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك وابن زيد ومقاتل في آخرين
والثاني أنه جارك عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنه اليهودي والنصراني قاله نوف الشامي

وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الزوجة قاله علي وابن مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى
والثاني أنه الرفيق في السفر قاله ابن عباس في رواية مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن قتيبة وعن سعيد بن جبير كالقولين
والثالث أنه الرفيق رواه ابن جريج عن ابن عباس وبه قال عكرمة
قال ابن زيد هو الذي يلصق بك رجاء خيرك وقال مقاتل هو رفيقك حضرا وسفرا وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في البقرة
قوله تعالى وما ملكت أيمانكم يعني المملوكين وقال بعضهم يدخل فيه الحيوان البهيم قال ابن عباس والمحتال البطر في مشيته والفخور المفتخر على الناس بكبره وقال مجاهد هو الذي يعد ما أعطى ولا يشكر الله

وقال ابن قتيبة المختال ذو الخيلاء والكبر وقال الزجاج المختال الصلف التياه الجهول وإنما ذكر الاختيال هاهنا لأن المختال يأنف من ذوي قراباته ومن جيرانه إذا كانوا فقراء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى الذين يبخلون ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود فأما سبب نزولها فقال ابن عباس كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي ابن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يخالطونهم وينتصحون لهم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فانا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا

في النفقة فانكم لا تدرون ما يكون فنزلت هذه الآية وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان أحدهما أنه المال قاله ابن عباس وابن زيد
والثاني أنه إظهار صفة النبي صلى الله عليه و سلم ونبوته قاله مجاهد وقتادة والسدي
قوله تعالى ويأمرون الناس بالبخل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بالبخل خفيفا وقرأ حمزة والكسائي بالبخل محركا وكذلك في سورة الحديد وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان
أحدهما أنهم اليهود أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه و سلم فكتموه هذا قول الجمهور
والثاني أنهم أرباب الأموال بخلوا بها وكتموا الغنى ذكره الماوردي في آخرين
قوله تعالى وأعتدنا قال الزجاج معناه جعلنا ذلك عتادا لهم أي مثبتا لهم والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا
قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس اختلفوا فيمن نزلت

على ثلاثة أقوال أحدها أنهم اليهود قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل
والثاني أنهم المنافقون قاله السدي والزجاج وأبو سليمان الدمشقي والثالث مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم ذكره الثعلبي
والقرين الصاحب المؤالف وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين وفي معنى مقارنة الشيطان قولان أحدها مصاحبته في الفعل والثاني مصاحبته في النار وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما
قوله تعالى وماذا عليهم المعنى وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله لو آمنوا وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان أحدهما أنه الصدقة قاله ابن عباس والثاني الزكاة قاله أبو سليمان الدمشقي وفي قوله وكان الله بهم عليما تهديد لهم على سوء مقاصدهم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وأن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة قد شرحنا الظلم فيما سلف وهو مستحيل على الله عز و جل لأن قوما قالوا الظلم تصرف فيما لا يملك والكل ملكه وقال آخرون هو وضع الشيء في غير موضعه وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته ومثقال الشيء زنة الشيء قال ابن قتيبة يقال هذا على مثقال هذا أي على وزنه قال الزجاج وهو مفعال من الثقل
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال يظن الناس أن المثقال وزن

دينار لا غير وليس كما يظنون مثقال كل شيء وزنه وكل وزن يسمى مثقالا وإن كان وزن ألف قال الله تعالى وإن كان مثقال حبة من خردل الأنبياء 47 قال أبو حاتم سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان فقال فارسي ولا أدري كيف أقول ولكني أقول مثقال فاذا قلت للرجل ناولني مثقالا فأعطاك صنجة ألف أو صنجة حبة كان ممتثلا
وفي المراد بالذرة خمسة أقوال أحدها أنه رأس نملة حمراء رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني ذرة يسيرة من التراب رواه يزيد بن الأصم عن ابن عباس والثالث أصغر النمل قاله ابن قتيبة وابن فارس والرابع الخردلة والخامس الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ذكرهما الثعلبي واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا
قوله تعالى وإن تك حسنة قرأ ابن كثير ونافع حسنة بالرفع وقرأ الباقون بالنصب قال الزجاج من رفع فالمعنى وإن تحدث حسنة ومن نصب فالمعنى وإن تك فعلته حسنة
قول تعالى يضاعفها قرأ ابن عامر وابن كثير يضعفها بالتشديد من غير ألف وقرأ الباقون يضاعفها بألف مع كسر العين قال ابن قتيبة يضاعفها بالألف يعطي مثلها مرات ويضعفها بغير ألف يعطي مثلها مرة

قوله تعالى من لدنه أي من قبله والأجر العظيم الجنة فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد قال الزجاج معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة فحذف الحال لأن في الكلام دليلا عليه ولفظ كيف لفظ الاستفهام ومعناها التوبيخ والشهيد نبي الأمة وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال

أحدها بأنه قد بلغ أمته قاله ابن مسعود وابن جريج والسدي ومقاتل
والثاني بايمانهم قاله أبو العالية والثالث بأعمالهم قاله مجاهد وقتادة
والرابع يشهد لهم وعليهم قاله الزجاج
قوله تعالى وجئنا بك يعني نبينا صلى الله عليه و سلم وفي هؤلاء ثلاثة أقوال أحدها أنهم جميع أمته ثم فيه قولان أحدهما أنه يشهد عليهم والثاني يشهد لهم فتكون على بمعنى اللام والقول الثاني أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة قاله مقاتل والثالث اليهود والنصارى ذكره الماوردي يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
قوله تعالى لو تسوى بهم الأرض قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو لو تسوى بضم التاء وتخفيف السين والمعنى ودوا لو جعلوا ترابا فكانوا هم والأرض سواء هذا قول الفراء في آخرين قال أبو هريرة إذا حشر الله الخلائق قال للبهائم والدواب والطير كوني ترابا فعندها يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا

وقرأ نافع وابن عامر لو تسوى بفتح التاء وتشديد السين والمعنى لو تتسوى فأدغمت التاء في السين لقربها منها قال أبو علي وفي هذه القراءة اتساع لأن الفعل مسند إلى الأرض وليس المراد ودوا لو صارت الأرض مثلهم وإنما المعنى ودوا لو يتسوون بها ثم في المعنى للمفسرين قولان
أحدهما أن معناه ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها قاله قتادة وأبو عبيدة ومقاتل
والثاني أن معناه ودوا أنهم لم يبعثوا لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها قاله ابن كيسان وذكر نحوه الزجاج وقرأ حمزة والكسائي لو تسوى بفتح التاء وتخفيف السين والواو مشددة ممالة وهي بمعنى تتسوى فحذف التاء التي أدغمها نافع وابن عامر فأما معنى القراءتين فواحد
قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا في الحديث قولان أحدهما أنه قولهم ما كنا مشركين هذا قول الجمهور والثاني أنه أمر النبي صلى الله عليه و سلم وصفته ونعته قاله عطاء فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا فيكون المعنى ودوا أنهم لم يكتموا ذلك
وفي معنى الآية ستة أقوال أحدها ودوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم وهذا المعنى مروي عن ابن عباس
والثاني أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا وفي موطن يكتمون ويقولون ما كنا مشركين قاله الحسن

والرابع أن قوله ولا يكتمون الله حديثا كلام مستأنف لا يتعلق بقوله لو تسوى بهم الأرض هذا قول الفراء والزجاج ومعنى لا يكتمون الله حديثا لا يقدرون على كتمانه لأنه ظاهر عند الله
والخامس أن المعنى ودوا لو سويت بهم الأرض وأنهم لم يكتموا الله حديثا
والسادس أنهم لم يعتقدوا قولهم ما كنا مشركين كذبا وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ذكر القولين ابن الأنباري
وقال القاضي أبو يعلى أخبروا بما توهموا إذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى روى أبو عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت هذه الآية وفي رواية أخرى عن أبي عبدالرحمن عن علي رضي الله عنه أن الذي قدموه وخلط في هذه السورة عبدالرحمن بن عوف
وفي معنى قوله لا تقربوا الصلاة قولان أحدهما لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة والثاني لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر والأول أصح لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به وفي معنى وأنتم سكارى قولان
أحدهما من الخمر قاله الجمهور والثاني من النوم قاله الضحاك وفيه بعد وهذه الآية اقتضت إباحة السكر في غير أوقات الصلاة ثم نسخت بتحريم الخمر

قوله تعالى ولا جنبا قال ابن قتيبة الجنابة البعد قال الزجاج يقال رجل جنب ورجلان جنب ورجال جنب كما يقال رجل رضى وقوم رضى وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان أحدهما لمجانبة مائه محله والثاني لما يلزمه من اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد
قوله تعالى إلا عابري سبيل فيه قولان
أحدهما أن المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمموا وتصلوا وهذا المعنى مروي عن علي رضي الله عنه ومجاهد والحكم وقتادة وابن زيد ومقاتل والفراء والزجاج
والثاني لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين ولا تقعدوا وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخراساني والزهري وعمرو بن دينار وأبي الضحى وأحمد والشافعي وابن قتيبة وعن ابن عباس وسعيد ابن

جبير كالقولين فعلى القول الأول عابر السبيل المسافر وقربان الصلاة فعلها وعلى الثاني عابر السبيل المجتاز في المسجد وقربان الصلاة دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة
قوله تعالى وإن كنتم مرضى في سبب نزول هذا الكلام قولان
أحدهما أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية وإن كنتم مرضى أو على سفر قاله مجاهد
والثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أصابتهم جراحات ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت وإن كنتم مرضى الآية كلها قاله إبراهيم النخعي قال القاضي أبو يعلى وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضر معه باستعمال المال سواء كان يخاف التلف أو لا يخاف وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء سواء كان قصيرا أو طويلا وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض وإنما الشرط حصول الضرر وأما السفر فعدم الماء شرط في إباحة التيمم وليس السفر بشرط وإنما ذكر السفر لأن الماء يعدم فيه غالبا
قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أو بمعنى الواو لأنها لو لم تكن كذلك لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق

بالحدث والغائط المكان المطمئن من الأرض فكني عن الحدث بمكانه قاله ابن قتيبة وكذلك قالوا للمزادة راوية وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه وقالوا للنساء ظعائن وإنما الظعائن الهوادج وكن يكن فيها وسموا الحدث عذرة لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور
قوله تعالى أو لا مستم النساء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر أو لامستم بألف هاهنا وفي المائدة وقرأ حمزة والكسائي وخلف في اختياره والمفضل عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر أو لمستم بغير ألف هاهنا وفي المائدة وفي المراد بالملامسة قولان
أحدهما أنها الجماع قاله علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة
والثاني أنها الملامسة باليد قاله ابن مسعود وابن عمر والشعبي وعبيدة وعطاء وابن سيرين والنخعي والنهدي والحكم وحماد

قال أبو علي اللمس يكون باليد وقد اتسع فيه فأوقع على غيره فمن ذلك وأنا لمسنا السماء الجن 8 أي عالجنا غيب السماء ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة ويخبرهم به فلما كان اللمس يقع على غير المباشرة باليد قال فلمسوه بأيديهم الأنعام 7 فخص اليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر كما قال وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم النساء 23 لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب
قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا سبب نزولها أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره فانقطع عقد لها فأقام النبي صلى الله عليه و سلم على التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فنزلت هذه الآية فقال أسيد

ابن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية أخرى أخرجها البخاري ومسلم أيضا أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجالا في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت آية التيمم والتيمم في اللغة القصد وقد ذكرناه في قوله ولا تيمموا الخبيث وأما الصعيد فهو التراب قاله علي وابن مسعود والفراء وأبو عبيد والزجاج وابن قتيبة وقال الشافعي لا يقع اسم الصعيد إلى على تراب

ذي غبار وفي الطيب قولان أحدهما أنه الطاهر والثاني الحلال
قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم الوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الوضوء وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال
أحدها أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق روى عمار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال التيمم ضربة للوجه والكفين وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ابن أبي رباح وعكرمة والأوزاعي ومكحول ومالك وأحمد وإسحاق وداود
والثاني أنه إلى المرفقين روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه تيمم فمسح ذراعيه وبهذا قال ابن عمر وابنه سالم والحسن وأبو حنيفة والشافعي وعن الشعبي كالقولين

والثالث أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط روى عمار بن ياسر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلت الرخصة في المسح فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط وهذا قول الزهري
قوله تعالى إن الله كان عفوا قال الخطابي العفو بناء للمبالغة والعفو الصفح عن الذنوب وترك مجازاة المسيء وقيل إنه مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال

أحدها أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت والثاني أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلم النبي صلى الله عليه و سلم لويا ألسنتهما وعاباه روي القولان عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في اليهود قاله قتادة
وفي النصيب الذي أوتوه قولان أحدهما أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه و سلم والثاني العلم بما في كتابهم دون العمل
قوله تعالى يشترون الضلالة قال ابن قتيبة هذا من الاختصار والمعنى يشترون الضلالة بالهدى ومثله وتركنا عليه في الآخرين الصافات 78 أي تركنا عليه ثناء حسنا فحذف الثناء لعلم المخاطب
وفي معنى اشترائهم الضلالة أربعة أقوال
أحدها أنه استبدالهم الضلالة بالايمان قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد ظهوره بايمانهم به قبل ظهوره قاله مقاتل

والثالث أنه إيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة وثبوت الرئاسة لهم قاله الزجاج
والرابع أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه و سلم ذكره الماوردي
قوله تعالى ويريدون أن تضلوا السبيل خطاب للمؤمنين والمراد بالسبيل طريق الهدى والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا
قوله تعالى والله أعلم بأعدائكم فهو يعلمكم ما هم عليه فلا تستنصحوهم وهم اليهود وكفى بالله وليا لكم فمن كان وليه لم يضره عدوه قال الخطابي الولي الناصر والولي المتولي للأمر والقائم به وأصله من الولي وهو القرب والنصير فعيل بمعنى فاعل من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

قوله تعالى من الذين هادوا قال مقاتل نزلت في رفاعة بن زيد ومالك ابن الضيف وكعب بن أسيد وكلهم يهود وفي من قولان ذكرهما الزجاج
أحدهما أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب فيكون المعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا
والثاني أنها مستأنفة فالمعنى من الذين هادوا قوم يحرفون فيكون قوله يحرفون صفة ويكون الموصوف محذوفا وأنشد سيبويه ... وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ...
والمعنى فمنهما تارة أموت فيها قال أبو علي الفارسي والمعنى وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا أي إن الله ينصر عليهم
فأما التحريف فهو التغيير والكلم جمع كلمة وقيل إن الكلام مأخوذ من الكلم وهو الجرح الذي يشق الجلد واللحم فسمي الكلام كلاما لأنه يشق الأسماع بوصوله إليها وقيل بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان أحدهما أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه و سلم عن الشيء فاذا خرجوا حرفوا كلامه قاله ابن عباس والثاني أنه تبديلهم التوراة قاله مجاهد

قوله تعالى عن مواضعه أي عن أماكنه ووجوهه
قوله تعالى ويقولون سمعنا وعصينا قال مجاهد سمعنا قولك وعصينا أمرك
قوله تعالى واسمع غير مسمع فيه قولان
أحدهما أن معناه اسمع لا سمعت قاله ابن عباس وابن زيد وابن قتيبة
والثاني أن معناه اسمع غير مقبول ما تقول قاله الحسن ومجاهد وقد تقدم في البقرة معنى وراعنا
قوله تعالى ليا بألسنتهم قال قتادة اللي تحريك ألسنتهم بذلك
وقال ابن قتيبة معنى ليا بألسنتهم أنهم يحرفون راعنا عن طريق المراعاة والانتظار إلى السب بالرعونة قال ابن عباس لكان خيرا لهم مما بدلوا و أقوم أي أعدل ولكن لعنهم الله بكفرهم بمحمد
قوله تعالى فلا يؤمنون إلا قليلا فيه قولان أحدهما فلا يؤمن منهم إلا قليل وهم عبدالله بن سلام ومن تبعه قاله ابن عباس

والثاني فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا قاله قتادة والزجاج قال مقاتل وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا قوما من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب ابن أسد إلى الإسلام وقال لهم إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق فقالوا ما نعرف ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان
أحدهما أنه اليهود قاله الجمهور والثاني اليهود والنصارى ذكره الماوردي وعلى الأول يكون الكتاب التوراة وعلى الثاني التوراة والإنجيل والمراد بما نزلنا القرآن وقد سبق في البقرة بيان تصديقه لما معهم
قوله تعالى من قبل أن نطمس وجوها في طمس الوجوه ثلاثة أقوال
أحدها أنه إعماء العيون قاله ابن عباس وقتادة والضحاك
والثاني أنه طمس ما فيها من عين وأنف وحاجب وهذا المعنى مروي عن ابن عباس واختيار ابن قتيبة

والثالث أنه ردها عن طريق الهدى وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ومجاهد والضحاك والسدي وقال مقاتل من قبل أن نطمس وجوها أي نحول الملة عن الهدى والبصيرة فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا والمراد البصيرة والقلوب وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه العضو المعروف
قوله تعالى فنردها على أدبارها خمسة أقوال
أحدها نصيرها في الأقفاء ونجعل عيونها في الأقفاء هذا قول ابن عباس وعطية
والثاني نصيرها كالأقفاء ليس فيها فم ولا حاجب ولا عين وهذا قول قوم منهم ابن قتيبة
والثالث نجعل الوجه منبتا للشعر كالقرود هذا قول الفراء
والرابع ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها وإلى نحوه ذهب ابن زيد قال ابن جرير فيكون المعنى من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها وناحيتهم التي هم بها نزول فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديا من الشام
والخامس نردها في الضلالة وهذا قول الحسن ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل
قوله تعالى أو نلعنهم يعود إلى أصحاب الوجوه وفي معنى لعن أصحاب السبت قولان

أحدهما مسخهم قردة قاله الحسن وقتادة ومقاتل والثاني طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم ذكره الماوردي
قوله تعالى وكان أمر الله مفعولا قال ابن جرير الأمر هاهنا بمعنى المأمور سمي باسم الأمر لحدوثه عنه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما
قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به قال ابن عمر لما نزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الزمر 53 قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم والشرك فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فنزلت هذه وقد سبق معنى الإشراك
والمراد من الآية لا يغفر لمشرك مات على شركه وفي قوله لمن يشاء نعمة عظيمة من وجهين أحدهما أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب وإن مات مصرا والثاني أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع

للمسلمين وهو أن يكونوا على خوف وطمع ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا
قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم سبب نزولها أن مرحب ابن زيد وبحري بن عون وهما من اليهود أتيا النبي صلى الله عليه و سلم بأطفالهما ومعهما طائفة من اليهود فقالوا يا محمد هل على هؤلاء من ذنب قال لا قالوا والله ما نحن إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
وفي قوله ألم تر قولان أحدهما ألم تخبر قاله ابن قتيبة والثاني ألم تعلم قاله الزجاج وفي الذين يزكون أنفسهم قولان أحدهما اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة ومقاتل والثاني أنهم اليهود والنصارى وبه قال الحسن وابن زيد ومعنى يزكون أنفسهم يزعمون أنهم أزكياء يقال زكى الشيء إذا نما في الصلاح
وفي الذي زكوا به أنفسهم أربعة أقوال
أحدها أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب رواه أبو صالح عن ابن عباس

والثاني أن اليهود قالوا إن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا رواه عطية عن ابن عباس
والثالث أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم يزعمون أنهم لا ذنوب لهم هذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك
والرابع أن اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه المائدة 18 وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى البقرة 111 هذا قول الحسن وقتادة
قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء أي يجعله زاكيا ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل قال ابن جرير وأصل الفتيل المفتول صرف عن مفعول إلى فعيل كصريع ودهين
وفي الفتيل قولان أحدهما أنه ما يكون في شق النواة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة وعطية وابن زيد ومقاتل وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج
والثاني أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وأبو مالك والسدي والفراء أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا
قوله تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقولهم لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذبوا فيه وكفى به أي وحسبهم بقيلهم الكذب إثما مبينا يتبين كذبهم لسامعيه

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن جماعة من اليهود قدموا على قريش فسألوهم أديننا خير أم دين محمد فقال اليهود بل دينكم فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب قدما مكة فقالت لهما قريش أنحن خير أم محمد فقالا أنتم فنزلت هذه الآية هذا قول عكرمة في رواية وقال قتادة نزلت في كعب وحيي ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش أنتم أهدى من محمد

والثالث أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش أنتم أهدى من محمد فنزلت هذه الآية وهذا قول مجاهد والسدي وعكرمة في رواية
والرابع أن حيي بن أخطب قال للمشركين نحن وإياكم خير من محمد فنزلت هذه الآية هذا قول ابن زيد والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود
وفي الجبت سبعة أقوال
أحدها أنه السحر قاله عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والثاني الأصنام رواه عطية عن ابن عباس وقال عكرمة الجبت صنم والثالث حيي بن أخطب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك والفراء والرابع كعب بن الأشرف رواه الضحاك عن ابن عباس وليث عن مجاهد والخامس الكاهن روي عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومكحول والسادس الشيطان قاله سعيد بن جبير في رواية وقتادة والسدي والسابع الساحر قاله أبو العالية وابن زيد وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير قال الجبت الساحر بلسان الحبشة
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال
أحدها الشيطان قاله عمر بن الخطاب ومجاهد في رواية والشعبي وابن زيد والثاني أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها ليضلوا الناس رواه العوفي عن ابن عباس والثالث كعب بن الأشرف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك والفراء والرابع الكاهن وبه قال سعيد بن جبير وأبو العالية وقتادة والسدي والخامس أنه الصنم

قاله عكرمة وقال الجبت والطاغوت صنمان والسادس الساحر روي عن ابن عباس وابن سيرين ومكحول فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين
وقال اللغويون منهم ابن قتيبة والزجاج كل معبود من دون الله من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت
قوله تعالى ويقولون للذين كفروا يعني لمشركي قريش أنتم أهدى من الذين آمنوا يعنون النبي وأصحابه طريقا في الديانة والاعتقاد أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فاذا لا يؤتون الناس نقيرا
قوله تعالى أم لهم نصيب من الملك هذا استفهام معناه الإنكار فالتقدير ليس لهم وقال الفراء قوله فاذا لا يؤتون الناس نقيرا جواب لجزاء مضمر تقديره ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا وفي النقير أربعة أقوال

أحدها أنه النقطة التي في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل والفراء وابن قتيبة في آخرين
والثاني أنه القشر الذي يكون في وسط النواة رواه التيمي عن ابن عباس وروي عن مجاهد أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة
والثالث أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس
والرابع أنه حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الأزهري والفتيل والنقير والقطمير تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير أم يحسدون الناس على ما آتهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
قوله تعالى أم يحسدون الناس سبب نزولها أن أهل الكتاب قالوا يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة فأي ملك أفضل من هذا فنزلت رواه العوفي عن ابن عباس

وفي أم قولان أحدهما أنها بمعنى ألف الاستفهام قاله ابن قتيبة
والثاني بمعنى بل قاله الزجاج وقد سبق ذكر الحسد في سورة البقرة والحاسدون هاهنا اليهود وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال
أحدها النبي صلى الله عليه و سلم رواه عطية عن ابن عباس وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل
والثاني النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
والثالث العرب قاله قتادة والرابع النبي والصحابة ذكره الماوردي
وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال
أحدها إباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد روي عن ابن عباس والضحاك والسدي والثاني أنه النبوة قاله ابن جريج والزجاج والثالث بعثة نبي منهم على قول من قال هم العرب

قوله تعالى فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب يعني التوراة والإنجيل والزبور كله كان في آل إبراهيم وهذا النبي من أولاد إبراهيم وفي الحكمة قولان
أحدهما النبوة قاله السدي ومقاتل والثاني الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي
وفي الملك العظيم خمسة أقوال أحدها ملك سليمان رواه عطية عن ابن عباس والثاني ملك داود وسليمان في النساء كان لداود مائة امرأة ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي والثالث النبوة قاله مجاهد والرابع التأييد بالملائكة قاله ابن زيد في آخرين والخامس الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا
قوله تعالى فمنهم من أمن به فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان
أحدهما اليهود الذين أنذرهم نبيا محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول مجاهد ومقاتل

والفراء في آخرين فعلى هذا القول في هاء به ثلاثة أقوال
أحدها تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد قال أبو سليمان فيكون الكلام مبنيا على قوله على ما آتاهم الله من فضله وهو النبوة والقرآن
والثاني أنها تعود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فتكون متعلقة بقوله أم يحسدون الناس يعني بالناس محمدا صلى الله عليه و سلم ويكون المراد بقوله فمنهم من آمن به عبد الله بن سلام وأصحابه والثالث أنها تعود إلى النبأ عن آل إبراهيم قاله الفراء
والقول الثاني أن الهاء والميم في قوله فمنهم تعود إلى آل إبراهيم فعلى هذا في هاء به قولان أحدهما أنها عائدة إلى إبراهيم قاله السدي والثاني إلى الكتاب قاله مقاتل
قوله تعالى ومنهم من صد عنه وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وعكرمة وابن يعمر والجحدري من صد عنه برفع الصاد وقرأ أبي بن كعب وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني بكسر الصاد إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
قوله تعالى فسوف نصليهم نارا قال الزجاج أي نشويهم في نار ويروى أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه و سلم شاة مصلية أي مشوية وفي قوله بدلناهم جلودا غيرها قولان
أحدهما أنها غيرها حقيقة ولا يلزم على هذا أن يقال كيف بدلت

جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت لأن الجلود آلة في ايصال العذاب إليهم كما كانت آلة في ايصال اللذة وهم المعاقبون لا الجلود
والثاني أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها كما تعاد بعد البلى في القبور فتكون الغيرية عائدة إلى الصفة لا إلى الذات فالمعنى بدلناهم جلودا غير محترقة كما تقول صغت من خاتمي خاتما آخر وقال الحسن البصري في هذه الآية تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فعادوا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا
قوله تعالى وندخلهم ظلا ظليلا قال الزجاج هو الذي يظل من الحر والريح وليس كل ظل كذلك فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر معه ولا برد فان قيل أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل فالجواب أن لا وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا مريم 62 وجواب آخر وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها وتمكين بنائها فلو كان البرد أو الحر يتسلط عليها لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا
قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس فقال النبي صلى الله عليه و سلم هات المفتاح فأعاد العباس قوله وكف عثمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول الله بأمانة الله فأخذ المفتاح ففتح البيت فنزل جبريل بهذه الآية فدعا عثمان فدفعه إليه رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل
والثاني أنها نزلت في الأمراء رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال زيد بن أسلم وابنه ومكحول واختاره أبو سليمان الدمشقي وقال أمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين
والثالث أنها نزلت عامة وهو مروي عن أبي بن كعب وابن عباس والحسن وقتادة واختاره القاضي أبو يعلى واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها فانها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات وقال ابن مسعود الأمانة في الوضوء وفي الصلاة وفي الصوم وفي الحديث وأشد ذلك في الودائع

قوله تعالى نعما يعظكم به يقول نعم الشيء يعظكم به وقد ذكرناه في البقرة يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في سبب نزولها قولان أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه و سلم في سرية أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس

والثاني أن عمار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سرية فهرب القوم ودخل رجل منهم على عمار فقال إني قد أسلمت هل ينفعني أو أذهب كما ذهب قومي قال عمار أقم فأنت آمن فرجع الرجل وأقام فجاء خالد فأخذ الرجل فقال عمار إني قد أمنته وإنه قد أسلم قال أتجير علي وأنا الأمير فتنازعا وقدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى وأطيعوا الرسول طاعة الرسول في حياته امتثال أمره واجتناب نهيه وبعد مماته اتباع سنته
وفي أولي الأمر أربعة أقوال
أحدها أنهم الأمراء قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل

والثاني أنهم العلماء رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنخعي والضحاك ورواه خصيف عن مجاهد
والثالث أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال بكر بن عبد الله المزني
والرابع أنهم أبو بكر وعمر وهذا قول عكرمة
قوله تعالى فان تنازعتم في شيء قال الزجاج معناه اختلفتم وقال كل فريق القول القولي واشتقاق المنازعة أن كل واحد ينتزع الحجة
قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول في كيفية هذا الرد قولان
أحدهما أن رده إلى الله رده إلى كتابه ورده إلى النبي رده إلى سنته هذا قول مجاهد وقتادة والجمهور قال القاضي أبو يعلى وهذا الرد يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه والثاني الرد إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره من طريق القياس والنظائر
والقول الثاني أن رده إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء الله ورسوله أعلم ذكره قوم منهم الزجاج
وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال أحدها أنه الجزاء والثواب وهو قول مجاهد وقتادة والثاني أنه العاقبة وهو قول السدي وابن زيد وابن

قتيبة والزجاج والثالث أنه التصديق مثل قوله هذا تأويل رؤياي يوسف 100 قاله ابن زيد في رواية والرابع أن معناه ردكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم ذكره الزجاج ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
قوله تعالى ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي انطلق بنا إلى محمد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لليهودي فلما خرجا قال المنافق ننطلق إلى عمر بن الخطاب فأقبلا إليه فقصا عليه القصة فقال رويدا حتى أخرج إليكما فدخل البيت فاشتمل على السيف ثم خرج فضرب به المنافق

حتى برد وقال هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أن يهوديا ومنافقا كانت بينهما خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي لأنه لا يأخذ الرشوة ودعا المنافق إلى حكامهم لأنهم يأخذون الرشوة فلما اختلفا اجتمعا أن يحكما كاهنا فنزلت هذه الآية هذا قول الشعبي
والرابع أن رجلا من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة فاختصموا فقال المنافقون منهم إنطلقوا إلى أبي بردة الكاهن فقال المسلمون من الفريقين

بل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأبى المنافقون فانطلقوا إلى الكاهن فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والزعم والزعم لغتان وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته وفي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان أحدهما أنه المنافق والثاني أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي والطاغوت كعب بن الأشرف قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع ومقاتل
قوله تعالى وقد أمروا أن يكفروا به قال مقاتل أن يتبرؤوا من الكهنة والضلال البعيد الطويل وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا
قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قال مجاهد هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي والمنافق والهاء والميم في لهم إشارة إلى الذين يزعمون والذي أنزل الله أحكام القرآن وإلى الرسول أي إلى حكمه فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جآؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا
قوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة أي كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله وفي المراد بالمصيبة قولان أحدهما أنه تهديد

ووعيد والثاني أنه قتل المنافق الذي قتله عمر وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال أحدها نفاقهم واستهزاؤهم والثاني ردهم حكم النبي صلى الله عليه و سلم والثالث معاصيهم المتقدمة
قوله تعالى إن أردنا بمعنى ما أردنا
قوله تعالى إلا إحسانا وتوفيقا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لما قتل عمر صاحبهم جاؤوا يطلبون بدمه ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إلا إحسانا إلينا وما يوافق الحق في أمرنا
والثاني ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا
والثالث أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه و سلم من محاكمتهم إلى غيره ويقولون ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مر الحق أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا
قوله تعالى أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم أي من النفاق والزيغ

وقال ابن عباس إضمارهم خلاف ما يقولون فأعرض عنهم ولا تعاقبهم وعظهم بلسانك وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي تقدم إليهم إن فعلتم الثانية عاقبتكم وقال الزجاج يقال بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه
وقد تكلم العلماء في حد البلاغة فقال بعضهم البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ وقيل البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل البلاغة الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضجار
قال خالد بن صفوان أحسن الكلام ما قلت ألفاظه وكثرت معانيه وخير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره وقال غيره إنما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه ومعناه لفظه ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن الإعراض المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع قال الزجاج من دخلت للتوكيد والمعنى وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع وفي قوله باذن الله قولان أحدهما أنه بمعنى الأمر قاله ابن عباس والثاني أنه الاذن نفسه قاله مجاهد وقال الزجاج المعنى إلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك

وقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما قال ابن عباس ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول جاؤوك فاستغفروا الله من صنيعهم فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للزبير اسق ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصار قال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر قال الزبير فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلى في ذلك أخرجه البخاري ومسلم

والثاني أنها نزلت في المنافق واليهودي اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف وقد سبقت قصتهما قاله مجاهد
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون أي لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك وقيل لا رد لزعمهم أنهم مؤمنون والمعنى فلا أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف فقال وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم أي فيما اختلفوا فيه
وفي الحرج قولان أحدهما أنه الشك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي في آخرين والثاني الضيق قاله أبو عبيدة والزجاج وفي قوله ويسلموا تسليما قولان أحدهما يسلموا لما أمرتهم به فلا يعارضونك هذا قول ابن عباس والزجاج والجمهور والثاني يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ذكره الماوردي ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون

به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم سبب نزولها أن رجلا من اليهود قال والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلناها فقال ثابت بن قيس بن الشماس والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا فنزلت هذه الآية هذا قول السدي قال الزجاج لو يمتنع به الشيء لامتناع غيره تقول لو جاءني زيد لجئته والمعنى أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه وكتبنا بمعنى فرضنا والمعنى لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم قرأ أبو عمرو أن اقتلوا أنفسكم بكسر النون أو اخرجوا بضم الواو وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع والكسائي أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما والمعنى لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى لم يفعله إلا قليل منهم هذه قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب ولو أنهم يعني المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويصدون عنك فعلوا ما يوعظون به أي ما يذكرون به من طاعة الله والوقوف مع أمره لكان خيرا لهم وأثبت لأمورهم وقال السدي وأشد تثبيتا أي تصديقا ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما
قوله تعالى ومن يطع الله والرسول في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان شديد المحبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فرآه رسول الله يوما فعرف الحزن في وجهه فقال يا ثوبان ما غير وجهك قال ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك فأذكر الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا له ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا فانك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت هذه الآية هذا قول مسروق
والثالث أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي وهو محزون فقال مالي أراك محزونا فقال يا رسول الله غدا ترفع مع الأنبياء فلا نصل إليك فنزلت هذه الآية هذا قول سعيد بن جبير قال ابن عباس ومن يطع الله في الفرائض والرسول في السنن قال ابن قتيبة والصديق الكثير الصدق كما يقال فسيق وسكير وشريب وخمير وسكيت وفجير وعشيق

وضليل وظليم إذا كثر منه ذلك ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرة أو مرتين حتى يكثر منه ذلك أو يكون عادة فأما الشهداء فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال أحدها لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة قاله ثعلب والثاني لأن ملائكة الرحمة تشهده والثالث لسقوطه بالأرض والأرض هي الشاهدة ذكر القولين ابن فارس اللغوي والرابع لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل قاله أبو سليمان الدمشقي والخامس لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل قاله شيخنا على بن عبيد الله
فأما الصالحون فهم اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته والجمهور على أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين عام في جميع من هذه صفته

وقال عكرمة المراد بالنبيين هاهنا محمد والصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة
قوله تعالى وحسن أولئك رفيقا قال الزجاج رفيقا منصوب على التمييز وهو ينوب عن رفقاء قال الشاعر ... بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ...
وقال آخر ... في حلقكم عظم وقد شجينا ... يريد في حلوقكم عظام ...
ذلك الفضل الذي أعطى المذكورين من الله وكفى بالله عليما بالمقاصد والنيات

يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
قوله تعالى خذوا حذركم فيه قولان أحدهما احذروا عدوكم
والثاني خذوا سلاحكم
قوله تعالى فانفروا ثبات قال ابن قتيبة أي جماعات واحدتها ثبة يريد جماعة بعد جماعة وقال الزجاج الثبات الجماعات المتفرقة
قال زهير ... وقد أغدوا على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء ...
قال ابن عباس فانفروا ثبات أي عصبا سرايا متفرقين أو انفروا جميعا يعنى كلكم
فصل
وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انفروا خفافا وثقالا التوبة 41

وقوله إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما التوبة 39 منسوخات بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة التوبة 122 قال أبو سليمان الدمشقي والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام وليس في هذا من المنسوخ شيء وإن منكم لمن ليبطئن فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها في المنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد فان لقيت السرية نكبة قال من أبطأ منهم لقد أنعم الله علي وإن لقوا غنيمة قال يا ليتني كنت معهم هذا قول ابن عباس وابن جريج
والثاني أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين فتثبطوا لقلة العلم لا لضعف الدين ذكره الماوردي وغيره فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله منكم لموضع نطقهم بالإسلام وجريان أحكامه عليهم وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة قال ابن جرير اللام في لمن لام تأكيد
قال الزجاج واللام في ليبطئن لام القسم كقولك إن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن يقال أبطأ الرجل و بطؤ فمعنى أبطأ تأخر ومعنى بطؤ ثقل وقرأ أبو جعفر ليبطئن بتخفيف الهمزة وفي معنى ليبطئن قولان أحدهما ليبطئن هو بنفسه وهو قول ابن عباس والثاني ليبطئن غيره قاله ابن جريج قال ابن عباس والمصيبة النكبة والفضل من الله الفتح والغنيمة

قوله تعالى كأن لم يكن بينكم وبينه مودة قرأ ابن كثير وحفص والمفضل عن عاصم كأن لم تكن بالتاء لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يكن بالياء لأن التأنيث ليس بحقيقي قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى ليقولن يا ليتني كنت معهم كأن لم يكن بينكم وبينه مودة أي كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به فيكون المعنى ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي كأن لم يكن بينكم وبينه مودة فيكون معنى المودة أي كأنه لم يعاقدكم على الإيمان فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
قوله تعالى الذين يشرون الحياة الدنيا يشرون هاهنا بمعنى يبتغون في قول الجماعة وأنشدوا ... وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه

وبرد غلام له باعه ومعنى الآية ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص وطلب الآخرة
قوله تعالى فيقتل أو يغلب خرج مخرج الغالب وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
قوله تعالى والمستضعفين من الرجال قال الفراء تقديره وفي المستضعفين وكذلك روي عن ابن عباس وقال الزجاج المستضعفون في موضع خفض والمعنى في سبيل الله وسبيل المستضعفين أي ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء قال ابن عباس وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا والقرية مكة في قول الجماعة قال الفراء وإنما خفض الظالم لأنه نعت للأهل فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها تقول مررت بالرجل الواسعة داره

قوله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا قال أبو سليمان سألوا الله وليا من عنده يلي إخراجهم منها ونصيرا يمنعهم من المشركين قال ابن عباس فلما فتح رسول الله مكة جعل الله عز و جل النبي عليه السلام وليهم واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عتاب بن أسيد فكان نصيرا لهم ينصف الضعيف من القوي الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
قوله تعالى يقاتلون في سبيل الطاغوت الطاغوت هاهنا الشيطان وقال أبو عبيدة الطاغوت هاهنا في معنى جماعة كقوله ولحم الخنزير معناه ولحم الخنازير
قوله تعالى إن كيد الشيطان يعني مكره وصنيعه كان ضعيفا حيث خذل أصحابه يوم بدر ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا

قوله تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في نفر من المهاجرين كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكة قبل أن يفرض القتال فنهوا عن ذلك فلما أذن لهم فيه كرهه بعضهم روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وهو قول قتادة والسدي ومقاتل
والثاني أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم فحذرت هذه الأمة من مثل حالهم روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس قال أبو سليمان الدمشقي كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا إبعث لنا ملكا وقال مجاهد هي في اليهود
فأما كف اليد فالمراد به الامتناع عن القتال ذلك كان بمكة وكتب بمعنى فرض وذلك بالمدينة هذا على القول الأول
قوله تعالى إذا فريق منهم في هذا الفريق ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المنافقون والثاني أنهم كانوا مؤمنين فلما فرض القتال نافقوا جبنا وخوفا والثالث أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم فنفرت

نفوسهم عن القتال
قوله يخشون الناس في المراد بالناس قولان أحدهما كفار مكة والثاني جميع الكفار
قوله تعالى أو أشد خشية قيل إن أو بمعنى الواو وكتبت بمعنى فرضت و لولا بمعنى هلا قال الفراء إذا لم تر بعدها اسما فهي استفهام بمعنى هلا وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا فهي التي جوابها اللام تقول لولا عبد الله لضربتك وقال ابن قتيبة إذا رأيتها بغير جواب فهي بمعنى هلا تقول لولا فعلت كذا ومثلها لوما فاذا رأيت ل لولا جوابا فليست بمعنى هلا إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره كقوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه الصافات 143 قلت فأما لولا التي لها جواب فكثيرة في الكلام وأنشدوا في ذلك ... لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت ام القاسم ...
وأما التي بمعنى هلا فأنشدوا منها

تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا ...
أراد فهلا تعدون الكمي والكمي الداخل في السلاح
وفي الأجل القريب قولان
أحدهما أنه الموت فكأنهم قالوا هلا تركتنا نموت موتا وعافيتنا من القتل هذا قول السدي ومقاتل
والثاني أنه إمهال زمان فكأنهم قالوا هلا أخرت فرض الجهاد عنا قليلا حتى نكثر ونقوى قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين
قوله تعالى قل متاع الدنيا قليل أي مدة الحياة فيها قليلة
قوله تعالى ولا تظلمون فتيلا قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ولا يظلمون بالياء وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بالتاء وقد سبق ذكر المتاع والفتيل

أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس ومقاتل والبروج الحصون قاله ابن عباس وابن قتيبة وفي المشيدة خمسة أقوال
أحدها أنها الحصينة قاله ابن عباس وقتادة والثاني المطولة قاله أبو مالك ومقاتل وابن قتيبة والثالث المجصصة قاله هلال بن خباب واليزيدي والرابع أنها المبنية بالشيد وهو الجص قاله أبو سليمان الدمشقي والخامس أنها بروج في السماء قاله الربيع بن أنس والثوري وقال السدي هي قصور بيض في السماء مبنية
قوله تعالى وإن تصبهم اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال أحدها أنهم المنافقون واليهود قاله ابن عباس والثاني المنافقون قاله الحسن والثالث اليهود قاله ابن السري
وفي الحسنة والسيئة قولان
أحدهما أن الحسنة الخصب والمطر والسيئة الجدب والغلاء رواه أبو صالح عن ابن عباس

والثاني أن الحسنة الفتح والغنيمة والسيئة الهزيمة والجراح ونحو ذلك رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي قوله تعالى من عندك قولان
أحدهما بشؤمك قاله ابن عباس والثاني بسوء تدبيرك قاله ابن زيد
قوله تعالى قل كل من عند الله قال ابن عباس الحسنة والسيئة أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها
قوله تعالى فما لهؤلاء القوم وقف أبو عمرو والكسائي على الألف من فما في قوله فما لهؤلاء القوم و ما لهذا الكتاب و ما لهذا الرسول و فما للذين كفروا والباقون وقفوا على اللام فأما الحديث فقيل هو القرآن فكأنه قال لا يفقهون القرآن فيؤمنون به ويعلمون أن الكل من عند الله ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال أحدها أنه عام فتقديره ما أصابك أيها الإنسان قاله قتادة والثاني أنه خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد به غيره ذكره الماوردي وقال ابن الأنباري ما أصابك الله من حسنة وما أصابك الله به من سيئة فالفعلان يرجعان إلى الله عز و جل وفي الحسنة والسيئة ثلاثة أقوال أحدها أن الحسنة ما فتح عليه يوم بدر والسيئة ما أصابه يوم أحد رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني الحسنة الطاعة والسيئة المعصية

قاله أبو العالية والثالث الحسنة النعمة والسيئة البلية قاله ابن قتيبة وعن أبي العالية نحوه وهو أصح لأن الآية عامة وروى كرداب عن يعقوب ما أصابك من حسنة فمن الله بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك بنصب الميم ورفع السين
قوله تعالى فمن نفسك أي فبذنبك قاله الحسن وقتادة والجماعة وذكر فيه ابن الأنباري وجها آخر فقال المعنى أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام كما أضمرت في قوله وتلك نعمة أي أو تلك نعمة
قوله تعالى وأرسلناك للناس رسولا قال الزجاج ذكر الرسول مؤكد لقوله وأرسلناك والباء في بالله مؤكدة والمعنى وكفى بالله شهيدا

وشهيدا منصوب على التمييز لأنك إذا قلت كفى بالله ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مبهما
وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال أحدها شهيدا لك بأنك رسوله قاله مقاتل والثاني على مقالتهم قاله ابن السائب والثالث لك بالبلاغ وعليهم بالتكذيب والنفاق قاله أبو سليمان الدمشقي فان قيل كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا إن الحسنة من عند الله والسيئة من عند النبي عليه السلام ورد عليهم بقوله قل كل من عند الله ثم عاد فقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فهل قال القوم إلا هكذا فعنه جوابان
أحدهما أنهم أضافوا السيئة إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشاؤما به فرد عليهم فقال كل بتقدير الله ثم قال ما أصابك من حسنة فمن الله أي من فضله وما أصابك من سيئة فبذنبك وإن كان الكل من الله تقديرا
والثاني أن جماعة من أرباب المعاني قالوا في الكلام محذوف مقدر تقديره فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فيكون هذا من قولهم والمحذوف المقدر في القرآن كثير ومنه قوله ربنا تقبل منا البقرة 127 أي يقولان ربنا ومثله أو به أذى من رأسه ففدية البقرة 196 أي فحلق ففدية ومثله فأما الذين اسودت وجههم أكفرتم آل عمران 106 أي فيقال لهم ومثله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الرعد 23 24 أي يقولون سلام ومثله أو كلم به الموتى بل لله الأمر الرعد 31 أراد لكان هذا القرآن ومثله ولولا فضل الله عليكم ورحمته

وأن الله رؤوف رحيم النور 20 أراد لعذبكم ومثله ربنا أبصرنا وسمعنا السجدة 12 أي يقولون وقال النمر بن تولب ... فان المنية من يخشها ... فسوف تصادفه أينما ...
أراد أينما ذهب وقال غيره ... فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ...
أراد لرددناه ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا
قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله فقال المنافقون لقد قارب هذا الرجل الشرك فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ومعنى الكلام من قبل ما أتى به الرسول فانما قبل ما أمر الله به ومن تولى أي

أعرض عن طاعته وفي الحفيظ قولان أحدهما أنه الرقيب قاله ابن عباس والثاني المحاسب قاله السدي وابن قتيبة
فصل
قال المفسرون وهذا كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف ويقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى ويقولون طاعة نزلت في المنافقين كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأمنوا فاذا خرجوا خالفوا هذا قول ابن عباس قال الفراء والرفع في طاعة على معنى أمرك طاعة
قوله تعالى بيت طائفة قرأ أبو عمرو وحمزة بيت بسكون التاء وإدغامها في الطاء ونصب الباقون التاء قال أبو علي التاء والطاء والدال من حيز واحد فحسن الإدغام ومن بين فلانفصال الحرفين واختلاف المخرجين قال ابن قتيبة والمعنى فاذا برزوا من عندك أي خرجوا بيت طائفة منهم غير الذي تقول أي قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا قال الشاعر ... أتوني فلم أرض ما بينوا ... وكانوا أتوني بشيء نكر

والعرب تقول هذا أمر قد قدر بليل وفرغ منه بليل ومنه قول الحارث بن حلزة ... أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ...
وقال بعضهم بيت بمعنى بدل وأنشد ... وبيت قولي عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا ...
وفي قوله غير الذي تقول قولان
أحدهما غير الذي تقول الطائفة عندك وهو قول ابن عباس وابن قتيبة والثاني غير الذي تقول أنت يا محمد وهو قول قتادة والسدي
قوله تعالى والله يكتب ما يبيتون فيه ثلاثة أقوال أحدها يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة قاله مقاتل في آخرين والثاني ينزله إليك في كتابه والثالث يحفظه عليهم ليجازوا به ذكر القولين الزجاج قال ابن عباس فأعرض عنهم فلا تعاقبهم وثق بالله عز و جل وكفى بالله ثقة لك قال ثم نسخ هذا الإعراض وأمر بقتالهم
فان قيل ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة ثم قال بيت طائفة والكل منافقون فالجواب من وجهين ذكرهما أهل التفسير
أحدهما أنه أخبر عمن سهر ليله ودبر أمره منهم دون غيره منهم والثاني أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع

أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
قوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن قال الزجاج التدبر النظر في عاقبة الشيء والدبر النحل سمي دبرا لأنه يعقب ما ينتفع به والدبر المال الكثير سمي دبرا لكثرته لأنه يبقى للأعقاب والأدبار
وقال ابن عباس أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه فيرون تصديق بعضه لبعض وأن أحدا من الخلائق لا يقدر عليه قال ابن قتيبة والقرآن من قولك ما قرأت الناقة سلى قط أي ماضمت في رحمها ولدا وأنشد أبو عبيدة ... هجان اللون لم تقرأ جنينا ...
وإنما سمي قرآنا لأنه جمع السور وضمها
قوله تعالى لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه التناقض قاله ابن عباس وابن زيد والجمهور والثاني

الكذب قاله مقاتل والزجاج والثالث أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام ومرذول إذ لا بد للكلام إذا طال من مرذول وليس في القرآن إلا بليغ ذكره الماوردي في جماعة وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف إذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
قوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اعتزل نساءه دخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك قال لا فخرج فنادى ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه فنزلت هذه الآية فكان هو الذي استنبط الأمر انفرد باخراجه مسلم من حديث ابن عباس عن عمر
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت

تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان أحدهما أنهم المنافقون قاله ابن عباس والجمهور والثاني أهل النفاق وضعفة المسلمين ذكره الزجاج
وفي المراد بالأمن أربعة أقوال
أحدها فوز السرية بالظفر والغنيمة وهو قول الأكثرين والثاني أنه الخبر يأتي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه ظاهر على قوم فيأمن منهم قاله الزجاج والثالث أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الموادعة والأمان لقوم ذكره الماوردي
والرابع أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة ذكره أبو سليمان الدمشقي مخرجا من حديث عمر
وفي الخوف ثلاثة أقوال
أحدها أنه النكبة التي تصيب السرية ذكره جماعة من المفسرين والثاني أنه الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى الله عليه و سلم فيخاف منهم قاله الزجاج والثالث ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال ذكره الماوردي
قوله تعالى أذاعوا به قال ابن قتيبة أشاعوه وقال ابن جرير والهاء عائدة على الأمر
قوله تعالى ولو ردوه يعني الأمر إلى الرسول حتى يكون هو المخبر به وإلى أولي الأمر منهم وفيهم أربعة أقوال

أحدها أنهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي قاله ابن عباس
والثاني أنهم أبو بكر وعمر قاله عكرمة والثالث العلماء قاله الحسن وقتادة وابن جريج والرابع أمراء السرايا قاله ابن زيد ومقاتل
وفي الذين يستنبطونه قولان
أحدهما أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له قاله مجاهد والثاني أنهم أولو الأمر قاله ابن زيد والاستنباط في اللغة الاستخراج قال الزجاج أصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر يقال من ذلك قد أنبط فلان في غضراء أي استنبط الماء من طين حر والنبط سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الأرض قال ابن جرير ومعنى الآية وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين بخير أو بشر أفشوه ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك فيصححوه إن كان صحيحا أو يبطلوه إن كان باطلا لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولى الأمر
قوله تعالى ولولا فضل الله عليكم

في المراد بالفضل أربعة أقوال أحدها أنه رسول الله والثاني الإسلام والثالث القرآن والرابع أولو الأمر
وفي الرحمة أربعة أقوال أحدها أنها الوحي والثاني اللطف والثالث النعمة والرابع التوفيق
قوله تعالى لا تبعتم الشيطان إلا قليلا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال
أحدها أنه راجع إلى الإذاعة فتقديره أذاعوا به إلا قليلا وهذا قول ابن عباس وابن زيد واختاره الفراء وابن جرير
والثاني أنه راجع إلى المستنبطين فتقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا وهذا قول الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير
والثالث أنه راجع إلى اتباع الشيطان فتقديره لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم وهذا قول الضحاك واختاره الزجاج وقال بعض العلماء المعنى لولا فضل الله بارسال النبي إليكم لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله ويعرفون ضلال من يعبد غيره كقس بن ساعدة فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا
قوله تعالى فقاتل في سبيل الله سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصغرى بعد أحد كره بعضهم ذلك فنزلت هذه

الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وفي فاء فقاتل قولان
أحدهما أنه جواب قوله ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب
والثاني أنها متصلة بقوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ذكرهما ابن السري والمراد بسبيل الله الجهاد
قوله تعالى لا تكلف إلا نفسك أي إلا المجاهدة بنفسك وحرض بمعنى حضض قال الزجاج ومعنى عسى في اللغة معنى الطمع والإشفاق والإطماع من الله واجب والبأس الشدة وقال ابن عباس والله أشد عذابا قال قتادة والتنكيل العقوبة من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على شيء مقيتا

قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة في المراد بالشفاعة أربعة أقوال
أحدها أنها شفاعة الإنسان للانسان ليجتلب له نفعا أو يخلصه من بلاء وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد والثاني أنها الإصلاح بين اثنين قاله ابن السائب والثالث أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ذكره الماوردي والرابع أن المعنى من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال
أحدها أنها السعي بالنميمة قاله ابن السائب ومقاتل والثاني أنها الدعاء على المؤمنين والمؤمنات وكانت اليهود تفعله ذكره الماوردي والثالث أن المعنى من يشفع وتر أهل الكفر فيقاتل المؤمنين قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي قال الزجاج والكفل في اللغة النصيب وأخذ من قولهم اكتفلت البعير إذ أدرت على سنامه أو على موضع من ظهره كساء وركبت عليه وإنما قيل له كفل لأنه لم يستعمل الظهر كله وإنما استعمل نصيبا منه وفي المقيت سبعة أقوال
أحدها أنه المقتدر قال أحيحة بن الجلاح ... وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا

وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وابن جرير والسدي وابن زيد والفراء وأبو عبيد وابن قتيبة والخطابي
والثاني أنه الحفيظ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة والزجاج وقال هو بالحفيظ أشبه لأنه مشتق من القوت يقال قت الرجل أقوته قوتا إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته والقوت اسم الشيء الذي يحفظ نفسه ولا فضل فيه على قدر الحفظ فمعنى المقيت الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ قال الشاعر ... ألي الفضل أم علي إذا حو ... سبت إني على الحساب مقيت ...
والثالث أنه الشهيد رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد واختاره أبو سليمان الدمشقي والرابع أنه الحسيب رواه خصيف عن مجاهد والخامس الرقيب رواه أبو شيبة عن عطاء والسادس الدائم رواه ابن جريج عن عبدالله بن كثير والسابع أنه معطي القوت قاله مقاتل بن سليمان وقال الخطابي المقيت يكون بمعنى معطي القوت قال الفراء يقال قاته وأقاته

وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا
قوله تعالى وإذا حييتم بتحية في التحية قولان
أحدهما أنها السلام قاله ابن عباس والجمهور والثاني الدعاء ذكره ابن جرير والماوردي فأما أحسن منها فهو الزيادة عليها وردها قول مثلها قال الحسن إذا قال أخوك المسلم السلام عليكم فرد السلام وزد ورحمة الله أو رد ما قال ولا تزد وقال الضحاك إذا قال السلام عليك قلت وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قلت وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وهذا منتهى السلام وقال قتادة بأحسن منها للمسلم أو ردوها على أهل الكتاب الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا
قوله تعالى الله لا إله إلا هو قال مقاتل نزلت في الذين شكوا في البعث قال الزجاج وللام في ليجمعنكم لام القسم كقولك والله ليجمعنكم قال وجائز أن تكون سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم وجائز أن تكون لقيامهم للحساب
قوله تعالى ومن أصدق من الله حديثا إنما وصف نفسه بهذا لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ويستحيل في حقه فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين في سبب نزولها سبعة أقوال

أحدها أن قوما أسلموا فأصابهم وباء بالمدينة وحماها فخرجوا فاستقبلتهم نفر من المسلمين فقالوا ما لكم خرجتم قالوا أصابنا وباء بالمدينة واجتويناها فقالوا أما لكم في رسول الله أسوة فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا فنزلت هذه الآية رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه فافترق فيهم أصحاب رسول الله ففرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا نقتلهم فنزلت هذه الآية هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت
والثالث أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين

فخرجوا من مكة لحاجة لهم فقال قوم من المسلمين اخرجوا إليهم فاقتلوهم فانهم يظاهرون عدوكم وقال قوم كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به فنزلت هذه الآية رواه عطية عن ابن عباس
والرابع أن قوما قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك فنزلت هذه الآية هذا قول الحسن ومجاهد
والخامس أن قوما أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة فاختلف المؤمنون فيهم فنزلت هذه الآية وهذا قول الضحاك
والسادس أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة فقالوا للمؤمنين إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة فلعلنا نخرج فنتماثل فانا كنا أصحاب بادية فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والسابع أنها نزلت في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم وهذا قول ابن زيد
وقوله تعالى فما لكم خطاب للمؤمنين والمعنى أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم والفئة الفرقة وفي معنى أركسهم أربعة أقوال
أحدها ردهم رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن قتيبة ركست

الشيء وأركسته لغتان أي نكسهم وردهم في كفرهم وهذا قول الفراء والزجاج
والثاني أوقعهم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث أهلكهم قاله قتادة والرابع أضلهم قاله السدي
فأما الذي كسبوا فهو كفرهم وارتدادهم قال أبو سليمان إنما قال أتريدون أن تهدوا من أضل الله لأن قوما من المؤمنين قالوا إخواننا وتكلموا بكلمتنا
قوله تعالى فلن تجد له سبيلا فيه قولان أحدهما إلى الحجة قاله الزجاج والثاني إلى الهدى قاله أبو سليمان الدمشقي ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فان تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا
قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا أخبر الله عز و جل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطائفة لئلا يحسنوا الظن بهم ولايجادلوا عنهم وليعتقدوا عداوتهم
قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء أي لا توالوهم فانهم أعداء لكم حتى يهاجروا أي يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن عباس فان تولوا عن الهجرة

والتوحيد فخذوهم أي ائسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم
فصل قال القاضي أبو يعلى كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة وقال الحسن
فرض الهجرة باق واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب من تجب عليه وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب خوفا على نفسه وهو قادر على الهجرة فتجب عليه لقوله ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها والثاني من لا تجب عليه بل تستحب له وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب والثالث من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن فلم تستحب له للحوق المشقة إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا

قوله تعالى إلا الذين يصلون هذا الاستثناء راجع إلى القتل لا إلى الموالاة
وفي يصلون قولان
أحدهما أنه بمعنى يتصلون ويلجؤون قال ابن عباس كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال
والثاني أنه بمعنى ينتسبون قاله ابن قتيبة وأنشد ... إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
يريد إذا انتسبت قالت أبكرا أي يا آل بكر

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال
أحدها أنهم بنو بكر بن زيد مناة قاله ابن عباس والثاني أنهم هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك وخزيمة بن عامر بن عبد مناف قاله عكرمة والثالث أنهم بنو مدلج قاله الحسن والرابع خزاعة وبنو مدلج قاله مقاتل قال ابن عباس والميثاق العهد

قوله تعالى أو جاؤوكم فيه قولان
أحدهما أن معناه أو يصلون إلى قوم جاؤوكم قاله الزجاج في جماعة
والثاني أنه يعود إلى المطلوبين للقتل فتقديره أو رجعوا فدخلوا فيكم وهو بمعنى قول السدي
قوله تعالى حصرت صدورهم فيه قولان أحدهما أن فيه إضمار قد
والثاني أنه خبر بعد خبر فقوله جاؤوكم خبر قد تم وحصرت خبر مستأنف حكاهما الزجاج وقرأ الحسن ويعقوب والمفضل عن عاصم حصرة صدورهم على الحال وحصرت ضاقت ومعنى الكلام ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم أو يقاتلوا قومهم يعني قريشا
قال مجاهد هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم أو يقاتل قومه
قوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم قال الزجاج أخبر أنه إنما كفهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم وفي السلم قولان أحدهما أنه الإسلام قاله الحسن والثاني الصلح قاله الربيع ومقاتل
فصل
قال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف قال القاضي أبو يعلى لما أعز الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف

ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فان لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
قوله تعالى ستجدون آخرين اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في أسد وغطفان كانوا قد تكلموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ويأمنوا قومهم بكفرهم رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في بني عبد الدار رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا قاله قتادة
والرابع أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم ثم أسلم نعيم هذا قول السدي ومعنى الآية ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ليأمنوا الفريقين كلما دعوا إلى الشرك عادوا فيه فان لم يعتزلوكم في القتال ويلقوا إليكم الصلح و يكفوا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أي ائسروهم واقتلوهم حيث أدركتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بينة في قتلهم

فصل
قال أهل التفسير والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ في سبب نزولها قولان
أحدهما أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله ثم خاف أن يظهر إسلامه لقومه فخرج إلى المدينة فقالت أمه لابنيها أبي جهل والحارث ابني هشام وهما أخواه لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعام ولا شرابا حتى تأتياني به فخرجا في طلبه ومعهما الحارث بن زيد حتى أتوا عياشا وهو متحصن في أطم فقالوا له انزل فان أمك لم يؤوها سقف ولو تذق طعاما ولا شرابا ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك فنزل فأوثقوه وجلده كل واحد منهم مائة جلدة فقدموا به على أمه فقالت والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا فقال

له الحارث بن زيد يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته وإن كان ضلالا لقد ركبته فغضب وقال والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ثم أسلم الحارث بعده وهاجر ولم يعلم عياش فلقيه يوما فقتله فقيل له إنه قد أسلم فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما كان وقال لم أشعر باسلامه فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول سعيد بن جبير والسدي والجمهور
والثاني أن أبا الدرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السرايا ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر له ما صنع فنزلت هذه الآية هذا قول ابن زيد
قال الزجاج معنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة والاستثناء ليس من الأول وإنما المعنى إلا أن يخطئ المؤمن وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة عن هذه الآية فقال ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ ولكنه أقام إلا مقام الواو قال الشاعر ... وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

أراد والفرقدان وقال بعض أهل المعاني تقدير الآية لكن قد يقتله خطأ وليس ذلك فيما جعل الله له لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة ولا النهي وقيل إنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الاثم وإيجاب القتل
قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قال سعيد بن جبير عتق الرقبة واجب على القاتل في ماله واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام فروي عن أحمد جوازه وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهذا قول عطاء ومجاهد وروي عن أحمد لا يجزئ إلا من صام وصلى وهو قول ابن عباس في رواية والحسن والشعبي وإبراهيم وقتادة
قوله تعالى ودية مسلمة إلى أهله قال القاضي أبو يعلى ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل تحملها عنه على طريق المواساة وتلزم العاقلة في ثلاث سنين كل سنة ثلثها والعاقلة العصبات من ذوي الأنساب ولا يلزم الجاني منها شيء وقال أبو حنيفة هو كواحد من العاقلة

وللنفس ستة أبدال من الذهب ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن الإبل مائة ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة وفي الحلل روايتان عن أحمد إحداهما أنها أصل فتكون مائتا حلة فهذه دية الذكر الحر المسلم ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك
قوله تعالى إلا أن يصدقوا قال سعيد بن جبير إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل
قوله تعالى فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فيه قولان

أحدهما أن معناه وإن كان المقتول خطأ من قوم كفار ففيه تحرير رقبة من غير دية لأن أهل ميراثه كفار
والثاني وإن كان مقيما بين قومه فقتله من لا يعلم بايمانه فعليه تحرير رقبة ولا دية لأنه ضيع نفسه باقامته مع الكفار والقولان مرويان عن ابن عباس وبالأول قال النخعي وبالثاني سعيد بن جبير وعلى الأول تكون من للتبعيض وعلى الثاني تكون بمعنى في
قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان
أحدهما أنه الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فيجب على قاتله الدية والكفارة هذا قول ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري وأبي حنيفة والشافعي ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية
والثاني أنه المؤمن يقتل وقومه مشركون ولهم عقد فديته لقومه وميراثه للمسلمين هذا قول النخعي
قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها أو بدل من الرقبة والدية فقال الجمهور عن الرقبة وحدها وقال مسروق ومجاهد وابن سيرين عنهما واتفق العلماء على

أنه إذا تخلل صوم الشهرين إفطار لغير عذر فعليه الابتداء فأما إذا تخللها المرض أو الحيض فعندنا لا ينقطع التتابع وبه قال مالك وقال أبو حنيفة المرض يقطع والحيض لا يقطع وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ولا يمكن ذلك في الحيض وعندنا أنها معذورة في الموضعين
قوله تعالى توبة من الله قال الزجاج معناه فعل الله ذلك توبة منه
قوله وكان الله عليما أي لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التكليف حكيما فيما يقضي بينهم ويدبره في أمورهم ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا سبب نزولها أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر فقال له إيت بني النجار فأقرئهم مني السلام وقل لهم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى مقيس بن صبابة وإن لم تعلموا له قاتلا فادفعوا إليه ديته فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نعطي ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فأتى الشيطان مقيس بن صبابة فقال تقبل دية أخيك فيكون عليك سبة ما بقيت اقتل الذي معك مكان أخيك وافضل بالدية فرما الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة وهو يقول ... قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع ... وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأصنام أول راجع

فنزلت هذه الآية ثم أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمه يوم الفتح فقتل رواه أبو صالح عن ابن عباس وفي قوله متعمدا قولان أحدهما متعمدا لأجل أنه مؤمن قاله سعيد بن جبير والثاني متعمدا لقتله ذكره بعض المفسرين وفي قوله فجزاؤه جهنم قولان أحدهما أنها جزاؤه قطعا والثاني أنها جزاؤه إن جازاه واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا توبة أم لا فذهب الأكثرون إلى أن له توبة وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له

فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة فقال قوم هي محكمة واحتجوا بأنها خبر والأخبار لا تحتمل النسخ ثم افترق هؤلاء فرقتين إحداهما قالت هي على ظاهرها وقاتل المؤمن مخلد في النار والفرقة الثانية قالت هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ثم اسلم الكافر انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة فاذا ثبت كونها من العام المخصص فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به ومن أسباب التخصيص ان يكون قتله مستحلا فيستحق الخلود لاستحلاله وقال قوم هي مخصوصة في حق من لم يتب واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما الفرقان 70 وقال آخرون هي منسوخة بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48

يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا الله فأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم قالوا

يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال ادعوا لي المقداد فقال يا مقداد أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله فكيف لك ب لا إله إلا الله غدا
قال فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمقداد كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه غنم فسلم فقالوا ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس

والثالث أن قوما من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول الله أنها تريدهم فهربوا وأقام رجل منهم كان قد أسلم يقال له مرداس وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة فلما رأى مرداس الخيل كبر ونزل إليهم فسلم عليهم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك وجدا شديدا ونزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال السدي كان أسامة أمير السرية
والرابع أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى إضم فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي فحياهم بتحية الإسلام فحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه بعيرا وسقاء فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال أقتلته بعد ما قال آمنت ونزلت هذه الآية رواه ابن أبي حدرد عن أبيه
فأما التفسير فقوله إذا ضربتم في سبيل الله أي سرتم وغزوتم
وقوله فتبينوا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر فتبينوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإقدام عليه وقرأ حمزة والكسائي وخلف

فتثبتوا بالثاء من الثبات وترك الاستعجال وكذلك قرؤوا في الحجرات
قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلام قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وحفص عن عاصم والكسائي السلام بالألف مع فتح السين قال الزجاج يجوز أن يكون بمعنى التسليم ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وخلف وجبلة عن المفضل عن عاصم السلم بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف والسلم الصلح وقرأ الجمهور لست مؤمنا بكسر الميم وقرأ علي وابن عباس وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأبو جعفر بفتح الميم من الأمان
قوله تعالى تبتغون عرض الحياة الدنيا وعرضها ما فيها من مال قل أو كثر قال المفسرون والمراد به ما غنموه من الرجل الذي قتلوه
قوله تعالى فعند الله مغانم كثيرة فيه قولان
أحدهما أنه ثواب الجنة قاله مقاتل
والثاني أنها أبواب الرزق في الدنيا قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى كذلك كنتم من قبل فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة فلا تخيفوا من قالها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إيمانه رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث كذلك كنتم من قبل مشركين قاله مسروق وقتادة وابن زيد

قوله تعالى فمن الله عليكم في الذي من به أربعة أقوال
أحدها الهجرة قاله ابن عباس والثاني إعلان الإيمان قاله سعيد بن جبير والثالث الإسلام قاله قتادة ومسروق والرابع التوبة على الذي قتل ذلك الرجل قاله السدي
قوله تعالى فتبينوا تأكيد للأول لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال أبو سليمان الدمشقي نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود
وقال زيد بن ثابت إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ غشيته السكينة ثم سري عنه فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون الآية فقام ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة ثم سري عنه فقال اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فقال النبي صلى الله عليه و سلم غير أولي الضرر فألحقها

قوله تعالى لا يستوي القاعدون يعني عن الجهاد والمعنى أن المجاهد أفضل قال ابن عباس وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر وقال مقاتل غزاة تبوك
قوله تعالى غير أولي الضرر قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة غير برفع الراء وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وخلف والمفضل بنصبها قال أبو علي من رفع الراء جعل غير صفة للقاعدين ومن نصبها جعلها استثناء من القاعدين وفي الضرر قولان
أحدهما أنه العجز بالزمانة والمرض ونحوهما قال ابن عباس هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع وقال ابن جبير وابن قتيبة هم أولو الزمانة وقال الزجاج الضرر أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا
والثاني أنه العذر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قوله تعالى فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة في هؤلاء القاعدين قولان
أحدهما أنهم القاعدون بالضرر قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني القاعدون من غير ضرر قاله أبو سليمان الدمشقي قال ابن جرير والدرجة الفضيلة فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة

قوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس القاعدون هاهنا غير أولي الضرر وقال سعيد بن جبير هم الذين لا عذر لهم درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى درجات منه قال الزجاج درجات في موضع نصب بدلا من قوله أجرا عظيما وهو مفسر للأجر وفي المراد بالدرجات قولان
أحدهما أنها درجات الجنة قال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة وإلى نحوه ذهب مقاتل
والثاني أن معنى الدرجات الفضائل قاله سعيد بن جبير قال قتادة كان يقال الإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة
وقال ابن زيد الدرجات هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ إلى قوله ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم التوبة 120 121

فان قيل ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة وفي آخره درجات فعنه جوابان
أحدهما أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة والدرجات تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة وهذا معنى قول ابن عباس
والثاني أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات منازل الجنة ذكره القاضي أبو يعلى إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأوههم جهنم وسآءت مصيرا
قوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فلما خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام فنزلت فيهم هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وقال قتادة نزلت في أناس تكلموا بالإسلام فخرجوا مع أبي جهل فقتلوا يوم بدر واعتذروا بغير عذر فأبى الله أن يقبل منهم

والثاني أن قوما نافقوا يوم بدر وارتابوا وقالوا غر هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا فنزلت فيهم هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يخرجوا معه فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي ضربت الملائكة وجهه ودبره رواه العوفي عن ابن عباس وفي التوفي قولان
أحدهما أنه قبض الأرواح بالموت قاله ابن عباس ومقاتل والثاني الحشر إلى النار قاله الحسن قال مقاتل والمراد بالملائكة ملك الموت وحده
وقال في موضع آخر ملك الموت وأعوانه وهم ستة ثلاثة يلون أرواح المؤمنين وثلاثة يلون أرواح الكفار قال الزجاج ظالمي أنفسهم نصب على الحال

والمعنى تتوفاهم في حال ظلمهم أنفسهم والأصل ظالمين لأن النون حذفت استخفافا فأما ظلمهم لأنفسهم فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال
أحدها أنه ترك الهجرة والثاني رجوعهم إلى الكفر والثالث الشك بعد اليقين والرابع إعانة المشركين
قوله تعالى فيم كنتم قال الزجاج هو سؤال توبيخ والمعنى كنتم في المشركين أو في المسلمين
قوله تعالى قالوا كنا مستضعفين في الأرض قال مقاتل كنا مقهورين في أرض مكة لا نستطيع أن نذكر الإيمان قالت الملائكة ألم تكن أرض الله واسعة يعني المدينة فتهاجروا فيها يعني إليها وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا
قوله تعالى إلا المستضعفين سبب نزولها أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر فنزلت هذه الآية قاله مجاهد قال الزجاج المستضعفين نصب على الاستثناء من قوله مأواهم جهنم قال أبو سليمان المستضعفون ذوو الأسنان والنساء والصبيان
قوله تعالى لا يستطيعون حيلة أي لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ولا على نفقة ولا قوة
وفيقوله تعالى ولا يهتدون سبيلا قولان

أحدهما أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد
والثاني أنهم لا يعرفون طريقا يتوجهون إليه فان خرجوا هلكوا قاله ابن زيد وفي عسى قولان أحدهما أنها بمعنى الإيجاب قاله الحسن والثاني أنها بمعنى الترجي فالمعنى أنهم يرجون العفو قاله الزجاج ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قال سعيد بن جبير ومجاهد متزحزحا عما يكره وقال ابن قتيبة المراغم والمهاجر واحد يقال راغمت وهاجرت وأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغما أي مغاضبا لهم ومهاجرا أي مقاطعا من الهجران فقيل للمذهب مراغم وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة لأنها كانت بهجرة الرجل قومه قال الجعدي عزيز المراغم والمذهب
وفي السعة قولان أحدهما أنها السعة في الزرق قاله ابن عباس والجمهور
والثاني التمكن من إظهار الدين قاله قتادة
قوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله اتفقوا على أنه

نزل في رجل خرج مهاجرا فمات في الطريق واختلفوا فيه على ستة أقوال
أحدها أنه ضمرة بن العيص وكان ضريرا موسرا فقال احملوني فحمل وهو مريض فمات عند التنعيم فنزل فيه هذا الكلام رواه سعيد بن جبير
والثاني أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره فلما بلغ التنعيم مات فنزلت فيه هذه الآية رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير
والثالث أنه ابن ضمرة الجندعي مرض فقال لبنيه أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها فقالوا أين فأومأ بيده نحو المدينة يريد الهجرة فخرجوا به فمات في الطريق فنزل فيه هذا ذكره ابن إسحاق وقال مقاتل هو جندب بن ضمرة
والرابع أن اسمه سبرة فلما نزل قوله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله مراغما كثيرا قال لأهله وهو مريض احملوني فاني

موسر ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة فلما جاوز الحرم مات فنزل فيه هذا قاله قتادة
والخامس أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق فسخر منه قومه فقالوا لا هو بلغ ما يريد ولا أقام في أهله حتى يدفن فنزل فيه هذا قاله ابن زيد
والسادس أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام خرج مهاجرا فمات في الطريق ذكره الزبير بن بكار وقوله وقع معناه وجب وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة روى مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد قال فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر والضرب في الأرض السفر والجناح الإثم والقصر النقص والفتنة القتل وفي القصر قولان

أحدهما أنه القصر من عدد الركعات
والثاني أنه القصر من حدودها وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو وقيل إن قوله أن تقصروا من الصلاة كلام تام وقوله إن خفتم كلام مبتدأ ومعناه وإن خفتم
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا فقال قوم ليست مقصورة وإنما فرض المسافر ذلك وهو قول ابن عمر وجابر بن

عبدالله وسعيد بن جبير والسدي وأبي حنيفة فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إلا بوجود السفر والخوف لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا وعن ابن عباس أنه قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة
والثاني أنها مقصورة وليست بأصل وهو قول مجاهد وطاووس وأحمد والشافعي قال يعلى بن أمية قلت لعمر بن الخطاب عجبت من قصر الناس اليوم وقد أمنوا وإنما قال الله تعالى إن خفتم فقال عمر عجبت

مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
فصل
وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز له القصر في سفر المعصية فأما مدة الإقامة التي إذا نواها أتم الصلاة وإن نوى أقل منها قصر فقال أصحابنا إقامة اثنين وعشرين صلاة وقال أبو حنيفة خمسة عشر يوما وقال مالك والشافعي اربعة أيام وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم

وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة سبب نزولها أن المشركين لما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قد صلوا الظهر ندموا إذ لم يكن عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فان لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون العصر فاذا قاموا فشدوا عليهم فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبريل بهذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى وإذا كنت فيهم خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم ولا يدل على أن الحكم مقصور عليه فهو كقوله خذ من أموالهم صدقة التوبة 103 وقال أبو يوسف لا تجوز صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه و سلم والهاء والميم من فيهم تعود على الضاربين في الأرض
قوله تعالى فأقمت لهم الصلاة أي ابتدأتها فلتقم طائفة منهم معك أي لتقف ومثله وإذا أظلم عليهم قاموا البقرة 20 وليأخذوا أسلحتهم فيهم قولان
أحدهما أنهم الباقون قاله ابن عباس والثاني أنهم المصلون معه ذكره ابن جرير قال وهذا السلاح كالسيف يتقلده الإنسان والخنجر يشده إلى ذراعه
قوله تعالى فاذا سجدوا يعني المصلين معه فليكونوا في المشار إليها قولان أحدهما أنهم طائفة التي لم تصل أمرت أن تحرس الطائفة المصلية

وهذا معنى قول ابن عباس والثاني أنهم المصلون معه أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود فقال قوم إذا أتموا مع الإمام ركعة أتموا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وانصرفوا وقد تمت صلاتهم
وقال آخرون ينصرفون عن ركعة واختلف هؤلاء فقال بعضهم إذا صلوا مع الإمام ركعة وسلموا فهي تجزئهم وقال آخرون منهم أبو حنيفة بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحرس وهم على صلاتهم فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل وتأتي تلك الطائفة واختلفوا في الطائفة الأخرى فقال قوم إذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة ثم يسلم بها وقال آخرون بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم فاذا سلم قضوا ما فاتهم وقال آخرون بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو ولا تسلم هي بل ترجع إلى وجه العدو ثم تجيء الأولى فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم وتمضي وتجيء الأخرى فتتم صلاتها وهذا مذهب أبي حنيفة

قوله تعالى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم قال ابن عباس يريد الذين صلوا أولا وقال الزجاج يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو لأن المصلي غير مقاتل ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح لأنه أرهب للعدو وأحرى أن لا يقدموا عليهم والجناح الإثم وهو من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانبا عن القصد والمعنى أنكم إذا وضعتم أسلحتكم لم تعدلوا عن الحق
قوله تعالى إن كان بكم أذى من مطر قال ابن عباس رخص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر وقال خذوا حذركم كي لا يتغفلوكم فاذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فاذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
قوله تعالى فاذا قضيتم الصلاة يعني صلاة الخوف وقضيتم بمعنى فزعتم
قوله تعالى فاذكروا الله في هذا الذكر قولان
أحدهما أنه الذكر لله في غير الصلاة وهذا قول ابن عباس والجمهور قالوا وهو التسبيح والتكبير والدعاء والشكر

والثاني أنه الصلاة فيكون المعنى فصلوا قياما فان لم تستطيعوا فقعودا لم تستطيعوا فعلى جنوبكم هذا قول ابن مسعود وفي المراد بالطمأنينة قولان
أحدهما أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والثاني أنه الأمن بعد الخوف وهو قول السدي والزجاج وأبي سليمان الدمشقي
وفي إقامة الصلاة قولان أحدهما إتمامها قاله مجاهد وقتادة والزجاج وابن قتيبة
والثاني أنه إقامة ركوعها وسجودها وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف هذا قول السدي
قوله تعالى كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي فرضا وفي الموقوت قولان أحدهما أنه بمعنى المفروض قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وابن والثاني أنه الموقت في أوقات معلومة وهو قول ابن مسعود وقتادة وزيد أسلم وابن قتيبة ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم قال أهل التفسير سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه فشكوا ما بهم من الجراحات فنزلت هذه الآية قال الزجاج ومعنى تضعفوا يقال وهن يهن إذا ضعف وكل ضعف فهو وابتغى القوم طلبهم بالحرب والقوم هاهنا الكفار إن

تكونوا تألمون أي توجعون فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب كما تجدون وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون وفي هذا الرجاء قولان أحدهما أنه الأمل قاله مقاتل قال الزجاج وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم والثاني أنه الخوف رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الفراء ولم يوجد الخوف بمعنى الرجاء إلا ومعه جحد فاذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف وكان الرجاء كذلك كقوله ما لكم لا ترجون لله وقارا نوح 13 وقوله لا يرجون أيام الله الجاثية 14 قال الشاعر ... لا ترتجي حين تلاقي الزائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا ...
وقال الهذلي ... إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل ... ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ... ولا خفتك وأنت تريد رجوتك

قال الزجاج وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم فعلى القول الأول يكون المعنى ترجون النصر وإظهار دينكم والجنة وعلى الثاني تخافون من عذاب الله ما لا يخافون إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما
قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان وكان الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف مالي بها علم فقال أصحابها بلى والله لقد دخل علينا فأخذها وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال دفعها إلي طعمة فقال قوم طعمة إنطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وليجادل عن صاحبنا فانه بديء فأتوه فكلموه في ذلك فهم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فنزلت هذه الآيات كلها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من اليهود استودع طعمة بن أبيرق درعا فخانها فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبو مليل الأنصاري فجادل قوم طعمة عنه وأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فسألوه أن يبرئه ويكذب اليهودي فنزلت الآيات هذا قول السدي ومقاتل

والثالث أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت وأخذ طعامه وسلاحه فاتهم به بنو أبيرق وكانوا ثلاثة بشير ومبشر وبشر فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إن أهل بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد وأخذوا سلاحه وطعامه فقال أنظر في ذلك فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح فقال النبي لقتادة رميتهم بالسرقة على غير بينة فنزلت هذه الآيات قاله قتادة بن النعمان
والكتاب القرآن والحق الحكم بالعدل لتحكم بين الناس أي لتقضي بينهم
وفي قوله بما أراك الله قولان
أحدهما أنه الذي علمه والذي علمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان والثاني أنه ما يؤدي إليه اجتهاده ذكره الماوردي

قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما قال الزجاج لا تكن مخاصما ولا دافعا عن خائن واختلفوا هل خاصم عنه أم لا على قولين
أحدهما أنه قام خطيبا فعذره رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه هم بذلك ولم يفعله قاله سعيد بن جبير وقتادة قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى واستغفر الله في الذي أمر بالاستغفار منه قولان
أحدهما أنه القيام بعذره والثاني أنه العزم على ذلك ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا

قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي يخونون أنفسهم فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة قال عكرمة والمراد بهم طعمة بن أبيرق وقومه الذين جادلوا عنه وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن صاحبنا بديء والاستخفاء الاستتار والمعنى يستترون من الناس لئلا يطلعوا على خيانتهم وكذبهم ولا يستترون من الله وهو معهم بالعلم وكل ما فكر فيه أو خيض فيه بليل فقد بيت وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت قوم طعمة
والذي بيتوا احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب وقال الزجاج هو السارق نفسه والذي بيت أنه قال أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع وأحلف أني لم أسرقها فتقبل يميني ولا تقبل يمين اليهودي ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم وكيلا
قوله تعالى ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم قال الزجاج ها للتنبيه وأعيدت في أوله والمعنى ها أنتم الذين جادلتم والمجادلة والجدال شدة المخاصمة والجدل شدة الفتل والكلام يعود إلى من احتج عن السارق فأما قوله عنهم فانه عائد إلى السارق وعليهم بمعنى لهم والوكيل القائم بأمر من وكله فكأنه قال من الذي يتوكل لهم منكم في خصومة ربهم ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
قوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال

أحدها أنها نزلت خطابا للسارق وعرضا للتوبة عليه رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال ابن زيد ومقاتل
والثاني أنها للذين جادلوا عنه من قومه رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنه عنى بها كل مسيء مذنب ذكره أبو سليمان الدمشقي وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب وفي هذا السوء ثلاثة أقوال
أحدها أنه السرقة والثاني الشرك والثالث أنه كل ما يأثم به وفي هذا الظلم قولان أحدهما أنه رمي البريء بالتهمة والثاني ما دون الشرك ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى ومن يكسب إثما أي ومن يعمل ذنبا فانما يكسبه على نفسه يقول إنما يعود وباله عليه قاله مقاتل وهذه في طعمة أيضا ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة

بقصة طعمة بن أبيرق وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك
وفي قوله خطيئة أو إثما أربعة أقوال
أحدها أن الخطيئة يمين السارق الكاذبة والإثم سرقته الدرع ورميه اليهودي قاله ابن السائب
والثاني أن الخطيئة ما بتعلق به من الذنب والإثم قذفه البريء قاله مقاتل
والثالث أن الخطيئة قد تقع عن عمد وقد تقع عن خطأ والإثم يختص العمد قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم
والرابع أنه لما سمى الله عز و جل بعض المعاصي خطيئة وبعضها إثما أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين ثم قذف به بريئا فقد احتمل بهتانا ذكره الزجاج أيضا فأما قوله ثم يرم به بريئا أي يقذف بما جناه بريئا منه
فان قيل الخطيئة والإثم اثنان فكيف قال به فعنه أربعة أجوبة
أحدها أنه أراد ثم يرم بهما فاكتفى باعادة الذكر على الاثم من إعادته على الخطيئة كقوله انفضوا إليها فخص التجارة والمعنى للتجارة واللهو
والثاني أن الهاء تعود على الكسب فلما دل ب يكسب على الكسب كنى عنه والثالث أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم كأنه قال ومن يكسب ذنبا ثم يرم به ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري
والرابع ان الهاء تعود على الإثم خاصة قاله ابن جرير الطبري
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان

أحدهما أنه كان يهوديا قاله ابن عباس وعكرمة وابن سيرين وقتادة وابن زيد وسماه عكرمة وقتادة زيد بن السمير
والثاني أنه كان مسلما روي عن ابن عباس وقتادة بن النعمان والسدي ومقاتل واختلفوا في ذلك المسلم فقال الضحاك عن ابن عباس هو عائشة لما قذفها ابن أبي وقال قتادة بن النعمان هو لبيد بن سهل وقال السدي ومقاتل هو أبو مليل الأنصاري فأما البهتان فهو الكذب الذي يحير من عظمه يقال بهت الرجل إذا تحير قال ابن السائب فقد احتمل بهتانا برميه البريء وإثما مبينا بيمينه الكاذبة ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
قوله تعالى ولولا فضل الله عليك ورحمته في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها متعلقة بقصة طعمة وقومه حيث لبسوا على النبي صلى الله عليه و سلم أمر صاحبهم هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب
والثاني أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة فلم يجبهم فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان أحدهما النبوة والعصمة والثاني الإسلام والقرآن رويا عن ابن عباس

قال مقاتل لولا فضل الله عليك حيث بين لك أمر طعمة وحولك بالقرآن عن تصديق الخائن لهمت طائفة منهم أن يضلوك قال الفراء والمعنى لقد همت
فان قيل كيف قال ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة وقد همت باضلاله فالجواب أنه لولا فضل الله عليك ورحمته لظهر تأثير ما هموا به فأما الطائفة فعلي رواية ابن السائب عن ابن عباس قوم طعمة وعلى رواية الضحاك وفد ثقيف
وفي الإضلال قولان أحدهما التخطئة في الحكم والثاني الاستزلال عن الحق
قال الزجاج وما يضلون إلا أنفسهم لأنهم يعملون عمل الضالين فيرجع الضلال إليهم فأما الكتاب فهو القرآن
وفي الحكمة ثلاثة أقوال
أحدها القضاء بالوحي قاله ابن عباس والثاني الحلال والحرام قاله مقاتل والثالث بيان ما في الكتاب وإلهام الصواب وإلقاء صحة الجواب في الروع قاله أبو سليمان الدمشقي وفي قوله وعلمك ما لم تكن تعلم ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشرع قاله ابن عباس ومقاتل والثاني أخبار الأولين والآخرين قاله أبو سليمان والثالث الكتاب والحكمة ذكره الماوردي
وفي قوله وكان فضل الله عليك عظيما ثلاثة اقوال
أحدها أنه المنة بالإيمان والثاني المنة بالنبوة هذان عن ابن عباس
والثالث أن عام في جميع الفضل الذي خصه الله به قاله أبو سليمان لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما

قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم قال ابن عباس هم قوم طعمة وقال مقاتل وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة وقال مجاهد هو عام في نجوى جميع الناس قال الزجاج ومعنى النجوى ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان سرا كان أو ظاهرا ومعنى نجوت الشيء في اللغة خلصته وألقيته يقال نجوت الجلد إذا ألقيته عن البعير وغيره قال الشاعر ... فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه ... سيرضيكما منها سنام وغاربه ...
وقد نجوت فلانا إذا استنكهته قال الشاعر ... نجوت مجالدا فوجدت منه ... كريح الكلب مات قديم عهد

وأصله كله من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض قال الشاعر يصف سيلا ... فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح ...
والمراد بنجواهم ما يدبرونه بينهم من الكلام
فأما قوله إلا من أمر بصدقة فيجوز أن يكون بمعنى إلا في نجوى من أمر بصدقة ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول فيكون بمعنى لكن من أمر بصدقة ففي نجواهم خير وأما قوله أمر بصدقة فالمعنى حث عليها
وأما المعروف ففيه قولان

أحدهما أنه الفرض روي عن ابن عباس ومقاتل والثاني أنه عام في جميع أفعال البر وهو اختيار القاضي أبي يعلى وأبي سليمان الدمشقي ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
قوله تعالى ومن يشاقق الرسول في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما نزل القرآن بتكذيب طعمة وبيان ظلمه وخاف على نفسه من القطع والفضيحة هرب إلى مكة فلحق بأهل الشرك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد والسدي وقال مقاتل لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السلمي فأحسن نزله فبلغه أن في بيته ذهبا فخرج في الليل فنقب حائط البيت فعلموا به فأحاطوا البيت فلما رأوه أرادوا أن يرجموه فاستحيا الحجاج لأنه ضيفه فتركوه فخرج فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشرك فنزل فيه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال غيره بل خرج مع تجار فسرق منهم شيئا فرموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل ركب سفينة فسرق فيها مالا فعلم به فألقي في البحر
والقول الثاني أن قوما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا ثم ارتدوا فنزلت فيهم هذه الآية روي عن ابن عباس ومعنى الآية ومن يخالف الرسول في التوحيد والحدود من بعد ما تبين له التوحيد والحكم ويتبع غير دين المسلمين نوله ما تولى أي نكله إلى ما اختار لنفسه ونصله جهنم ندخله إياها

قال ابن فارس تقول صليت اللحم أصليه إذا شويته فان أردت أنك أحرقته قلت أصليته وساءت مصيرا أي مرجعا يصار إليه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به في سبب نزولها قولان

أحدهما أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة ومات على الشرك وهذا قول الجمهور منهم سعيد بن جبير
والثاني أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وإني لنادم مستغفر فما حالي فنزلت هذه الآية روي عن ابن عباس فأما تفسيرها فقد تقدم إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا
قوله تعالى إن يدعون من دونه إلا إناثا إن بمعنى ما ويدعون بمعنى يعبدون والهاء في دونه ترجع إلى الله عز و جل والقراءة المشهورة إناثا وقرأ سعيد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو مجلز وأبو المتوكل وأبو الجوزاء إلا وثنا بفتح الواو والثاء من غير ألف وقرأ ابن عباس وأبو رزين أنثا برفع الهمزة والنون من غير ألف وقرأ أبو العالية ومعاذ القارئ وأبو نهيك أناثا برفع الهمزة وبألف بعد الثاء وقرأ أبو السوار العدوي وأبو شيخ الهنائي أوثانا بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء وقرأ أبو هريرة والحسن والجوني إلا أنثى على وزن فعلى وقرأ أيوب السختياني إلا وثنا برفع الواو والثاء من غير ألف وقرأ مورق العجلي أثنا برفع الهمزة والثاء من غير ألف قال الزجاج فمن قال إناثا فهو جمع أنثى وإناث ومن قال أنثا فهو جمع إناث ومن قال أثنا فهو جمع وثن والأصل وثن إلا أن الواو إذا انضمت جاز إبدالها همزة كقوله تعالى وإذا الرسل أقتت المرسلات 11

الأصل وقتت وجائز أن يكون أثن أصلها أثن فأتبعت الضمة الضمة وجائز أن يكون أثن مثل أسد وأسد
فأما المفسرون فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال
أحدها ان الإناث بمعنى الأموات قاله ابن عباس والحسن في رواية وقتادة قال الحسن كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة فهو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث تقول من ذلك الأحجار تعجبني والدراهم تنفعني
والثاني أن الإناث الأوثان وهو قول عائشة ومجاهد
والثالث أن الإناث اللات والعزى ومناة كلهن مؤنث وهذا قول أبي مالك وابن زيد والسدي وروى أبو رجاء عن الحسن قال لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه أنثى بني فلان فنزلت هذه الآية
قال الزجاج والمعنى ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث
والرابع أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله قاله الضحاك
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال
أحدها شيطان يكون في الصنم قال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم وقال أبي بن كعب مع كل صنم جنية
والثاني أنه إبليس وعبادته طاعته فيما سول لهم هذا قول مقاتل والزجاج
والثالث أنه أصنامهم التي عبدوا ذكره الماوردي فأما المريد فقال الزجاج المريد المارد وهو الخارج عن الطاعة ومعناه أنه قد مرد في الشر يقال مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة وتأويل

المرود أن يبلغ التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف وأصله في اللغة املساس الشيء ومنه قيل للانسان أمرد إذا لم يكن في وجهه شعر وكذلك يقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها وصخرة مرداء إذا كانت ملساء
وفي قوله لعنة الله قولان
أحدهما أنه ابتداء دعاء عليه باللعن وهو قول من قال هو الأوثان
والثاني أنه إخبار عن لعن متقدم وهو قول من قال هو إبليس قال ابن جرير المعنى قد لعنه الله قاله ابن عباس معنى الكلام دحره الله وأخرجه من الجنة وقال يعني إبليس لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وقال ابن قتيبة اي حظا افترضته لنفسي منهم فأضلهم وقال مقاتل النصيب المفروض أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة وسائرهم في النار قال الزجاج الفرض في اللغة القطع والفرضة الثلمة تكون في النهر والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر والفرض فيما ألزمه الله العباد جعله حتما عليهم قاطعا
ولأضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا
قوله تعالى ولأضلنهم قال ابن عباس عن سبيل الهدى وقال غيره ليس له من الضلال سوى الدعاء إليه وفي قوله ولأمنينهم أربعة أقوال
أحدها أنه الكذب الذي يخبرهم به قال ابن عباس يقول لهم لا جنة

ولا نار ولا بعث والثاني أنه التسويف بالتوبة روي عن ابن عباس والثالث - أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظا قاله الزجاج والرابع أنه تزيين الأماني لهم قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى فليبتكن آذان الأنعام قال قتادة وعكرمة والسدي هو شق أذن البحيرة قال الزجاج ومعنى يبتكن يشققن يقال بتكت الشيء أبتكه بتكا إذا قطعته وبتكه وبتك مثل قطعه وقطع وهذا في أذن الناقة وامتنعوا من الانتفاع بها ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها المعيي لم يركبها سول لهم إبليس أن هذا قربة إلى الله تعالى
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال
أحدها أنه تغيير دين الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن في رواية وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل وقيل معنى تغيير الدين تحليل وتحريم الحلال
والثاني أنه تغيير الخلق بالخصاء رواه عكرمة عن ابن عباس وهو مروي عن أنس بن مالك وعن مجاهد وقتادة وعكرمة كالقولين
والثالث أنه التغيير بالوشم وهو قول ابن مسعود والحسن في رواية

والرابع أنه تغيير أمر الله رواه أبو شيبة عن عطاء
والخامس أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة وتحريم ما حرموا من الأنعام وإنما خلق ذلك للانتفاع به قاله الزجاج
قوله تعالى ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله في المراد بالولي قولان
أحدهما أنه بمعنى الرب قاله مقاتل
والثاني من الموالاة قاله أبو سليمان الدمشقي فان قال قائل من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال ولأضلنهم وقال في الأعراف 17 ولا تجد أكثرهم شاكرين وقال في بني إسرائيل 62 لأحتنكن ذريته إلا قليلا فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه ظن ذلك فتحقق ظنه وذلك قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه سبأ 20 قاله الحسن وابن زيد
وفي سبب ذلك الظن قولان
أحدهما أنه لما قال الله تعالى له لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ص 85 علم أنه ينال ما يريد والثاني أنه لما استزل آدم قال ذرية هذا أضعف منه

والثاني أن المعنى لأحرضن ولأجتهدن في ذلك لا انه كان يعلم الغيب قاله ابن الأنباري
والثالث أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون ذكره الماوردي فان قيل فلم اقتصر على بعضهم فقال نصيبا مفروضا وقال ولا تجد أكثرهم شاكرين الأعراف 17 وقال إلا قليلا فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة كما بينا
والثاني أنه لم ينل من آدم كل ما يريد طمع في بعض أولاده وأيس من بعض
والثالث انه لما عاين الجنة والنار علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار
قوله تعالى يعدهم يعني الشيطان يعد أولياءه وفيما يعدهم به قولان
أحدهما أنه لا بعث لهم قاله مقاتل والثاني النصرة لهم ذكره أبو سليمان الدمشقي وفيما يمنيهم قولان
أحدهما الغرور والأماني مثل أن يقول سيطول عمرك وتنال من الدنيا مرادك والثاني الظفر بأولياء الله يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا

قوله تعالى وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغرهم به فأما المحيص فقال الزجاج هو المعدل والملجأ يقال حصت عن الرجل أحيص ورووا جضت أجيض بالجيم والضاد بمعنى حصت ولا يجوز ذلك في القرآن وإن كان المعنى واحدا لأن القراءة سنة والذي في القرآن أفصح مما يجوز ويقال حصت أحوص حوصا وحياصة إذا خطت قال الأصمعي يقال حص عين صقرك أي خط عينه والحوص في العين ضيق مؤخرها ويقال وقع في حيص بيص وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى ليس بأمانيكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أهل الأديان اختصموا فقال أهل التوراة كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء وقال أهل الإنجيل مثل ذلك وقال المسلمون كتابنا نسخ كل كتاب ونبينا خاتم الأنبياء فنزلت هذه الآية ثم خير بين

الأديان بقوله ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله رواه العوفي عن ابن عباس وإلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسدي
والثاني أن العرب قالت لا نبعث ولا نعذب ولا نحاسب فنزلت هذه الآية هذا قول مجاهد
والثالث أن اليهود والنصارى قالوا لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش لا نبعث فنزلت هذه الآية هذا قول عكرمة
قال الزجاج اسم ليس مضمر والمعنى ليس ثواب الله عز و جل بأمانيكم وقد جرى ما يدل على الثواب وهو قوله سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وفي المشار إليهم بقوله أمانيكم قولان
أحدهما أنهم المسلمون على قول الأكثرين
والثاني المشركون على قول مجاهد فأما أماني المسلمين فما نقل من قولهم كتابنا ناسخ للكتب ونبينا خاتم الأنبياء وأماني المشركين قولهم لا نبعث وأماني أهل الكتاب قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وإن النار لا تمسنا إلا أياما معدودة وإن كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء فأخبر الله عز و جل أن دخول الجنة والجزاء بالأعمال لا بالأماني وفي المراد بالسوء قولان
أحدهما أنه المعاصي ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ومن يعمل سوءا يجز به فاذا عملنا سوءا جزينا

به فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به
والثاني أنه الشرك قاله ابن عباس ويحيى بن أبي كثير وفي هذا الجزاء قولان أحدهما أنه عام في كل من عمل سوءا فانه يجازى به وهو معنى قول أبي بن كعب وعائشة واختاره ابن جرير واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه
والثاني أنه خاص في الكفار يجازون بكل ما فعلوا فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى قاله الحسن البصري وقال ابن زيد وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيآتهم ولم يعد المشركين
قوله تعالى ولا يجد له من دون الله وليا قال أبو سليمان لا يجد من أراد الله أن يجزيه بشيء من عمله وليا وهو القريب ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه

ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا
قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن قال مسروق لما نزلت ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت ومن يعمل من الصالحات الآية وهذه تدل على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح فلا يقبل أحدهما إلا بوجود الآخر وقد سبق ذكر النقير ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله قال ابن عباس خير الله بين الأديان بهذه الآية وأسلم بمعنى أخلص وفي الوجه قولان
أحدهما أنه الدين والثاني العمل وفي الاحسان قولان أحدهما أنه التوحيد قاله ابن عباس والثاني القيام لله بما فرض الله قاله أبو سليمان الدمشقي
وفي اتباع ملة إبراهيم قولان أحدهما اتباعه على التوحيد والطاعة
والثاني اتباع شريعته اختاره القاضي أبو يعلى فأما الخليل فقال ابن عباس الخليل الصفي وقال غيره المصافي وقال الزجاج هو المحب الذي ليس في محبته خلل قال وقيل الخليل الفقير فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله بأنه أحبه محبة كاملة وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إليه والخلة الصداقة لأن كل واحد يسد خلل صاحبه والخلة بفتح الخاء الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه

وسمي الخل الذي يؤكل خلا لأنه اختل منه طعم الحلاوة وقال ابن الأنباري الخليل فعيل من الخلة والخلة المودة وقال بعض أهل اللغة الخليل المحب والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل والمعنى أنه كان يحب الله ويحبه الله محبة لا نقص فيها ولا خلل ويقال الخليل الفقير فالمعنى اتخذه فقيرا إليه ينزل فقره وفاقته به لا بغيره وفي سبب اتخاذ الله له خليلا ثلاثة أقوال
أحدها أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا قال لإطعامه الطعام
والثاني أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئا فقالوا لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملا ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فأعلموه فاهتم إبراهيم لأجل الخلق فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فاذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت من عند خليلك المصري فقال بل من عند خليلي الله عز و جل فيومئذ اتخذه الله خليلا رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنه اتخذه خليلا لكسره الأصنام وجداله قومه قاله مقاتل

ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا
قوله تعالى وكان الله بكل شيء محيطا أي أحاط علمه بكل شيء ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما
قوله تعالى ويستفتونك في النساء في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال فلما فرض الله المواريث في هذه السورة شق ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وابن زيد
والثاني أن ولي اليتيمة كان يتزوجها إذا كانت جميلة وهويها فيأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت فاذا ماتت ورثها فنزلت هذه

الآية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملك ذلك أولياؤهن فلما نزل قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول عائشة رضي الله عنها
والرابع أن رجلا كانت له امرأة كبيرة وله منها أولاد فأراد طلاقها فقالت لا تفعل وأقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر فقال لئن كان هذا يصلح فهو أحب إلي فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فقال قد سمع الله ما تقول فان شاء أجابك فنزلت هذه الآية والتي بعدها رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير

والخامس أن ولي اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها فنزلت هذه الآية ونهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ذكره القاضي أبو يعلى
وقوله ويستفتونك أي يطلبون الفتوى وهي تبيين المشكل من الأحكام وقيل الاستفتاء الاستخبار قال المفسرون والذي استفتوه فيه ميراث النساء وذلك أنهم قالوا كيف ترث المرأة والصبي الصغير
قوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب قال الزجاج موضع ما رفع المعنى الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهن وهو قوله وآتوا اليتامى أموالهم الآية
والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء النساء 3
وفي يتامى النساء قولان
أحدهما أنهن النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الجمعة
والثاني أنهن أمهات اليتامى فأضيف إليهن أولادهن اليتامى
وفي الذي كتب لهن قولان
أحدهما أنه الميراث قاله ابن عباس ومجاهد في آخرين والثاني أنه الصداق ثم في المخاطب بهذا قولان

أحدهما أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها والثاني ولي اليتيمة كان إذا تزوجها لم يعدل في صداقها وفي قوله وترغبون أن تنكحوهن قولان
أحدهما وترغبون أن تنكحوهن رغبة في جمالهن وأموالهن هذا قول عائشة وعبيدة والثاني وترغبون عن نكاحهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن وهذا قول الحسن
قوله تعالى والمستضعفين من الولدان قال الزجاج موضع المستضعفين خفض على قوله وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء المعنى وفي الولدان قال ابن عباس يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان والجواري فنهاهم الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه
قوله تعالى وأن تقوموا لليتامى بالقسط قال الزجاج موضع أن خفض فالمعنى في يتامى النساء وفي أن تقوموا باليتامى بالقسط قال ابن عباس يريد العدل في مهورهن ومواريثهن وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن سودة خشيت أن يطلقها رسول لله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس

والثاني أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا وإما غيره فأراد طلاقها فقالت لا تطلقني واقسم لي ما شئت فنزلت هذه الآية رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال مقاتل واسمها خويلة
والثالث قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها وقالت عائشة نزلت في المرأة تكون عند الرجل فلا يستكثر منها ويريد فراقها ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه فتقول له لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من شأني رواه البخاري ومسلم

وفي خوف النشوز قولان أحدهما أنه العلم به عند ظهوره
والثاني الحذر من وجوده لأماراته قال الزجاج والنشوز من بعل المرأة أن يسيء عشرتها وأن يمنعها نفسه ونفقته وقال أبو سليمان نشوزا أي نبوا عنها إلى غيرها وإعراضا عنها واشتغالا بغيرها فلا جناحا عليهما أن يصلحا بينهما قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر يصالحا بينهما بفتح الياء والتشديد والأصل يتصالحا فأدغمت التاء في الصاد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يصلحا بضم الياء والتخفيف قال المفسرون والمعنى أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به وتدوم بينهم الصحبة مثل أن تصبر على تفضيله وروي عن علي وابن عباس أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن يجعله لغيرها وفي قوله والصلح خير قولان
أحدهما خير من الفرقة قاله مقاتل والزجاج
والثاني خير من النشوز والإعراض ذكره الماوردي قال قتادة متى ما رضيت بدون ما كان لها واصطلحا عليه جاز فان أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف
قوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح أحضرت بمعنى ألزمت والشح الإفراط في الحرص على الشيء وقال ابن فارس الشح البخل مع الحرص وتشاح الرجلان على الأمر لا يريدان أن يفوتهما وفيمن يعود إليه هذا الشح من الزوجين قولان
أحدهما المرأة فتقديره وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها هذا قاول ابن عباس وسعيد بن جبير

والثاني الزوجان جميعا فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه هذا قول الزجاج وقال ابن زيد لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها فتعطفه عليها
قوله تعالى وإن تحسنوا فيه قولان
أحدهما بالصبر على التي يكرهها والثاني بالإحسان إليها في عشرتها
قوله تعالى وتتقوا يعني الجور عليها فان الله كان بما تعملون خبيرا فيجازيكم عليه ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء قال أهل التفسير لن تطيقوا أن تسووا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع لأن ذلك ليس من كسبكم ولو حرصتم على ذلك فلا تميلوا إلى التي تحبون في النفقة

والقسم وقال مجاهد لا تتعمدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس المعلقة التي لا هي أيم ولا ذات بعل وقال قتادة المعلقة المسجونة
قوله تعالى وإن تصلحوا أي بالعدل في القسمة وتتقوا الجور فان الله كان غفورا لميل القلوب وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فان لله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى وإن يتفرقا يقول وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بايثار التي يميل إليها واختارت الفرقة فان الله يغني كل واحد من سعته قال ابن السائب يغني المرأة برجل والرجل بامرأة ثم ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير فقال ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب وإياكم يا أهل القرآن أن اتقوا الله قيل وحدوه وإن تكفروا بما أوصاكم به فان لله ما في السموات وما في الأرض فلا يضره خلافكم وقيل له ما في السموات وما في الأرض من الملائكة فهم أطوع له منكم وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الغني الحميد وفي آل عمران معنى الوكيل إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا

قوله تعالى أن يشأ يذهبكم أيها الناس قال ابن عباس يريد المشركين والمنافقين ويأت بآخرين أطوع له منكم وقال أبو سليمان هذا تهدد للكفار يقول إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به وكذبوا رسله من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا
قوله تعالى من كان يريد ثواب الدنيا قيل إن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدقون بالقيامة وإنما يطلبون عاجل الدنيا ذكره أبو سليمان وقال الزجاج كان مشركو العرب يتقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها ولا يؤمنون بالبعث فأعلم الله عز و جل أن خير الدنيا والآخرة عنده وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا الغنيمة في الجهاد وثواب الآخرة الجنة قال والمراد بالآية حث المجاهد على قصد ثواب الله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط في سبب نزولها قولان

أحدهما أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت هذه الآية هذا قولا السدي
والثاني أنها متعلقة بقصة ابن أبيرق فهي خطاب للذين جادلوا عنه ذكره أبو سليمان الدمشقي والقوام مبالغة من قائم والقسط العدل قال ابن عباس كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على من كانت ولو على أنفسكم وقال الزجاج معنى الكلام قوموا بالعدل واشهدوا لله بالحق وإن كان الحق على الشاهد أو على والديه أو قريبه إن يكن المشهود له غنيا فالله أولى به وإن يكن فقيرا فالله أولى به فأما الشهادة على النفس فهي إقرار الإنسان بما عليه من حق وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه ولا إلى غناه فان الله تعالى أولى بالنظر إليهما قال عطاء لا تحيفوا على الفقير ولا تعظموا الغني فتمسكوا عن القول فيه وممن قال إن الآية نزلت في الشهادات ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري و قتادة والضحاك
قوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فيه أربعة أقوال
أحدها أن معناه فلا تتبعوا الهوى واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق قاله مقاتل
والثاني ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا قاله الزجاج والثالث فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق والرابع فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا ذكرهما الماوردي
قوله تعالى وإن تلووا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم

والكسائي تلووا بواوين الأولى مضمومة واللام ساكنة
وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال
أحدها أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها أو يعرض عنها ويتركها وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد
والثاني أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم أو يعرض عن بعضهم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه
ويكون أو تعرضوا بمعنى وتعرضوا ذكره الماوردي وقرأ الأعمش وحمزة وابن عامر تلوا بواو واحدة واللام مضمومة والمعنى أن تلوا أمور الناس أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله في سبب نزولها قولان
أحدهما أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما وسلمة ويامين وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم

فقالوا يا رسولا الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل
وفي المشار إليهم بقوله يا أيها الذين آمنوا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المسلمون قاله الحسن فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إيمانكم
والثاني اليهود والنصارى قاله الضحاك فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن
والثالث المنافقون قاله مجاهد فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم آمنوا بقلوبكم
قوله تعالى والكتاب الذي نزل على رسوله قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل مضمومتين
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل مفتوحتين والمراد بالكتاب الذي نزل على رسوله القرآن والكتاب الذي أنزل من قبل كل كتاب أنزل قبل القرآن فيكون الكتاب هاهنا اسم جنس إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا

قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعد موسى ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعده بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه و سلم هذا قول ابن عباس وروي عن قتادة قال آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل ثم آمنوا به بعد عوده ثم كفروا بعده بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد
والثاني أنها في اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة وكفروا بالإنجيل وآمن النصارى بالإنجيل ثم تركوه فكفروا به ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد رواه شيبان عن قتادة وروي عن الحسن قال هم قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين فكانوا يظهرون بالإيمان ثم الكفر ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم وقال مقاتل آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفروا من بعد موسى ثم آمنوا بعيسى والإنجيل ثم كفروا من بعده ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن
والثالث أنها في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم قاله مجاهد وروى ابن جريج عن مجاهد ثم ازدادوا كفرا قال ثبتوا عليه حتى ماتوا قال ابن عباس لم يكن الله ليغفر لهم ما أقاموا على ذلك ولا ليهديهم سبيلا أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين قال وإنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر لأن المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره فاذا ارتد طولب بالكفر الأول بشر المنافقين بان لهم عذابا أليما
قوله تعالى بشر المنافقين زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة

الفتح للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أبي ونفر معه فما لنا فنزلت هذه الآية
وقال غيره كان المنافقون يتولون اليهود فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب وقال الزجاج معنى الآية اجعل موضع بشارتهم العذاب والعرب تقول تحيتك الضرب أي هذا بدل لك من التحية قال الشاعر ... وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع ...
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا
قوله تعالى الذين يتخذون الكافرين أولياء قال ابن عباس يتخذون اليهود أولياء في العون والنصرة
قوله تعالى أيبتغون عندهم العزة أي القوة بالظهور على محمد وأصحابه والمعنى أيتقون بهم قال مقاتل وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الزجاج أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة

والعزة المنعة وشدة الغلبة وهو مأخوذ من قولهم ارض عزاز قال الأصمعي العزاز الأرض التي لا تنبت فتأويل العزة الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال قالت الخنساء ... كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا ...
أي من قوي وغلب سلب ويقال قد استعز على المريض أي اشتد وجعه وكذلك قول الناس يعز علي أن يفعل أي يشتد وقولهم قد عز الشيء إذا لم يوجد معناه صعب أن يوجد والباب واحد

وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب وقرأ عاصم ويعقوب نزل بفتح النون والزاي قال المفسرون الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم قوله في الأنعام 68 وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن ويكذبون به فنهى الله المسلمين عن مجالستهم وآيات الله هي القرآن والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء إنكم إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك فأنتم مثلهم وفي ماذا تقع الممماثلة فيه قولان
أحدهما في العصيان والثاني في الرضى بحالهم لأن مجالس الكافر غير كافر وقد نبهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة قال إبراهيم النخعي إن

الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة فيرضي الله بها فتصيبه الرحمة فتعم من حوله وإن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة فيسخط الله بها فيصيبه السخط فيعم من حوله الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
قوله تعالى الذين يتربصون بكم قال أبو سليمان هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة قال مقاتل كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر فان كان الفتح قالوا ألم نكن معكم فاعطونا من الغنيمة وإن كان للكافرين نصيب أي دولة على المؤمنين قالوا للكفار ألم نستحوذ عليكم قال المبرد ومعنى ألم نستحوذ عليكم ألم نغلبكم على رأيكم وقال الزجاج ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم ونستحوذ في اللغة بمعنى نستولي يقال حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها وقال غيره ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة وقال ابن جريج ألم نبين لكم أنا على دينكم وفي قوله ونمنعكم من المؤمنين ثلاثة أقوال
أحدها نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم والثاني بما نعلمكم من أخبارهم
والثالث بصرفنا إياكم عن الدخول في الإيمان ومراد الكلام إظهار المنة من المنافقين على الكفار أي فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم

قوله تعالى فالله يحكم بينكم يوم القيامة يعني المؤمنين والمنافقين قال ابن عباس يريد أنه أخر عقاب المنافقين
قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلا جاءه فقال أرأيت قول الله عز و جل ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون فقال ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا هذا مروي عن ابن عباس وقتادة
والثاني أن المراذ بالسبيل الظهور عليهم يعني أن المؤمنين هم الظاهرون والعاقبة لهم وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس والثالث أن السبيل الحجة قال السدي لم يجعل الله عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الديار قال ابن جرير لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم أنتم كنتم أعداءنا وكان المنافقون أولياءنا وقد اجتمعتم في النار

إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
قوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله أي يعملون عمل المخادع وقيل يخادعون نبيه وهو خادعهم أي مجازيهم على خداعهم وقال الزجاج لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعا لهم بذلك وقيل خداعه إياهم يكون في القيامة باطفاء نورهم وقد شرحنا طرفا من هذا في البقرة
قوله تعالى وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى أي متثاقلين وكسالى جمع كسلان والكسل التثاقل عن الأمر وقرأ أبو عمران الجوني كسلى بفتح الكاف وقرأ ابن السميفع كسلى بفتح الكاف من غير ألف وإنما كانوا هكذا لأنهم يصلون حذرا على دمائهم لا يرجون بفعلها ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا

قوله تعالى يراؤون الناس أي يصلون ليراهم الناس قال قتادة والله لولا الناس ما صلى المنافق وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال
أحدها أنه سمي قليلا لأنه غير مقبول قاله علي رضي الله عنه وقتادة
والثاني لأنه رياء ولو كان لله لكان كثيرا قاله ابن عباس والحسن
والثالث أنه قليل في نفسه لأنهم يقتصرون على ما يظهر دون ما يخفى من القراءة والتسبيح ذكره الماوردي مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى مذبذبين بين ذلك المذبذب المتردد بين أمرين وأصل التذبذب التحرك والاضطراب وهذه صفة المنافق لأنه محير في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح قال قتادة ليسوا بالمشركين المصرحين بالشرك ولا بالمؤمنين المخلصين قال ابن زيد ومعنى بين ذلك بين الاسلام والكفر لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفار ولم يصدقوا الإيمان فيكونوا إلى المؤمنين قال ابن عباس ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا إلى الهدى وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تدري أيها تتبع

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
قوله تعالى لا تتخذوا الكافرين أولياء في المراد بالكافرين قولان
أحدهما اليهود قاله ابن عباس
والثاني المنافقون قال الزجاج ومعنى الآية لا تجعلوهم بطانتكم وخاصتكم
والسلطان الحجة الظاهرة وإنما قيل للأمير سلطان لأنه حجة الله في أرضه واشتقاق السلطان من السليط والسليط ما يستضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط والعرب تؤنث السلطان وتذكره تقول قضت عليك السلطان وأمرتك السلطان والتذكير أكثر وبه جاء القرآن فمن أنث ذهب إلى معنى الحجة ومن ذكر أراد صاحب السلطان قال ابن الأنباري تقدير الآية أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بينة تلزمكم عذابه وتكسبكم غضبه إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا
قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتح الراء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتسكين الراء قال الفراء وهي لغتان قال أبو عبيدة جهنم أدراك أي منازل

وأطباق فكل منزل منها درك وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال الدركات مراق بعضها تحت بعض وقال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض وقال ابن فارس الجنة درجات والنار دركات وقال ابن مسعود في هذه الآية هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم قال ابن الأنباري المبهمة التي لا أقفال عليها يقال أمر مبهم إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه ولا بابه
قوله تعالى ولن تجد لهم نصيرا قال ابن عباس مانعا من عذاب الله إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
قوله تعالى إلا الذين تابوا قال مقاتل سبب نزولها أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين فقد كان فلان وفلان منافقين فتابوا فكيف يفعل بهم

فنزلت هذه الآية ومعنى الآية إلا الذين تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة واعتصموا بالله أي استمسكوا بدينه وأخلصوا دينهم فيه قولان
أحدهما أنه الإسلام وإخلاصه رفع الشرك عنه قاله مقاتل
والثاني أنه العمل وإخلاصه رفع شوائب النفاق والرياء منه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى فأولئك مع المؤمنين في مع قولان
أحدهما أنها على أصلها وهو الاقتران وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين فيه قولان
أحدهما في الولاية قاله مقاتل والثاني في الدين والثواب قاله أبو سليمان
والثاني أنها بمعنى من فتقديره فأولئك من المؤمنين قاله الفراء ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
قوله تعالى ما يفعل الله بعذابكم ما حرف استفهام ومعناه التقرير

أي إن الله لا يعذب الشاكر المؤمن ومعنى الآية ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه وآمنتم به وبرسوله والإيمان مقدم في المعنى وإن أخر في اللفظ وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر التوحيد
قوله تعالى وكان الله شاكرا عليما أي للقليل من أعمالكم عليما بنياتكم وقيل شاكرا أي قابلا لا يحب الله الجهر بالسوء من القول في سبب نزولها قولان
أحدهما أن ضيفا تضيف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا قاله مجاهد

والثاني أن رجلا نال من أبي بكر الصديق والنبي صلى الله عليه و سلم حاضر فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت فقال إن ملكا كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل واختلف القراء في قراءة إلا من ظلم فقرأ الجمهور بضم الظاء وكسر اللام وقرأ عبد الله بن عمرو والحسن وابن المسيب وأبو رجاء وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم بفتحهما

فعلى قراءة الجمهور في معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها إلا أن يدعو المظلوم علة من ظلمه فان الله قد أرخص له قاله ابن عباس والثاني إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه قاله الحسن والسدي
والثالث إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
وروى ابن جريج عنه قال إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه فأما قراءة من فتح الظاء فقال ثعلب هي مردودة على قوله ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم وذكر الزجاج فيها قولين
أحدهما أن المعنى إلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلما
والثاني إلا أن تجهروا بالسوء للظالم فعلى هذا تكون إلا في هذا المكان استثناء منقطع ومعناها لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء ولكن الظالم قد يجهر له بالسوء فاجهروا له بالسوء وقال ابن زيد إلا من ظلم أي أقام على النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع

قوله تعالى وكان الله سميعا أي لما تجهرون به من سوء القول عليما بما تخفون وقيل سميعا لقوم المظلوم عليما بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق وقال الحسن من ظلم فقد رخص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي مثل أن يقول اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي اللهم حل بينه وبين ما يريد إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا
قوله تعالى إن تبدوا خيرا قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة وقال بعضهم إن تبدوا خيرا بدلا من السوء وأكثرهم على أن الهاء في تخفوه تعود إلى الخير وقال بعضهم تعود إلى السوء
قوله تعالى فان الله كان عفوا قال أبو سليمان أي لم يزل ذا عفو مع قدرته فاعفوا أنتم مع القدرة إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
قوله تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله فيهم قولان

أحدهما أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى وعزير والتوراة ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن قاله ابن عباس
والثاني أنهم اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى وآمن النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بمحمد والقرآن قاله قتادة ومعنى قوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان برسله ولا يصح الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين إيمانهم ببعض الرسل وتكذيبهم ببعض سبيلا أي مذهبا يذهبون إليه وقال ابن جريج دينا يدينون به أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى أولئك هم الكافرون حقا ذكر الحق هاهنا توكيدا لكفرهم إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا
قوله تعالى يسألك أهل الكتاب في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أنهم سألوه أن ينزل كتابا عليهم خاصة هذا قول الحسن وقتادة
والثاني أن اليهود والنصارى أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلىفلان بكتاب أنك رسول الله فنزلت هذه الآية هذا قول ابن جريج هذا قول ابن جريج
والثالث أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه و سلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما نزلت التوراة على موسى هذا قول القرظي والسدي
وفي المراد بأهل الكتاب قولان أحدهما اليهود والنصارى والثاني اليهود
وفي المراد بأهل الكتاب المنزل من السماء قولان
أحدهما كتاب مكتوب غير القرآن
والثاني كتاب بتصديقه في رسالته وقد بينا في البقرة معنى سؤالهم روية الله جهرة واتخاذهم العجل والبينات الآيات التي جاء بها موسى فان قيل كيف قال ثم اتخذوا العجل وثم تقتضي التراخي والتأخر أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم أرنا الله جهرة فعنه أربعة أجوبة ذكرهن ابن الأنباري
أحدهن أن تكون ثم مردودة على فعلهم القديم والمعنى وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة فخالفوا أيضا ثم اتخذوا العجل
والثاني أن تكون مقدمة في المعنى مؤخرة في اللفظ والتقدير فقد اتخذوا العجل ثم سألوا موسى أكبر من ذلك ومثله فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون النمل 28 المعنى فألقه إليهم ثم انظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم

والثالث أن المعنى ثم كانوا اتخذوا العجل فأضمر الكون
والرابع أن ثم معناها التأخير في الإخبار والتقديم في الفعل كما يقول القائل شربت الماء ثم أكلت الخبز يريد شربت الماء ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء
قوله تعالى فعفونا عن ذلك أي لم نستأصل عبدة العجل والسلطان المبين الحجة البينة قال ابن عباس اليد والعصا وقال غيره الآيات التسع ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
قوله تعالى ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم أي بما أعطوا الله من العهد والميثاق ليعملن بما في التوراة
قوله تعالى لا تعدوا في السبت قرأ نافع لا تعدوا بتسكين العين وتشديد الدال وروى عنه ورش تعدوا بفتح العين وتشديد الدال وقرأ الباقون تعدوا خفيفة وكلهم ضم الدال وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة والميثاق الغليظ العهد المؤكد

فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
قوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم ما صلة مؤكدة قال الزجاج والمعنى فبنقضهم ميثاقهم وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما أنزل عليهم من ذكر النبي صلى الله عليه و سلم وغيره والجالب للباء العامل فيها وقوله حرمنا عليهم طيبات أي بنقضهم ميثاقهم والأشياء التي ذكرت بعده حرمنا عليهم وقوله فبظلم بدل من قوله فبما نقضهم وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم وقال ابن فارس الطبع الختم و من ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور فلم يوفق لخير والطابع الخاتم يختم به
قوله تعالى فلا يؤمنون إلا قليلا فيه قولان
أحدهما فلا يؤمن منهم إلا القليل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه قاله ابن عباس والثاني المعنى إيمانهم قليل وهو قولهم ربنا الله قاله مجاهد وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما
قوله تعالى وبكفرهم في إعادة ذكر الكفر فائدة وفيها قولان

أحدهما أنه أراد وبكفرهم بمحمد والقرآن قاله ابن عباس
والثاني وبكفرهم بالمسيح وقد بشروا به قاله أبو سليمان الدمشقي فأما البهتان فهو في قول الجماعة قذفهم مريم بالزنى وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما
قوله تعالى وقولهم إنا قتلنا المسيح قال الزجاج أي باعترافهم بقتلهم إياه وما قتلوه يعذبون عذاب من قتل لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنه نبي وفي قوله رسول الله قولان
أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول الله على زعمه
والثاني أنه من قول الله لا على وجه الحكاية عنهم
قوله تعالى ولكن شبه لهم أي ألقي شبهه على غيره
وفيمن ألقي عليه شبهه قولان
أحدهما أنه بعض من أراد قتله من اليهود روى أبو صالح عن ابن عباس أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى أدخله جبريل خوخة لها روزنة ودخل وراءه رجل منهم فألقى الله عليه شبه عيسى فلما خرج على أصحابه قتلوه يظنونه عيسى ثم صلبوه وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان
والثاني أنه رجل من أصحاب عيسى روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد الله رفعه فقال أيكم يلقى عليه

شبهي فيقتل مكاني ويكون في درجتي فقام شاب فقال أنا فقال اجلس ثم أعاد القول فقام الشاب فقال عيسى اجلس ثم أعاد فقال الشاب أنا فقال نعم أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى وجاء اليهود فأخذوا الرجل فقتلوه ثم صلبوه وبهذا القول قال وهب بن منبه وقتادة والسدي
قوله تعالى وإن الذين اختلفوا فيه في المختلفين قولان
أحدهما أنهم اليهود فعلى هذا في هاء فيه قولان
أحدهما أنها كناية عن قتله فاختلفوا هل قتلوه أم لا
وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان
أحدهما أنهم لما قتلوا الشخص المشبه كان الشبه قد ألقي على وجهه دون جسده فقالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره ذكره ابن السائب
والثاني أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه هذا قول السدي
والثاني أن الهاء كناية عن عيسى واختلافهم فيه قول بعضهم هو ولد زنى وقل بعضهم هو ساحر

والثاني أن المختلفين النصارى فعلى هذا في هاء فيه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى قتله هل قتل أم لا والثاني أنها ترجع إليه هل هو إله أم لا وفي هاء منه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى قتله
والثاني إلى نفسه هل هو إله أم لغير رشدة أم هو ساحر
قوله تعالى ما لهم به من علم إلا اتباع الظن قال الزجاج اتباع منصوب بالاستثناء وهو استثناء ليس من الأول والمعنى ما لهم به من علم إلا أنهم يتبعون الظن وإن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن كما تقول العرب تحيتك الضرب
قوله تعالى وما قتلوه في الهاء ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الظن فيكون المعنى وما قتلوا ظنهم يقينا هذا قول ابن عباس
والثاني أنها ترجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم به يقينا تقول قتلته يقينا وقتلته علما للرأي والحديث هذا قول الفراء وابن قتيبة قال ابن قتيبة وأصل هذا أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة يقول فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به إنما كان ظنا
والثالث أنها ترجع إلى عيسى فيكون المعنى وما قتلوا عيسى حقا هذا قول الحسن وقال ابن الأنباري اليقين مؤخر في المعنى فالتقدير وما قتلوه بل رفعه الله إليه يقينا

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا
قوله تعالى وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قال الزجاج المعنى وما منهم أحد إلا ليؤمنن به ومثله وإن منكم إلا واردها مريم 71 وفي أهل الكتاب قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله ابن عباس والثاني اليهود والنصارى قاله الحسن وعكرمة وفي هاء به قولان
أحدهما أنها راجعة إلى عيسى قاله ابن عباس والجمهور والثاني أنها راجعة إلى محمد صلى الله عليه و سلم قاله عكرمة وفي هاء موته قولان
أحدهما أنها ترجع إلى المؤمن روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى فقيل لابن عباس إن خر من فوق بيت قال يتكلم به في الهوي قال وهي في قراءة أبي قبل موتهم
وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير وروى الضحاك عن ابن عباس قال يؤمن اليهودي قبل أن يموت ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد وقال عكرمة لا تخرج روح اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم

والثاني أنها تعود إلى عيسى روى عطاء عن ابن عباس قال إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلا اتبعه وصدقه وشهد أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه وهذا قول قتادة وابن زيد وابن قتيبة واختاره ابن جرير وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج

هذا بعيد لعموم قوله وإن من أهل الكتاب والذين يبقون حينئذ شرذمة منهم إلا أن يكون المعنى أنهم كلهم يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نؤمن به

قوله تعالى ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا قال قتادة يكون عليهم شهيدا أنه قد بلغ رسالات ربه وأقر بالعبودية على نفسه فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا قال مقاتل حرم الله على أهل التوراة الربا وأن يأكلوا أموال الناس ظلما ففعلوا وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد عليه السلام فحرم الله عليهم ما ذكر في قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الانعام 146 عقوبة لهم قال أبو سليمان وظلمهم نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وما ذكر في الآيات قبلها وقال مجاهد وبصدهم عن سبيل الله قال صدهم أنفسهم وغيرهم عن الحق قال ابن عباس صدهم عن سبيل الله يعني الإسلام وأكلهم أموال الناس بالباطل أي بالكذب على دين الله وأخذ الرشى على حكم الله وتبديل الكتب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما
قوله تعالى وأعتدنا أي أعددنا للكافرين يعني اليهود وقيل إنما قال منهم لأنه علم أن قوما منهم يؤمنون فيأمنون العذاب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما
قوله تعالى لكن الراسخون في العلم قال ابن عباس هذا استثناء

لمؤمني أهل الكتاب فأما الراسخون فهم الثابتون في العلم قال أبو سليمان وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه والذين آمنوا من أهل الإنجيل ممن قدم مع جعفر من الحبشة والمؤمنون يعني أصحاب رسول الله فأما قوله والمقيمين الصلاة فهم القائمون بأدائها كما أمروا
وفي نصب المقيمين أربعة أقوال
أحدها أنه خطأ من الكاتب وهذا قول عائشة وروي عن عثمان بن عفان أنه قال إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها وقد قرأ ابن مسعود وأبي وسعيد بن جبير وعكرمة والجحدري والمقيمون الصلاة بالواو

وقال الزجاج قول من قال إنه خطأ بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة فكيف يتركون في كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم وقال ابن الأنباري حديث عثمان لا يصح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه من بعده
والثاني أنه نسق على ما والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة فقيل هم الملائكة وقيل الأنبياء
والثالث أنه نسق على الهاء والميم من قوله منهم فالمعنى لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك قال الزجاج وهذا رديء عند النحويين لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في الشعر

والرابع أنه منصوب على المدح فالمعنى اذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وأنشدوا ... لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر ... النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر

وهذا على معنى اذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا قولك مررت بزيد الكريم إن أردت أن تخلصه من غيره فالخفض هو الكلام وإن أردت المدح والثناء فان شئت نصبت فقلت بزيد الكريم كأنك قلت اذكر الكريم وإن شئت رفعت على معنى هو الكريم وتقول جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد على معنى اذكر المطعمين وهم المغيثون وهذا القول اختيار الخليل وسيبويه فهذه الأقوال حكاها الزجاج واختار هذا القول إنا أوحينا إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمن وآتينا داود زبورا
قوله تعالى إنا أوحينا إليك قال ابن عباس قال عدي بن زيد وسكين يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا في آل عمران معنى الوحي وذكر هنالك
وإسحاق أعجمي وإن وافق لفظ العربي يقال أسحقه الله يسحقه إسحاقا ويعقوب أعجمي فأما اليعقوب وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربي كذلك قرأته

على شيخنا أبي منصور اللغوي وأيوب أعجمي ويونس اسم أعجمي قال أبو عبيدة يقال يونس ويونس بضم النون وكسرها وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمة والفتحة وقال الفراء يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز وبعض بني أسد يقول يؤنس بالهمز وبعض بني عقيل يقول يونس بفتح النون من غير همز والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز وقد قرأ ابن مسعود وقتادة ويحيى بن يعمر وطلحة يؤنس بكسر النون مهموزا قرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري يونس بفتح النون من غير همز وقرأ أبو المتوكل يؤنس بفتح النون مهموزا وقرأ أبو السماك العدوي يونس بكسر النون من غير همز وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا وهارون اسم أعجمي وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم فأما الزبور فأكثر القراء على فتح الزاي وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش وحمزة بضم الزاي قال الزجاج فمن فتح الزاي أراد كتابا ومن ضم أراد كتبا ومعنى ذكر داود أي لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن فقد أعطى الله داود الزبور وقال أبو علي كأن حمزة جعل كتاب داود أنحاء وجعل كل نحو زبرا ثم جمع فقال زبورا وقال ابن قتيبة الزبور فعول بمعنى مفعول كما تقول حلوب وركوب بمعنى محلوب ومركوب وهو من قولك زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته قال وفيه لغة أخرى الزبور بضم الزاي كأنه جمع

ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما
قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما تأكيد كلم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة روى أبو سليمان الدمشقي قال سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول سمعت ثعلبا يقول لولا أن الله تعالى أكد الفعل بالمصدر لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر قد كلمت لك فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة أو بعثت إليه رسولا فلما قال تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
قوله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة أي لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل لأن هذه الأشياء إنما تجب بالرسل لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملئكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى لكن الله يشهد في سبب نزلها قولان

أحدهما أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود فقال إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله فقالوا ما نعلم ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن رؤساء أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا سألنا عنك اليهود فزعموا أنهم لا يعرفونك فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن السائب قال الزجاج الشاهد المبين لم يشهد به فالله عز و جل بين ذلك ويعلم مع إبانته أنه حق وفي معنى أنزله بعلمه ثلاثة أقوال
أحدها أنزله وفيه علمه قاله الزجاج
والثاني أنزله من علمه ذكره أبو سليمان الدمشقي
والثالث أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه قاله ابن جرير
قوله تعالى والملائكة يشهدون فيه قولان
أحدهما يشهدون أن الله أنزله والثاني يشهدون بصدقك
قوله تعالى وكفى بالله شهيدا قال الزجاج الباء دخلت مؤكدة والمعنى اكتفوا بالله في شهادته

إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا
قوله تعالى إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قال مقاتل وغيره هم اليهود كفروا بمحمد وصدوا الناس عن الإسلام قال أبو سليمان وكان صدهم عن الإسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم ما نجد صفة محمد في كتابنا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا
قوله تعالى إن الذين كفروا وظلموا قال مقاتل وغيره هم اليهود أيضا كفروا بمحمد والقرآن وفي الظلم المذكور هاهنا قولان
أحدهما أنه الشرك قاله مقاتل والثاني أنه جحدهم صفة محمد النبي صلى الله عليه و سلم في كتابهم
قوله تعالى لم يكن الله ليغفر لهم يريد من مات منهم على الكفر وقال أبو سليمان لم يكن الله ليستر عليهم قبيح فعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي وفي الآخرة بالنار ولا ليهديهم طريقا ينجون فيه
وقال مقاتل طريقا إلى الهدى وكان ذلك على الله يسيرا يعني كان عذابهم على الله هينا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما

قوله تعالى يا أيها الناس الكلام عام وروي عن ابن عباس أنه قال أراد المشركين قد جاءكم الرسول بالحق أي بالهدى والصدق
قوله تعالى فآمنوا خيرا لكم قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين إنه منصوب بالحمل على معناه لأنك إذا قلت انته خيرا لك وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره كان المعنى انته وأت خيرا لك وادخل في ما هو خير لك وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة ... فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما سهلا ...
كأنه قال إيتي مكانا أسهل
قوله تعالى وإن تكفروا فان لله ما في السماوات والأرض أي هو غني عنكم وعن إيمانكم وكان الله عليما بما يكون من إيمان أو كفر حكيما في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانة أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم قال مقاتل نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما والجمهور على أن المراد بهذه الآية النصارى وقال الحسن نزلت في اليهود والنصارى والغلو الإفراط ومجاوزة الحد ومنه غلا السعر وقال الزجاج الغلو مجاوزة القدر في الظلم وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم هو الله وقول بعضهم هو ابن الله وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم إنه لغير رشدة وقال بعض العلماء لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدد فيه
قوله تعالى ولا تقولوا على الله إلا الحق أي لا تقولوا إن الله له شريك

أو ابن أو زوجة وقد ذكرنا معنى المسيح والكلمة في آل عمران
وفي معنى وروح منه سبعة أقوال
أحدها أنه روح من أرواح الأبدان قال أبي بن كعب لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح فأرسله إلى مريم فحملت به
والثاني أن الروح النفخ فسمي روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم ومنه قول ذي الرمة ... وقلت له ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا ...
هذا قول أبي روق
والثالث أن معنى وروح منه إنسان حي باحياء الله له
والرابع أن الروح الرحمة فمعناه ورحمة منه ومثله وأيدهم بروح منه المجادلة 22
والخامس أن الروح هاهنا جبريل فالمعنى ألقاها الله إلى مريم والذي ألقاها روح منه ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي

والسادس أنه سماه روحا لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمي القرآن روحا ذكره القاضي أبو يعلى
والسابع أن الروح الوحي أوحى الله إلى مريم يبشرها به وأوحى إلى جبريل بالنفخ في درعها وأوحى إلى ذات عيسى أن كن فكان ومثله ينزل الملائكة بالروح من أمره النحل 2 أي بالوحي ذكره الثعلبي
فأما قوله منه فانه إضافة تشريف كما تقول بيت الله والمعنى من أمره ومما يقاربها قوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه الجاثية 13
قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة قال الزجاج رفعه باضمار لا تقولوا آلهتنا ثلاثة إنما الله إله واحد أي ما هو إلا إله واحد سبحانه ومعنى سبحانه تبرئته من أن يكون له ولد قال أبو سليمان وكفى بالله وكيلا أي قيما على خلقه مدبرا لهم لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله سبب نزولها أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد لم تذكر صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي شيء أقول له هو عبد الله قالوا بل هو الله فقال إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله قالوا بلى فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج معنى يستنكف

يأنف واصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته باصبعك من خدك قال الشاعر ... فبانوا فلولا ما تذكر منهم ... من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع ...
قوله تعالى ولا الملائكة المقربون قال ابن عباس هم حملة العرش فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى فيوفيهم أجورهم أي ثواب أعمالهم ويزيدهم من فضله مضاعفة الحسنات وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله فيوفيهم أجورهم قال يدخلون الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا

يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا
قوله تعالى قد جاءكم برهان من ربكم في البرهان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحجة قاله مجاهد والسدي والثاني القرآن قاله قتادة
والثالث أنه النبي محمد صلى الله عليه و سلم قاله سفيان الثوري فأما النور المبين فهو القرآن قاله قتادة وإنما سماه نورا لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنور فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
قوله تعالى واعتصموا به أي استمسكوا وفي هاء به قولان
أحدهما أنها تعود إلى النور وهو القرآن قاله ابن جريج والثاني تعود إلى الله تعالى قاله مقاتل وفي الرحمة قولان
أحدهما أنها الجنة قاله ابن عباس ومقاتل والثاني أنها نفس الرحمة والمعنى سيرحمهم قاله أبو سليمان وفي الفضل قولان
أحدهما أنه الرزق في الجنة قاله مقاتل والثاني أنه الإحسان قاله أبو سليمان
قوله تعالى ويهديهم إليه صراطا مستقيما أي يوفقهم لإصابة الطريق المستقيم وقال ابن الحنفية الصراط المستقيم دين الله يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم

قوله تعالى يستفتونك في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها نزلت في جابر بن عبد الله روى أبو الزبير عن جابر قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي علي فتوضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت وقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد فلم يجبني بشيء ثم خرج وتركني ثم رجع إلي وقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا وإن الله عز و جل قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين فقرأ علي هذه الآية يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في
والثاني أن الصحابة أهمهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله فنزلت هذه الآية هذا قول قتادة وقال سعيد بن المسيب سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف نورث الكلالة فقال أوليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قرأ إن كان رجل يورث كلالة فأنزل الله عز و جل يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة

قوله تعالى إن امرؤ هلك أي مات ليس له ولد يريد ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما ويدل على المحذوف أن الفتيا في الكلالة وهي من ليس له ولد ولا والد
قوله تعالى وله أخت يريد من أبيه وأمه فلها نصف ما ترك عند انفرادها وهو يرثها أي يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد وهذا هو الأخ من الأب والأم أو من الأب فان كانتا اثنتين يعني أختين وسئل الأخفش ما فائدة قوله اثنتين و كانتا لا يفسر إلا باثنتين فقال أفادت العدد العاري عن الصفة لأنه يجوز في كانتا صغيرتين أو حرتين أو صالحتين أو طالحتين فلما قال اثنتين فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه فلهما الثلثان من تركة أخيهما الميت وإن كانوا يعني المخلفين
قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا قال ابن قتيبة لئلا تضلوا وقال الزجاج فيه قولان
أحدهما أن لا تضلوا فأضمرت لا والثاني كراهية أن تضلوا وهو قول البصريين قال ابن جريج أن تضلوا في شأن المواريث

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
قال ابن عباس والضحاك هي مدنية وقال مقاتل نزلت نهارا وكلها مدنية وقال أبو سليمان الدمشقي فيها من المكي اليوم أكملت لكم دينكم قال وقيل فيها من المكي يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله والصحيح أن قوله اليوم أكملت لكم دينكم نزلت بعرفه يوم عرفة فلهذا نسبت إلى مكة يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين
أحدهما أنهم المؤمنون من أمتنا وهذا قول الجمهور
والثاني أنهم أهل الكتاب قاله ابن جريج والعقود العهود قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج العقود أوكد العهود
واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال

أحدها أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحل وحرم وهذا قول ابن عباس ومجاهد
والثاني أنها عهود الدين كلها قاله الحسن
والثالث أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم قاله قتادة
والرابع أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن جريج وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين
والخامس أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح أو عقد الإنسان على نفسه من نذر أو يمين وهذا قول ابن زيد
قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام في بهيمة الأنعام ثلاثة أقاويل
أحدها أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت الأمهات قاله ابن عمر وابن عباس والثاني أنها الإبل والبقر والغنم قاله الحسن وقتادة والسدي
وقال الربيع هي الأنعام كلها وقال ابن قتيبة هي الإبل والبقر الغنم والوحوش كلها
والثالث أنها وحش الأنعام كالظباء وبقر الوحش روي عن ابن عباس وأبي صالح وقال الفراء بهيمة الأنعام بقر الوحش والظباء والحمر الوحشية

قال الزجاج وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت عن أن تميز وكل حي لا يميز فهو بهيمة
قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم روي عن ابن عباس أنه قال هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه وقال ابن الأنباري المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها وهي قوله حرمت عليكم الميتة
قوله تعالى غير محلي الصيد قال أبو الحسن الأخفش أوفوا بالعقود غير محلي الصيد فانتصب على الحال وقال غيره المعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها وأنتم حرم قال الزجاج الحرم المحرومون وواحد الحرم حرام يقال رجل حرام وقوم حرم قال الشاعر ... فقلت لها فيئي إليك فانني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي ملب وقوله إن الله يحكم ما يريد أي الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء ويحرم ما يريد على من يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب
قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله في سبب نزولها قولان
أحدهما أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه و سلم فقال إلام تدعو فقال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ثم خرج فقال النبي صلى الله عليه و سلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر وما الرجل بمسلم فمر شريح بسرح لأهل المدينة فاستاقه فلما كان عام الحديبية خرج شريح إلى مكة معتمرا ومعه تجارة فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال السدي اسمه الحطم ابن هند البكري قال ولما ساق السرح جعل يرتجز

قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم ... بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين ممسوح القدم ...
والثاني أن ناسا من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة فقال المسلمون لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم فنزل قوله ولا آمين البيت

الحرام قال ابن قتيبة وشعائر الله ما جعله الله علما لطاعته
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال
أحدها أنها مناسك الحج رواه الضحاك عن ابن عباس وقال الفراء كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما فقال الله تعالى لا تستحلوا ترك ذلك
والثاني أنها ما حرم الله تعالى في حال الاحرام رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث دين الله كله قاله الحسن والرابع حدود الله قاله عكرمة وعطاء والخامس حرم الله قاله السدي
والسادس الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام قاله أبو عبيدة و
والسابع أنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة ذكره الماوردي والقاضي أبو يعلى

قوله تعالى ولا الشهر الحرام قال ابن عباس لا تحلوا القتال فيه
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال
أحدها أنه ذو القعدة قاله عكرمة وقتادة
والثاني أن المراد به الأشهر الحرم قال مقاتل كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل سنة فيقول إلا إني قد أحللت كذا وحرمت كذا
والثالث أنه رجب ذكره ابن جرير الطبري والهدي كل ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء وفي القلائد قولان
أحدهما أنها المقلدات من الهدي رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية ليأمنوا به عدوهم لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم فمن لقوة مقلدا نفسه أو بعيره أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرض له قال ابن عباس كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم قلد بعيره من الشعر والوبر فيأمن حيث ذهب وروى مالك بن مغول عن عطاء قال كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم فنزلت هذه الآية وقال قتادة كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من

السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد
وقال الفراء كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها لا تستحلوا المقلدات من الهدي والثاني لا تستحلوا أصحاب القلائد والثالث أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم رواه عبد الملك عن عطاء وبه قال مطرف والربيع بن أنس
قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام الآم القاصد والبيت الحرام الكعبة والفضل الربح في التجارة والرضوان من الله يطلبونه في حجهم على زعمهم ومثله قوله وانظر إلى إلهك الذي طه 97 وقيل ابتغاء الفضل عام وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة
قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا لفظه لفظ الأمر ومعناه الإباحة نظيره فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض الجمعة 10 وهو يدل على إحرام متقدم

قوله تعالى ولا يجرمنكم وروى الوليد عن يعقوب يجرمنكم بسكون النون وتخفيفها قال ابن عباس لا يحملنكم وقال غيره لا يدخلنكم في الجرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الإثم وقال ابن قتيبة لا يكسبنكم يقال فلان جارم أهله أي كاسبهم وكذلك جريمتهم وقال الهذلي ووصف عقابا ... جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا ...
والناهض فرخها يقول هي تكسب له وتأتيه بقوته والشنآن البغض يقال شنئته أشنؤه إذا أبغضته وقال ابن الأنباري الشنآن البغض والشنآن بتسكين النون البغيض واختلف القراء في نون الشنآن فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بتحريكها وأسكنها ابن عامر وروى حفص عن عاصم تحريكها وأبو بكر عنه تسكينها وكذلك اختلف عن نافع

قال أبو علي الشنان قد جاء وصفا وقد جاء اسما فمن حرك فلأنه مصدر والمصدر يكثر على فعلان نحو النزوان ومن سكن قال هو مصدر وقد جاء المصدر على فعلان تقول لويته دينه ليانا فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان واختلفوا في قوله أن صدوكم فقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالكسر وقرأ الباقون بالفتح فمن فتح جعل الصد ماضيا فيكون المعنى من أجل أن صدوكم ومن كسرها جعلها للشرط فيكون الصد مترقبا قال أبو الحسن الأخفش وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر كقوله إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يوسف 77 وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت وأنشد أبو علي الفارسي ... إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقري بها بدا ...
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء والجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة قال ابن جرير وقراءة من فتح الألف أبين لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية وقد كان الصد تقدم
فعلى هذا في معنى الكلام قولان
أحدهما ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن

تعتدوا فيه فتقاتلوهم وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لا يحملنكم بغض أهل مكة وصدهم إياكم أن تعتدوا باتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين على ما سبق في نزول الآية
قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى قال الفراء ليعن بعضكم بعضا قال ابن عباس البر ما أمرت به والتقوى ترك ما نهيت عنه فأما الإثم فالمعاصي والعدوان التعدي في حدود الله قاله عطاء
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها محكمة روي عن الحسن أنه قال ما نسخ من المائدة شيء وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا ولا يجوز استحلال الشعائر ولا الهدي

قبل أوان ذبحه واختلفوا في القلائد فقال قوم يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر وقال آخرون كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم فقيل لهم لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ولا تصدوا القاصدين إلى البيت
والثاني أنها منسوخة وفي المنسوخ منها أربعة أقوال
أحدها أن جميعها منسوخ وهو قول الشعبي
والثاني أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم ويظهرون شعائر الحج من الاحرام والتلبية فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم ثم نسخ ذلك بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5 وهذا قول الأكثرين
والثالث أن الذي نسخ قوله ولا آمين البيت الحرام نسخه قوله فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا التوبة 38 روي عن ابن عباس وقتادة
والرابع أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام وآمون البيت الحرام إذا كانوا مشركين وهدي المشركين إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان قاله أبو سليمان الدمشقي حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تسقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخصمة غير متجانف لإثم فأن الله غفور رحيم

قوله تعالى حرمت عليكم الميتة مفسر في البقرة فأما المنخنقة فقال ابن عباس هي التي تختنق فتموت وقال الحسن وقتادة هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره قلت والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك قال ابن قتيبة والموقوذة التي تضرب حتى توقذ أي تشرف على الموت ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة ومنه يقال فلان وقيذ وقد وقذته العبادة

والمتردية الواقعة من جبل أو حائط أو في بئر يقال تردى إذا سقط
والنطيحة التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة فعيلة في معنى مفعولة وما أكل السبع وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو مجلز وابن أبي ليلى السبع بسكون الباء والمراد ما افترسه فأكل بعضه إلا ما ذكيتم أي إلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة فذبحتموه
فأما الاستثناء ففيه قولان
أحدهما أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله والمنخنقة
والثاني أنه يرجع إلى ما أكل السبع خاصة والعلماء على الأول
فصل في الذكاة
قال الزجاج أصل الذكاة في اللغة تمام الشيء فمنه الذكاء في السن وهو تمام السن قال الخليل الذكاء أن تأتي على قروحه سنة وذلك تمام استكمال القوة ومنه الذكاء في الفهم وهو أن يكون فهما تاما سريع القبول وذكيت النار أي أتممت إشعالها وقد روي عن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنهم قالوا ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله حلال قال القاضي أبو يعلى ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به حل بالذبح فان كان لا يعيش مع ما به نظرت فان لم تكن حياته مستقرة وإنما حركته حركة المذبوح مثل أن شق جوفه وأبينت حشوته فانفصلت عنه لم يحل أكله وإن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين مثل أن يشق جوفه ولم تقطع الأمعاء حل أكله ومن الناس من يقول إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذكاة والصحيح ما ذكرنا لأنه إذا لم تكن فيه حياة

مستقرة فهو في حكم الميت ألا ترى أن رجلا لو قطع حشوة آدمي ثم ضرب عنقه آخر فالأول هو القاتل لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان
إحداهما أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فان نقص من ذلك شيئا لم يؤكل هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله

والثانية يجزئ قطع الحلقوم والمريء وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين وقال مالك يجزئ قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الزجاج الحلقوم بعد الفم وهو موضع النفس وفيه شعب تتشعب منه في الرئة والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعهما الذابح
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج سوى

السن والظفر سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين فأما البعير إذا توحش أو تردى في بئر فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره وقال مالك ذكاته ذكاة المقدور عليه فان رمى صيدا فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكاه أو تركه حتى مات جاز أكله وفي أكل ما بان منه روايتان
قوله تعالى وما ذبح على النصب في النصب قولان
أحدهما أنها أصنام تنصب فتعبد من دون الله قاله ابن عباس والفراء والزجاج فعلى هذا القول يكون المعنى وما ذبح على اسم النصب وقيل لأجلها فتكون على بمعنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام كقوله فسلام لك الواقعة 91 أي عليك وقوله وإن أسأتم فلها الاسراء7

والثاني أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويعظمونها وهو قول ابن جريج وقرأ الحسن وخارجة عن أبي عمرو على النصب بفتح النون وسكون الصاد قال ابن قتيبة يقال نصب ونصب ونصب وجمعه أنصاب
قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام قال ابن جرير أي وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام وهو استفعلت من القسم قسم الرزق والحاجات قال ابن قتيبة الأزلام القداح واحدها زلم وزلم والاستقسام بها أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم فأحبوا أن يعرفوا قسم كل امرئ تعرفوا ذلك منها فأخذ الاستقسام من القسم وهو النصيب قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا إذا أرادوا غدوا أو رواحا كتبوا في قدحين في أحدهما أمرني ربي وفي الآخر نهاني ربي ثم يضربون بهما فأيهما خرج عملوا به وقال مجاهد الأزلام سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها وقال السدي كانت الأزلام تكون عند الكهنة وقال مقاتل في بيت الأصنام وقال قوم كانت عند سدنة الكعبة قال الزجاج ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين لا تخرج من أجل نجم كذا أو اخرج من أجل نجم كذا
قوله تعالى ذلكم فسق في المشار إليه بذلكم قولان
أحدهما أنه جميع ما ذكر في الآية رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير

والثاني أنه الاستقسام بالأزلام رواه أبو صالح عن ابن عباس والفسق الخروج عن طاعة الله إلى معصيته
قوله تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم في هذا اليوم ثلاثة أقوال
أحدها أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن السائب نزلت ذلك اليوم
والثاني أنه يوم عرفة قاله مجاهد وابن زيد
والثالث أنه لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئسوا كما تقول أنا اليوم قد كبرت قاله الزجاج قال ابن الأنباري العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي فيقولون قد كنت في غفلة فاليوم استيقظت يريدون فالآن ويقولون كان فلان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد قال الشاعر

فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر ...
أراد فزمان لنا وزمان علينا ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إليه غيره
وفي معنى يأسهم قولان
أحدهما أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين قاله ابن عباس والسدي
والثاني يئسوا من بطلان الإسلام قاله الزجاج قال ابن الأنباري وإنما يئسوا من إبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إليهم وأمنهم إلى المسلمين فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم ولا على استئصالهم وإنما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى
قوله تعالى فلا تخشوهم قال ابن جريج لا تخشوهم أن يظهروا عليكم وقال ابن السائب لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم واخشوني في مخالفة أمري
قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال وأي آية هي قال قوله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فقال عمر إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله والساعة

التي نزلت فيها والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة وفي لفظ نزلت عشية عرفة قال سعيد بن جبير عاش رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما
فأما قوله اليوم ففيه قولان
أحدهما أنه يوم عرفة وهو قول الجمهور
والثاني أنه ليس بيوم معين رواه عطية عن ابن عباس وقد ذكرنا هذا آنفا وفي معنى إكمال الدين خمسة أقوال
أحدها أنه إكمال فرائضه وحدوده ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم قاله ابن عباس والسدي فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم شرائع دينكم
والثاني أنه بنفي المشركين عن البيت فلم يحج معهم مشرك عامئذ قاله سعيد بن جبير وقتادة وقال الشعبي كمال الدين هاهنا عزه وظهوره وذل الشرك ودروسه لا تكامل الفرائض والسنن لأنها لن تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم نصر دينكم

والثالث أنه رفع النسخ عنه وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض روي عن ابن جبير أيضا
والرابع أنه زوال الخوف من العدو والظهور عليهم قاله الزجاج
والخامس أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها كما نسخ بها ما تقدمها وفي إتمام النعمة ثلاثة أقوال
أحدها منع المشركين من الحج معهم قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة
والثاني الهداية إلى الإيمان قاله ابن زيد
والثالث الإظهار على العدو قاله السدي
قوله تعالى فمن اضطر أي دعته الضرورة إلى أكل ما حرم عليه في مخمصة أي مجاعة والخمص الجوع قال الشاعر يذم رجلا ... يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما ...
وهذا الكلام يرجع إلى المحرمات المتقدمة من الميتة والدم وما ذكر معهما
قوله تعالى غير متجانف لإثم قال ابن قتيبة غير مائل إلى ذلك والجنف الميل وقال ابن عباس والحسن ومجاهد غير متعمد لإثم
وفي معنى تجانف لإثم قولان
أحدهما أن يتناول منه بعد زوال الضرورة روي عن ابن عباس في آخرين

والثاني أن يتعرض لمعصية في مقصده قاله قتادة وقال مجاهد من بغى وخرج في معصية حرم عليه أكله قال القاضي أبو يعلى وهذا أصح من القول الأول لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار وذلك إنما يصح في سفرالعاصي ولا يصح حمله على تناول الزيادة على سد الرمق لأن الاضطرار قد زال قال أبو سليمان ومعنى الآية فمن اضطر فأكله غير متجانف لإثم فان الله غفور أي متجاوز عنه رحيم إذ أحل ذلك للمضطر

يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب
قوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر بقتل الكلاب قال الناس يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت هذه الآية أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلى الله عليه و سلم

فأذن له فلم يدخل وقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فاذا في بعض بيوتهم جرو
والثاني أن عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله زيد الخير قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فمنه ما ندرك ذكاته ومنه مالا ندرك ذكاته وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير قال الزجاج ومعنى الكلام يسألونك أي شيء أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم لأن في الكلام دليلا عليه
وفي الطيبات قولان
أحدهما أنها المباح من الذبائح
والثاني أنها ما استطابه العرب مما لم يحرم فأما الجوارح فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والصقر والبازي ونحو ذلك مما يقبل التعليم قال ابن عباس كل شيء صاد فهو جارح

وفي تسميتها بالجوارح قولان
أحدهما لكسب أهلها بها قال ابن قتيبة أصل الاجتراح الاكتساب يقال امرأة لا جارح لها أي لا كاسب
والثاني لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ذكره الماوردي قال أبو سليمان الدمشقي وعلامة التعليم أنك إذا دعوته أجاب وإذا أسدته استأسد ومضى في طلبه وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه وعلامة إمساكه عليك أن لا يأكل منه شيئا هذا في السباع والكلاب فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع لأن الطائر إنما يعلم الصيد بالأكل والفهد والكلب وما أشبههما يعلمون بترك الأكل فهذا فرق ما بينهما
وفي قوله مكلبين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أصحاب الكلاب رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والسدي والفراء والزجاج وابن قتيبة قال الزجاج يقال رجل مكلب وكلابي أي صاحب صيد بالكلاب
والثاني أن معنى مكلبين مصرين على الصيد وهذا مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد
والثالث ان مكلبين بمعنى معلمين قال أبو سليمان الدمشقي وإنما قيل لهم مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب قال ثعلب وقرأ الحسن وأبو رزين مكلبين بسكون الكاف يقال أكلب الرجل إذا كثرت كلابه وأمشى إذا كثرت ماشيته والعرب تدعو الصائد مكلبا
قوله تعالى تعلمونهن مما علمكم الله قال سعيد بن جبير تؤدبونهن لطلب

الصيد وقال الفراء تؤدبونهن أن لا يأكلن صيدهن واختلفوا هل إمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا على ثلاثة أقوال
أحدها أنه شرط في كل الجوارح فان أكلت لم يؤكل روي عن ابن عباس وعطاء
والثاني أنه ليس بشرط في الكل ويؤكل وإن أكلت روي عن سعد ابن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وسلمان الفارسي
والثالث أنه شرط في جوارح البهائم وليس بشرط في جوارح الطير وبه قال الشعبي والنخعي والسدي وهو أصح لما بينا أن جارح الطير يعلم على الأكل فأبيح ما أكل منه وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل فأبيح ما أكلت منه
فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصيد لم يبح أكله فأما ما أكل منه الصقر والبازي فمباح وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك يباح أكل ما أكل منه الكلب والفهد والصقر فان قتل الكلب ولم يأكل أبيح
وقال أبو حنيفة لا يباح فان أدرك الصيد وفيه حياة فمات قبل أن يذكيه فان كل ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح وإن أمكنه فلم يذكه لم يبح وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يباح في الموضعين
فأما الصيد بكلب المجوسي فروي عن أحمد أنه لا يكره وهو قول الأكثرين وروي عنه الكراهة وهو قول الثوري لقوله تعالى وما علمتم من الجوارح وهذا خطاب للمؤمنين قال القاضي أبو يعلى ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود وإن كان معلما لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتله والأمر بالقتل يمنع ثبوت اليد ويبطل حكم الفعل فيصير وجوده كالعدم فلا يباح صيده

قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم قال الأخفش من زائدة كقوله فيها من برد النور43
قوله تعالى واذكروا اسم الله عليه في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الإرسال قاله ابن عباس والسدي وعندنا أن التسمية شرط في إباحة الصيد
والثاني ترجع إلى الأكل فتكون التسمية مستحبة
قوله تعالى واتقوا الله قال سعيد بن جبير لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

قوله تعالى اليوم أحل لكم الطيبات قال القاضي أبو يعلى يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم وفي قوله اليوم أكملت لكم دينكم وقيل ليس بيوم معين وقد سبق الكلام في الطيبات وإنما كرر إحلالها تأكيدا فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى وطعامهم ذبائحهم هذا قول ابن عباس والجماعة وإنما أريد بها الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي وإنما الذكاة تختلف فلما خص أهل الكتاب بذلك دل على أن المراد الذبائح فأما ذبائح المجوس فأجمعوا على تحريمها واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها وتلا قوله ومن يتولهم منكم فانه منهم المائدة 51 وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وقد روي عن علي وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين
إحداهما تباح ذبائحهم وهو قول أبي حنيفة ومالك
والثانية لا تباح وقال الشافعي من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن لم يبح أكل ذبيحته

قوله تعالى وطعامكم حل لهم أي وذبائحكم لهم حلال فاذا اشتروا منا شيئا كان الثمن لنا حلالا واللحم لهم حلالا قال الزجاج والمعنى أحل لكم أن تطعموهم
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله عليها فكان هذا ناسخا لقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الأنعام 121 والصحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيحمل أمرهم على ذلك فان تيقنا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ وإلى هذا الذي قلته ذهب علي وابن عمر وعبادة وأبو الدرداء والحسن في جماعة
قوله تعالى والمحصنات من المؤمنات فيهن قولان
أحدهما العفائف قاله ابن عباس والثاني الحرائر قاله مجاهد
وفي قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان
أحدهما الحرائر أيضا قاله ابن عباس
والثاني العفائف قاله الحسن والشعبي والنخعي والضحاك والسدي فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرة منهن والأمة
فصل
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وعن طلحة بن عبيد الله أنه تزوج

يهودية وقد روي عن عمر وابن عمر كراهة ذلك واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية فقال ابن عباس لا تحل والجمهور على خلافه وإنما كرهوا ذلك لقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله المجادلة 22 والنكاح يوجب الود واختلفوا في نكاح نساء تغلب فروي عن علي رضي الله عنه الحظر وبه قال جابر بن زيد والنخعي وروي عن ابن عباس الاباحة وعن أحمد روايتان واختلفوا في إماء أهل الكتاب فروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد أنه لا يجوز نكاحهن وبه قال الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأصحابنا وروي عن الشعبي وأبي ميسرة جواز ذلك وبه قال أبو حنيفة فأما المجوس فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب وقد شذ من قال إنهم أهل كتاب ويبطل قولهم قوله عليه السلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأما الأجور والإحصان والسفاح والأخدان فقد سبق في سورة النساء
قوله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سبب نزول هذا الكلام أن الله تعالى لما رخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن لولا أن الله تعالى قد رضي علينا لم يبح للمؤمنين تزويجنا وقال المسلمون كيف يتزوج الرجل منا الكتابية وليست على ديننا فنزلت ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل بن حيان نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر وروى ليث عن مجاهد ومن يكفر بالإيمان قال الإيمان بالله تعالى قال الزجاج

معنى الآية من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحله الله فهو كافر وقال أبو سليمان من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان وعرفه من الحلال والحرام فقد حبط عمله المتقدم وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول إنما أباح الله عز و جل الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبهن حسنهن فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون
قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة قال الزجاج المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله النحل 98 قال ابن الأنباري وهذا كما تقول إذا آخيت فآخ أهل الحسب وإذا اتجرت فاتجر في البز قال ويجوز أن يكون الكلام مقدما ومؤخرا تقديره إذا غسلتم وجوهكم واستوفيتم الطهور فقوموا إلى الصلاة وللعلماء في المراد بالآية قولان
أحدهما إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وابن عباس والفقهاء

والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث وهذا مروي عن علي رضي الله عنه وعكرمة وابن سيرين ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا ثم نسخ بالسنة وهو ما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد فقال له عمر لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته يا عمر وقال قوم في الآية

تقديم وتأخير ومعناها إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم
قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق إلى حرف موضوع للغاية وقد تدخل الغاية فيها تارة وقد لا تدخل فلما كان الحدث يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو غسل المرفقين فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه وهو قول مالك وروي عنه يجب مسح أكثره وروي عن أبي حنيفة روايتان
إحداهما أنه يتقدر بربع الرأس والثانية بمقدار ثلاث أصابع

قوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر اللام عطفا على مسح الرأس وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب بفتح اللام عطفا على الغسل فيكون من المقدم والمؤخر قال الزجاج الرجل من أصل الفخذ إلى القدم فلما حد الكعبين علم أن الغسل ينتهي إليهما ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين كما جاء في تحديد اليد إلى المرافق ولم يجئ في شيء من المسح تحديد ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل فينسق بالغسل على المسح قال الشاعر ... يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا ...
والمعنى وحاملا رمحا وقال الآخر ... علفتها تبنا وماء باردا ...
والمعنى وسقيتها ماء باردا وقال أبو الحسن الأخفش يجوز الجر على الإتباع والمعنى الغسل

نحو قولهم جحر ضب خرب وقال ابن الأنباري لما تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم جحر ضب خرب ويجوز أن تكون منسوقة عليها لأن العرب تسمي الغسل مسحا لأن الغسل لا يكون إلا بمسح وقال أبو علي من جر فحجته أنه وجد في الكلام عاملين أحدهما الغسل والآخر الباء الجارة ووجه العاملين إذا اجتمعا أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد وهو الباء هاهنا وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح الغسل من وجهين
أحدهما أن أبا زيد قال المسح الخفيف الغسل قالوا تمسحت للصلاة وقال أبو عبيدة فطفق مسحا بالسوق أي ضربا فكأن المسح بالآية غسل خفيف فان قيل فالمستحب التكرار ثلاثا قيل إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون
والوجه الثاني أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول دون الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد وحجة من نصب أنه حمل ذلك على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل

قوله تعالى إلى الكعبين إلى بمعنى مع والكعبان العظمان الناتئان من جانبي القدم

قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أي فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد واجتلبت الهمزة توصلا إلى النطق بالساكن وقد بين الله عز و جل طهارة الجنب في سورة النساء بقوله حتى تغتسلوا النساء 43 وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج والحرج الضيق فجعل الله الدين واسعا حين رخص في التيمم
قوله تعالى ولكن يريد ليطهركم أي يريد أن يطهركم قال مقاتل من الأحداث والجنابة وقال غيره من الذنوب والخطايا لأن الوضوء يكفر الذنوب
قوله تعالى وليتم نعمته عليكم في الذي يتم به النعمة أربعة أقوال
أحدها بغفران الذنوب قال محمد بن كعب القرظي حدثني عبد الله بن دارة عن حمران قال مررت على عثمان بفخارة من ماء فدعا بها فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قال لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى قال محمد بن كعب وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن فالتمست هذا فوجدته

في قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك الفتح 1 2 فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه ثم قرأت الآية التي في المائدة إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله وليتم نعمته عليكم فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم
والثاني بالهداية إلى الإيمان وإكمال الدين وهذا قول ابن زيد

والثالث بالرخصة في التيمم قاله مقاتل وأبو سليمان
والرابع ببيان الشرائع ذكره بعض المفسرين واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذا قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور
قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم يعني النعم كلها وفي هذا حث على الشكر وفي الميثاق أربعة أقوال
أحدها أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به قال ابن عباس لما أنزل الله الكتاب وبعث الرسول فقالوا آمنا ذكرهم ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء
والثاني أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد وابن زيد
والثالث أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقروا به من الإيمان روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة وبيعة الرضوان ذكره بعض المفسرين

قوله تعالى واتقوا الله قال مقاتل اتقوه في نقض الميثاق إن الله عليم بذات الصدور أي بما فيها من إيمان وشك يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا وقد تقدم ذكرهم في قوله ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام روى نحو هذا أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل
والثاني أن قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلع الله نبيه على ذلك ونزلت هذه الآية والتي بعدها هذا قول الحسن
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وقتادة ومعنى الآية كونوا قوامين لله بالحق ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل اعدلوا في الولي والعدو هو أقرب للتقوى أي إلى التقوى والمعنى أقرب إلى أن تكونوا متقين وقيل هو أقرب إلى اتقاء النار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة في معناها قولان
أحدهما أن المعنى وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى
والثاني أن المعنى وعدهم فقال لهم مغفرة وقد بينا في البقرة معنى الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمن
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن رجلا من محارب قال لقومه الا أقتل لكم محمدا فقالوا وكيف تقتله فقال أفتك به فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وسيفه في حجره فأخذه وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله ثم قال يا محمد ما تخافني قال لا قال لا تخافني وفي يدي السيف قال يمنعني الله منك فأغمد السيف فنزلت هذه الآية رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله وفي بعض الألفاظ فسقط السيف من يده وفي لفظ آخر فما قال له النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ولا عاقبه واسم هذا الرجل غورث بن الحارث من محارب خصفة
والثاني أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم فكفاه الله شرهم

قال ابن عباس صنعوا له طعاما فأوحي أليه بشأنهم فلم يأت وقال مجاهد وعكرمة خرج إليهم يستعينهم في دية فقالوا اجلس حتى نعطيك فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فقال عمرو بن جحاش أنا فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده وجاء جبريل فأخبره وخرج ونزلت هذه الآية
والثالث أن بني ثعلبة وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وأصحابه وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلى الله عليه و سلم السابعة فقالوا إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فاذا سجدوا وقعنا بهم فأطلع الله نبيه على ذلك

وأنزل صلاة الخوف ونزلت هذه الآية هذا قول قتادة
والرابع أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا قول ابن زيد ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل
قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل قال أبو العالية أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة ولا يعبدوا غيره وقال مقاتل أن يعملوا بما في التوراة وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الضمين قاله الحسن ومعناه أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده ولا يجوز أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء لأن ذلك لا يصح ضمانه وقال ابن قتيبة هو الكفيل على القوم والنقابة شبيهة بالعرافة
والثاني أنه الشاهد قاله قتادة وقال ابن فارس النقيب شاهد القوم وضمينهم

والثالث الأمين قاله الربيع بن أنس واليزيدي وهذه الأقوال تتقارب قال الزجاج النقيب في اللغة كالأمين والكفيل يقال نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا عليهم وصناعته النقابة وكذلك عرف عليهم إذا صار عريفا ويقال لأول ما يبدو من الجرب النقبة ويجمع النقب والنقب قال الشاعر ... متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب ...
ويقال في فلان مناقب جميلة وكل الباب معناه التأثير الذي له عمق ودخول ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره والنقبة من الجرب داء شديد الدخول وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسيرإلى الأرض المقدسة وكان يسكنها الجبارون فقال تعالى يا موسى اخرج إليها

وجاهد من فيها من العدو وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به فاختاروا النقباء
وفيما بعثوا له قولان
أحدهما أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس ليأتوه بخبر الجبارين قاله ابن عباس ومجاهد والسدي
والثاني أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم قاله الحسن وابن إسحاق وفي نبوتهم قولان أصحهما أنهم ليسوا بأنبياء
قوله تعالى وقال الله في الكلام محذوف تقديره وقال الله لهم
وفي المقول لهم قولان
أحدهما أنهم بنو إسرائيل قاله الجمهور
والثاني أنهم النقباء قاله الربيع ومقاتل ومعنى إني معكم أي بالعون والنصرة وفي معنى وعززتموهم قولان
أحدهما أنه الإعانة والنصر قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي
والثاني أنه التعظيم والتوقير قاله عطاء واليزيدي وأبو عبيدة وابن قتيبة
قوله تعالى وأقرضتم الله قرضا حسنا في هذا الاقراض قولان
أحدهما أنه الزكاة الواجبة والثاني صدقة التطوع وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن
قوله تعالى فمن كفر بعد ذلك منكم يشير إلى الميثاق فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ قصد الطريق

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
قوله تعالى فبما نقضهم في الكلام محذوف تقديره فنقضوا فبنقضهم لعناهم وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال
أحدها أنها التعذيب بالجزية قاله ابن عباس والثاني التعذيب بالمسخ قاله الحسن ومقاتل والثالث الإبعاد من الرحمة قاله عطاء والزجاج
قوله تعالى وجعلنا قلوبهم قاسية قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر قاسية بالألف يقال قست فيه قاسية وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم قسية بغير ألف مع تشديد الياء لأنه قد يجيء فاعل وفعيل مثل شاهد وشهيد وعالم وعليم والقسوة خلاف اللين والرقة وقد ذكرنا هذا في البقرة وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال
أحدها تغيير حدود التوراة قاله ابن عباس والثاني تغيير صفة محمد صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل والثالث تفسيره على غير ما أنزل قاله الزجاج
قوله تعالى عن مواضعه مبين في سورة النساء
قوله تعالى ونسوا حظا مما ذكروا به النسيان هاهنا الترك عن عمد والحظ النصيب قال مجاهد نسوا كتاب الله الذي أنزل عليهم وقال غيره تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم وفي معنى ذكروا به قولان
أحدهما أمروا والثاني أوصوا

قوله تعالى ولا تزال تطلع على خائنة منهم وقرأ الأعمش على خيانة منهم قال ابن قتيبة الخائنة الخيانة ويجوز أن تكون صفة للخائن كما يقال رجل طاغية وراوية للحديث قال ابن عباس وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل مكة للتحريض على رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا قليلا منهم لم ينقضوا العهد وهم عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل بل القليل ممن لم يؤمن
قوله تعالى فاعف عنهم واصفح واختلفوا في نسخها على قولين
أحدهما أنها منسوخة قاله الجمهور واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال
أحدها أنها آية السيف والثاني قوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله التوبة 29 والثالث قوله وإما تخافن من قوم خيانة الأنفال 58
والثاني أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد فغدروا وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه و سلم فأظهره الله عليهم ثم أنزل الله هذه الآية ولم تنسخ
قال ابن جرير يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار فلا يتوجه النسخ

ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيمة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم قال الحسن إنما قال قالوا إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة وهم الذين اتبعوا المسيح وقال قتادة كانوا بقرية يقال لها ناصرة فسموا بهذا الاسم قال مقاتل أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد فتركوا ما أمروا به
قوله تعالى فأغرينا بينهم قال النضر هيجنا وقال المؤرج حرشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج ألصقنا بهم ذلك يقال غريت بالرجل غرى مقصورا إذا لصقت به هذا قول الأصمعي وقال غير الأصمعي غريت به غراء ممدود وهذا الغراء الذي يغرى به إنما يلصق به الأشياء ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء أنهم صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان
أحدهما أنها ترجع إلى اليهود والنصارى قاله مجاهد وقتادة والسدي
والثاني أنها ترجع إلى النصارى خاصة قاله الربيع وقال الزجاج هم النصارى منهم النسطورية واليعقوبية والملكية وكل فرقة منهم تعادي الأخرى وفي تمام الآية وعيد شديد لهم

يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
قوله تعالى يا أهل الكتاب فيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود والثاني اليهود والنصارى والرسول محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب قال ابن عباس أخفوا آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه و سلم وصفته ويعفو عن كثير يتجاوز فلا يخبرهم بكتمانه فان قيل كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه فعنه جوابان
أحدهما أنه كان متلقيا ما يؤمر به فاذا أمر باظهار شيء من أمرهم أظهره وأخذهم به وإلا سكت
والثاني أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم فلما كتموا كثيرا مما أمروا به واتخذوا غيره دينا أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته لتتحقق معجزته عندهم واحتكموا إليه في الرجم فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم
قوله تعالى قد جاءكم من الله نور قال قتادة يعني بالنور النبي محمد صلى الله عليه و سلم
وقال غيره هو الإسلام فأما الكتاب المبين فهو القرآن يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم

قوله تعالى يهدي به الله يعني بالكتاب ورضوانه ما رضيه الله تعالى
والسبل جمع سبيل قال ابن عباس سبل السلام دين الاسلام وقال السدي السلام هو الله وسبله دينه الذي شرعه قال الزجاج وجائز أن يكون سبل السلام طريق السلامة التي من سلكها سلم في دينه وجائز أن يكون السلام اسم الله عز و جل فيكون المعنى طرق الله عز و جل
قوله تعالى ويخرجهم من الظلمات قال ابن عباس يعني الكفر إلى النور يعني الإيمان باذنه أي بأمره ويهديهم إلى صراط مستقيم وهو الاسلام وقال الحسن طريق الحق لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قال ابن عباس هؤلاء نصارى أهل نجران وذلك أنهم اتخذوه إلها قل فمن يملك من الله شيئا أي فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم أي فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه باهلاكه أو إهلاك أمه ولما نزل أمر الله بأمه لم يقدر أن يدفع عنها وفي قوله يخلق ما يشاء رد عليهم حيث قالوا للنبي فهات مثله من غير أب
فان قيل فلم قال ولله ملك السموات والأرض وما بينهما ولم يقل وما بينهن فالجواب أن المعنى وما بين هذين النوعين من الأشياء قاله ابن جرير

وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير
قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى قال مقاتل هم يهود المدينة ونصارى نجران وقال السدي قالوا إن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل إن ولدك بكري من الولد فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله كان معنى قولهم نحن أبناء الله أي منا ابن الله وفي قوله قل فلم يعذبكم بذنوبكم إبطال لدعواهم لأن الأب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه وهم يقولون إن الله يعذبنا أربعين يوما بالنار

وقيل معنى الكلام فلم عذب منكم من مسخه قردة وخنازير وهم أصحاب السبت والمائدة
قوله تعالى بل أنتم بشر ممن خلق أي أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة قال عطاء يغفر لمن يشاء وهم الموحدون ويعذب من يشاء وهم المشركون يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جآءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا سبب نزولها أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا يا معشر اليهود اتقوا الله والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته
فقال وهب بن يهوذا ورافع ما قلنا هذا لكم وما أنزل الله بعد موسى من كتاب ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا بعده فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
فأما الفترة فأصلها السكون يقال فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حدته وانقطع عما كان عليه والطرف الفاتر الذي ليس بحديد والفتور الضعف وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال

أحدها أنه كان بين عيسى ومحمد عليهم السلام ستمائة سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سلمان الفارسي ومقاتل
والثاني خمسمائة سنة وستون سنة قاله قتادة
والثالث أربع مائة وبضع وثلاثون سنة قاله الضحاك
والرابع خمسمائة سنة وأربعون سنة قاله ابن السائب وقال أبو صالح عن ابن عباس على فترة من الرسل أي انقطاع منهم قال وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه و سلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة وهي فترة وكان بعد عيسى أربعة من الرسل فذلك قوله إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث يس 14 قال والرابع لا أدري من هو وكان بين تلك السنين مائة سنة وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة قال أبو سليمان الدمشقي والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم نبي ضيعه قومه

قوله تعالى أن تقولوا قال الفراء كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير مثل قوله يبين الله لكم أن تضلوا النساء 176 وقال غيره لئلا تقولوا وقيل كراهة أن تقولوا وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
قوله تعالى إذ جعل فيكم أنبياء فيهم قولان
أحدهما أنهم السبعون الذين اختارهم موسى وانطلقوا معه إلى الجبل جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون وهذا قول ابن السائب ومقاتل
والثاني أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى ذكره الماوردي وبماذا جعلهم ملوكا فيه ثمانية أقوال
أحدها بالمن والسلوى والحجر والثاني بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما والثالث بالزوجة والخادم والبيت رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس وهذا الثالث اختيار الحسن ومجاهد والرابع بالخادم والبيت قاله عكرمة والخامس بتمليكهم الخدم وكانوا أول من تملك الخدم ومن اتخذ

خادما فهو ملك قاله قتادة والسادس بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله قاله السدي والسابع بالمنازل الواسعة فيها المياه الجارية قاله الضحاك والثامن بأن جعل لهم الملك والسلطان ذكره الماوردي
قوله تعالى وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين
أحدهما أنهم قوم موسى وهذا مذهب ابن عباس ومجاهد قال ابن عباس ويعني بالعالمين الذين هم بين ظهرانيهم وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال
أحدها المن والسلوى والحجر والغمام رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به
والثاني أنه الدار والخادم والزوجة رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن جرير ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا
والثالث كثرة الأنبياء فيهم ذكره الماوردي
والثاني أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين

قوله تعالى يا قوم ادخلوا وقرأ ابن محيصن يا قوم بضم الميم وكذلك يا قوم اذكروا نعمة يا قوم اعبدوا الأعراف 59 وفي معنى المقدسة قولان
أحدهما المطهرة قاله ابن عباس والزجاج قال وقيل للسطل القدس لأنه يتطهر منه وسمي بيت المقدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب وقيل سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين
والثاني أن المقدسة المباركة قاله مجاهد
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال
أحدها أنها أريحا رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال السدي وابن زيد قال السدي أريحا هي أرض بيت المقدس وروي عن الضحاك أنه قال المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس قال ابن قتيبة وقرأت في مناجاة موسى أنه قال اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ومن الطير الحمامة ومن البيوت بكة وإيلياء ومن إيلياء بيت المقدس فهذا يدل على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إيلياء بيت المقدس وهو معرب قال الفرزدق ... وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرف ...
والقول الثاني أنها الطور وما حوله رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به
والثالث أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أنها الشام كلها قاله قتادة

وفي قوله تعالى التي كتب الله لكم ثلاثة أقوال
أحدها أنه بمعنى أمركم وفرض عليكم دخولها قاله ابن عباس والسدي
والثاني أنه بمعنى وهبها الله لكم قاله محمد بن إسحاق وقال ابن قتيبة جعلها لكم
والثالث كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم
فان قيل كيف قال فانها محرمة عليهم وقد كتبها لهم فعنه جوابان
أحدهما أنه إنما جعلها لهم بشرط الطاعة فلما عصوا حرمها عليهم
والثاني أنه كتبها لبني إسرائيل وإليهم صارت ولم يعن موسى أن الله كتبها للذين أمروا بدخولها بأعيانهم قال ابن جرير ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم وأريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم وقد دخلها يوشع وكالب
قوله تعالى ولا ترتدوا على أدباركم فيه قولان
أحدهما لا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته والثاني لا ترجعوا إلى الشرك به قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون
قوله تعالى إن فيها قوما جبارين قال الزجاج الجبار من الآدميين الذي يجبر الناس على ما يريد يقال جبار بين الجبرية والجبرية بكسر الجيم والباء والجبروة والجبورة والتجبار والجبروت
وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم كانوا ذوي قوة قاله ابن عباس والثاني أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام قاله قتادة والثالث أنهم كانوا قتالين قاله مقاتل

الإشارة إلى القصة
قال ابن عباس لم نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين بعث اثني عشر رجلا ليأتوه بخبرهم فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كسائه فأتى بهم المدينة ونادى في قومه فاجتمعوا فقالوا لهم من أين أنتم فقالوا نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم فأعطوهم حبة من عنب توقر الرجل وقالوا لهم قولوا لموسى وقومه اقدروا قدر فاكههم فلما رجعوا قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وقال السدي كان الذي لقيهم يقال له عاج يعني عوج بن عناق فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته فقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال ألا أطحنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا فلما خرجوا قالوا يا قوم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك فنكث عشرة وكتم رجلان وقال مجاهد لما رأى النقباء الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أو أربعة فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع وابن يوقنا

قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون في الرجلين ثلاثة أقوال
أحدها أنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنة قاله ابن عباس وقال مجاهد ابن يوقنا وهما من النقباء
والثاني أنهما كانا من الجبارين فأسلما روي عن ابن عباس
والثالث أنهما كانا في مدينة الجبارين وهما على دين موسى قاله الضحاك وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو رجاء وأيوب يخافون بضم الياء على معنى أنهما كانا من العدو فخرجا مؤمنين وفي معنى خوفهم خوفهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم خافوا الله وحده والثاني خافوا الجبارين ولم يمنعهم خوفهم قول الحق والثالث يخاف منهم على قراءة ابن جبير
وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال
أحدها الإسلام قاله ابن عباس والثاني الصلاح والفضل واليقين قاله عطاء والثالث الهدى قاله الضحاك والرابع الخوف ذكره ابن جرير عن بعض السلف
قوله تعالى ادخلوا عليهم الباب قال ابن عباس قال الرجلان ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد ملئوا منا رعبا وفرقا

قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
قوله تعالى فاذهب أنت وروبك فقاتلا قال ابن زيد قالوا له انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه فليصنع بهؤلاء وقال مقاتل فاذهب أنت وسل ربك النصر وقال غيرهما إذهب أنت وليعنك ربك قال ابن مسعود لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يدعو على المشركين فقال لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أشرق لذلك وجهه وسر به وقال أنس استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس يوم خرج إلى بدر فأشار عليه أبو بكر ثم استشارهم فأشار عليه عمر فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم فقالوا يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك

قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين
قوله تعالى لا أملك إلا نفسي وأخي فيه قولان
أحدهما لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه
والثاني لا أملك إلا نفسي وإلا أخي أي وأملك طاعة أخي لأن أخاه إذا أطاعه فهو كالملك له وهذا على وجه المجاز كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي
قوله تعالى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس اقض بيننا وبينهم وقال أبو عبيدة باعد وافصل وميز وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال

أحدها العاصون قاله ابن عباس والثاني الكاذبون قاله ابن زيد
والثالث الكافرون قاله أبو عبيدة قال السدي غضب موسى حين قالوا له اذهب أنت وربك فدعا عليهم وكانت عجلة من موسى عجلها قال فانها محرمة عليهم أربعة سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
قوله تعالى فانها محرمة عليهم الإشارة إلى الأرض المقدسة ومعنى تحريمها عليهم منعهم منها فأما نصب الأربعين فقال الفراء هو منصوب بالتحريم وجائز أن يكون منصوبا ب يتيهون وقال الزجاج لا يجوز أن ينتصب بالتحريم لأن التفسير جاء أنها محرمة عليهم أبدا قلت وقد اختلف المفسرون في ذلك فذهب الأكثرون منهم عكرمة وقتادة إلى ما قال الزجاج وأنها حرمت عليهم أبدا قال عكرمة فانها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة وذهب قوم منهم البيع بن أنس إلى أنها حرمت عليهم أربعين سنة ثم أمروا بالسير إليها وهذا اختيار ابن جرير قال إنما نصبت بالتحريم والتحريم كان عاما في حق الكل ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد فلما انقضت أذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم قال أبو عبيدة ومعنى يتيهون يحورون ويضلون

الإشارة إلى قصتهم
قال ابن عباس حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فلبثوا في تيههم أربعين سنة وماتوا في التيه ومات موسى وهارون ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء القوم وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها وقال مجاهد تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وقال السدي لما ضرب الله عليهم التيه ندم موسى على دعائه عليهم وقالوا له ما صنعت بنا أين الطعام فأنزل الله المن قالوا فأين الشراب فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر قالوا فأين الظل فظلل عليهم الغمام قالوا فأين اللباس وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب وقبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إلا مات ولم يشهد الفتح وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه وقال لهم ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة إلى آخر القصة وهذا قول الربيع بن أنس وعبدالرحمن ابن زيد قال ابن ابن جرير الطبري وأبو سليمان الدمشقي وهذا الصحيح وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج وكان عوج ملكهم وكان بلعم ابن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب وإنما حرمت على الذين لم يطيعوا وفي مسافة أرض التيه قولان
أحدهما تسعة فراسخ قاله ابن عباس قال مقاتل هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخا والثاني ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا حكاه مقاتل أيضا

قوله تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين قال الزجاج لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل وقال ابن قتيبة يقال أسيت على كذا أي حزنت فأنا آسي أسى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين
قوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق النبأ الخبر وفي ابني آدم قولان
أحدهما أنهما ابناه لصلبه وهما قابيل وهابيل قاله ابن عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أنها أخوان من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه هذا قول الحسن والعلماء على الأول وهو أصح لقوله ليريه كيف يواري سوأة أخيه المائدة 31 ولو كان من بني إسرائيل لكان قد عرف الدفن ولأن

النبي صلى الله عليه و سلم قال عنه إنه أول من سن القتل وقوله تعالى بالحق أي كما كان والقربان فعلان من القرب وقد ذكرناه في آل عمران
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان
أحدهما أن آدم عليه السلام كان قد نهي أن ينكح المرأة التي أخاها الذي هو توأمها وأجيز له أن ينكحها غيره من إخوتها وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فولدت له ابنة وسيمة وأخرى دميمة فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة أنكحني أختك وأنكحك أختى فقال أخو الوسيمة أنا أحق بأختي وكان أخو الوسيمة صاحب حرث وأخو الدميمة صاحب غنم فقال هلم فلنقرب قربانا فأينا تقبل قربانه فهو أحق بها فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن وجاء صاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل الكبش فخزنه الله في الجنة أربعين خريفا فهو الذي ذبحه إبراهيم فقتله صاحب الحرث

فولد آدم كلهم من ذلك الكافر رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنهما قرباه من غير سبب روى العوفي عن ابن عباس أن ابني آدم كانا قاعدين يوما فقالا لو قربنا قربانا فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها وجاء الآخر ببعض زرعه فنزلت النار فأكلت الشاة وتركت الزرع فقال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تقبل وأنك خير مني لأقتلنك واختلفوا هل قابيل وأخته ولدا قبل هابيل وأخته أم بعدهما على قولين وهل كان قابيل كافرا أو فاسقا غير كافر فيه قولان
وفي سبب قبول قربان هابيل قولان
أحدهما أنه كان أتقى لله من قابيل والثاني أنه تقرب بخيار ماله وتقرب قابيل بشر ماله وهل كان قربانهما بأمر آدم أم من قبل أنفسهما فيه قولان
أحدهما أنه كان وآدم قد ذهب إلى زيارة البيت والثاني أن آدم أمرهما بذلك وهل قتل هابيل بعد تزويج أخت قابيل أم لا فيه قولان
أحدهما أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إليها والثاني أنه قتله بعد نكاحها
قوله تعالى قال لأقتلنك وروى زيد عن يعقوب لأقتلنك بسكون النون وتخفيفها والقائل هو الذي لم يتقبل منه قال الفراء إنما حذف ذكره

لأن المعنى يدل عليه ومثل ذلك في الكلام أن تقول إذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت وإذا اجتمع السفيه والحليم حمد وإنما كان ذلك لأن المعنى لا يشكل فلو قلت مر بي رجل وامرأة فأعنت وأنت تريد أحدهما لم يجز لأنه ليس هناك علامة تدل على مرادك وفي المراد بالمتقين قولان
أحدهما أنهم الذين يتقون المعاصي قاله ابن عباس
والثاني أنهم الذين يتقون الشرك قاله الضحاك
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين
قوله تعالى ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك فيه قولان
أحدهما ما أنا بمنتصر لنفسي قاله ابن عباس والثاني ما كنت لأبتدئك قاله عكرمة وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان
أحدهما أنه منعه التحرج مع قدرته على الدفع وجوازه له قاله ابن عمر وابن عباس

والثاني أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا قاله الحسن ومجاهد وقال ابن جرير ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله ثم ترك الدفع عن نفسه وقد ذكر أنه قتله غيلة فلا يدعى ما ليس في الآية إلا بدليل إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاؤا الظالمين
قوله تعالى إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فيه قولان
أحدهما إني أريد أن ترجع باثم قتلي وإثمك الذي في عنقك هذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك
والثاني أن تبوء باثمي في خطاياي وإثمك في قتلك لي وهو مروي عن مجاهد أيضا قال ابن جرير والصحيح عن مجاهد القول الأول وقد روى

البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل فان قيل كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإثم وهو معصية والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه ما أراد لأخيه الخطيئة وإنما أراد إن قتلتني أردت أن تبوء بالإثم وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج
والثاني أن في الكلام محذوفا تقديره إني أريد أن لا تبوء باثمي وإثمك فحذف لا كقوله وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم لقمان 10 أي أن لا تميد بكم ومنه قول امرئ القيس ... فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ...
أراد لا أبرح وهذا مذهب ثعلب

والثالث أن المعنى أريد زوال أن تبوء باثمي وإثمك وبطلان أن تبوء باثمي وإثمك فحذف ذلك وقامت أن مقامه كقوله وأشربوا في قلوبهم العجل البقرة 93 أي حب العجل ذكره والذي قبله ابن الأنباري
قوله تعالى وذلك جزاء الظالمين الإشارة إلى مصاحبة النار فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين
قوله تعالى فطوعت له نفسه فيه خمسة أقوال
أحدها تابعته على قتل أخيه قاله ابن عباس والثاني شجعته قاله مجاهد والثالث زينت له قاله قتادة والرابع رخصت له قاله أبو الحسن الأخفش والخامس أن طوعت فعلت من الطوع والعرب تقول طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر وطاع له كذا أي أتاه طوعا حكاه الزجاج عن المبرد وقال ابن قتيبة شايعته وانقادت له يقال لساني لا يطوع بكذا أي لا ينقاد وهذه المعاني تتقارب
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال
أحدها أنه رماه بالحجارة حتى قتله رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني ضرب رأسه بصخرة وهو نائم رواه مجاهد عن ابن عباس والسدي عن أشياخه
والثالث رضخ رأسه بين حجرين قال ابن جريج لم يدر كيف يقتله

فتمثل له إبليس وأخذ طائرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخه بحجر آخر ففعل به هكذا وكان لهابيل يومئذ عشرون سنة وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال
أحدها على جبل ثور قاله ابن عباس والثاني بالبصرة قاله جعفر الصادق والثالث عند عقبة حراء حكاه ابن جرير الطبري
و في قوله فأصبح من الخاسرين ثلاثة أقوال
أحدها من الخاسرين الدنيا والآخرة فخسرانه الدنيا أنه أسخط والديه وبقي بلا أخ وخسرانه الآخرة أنه أسخط ربه وصار إلى النار قاله ابن عباس والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات قال الزجاج
والثالث مني الخاسرين أنفسهم باهلاكهم إياها قاله القاضي أبو يعلى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين
قوله تعالى فبعث الله غرابا يبحث قال ابن عباس حمله على عاتقه فكان إذا مشى تخط يداه ورجلاه في الأرض وإذا قعد وضعه إلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا فقتل أحدهم الآخر ثم بحث له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين وقال مجاهد حمله على عاتقه مائة سنة وقال عطية حمله حتى أروح وقال مقاتل حمله ثلاثة أيام وفي المراد بسوأة أخيه قولان
أحدهما عورة أخيه والثاني جيفة أخيه

قوله تعالى فأصبح من النادمين قان قيل أليس الندم توبة فلم لم يقبل منه فعنه أربعة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدمنا ويكون توبة لهذه الأمة لأنها خصت بخصائص لم تشارك فيها قاله الحسن بن الفضل
والثاني أنه ندم على حمله لا على قتله والثالث أنه ندم إذ لم يواره حين قتله والرابع أنه ندم على فوات أخيه لا على ركوب الذنب وفي هذه القصة تحذير من الحسد لأنه الذي أهلك قابيل من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون
قوله تعالى من أجل ذلك قال الضحاك من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما وقال أبو عبيدة من جناية ذلك ومن جري ذلك قال الشاعر

وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله ...
أي جانيه وجار ذلك عليهم وقال قوم الكلام متعلق بما قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك فعلى هذا يحسن الوقف هاهنا وعلى الأول لا يحسن الوقف والأول أصح و كتبنا بمعنى فرضنا ومعنى قتل نفسا بغير نفس أي قتلها ظلما ولم تقتل نفسا أو فساد في الأرض فساد منسوق على نفس المعنى أو بغير فساد تستحق به القتل وقيل أراد بالفساد هاهنا الشرك وفي معنى قوله فكأنما قتل الناس جميعا خمسة أقوال
أحدها أن عليه إثم من قتل الناس جميعا قاله الحسن والزجاج
والثاني أنه يصلى النار بقتل المسلم كما لو قتل الناس جميعا قاله مجاهد وعطاء وقال ابن قتيبة يعذب كما يعذب قاتل الناس جميعا
والثالث أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعا قاله ابن زيد
والرابع أن معنى الكلام ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه كما لو قتل أولياءهم جميعا ذكره القاضي أبو يعلى

والخامس أن المعنى من قتل نبيا أو إماما عادلا فكأنما قتل الناس جميعا رواه عكرمة عن ابن عباس والقول بالعموم أصح فان قيل إذا كان إثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعا دل هذا على أنه لا إثم عليه في قتل من يقتله بعد قتل الواحد إلى أن يفنى الناس فالجواب أن المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعا معلوم عند الله محدود فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإثم المعلوم والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه وكلما زاد قتلا زاده الله إثما ومثل هذا قوله من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها الأنعام 160 فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات وهذا الجواب عن سؤال سائل إن قال إذا كان من أحيا نفسا فله ثواب من أحيا الناس فما ثواب من أحيا الناس كلهم هذا كله منقول عن المفسرين والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريب منه لأنه لا يجوز أن يكون إثم قاتل شخصين كاثم قاتل شخص وإنما وقع التشبيه ب كأنما لأن جميع الخلائق من شخص واحد فالمقتول يتصور منه نشر عدد الخلق كلهم

وفي قوله ومن أحياها خمسة أقوال
أحدها استنقذها من هلكة روي عن ابن مسعود ومجاهد قال الحسن من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك وفي رواية عكرمة عن ابن عباس من شد عضد نبي أو إمام عادل فكأنما أحيا الناس جميعا
والثاني ترك قتل النفس المحرمة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية
والثالث أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة
والرابع أن يزجر عن قتلها وينهى
والخامس أن يعين الولي على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياة ذكرهما القاضي أبو يعلى وفي قوله فكأنما أحيا الناس جميعا قولان
أحدهما فله أجر من أحيا الناس جميعا قاله الحسن وابن قتيبة
والثاني فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم ذكره الماوردي
قوله تعالى ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات يعني بني إسرائيل الذين جرى ذكرهم إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم

من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في ناس من عرينة قدموا المدينة فاجتووها فبعثهم رسول الله في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا وارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل فأرسل رسول الله في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم وألقاهم بالحرة حتى ماتوا ونزلت هذه الآية رواه قتادة عن أنس وبه قال سعيد بن جبير والسدي
والثاني أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله بهذه الآية إن شاء أن يقتلهم وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك

والثالث أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاؤوا يريدون الاسلام فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن السائب كان أبو بردة واسمه هلال بن عويمر وادع النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهج ومن مر بهلال إلى سول الله صلى الله عليه و سلم لم يهج فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم ولم يكن هلال حاضرا فنزلت هذه الآية
والرابع أنها نزلت في المشركين رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن واعلم أن ذكر المحاربة لله عز و جل في الآية مجاز

وفي معناها للعلماء قولان
أحدهما أنه سماهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة لأن المخالف محارب وإن لم يحارب فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله بالمعاصي
والثاني أن المراد يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وقال سعيد بن جبير أراد بالمحاربة لله ورسوله الكفر بعد الاسلام وقال مقاتل أراد بها الشرك فأما الفساد فهو القتل والجراح وأخذ الأموال وإخافة السبيل
قوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على الترتيب أم على التخيير فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب وإنهم إذا قتلوا وأخذوا المال أو قتلوا ولم يأخذوا قتلوا وصلبوا وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن لم يأخذوا المال نفوا قال ابن الأنباري فعلى هذا تكون أو مبعضة فالمعنى بعضهم يفعل به كذا وبعضهم كذا ومثله قوله كونوا هودا أو نصارى البقرة 135
المعنى قال بعضهم هذا وقال بعضهم هذا وهذا القول اختيار أكثر اللغويين
وقال الشافعي إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وقال مالك الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء سواء قتلوا أو لم يقتلوا أخذوا المال أو لم يأخذوا والصلب بعد القتل وقال أبو حنيفة

ومالك يصلب ويبعج برمح حتى يموت واختلفوا في مقدار زمان الصلب فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم ثلاثة أيام وهو مذهب أبي حنيفة وقال بعضهم يترك حتى يسيل صديده قال أبو عبيدة ومعنى من خلاف أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما فأما النفي فأصله الطرد والإبعاد
وفي صفة نفيهم أربعة أقوال
أحدها إبعادهم من بلاد الاسلام إلى دار الحرب قاله أنس بن مالك والحسن وقتادة وهذا إنما يكون في حق المحارب المشرك فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطر إلى ذلك
والثاني أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود فيبعدوا قاله ابن عباس ومجاهد
والثالث إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى قاله سعيد بن جبير
وقال مالك ينفى إلى بلد غير بلده فيحبس هناك
والرابع أنه الحبس قاله أبو حنيفة وأصحابه وقال أصحابنا صفة النفي أن يشرد ولا يترك يأوي في بلد فكلما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره
وفي الخزي قولان
أحدهما أنه العقاب والثاني الفضيحة
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر أم لا ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي

وأبو يوسف المصر والصحارى سواء ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب كما يعتبر في حق السارق خلافا لمالك إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قوله تعالى إلا الذين تابوا قال أكثر المفسرين هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم وهذا لا خلاف فيه فأما المحاربون المسلمون فاختلفوا فيهم ومذهب أصحابنا أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال فلا تسقطها التوبة وهذا قول الشافعي يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم
قوله تعالى وابتغوا إليه الوسيلة في الوسيلة قولان

أحدهما أنها القرية قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء وقال قتادة تقربوا إليه بما يرضيه قال أبو عبيدة يقال توسلت إليه أي تقربت إليه وأنشد ... إذا غفل الواشون عدنا لو صلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل ...
والثاني المحبة يقول تحببوا إلى الله هذا قول ابن زيد والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم
قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقد مضت قصته في سورة النساء والسارق إنما سمي سارقا لأنه يأخذ الشيء في خفاء واسترق السمع إذا تسمع مستخفيا قال المبرد والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء لأنه ليس القصد منه واحدا بعينه وإنما هو

كقولك من سرق فاقطع يده وقال ابن الأنباري وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى الشرط تقديره من سرق فاقطعوا يده قال الفراء وإنما قال فاقطعوا أيديهما لأن كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع تقول قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ومثله فقد صنعت قلوبكما التحريم 4 وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان اليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية وقد يجوز تثنيتهما قال أبو ذؤيب ... فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترقع

فصل
وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق وبينت السنة أن المراد به السارق لنصاب من حرز مثله كما قال تعالى فاقتلوا المشركين التوبة 5 ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان وأهل الصوامع واختلف في مقدار النصاب فمذهب أصحابنا أن للسرقة نصابين أحدهما من الذهب ربع دينار ومن الورق ثلاثة دراهم أو قيمة ثلاثة دراهم من العروض

وهو قول مالك وقال أبو حنيفة لا يقطع حتى تبلغ السرقة عشرة دراهم وقال الشافعي الاعتبار في ذلك بربع دينار وغيره مقوم به فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار قطع فان سرق نصابا من التبر فعليه القطع وقال أبو حنيفة لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا فان سرق منديلا لا يساوي نصابا في طرفه دينار وهو لا يعلم لا يقطع وقال الشافعي يقطع فان سرق ستارة الكعبة قطع خلافا لأبي حنيفة فان سرق صبيا صغيرا حرا لم يقطع وإن كان على الصغير حلي وقال مالك يقطع بكل حال وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا وبه قال مالك إلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه وقال أبو حنيفة والشافعي لا قطع

عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا وبه قال سعيد بن المسيب والليث بن سعد خلافا لأكثر الفقهاء

فصل
فأما الحرز فهو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها فكل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو لا باب له إلا أنه محجر بالبناء فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فانه ليس في حرز إلا أن يكون عنده من يحفظه ونقل الميموني عن أحمد إذا كان المكان مشتركا في الدخول إليه كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه ولم يعتبر الحافظ ونقل عنه ابن منصور لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ فأما النباش فقال أحمد في رواية أبي طالب يقطع وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة لا يقطع

فصل
فأما موضع قطع السارق فمن مفصل الكف ومن مفصل الرجل فأما اليد اليسرى والرجل اليمنى فروي عن أحمد لا تقطع وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وأبي حنيفة وروي عنه أنها تقطع وبه قال مالك والشافعي ولا يثبت القطع إلا باقراره مرتين وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يثبت بمرة ويجتمع القطع والغرم موسرا كان أو معسرا وقال أبو حنيفة لا يجتمعان فان كانت العين باقية أخذها ربها وإن كانت مستهلكة فلا ضمان وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا
قوله تعالى نكالا من الله قد ذكرنا النكال في البقرة
قوله تعالى والله عزيز حكيم قال سعيد بن جبير شديد في انتقامه حكيم إذ حكم بالقطع قال الأصمعي قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت والله غفور رحيم سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا قلت كلام الله قال أعد فأعدت والله غفور رحيم فقال ليس هذا كلام الله فتنبهت فقلت والله عزيز حكيم فقال أصبت هذا كلام الله فقلت له أتقرأ القرآن قال لا قلت فمن أين علمت أني أخطأت فقال يا هذا عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع

فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى فمن تاب من بعد ظلمه سبب نزولها أن امرأة كانت قد سرقت فقالت يا رسول الله هل لي من توبة فنزلت هذه الآية قاله عبد الله ابن عمرو وقال سعيد بن جبير فمن تاب من بعد ظلمه أي سرقته وأصلح العمل فان الله يتجاوز عنه إن الله غفور لما كان منه قبل التوبة رحيم لمن تاب يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن

الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بيهودي وقد حمموه وجلدوه فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولكنه كثر في أشرافنا فكنا نترك الشريف ونقيمه على الوضيع فقلنا تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم ونزلت هذه الآية رواه البراء بن عازب

والثاني أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة
والثالث أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا ثم قال سلوا محمدا فان كان بعث بالدية اختصمنا إليه وإن كان بعث بالقتل لم نأته قال الشعبي
والرابع أنها نزلت في المنافقين قاله ابن عباس ومجاهد
والخامس أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم على ماذا ننزل فأشار إليهم أنه الذبح قاله السدي قال مقاتل هو أبو لبابة بن عبد المنذر قالت له قريظة اننزل على حكم سعد فأشار بيده انه الذبح وكان حليفا لهم قال أبو لبابة فعلمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت هذه الآية ومعنى الكلام لا يحزنك مسارعة الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون ومن الذين هادوا وهم اليهود سماعون للكذب قال سيبويه هو مرفوع بالابتداء قال أبو الحسن الأخفش ويجوز أن يكون رفعه على معنى ومن الذين هادوا سماعون للكذب وفي معناه أربعة أقوال
أحدها سماعون منك ليكذبوا عليك والثاني سماعون للكذب أي قائلون له والثالث سماعون للكذب الذي بدلوه في توراتهم والرابع سماعون للكذب أي قابلون له ومنه سمع الله لمن حمده أي قبل

وفي قوله سماعون لقوم آخرين لم يأتوك قولان
أحدهما يسمعون لأولئك فهم عيون لهم
والثاني سماعون من قوم آخرين وهم رؤساؤهم المبدلون التوراة
وفي السماعين للكذب وللقوم الآخرين قولان
أحدهما أن السماعين للكذب يهود المدينة والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود فدك والثاني بالعكس من هذا
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال
أحدها أنه تغيير حدود الله في التوراة وذلك أنهم غيروا الرجم قال ابن عباس والجمهور
والثاني تغيير ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه و سلم بالكذب عليه قاله الحسن
والثالث إخفاء صفة النبي صلى الله عليه و سلم والرابع إسقاط القود بعد استحقاقه
والخامس سوء التأويل وقال ابن جرير المعنى يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك
قوله تعالى من بعد مواضعه قال الزجاج أي من بعد أن وضعه الله مواضعه فأحل حلاله وحرم حرامه
قوله تعالى يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه في القائلين لهذا قولان
أحدهما أنهم اليهود وذلك أن رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا فكان حدهما الرجم فكرهت اليهود رجمهما فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا وقالوا إن أفتاكم بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به هذا قول الجمهور

والثاني أنهم المنافقون قال قتادة وذلك أن بني النضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم وإنما يعطونهم الدية فاذا قتلت قريظة من النضير لم يرضوا إلا بالقود تعززا عليهم فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمدا فأرادوا رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال رجل من المنافقين إن قتيلكم قتيل عمد ومتى ترفعوا ذلك إلى محمد خشيت عليكم القود فان قبلت منكم الدية فأعطوا وإلا فكونوا منه على حذر وفي معنى فاحذروا ثلاثة أقوال
أحدها فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد والثاني فاحذروا أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به والثالث فاحذروا أن تسألوه بعدها
قوله تعالى ومن يرد الله فتنته في الفتنة ثلاثة أقوال
أحدها أنها بمعنى الضلالة قاله ابن عباس ومجاهد والثاني العذاب قاله الحسن وقتادة والثالث الفضيحة ذكره الزجاج
قوله تعالى فلن تملك له من الله شيئا أي لا تغني عنه ولا تقدر على استنقاذه وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر
قوله تعالى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم قال السدي يعني المنافقين واليهود لم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر ووسخ الشرك بطهارة الإيمان والإسلام
قوله تعالى لهم في الدنيا خزي أما خزي المنافقين فبهتك سترهم وإطلاع النبي على كفرهم وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرجم وبأخذ الجزية منهم قال مقاتل وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم وخزي النضير باجلائهم

سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
قوله تعالى سماعون للكذب قال الحسن يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذب عندهم في دعواه ويأتيهم برشوة فيأخذونها وقال أبو سليمان هم اليهود يسمعون الكذب وهو قول بعضهم لبعض محمد كاذب وليس بنبي وليس في التوراة رجم وهم يعلمون كذبهم
قوله تعالى أكالون للسحت قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر السحت مضمومة الحاء مثقلة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة السحت ساكنة الحاء خفيفة وروى خارجة بن مصعب عن نافع أكالون للسحت بفتح السين وجزم الحاء قال أبو علي السحت والسحت لغتان وهما اسمان للشيء المسحوت وليسا بالمصدر فأما من فتح السين فهو مصدر سحت فأوقع اسم المصدر على المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم هذا الدرهم ضرب الأمير وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال
أحدها الرشوة في الحكم والثاني الرشوة في الدين والقولان عن ابن مسعود والثالث أنه كل كسب لا يحل قاله الأخفش
قوله تعالى فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فيمن أريد بهذا الكلام قولان
أحدهما اليهوديان اللذان زنيا قاله الحسن ومجاهد والسدي
والثاني رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر قاله قتادة وقال

ابن زيد كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيري ديتين والقرظي دية لأنه كان من النضير فقالت قريظة لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فقال الله تعالى لنبيه فان جاؤوك فاحكم بينهم الآية
فصل
اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم كان مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله فلزمه الحكم وزال التخيير وهذا مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي
والثاني أنها محكمة وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيرون إذا ترافعوا إليهم إن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه قال أحمد بن حنبل وهو الصحيح لأنه

لا تنافي بين الآيتين لأن إحداهما خيرت بين الحكم وتركه والثانية بينت كيفية الحكم إذا كان وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين
قوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة قال المفسرون هذا تعجيب من الله عز و جل لنبيه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه وتقريع لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوته ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها
قوله تعالى فيها حكم الله فيه قولان
أحدهما حكم الله بالرجم وفيه تحاكموا قاله الحسن
والثاني حكمه بالقود وفيه تحاكموا قاله قتادة
قوله تعالى ثم يتولون من بعد ذلك فيه قولان
أحدهما من بعد حكم الله في التوراة والثاني من بعد تحكيمك
قوله تعالى وما أولئك بالمؤمنين قولان
أحدهما ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة والثاني ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوتك

إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور قال المفسرون سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر الزانيين وقد سبق والهدى البيان فالتوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ومبينة ما تحاكموا فيه إليه والنور الضياء الكاشف للشبهات والموضح للمشكلات
وفي النبيين الذين أسلموا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى قاله الأكثرون
فعلى هذا القول في معنى أسلموا أربعة أقوال
أحدها سلموا لحكم الله ورضوا بقضائه والثاني انقادوا لحكم الله فلم يكتموه كما كتم هؤلاء والثالث أسلموا أنفسهم إلى الله عز و جل والرابع أسلموا لما في التوراة ودانوا بها لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام قال ابن الأنباري وفي المسلم قولان
أحدهما أنه سمي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه والثاني لإخلاصه لربه من قوله ورجلا سالما لرجل الزمر 29 أي خالصا له

والثاني أن المراد بالنبيين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قاله الحسن والسدي وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله النساء 54
وفي الذي حكم به منها قولان أحدهما الرجم والقود والثاني الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف والثالث النبي محمد صلى الله عليه و سلم ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين قاله عكرمة
قوله تعالى للذين هادوا قال ابن عباس تابوا من الكفر قال الحسن هم اليهود قال الزجاج ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا فأما الربانيون فقد سبق ذكرهم في آل عمران وأما الأحبار فهم العلماء واحدهم حبر و حبر والجمع أحبار وحبور وقال الفراء أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار حبر بكسر الحاء وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال
أحدها أنه من الحبار وهو الأثر الحسن قاله الخليل والثاني أنه من الحبر الذي يكتب به قاله الكسائي والثالث أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء وفي الحديث يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه فالعالم بهي بجمال العلم وهذا قول قطرب
وهل بين الربانيين والأحبار فرق أم لا فيه قولان
أحدهما لا فرق والكل علماء هذا قول الأكثرين منهم ابن قتيبة والزجاج وقد روي عن مجاهد أنه قال الربانيون الفقهاء العلماء وهم فوق الأحبار وقال السدي الربانيون العلماء والأحبار القراء وقال ابن زيد

الربانيون الولاة والأحبار العلماء وقيل الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود
قوله تعالى بما استحفظوا من كتاب الله قال ابن عباس بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة وفي معنى الكلام قولان
أحدهما يحكمون بحكم ما استحفظوا والثاني العلماء بما استحفظوا قال ابن جرير الباء في قوله بما استحفظوا من صلة الأحبار
وفي قوله وكانوا عليه شهداء قولان
أحدهما وكانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قاله انه حق رواه العوفي عن ابن عباس
قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشوني قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي واخشون بغير ياء في الوصل والوقف وقرأ أبوعمرو بياء في الوصل وبغير ياء في الوقف وكلاهما حسن وقد أشرنا إلى هذا في آل عمران ثم في المخاطبين بهذا قولان
أحدهما أنهم رؤساء اليهود قيل لهم فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد والعمل بالرجم واخشوني في كتمان ذلك روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس قال مقاتل الخطاب ليهود المدينة قيل لهم لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ونعت محمد واخشوني في كتمانه
والثاني أنهم المسلمون قيل لهم لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس فلم يقولوا الحق ذكره أبو سليمان الدمشقي

قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا في المراد بالآيات قولان
أحدهما أنها صفة محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن
والثاني الأحكام والفرائض والثمن القليل مذكور في البقرة
فأما قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقوله تعالى بعدها فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال
أحدها أنها نزلت في اليهود خاصة رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال قتادة والثاني أنها نزلت في المسلمين روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى والثالث أنها عامة في اليهود وفي هذه الأمة قاله ابن مسعود والحسن والنخعي والسدي والرابع أنها نزلت في اليهود والنصارى قاله أبو مجلز والخامس أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى قاله الشعبي
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان
أحدهما أنه الكفر بالله تعالى والثاني أنه الكفر بذلك الحكم وليس بكفر ينقل عن الملة
وفصل الخطاب أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم وفاسق وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال

من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى وكتبنا أي فرضنا عليهم أي على اليهود فيها أي في التوراة قال ابن عباس وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فما بالهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقؤون العينين بالعين وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو وليس بينهم دية في نفس ولا جرح فخفف الله عن أمة محمد بالدية
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن ينصبون ذلك كله ويرفعون والجروح وكان نافع وعاصم وحمزة ينصبون ذلك كله وكان الكسائي يقرأ أن النفس بالنفس نصبا ويرفع ما بعد ذلك قال أبو علي وحجته

أن الواو لعطف الجمل لا للاشتراك في العامل ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى لأن معنى وكتبنا عليهم قلنا لهم النفس بالنفس فحمل العين على هذا وهذه حجة من رفع الجروح ويجوز أن يكون مستأنفا لا أنه مما كتب على القوم وإنما هو ابتداء ايجاب قال القاضي أبو يعلى وقوله العين بالعين ليس المارد قلع العين بالعين لتعذر استيفاء المماثلة لأنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة وصفة ذلك أن تشد عين القالع وتحمى مرآة فتقدم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها وأما الأنف فاذا قطع المارن وهو مالان منه وتركت قصبته ففيه القصاص وأما إذا قطع من أصله فلا قصاص فيه لأنه لا يمكن استيفاء القصاص كما لو قطع يده من نصف الساعد وقال أبو يوسف ومحمد فيه القصاص إذا استوعب وأما الأذن فيجب القصاص إذا استوعبت وعرف المقدار وليس في عظم قصاص إلا في السن فان قلعت قلع مثلها وإن كسر بعضها برد بمقدار ذلك وقوله والجروح قصاص يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها
قوله تعالى فمن تصدق به يشير إلى القصاص فهو كفارة له في هاء له قولان
أحدهما أنها إشارة إلى المجروح فاذا تصدق بالقصاص كفر من ذنوبه وهو قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي

والثاني إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح كفر عنه ما جنى وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه إذا كان مصرا فعقوبة الإصرار باقية وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين
قوله تعالى وقفينا على آثارهم أي وأتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا بعيسى فجعلناه يقفو آثارهم مصدقا أي بعثناه مصدقا لما بين يديه وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا ليس هذا تكرارا للأول لأن الأول لعيسى والثاني للإنجيل لأن عيسى كان يدعو إلى التصديق بالتوراة والإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
قوله تعالى وليحكم أهل الإنجيل قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر تقديره وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه وقرأ الأعمش وحمزة بكسر اللام وفتح الميم على معنى كي فكأنه قال وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من

الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ماآتكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
قوله تعالى وأنزلنا إليك الكتاب يعني القرآن بالحق أي بالصدق مصدقا لما بين يديه من الكتاب قال ابن عباس يريد كل كتاب أنزله الله تعالى وفي المهيمن أربعة أقوال
أحدها أنه المؤيمن رواه التميمي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والضحاك وقال المبرد مهيمن في معنى مؤيمن إلا أن الهاء بدل من الهمزة كما قالوا أرقت الماء وهرقت وإياك وهياك
وأرباب هذا القول يقولون المعنى أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب إلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد ومهيمنا عليه قال محمد مؤتمن على القرآن فعلى قوله في الكلام محذوف كأنه قال وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه فتكون هاء عليه راجعة إلى القرآن وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتب المتقدمة

والثاني أنه الشاهد رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة والسدي ومقاتل
والثالث أنه المصدق على ما أخبر عن الكتب وهذا قول ابن زيد وهو قريب من القول الأول
والرابع أنه الرقيب الحافظ قاله الخليل
قوله تعالى فاحكم بينهم يشير إلى اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق قال أبو سليمان المعنى فترجع عما جاءك قال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن

قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال مجاهد الشرعة السنة والمنهاج الطريق وقال ابن قتيبة الشرعة والشريعة واحد والمنهاج الطريق الواضح فان قيل كيف نسق المنهاج على الشرعة وكلاهما بمعنى واحد فعنه جوابان
أحدهما أن بينهما فرقا من وجهين أحدهما أن الشرعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر قاله المبرد والثاني أن الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحا وربما كان غير واضح والمنهاج الطريق الذي لا يكون إلا واضحا ذكره ابن الأنباري فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج حسن نسق أحدهما على الآخر
والثاني أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين قال الحطيئة ... ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد ...
فنسق البعد على النأي لماخالفه في اللفظ وإن كان موافقا له في المعنى ذكره ابن الأنباري وأجاب عنه أرباب القول الأول فقالوا النأي كل ما قل بعده أو كثر كأنه المفارقة والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته
وللمفسرين في معنى الكلام قولان
أحدهما لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل

الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة هذا قول الأكثرين قال قتادة الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللانجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل
والثاني أن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا هذا قوم مجاهد
قوله تعالى ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة فيه قولان
أحدهما لجمعكم على الحق
والثاني لجعلكم على ملة واحدة ولكن ليبلوكم أي ليختبركم في ماآتاكم من الكتب وبين لكم من الملل فان قيل إذا كان المعنى بقوله لكل جعلنا

منكم شرعة نبينا محمد مع سائر الأنبياء قبله فمن المخطاب بقوله ليبلوكم فالجواب أنه خطاب لنبينا والمراد به سائر الأنبياء والأمم قال ابن جرير والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب
قوله تعالى فاستبقوا الخيرات قال ابن عباس والضحاك هو خطاب لأمة محمد عليه السلام قال مقاتل والخيرات الأعمال الصالحة إلى الله مرجعكم في الآخرة فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون من الدين قال ابن جرير قد بين ذلك في الدنيا بالأدلة والحجج وغدا يبينه بالمجازاة وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون
قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله سبب نزولها أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشأس بن قيس قال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن تبعناك اتبعك اليهود وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وذكر مقاتل أن

جماعة من بني النضير قالوا له هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ونبايعك فنزلت هذه الآية قال القاضي أبو يعلى وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم وإنما نزلتا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في التسوية في الديات حتى تحاكموا إليه في الأمرين
قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك أي يصرفوك عن بعض ما أنزل الله إليك وفيه قولان
أحدهما أنه الرجم قاله ابن عباس والثاني شأن القصاص والدماء قاله مقاتل
قوله تعالى فان تولوا فيه قولان
أحدهما عن حكمك والثاني عن الإيمان فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم وفي ذكر البعض قولان
أحدهما أنه على حقيقته وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه
والثاني أن المراد به الكل كما يذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء الطلاق 1 والمراد جميع المسلمين وقال الحسن أراد ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة
قوله تعالى وإن كثيرا من الناس لفاسقون قال المفسرون أراد اليهود
وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال أحدها الكفر قاله ابن عباس والثاني الكذب قاله ابن زيد والثالث المعاصي قاله مقاتل أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون

قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون قرأ الجمهور يبغون بالياء لان قبله غيبة وهي قوله وإن كثيرا من الناس لفاسقون وقرأ ابن عامر تبغون بالتاء على معنى قل لهم وسبب نزولها ان النبي صلى الله عليه و سلم لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير وقالوا يا محمد هؤلاء إخواننا أبونا واحد وديننا واحد إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا أربعين ومائة وسق وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين وإن قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا فاقض بيننا بالعدل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم فقال بنو النضير والله لا نرضى بقضائك ولا نطيع أمرك ولنأخذن بأمرنا الأول فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج ومعنى الآية أتطلب اليهود حكما لم يأمر الله به وهم أهل كتاب الله كما تفعل الجاهلية
قوله تعالى ومن أحسن من الله حكما قال ابن عباس ومن أعدل
وفي قوله لقوم يوقنون قولان
أحدهما يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس والثاني يوقنون بالله قاله مقاتل وقال الزجاج من أيقن تبين عدل الله في حكمه

يآ أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول عكرمة
والثاني أن عبادة بن الصامت قال يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ إلى الله من ولاية يهود فنزلت هذه الآية قاله عطية العوفي
والثالث أنه لما كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفار فقال رجل لصاحبه أما أنا فألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا

أو أتهود معه فنزلت هذه الآية قاله السدي ومقاتل قال الزجاج لا تتولوهم في الدين وقال غيره لا تستنصروا بهم ولا تستعينوا بعضهم أولياء بعض في العون والنصرة
قوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم فيه قولان
أحدهما من يتولهم في الدين فانه منهم في الكفر
والثاني من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآأسروا في أنفسهم نادمين
قوله تعالى فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم قال المفسرون نزلت في المنافقين ثم لهم في ذلك قولان
أحدهما أن اليهود والنصارى كانوا يميرون المنافقين ويقرضونهم فيوادونهم فلما نزلت لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء قال المنافقون كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سنة وسعوا علينا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وممن قال نزلت في المنافقين ولم يعين مجاهد وقتادة
والثاني أنها نزلت في عبد الله بن أبي قاله عطية العوفي
وفي المراد بالمرض قولان
أحدهما أنه الشك قاله مقاتل والثاني النفاق قاله الزجاج

وفي قوله يسارعون فيهم ثلاثة أقوال
أحدها يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم قاله مجاهد وقتادة
والثاني في رضاهم قاله ابن قتيبة والثالث في معاونتهم على المسلمين قاله الزجاج وفي المراد بالدائرة قولان
أحدهما الجدب والمجاعة قاله ابن عباس قال ابن قتيبة نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه يعنون الجدب فلا يبايعونا ونمتار فيهم فلا يميرونا
والثاني انقلاب الدولة لليهود على المسلمين قاله مقاتل
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال
أحدها فتح مكة قاله ابن عباس والسدي والثاني فتح قرى اليهود قاله الضحاك والثالث نصر النبي صلى الله عليه و سلم على من خالفه قاله قتادة والزجاج
والرابع الفرج قاله ابن قتيبة وفي الأمر أربعة أقوال
أحدها إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله ابن السائب ومقاتل والثاني الجزية قاله السدي والثالث الخصب قاله ابن قتيبة والرابع أن يؤمر النبي صلى الله عليه و سلم باظهار أمر المنافقين وقتلهم قاله الزجاج وفيما أسروا قولان
أحدهما موالاتهم والثاني قولهم لعل محمدا لا ينصر ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
قوله تعالى ويقول الذين آمنوا قرأ أبو عمرو بنصب اللام على معنى وعسى أن يقول ورفعه الباقون فجعلوا الكلام مستأنفا وقرأ ابن كثير

ونافع وابن عامر يقول بغير واو مع رفع اللام وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة قال المفسرون لما أجلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بني النضير اشتد ذلك على المنافقين وجعلوا يتأسفون على فراقهم وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادا في معاداة اليهود أهذا جزاؤهم منك طال والله ما أشبعوا بطنك فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه فجعلوا يقولون أربعمئة حصدوا في ليلة فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا أهؤلاء يعنون المنافقين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم قال ابن عباس أغلظوا في الأيمان وقال مقاتل جهد أيمانهم القسم بالله وقال الزجاج اجتهدوا في المبالغة في اليمين إنهم لمعكم على عدوكم حبطت أعمالهم بنفاقهم يآأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
قوله تعالى من يرتد منكم عن دينه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي يرتد بادغام الدال الأولى في الأخرى وقرأ نافع وابن عامر يرتدد بدالين قال الزجاج يرتدد هو الأصل لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف فأما يرتد فأدغمت الدال الأولى في الثانية وحركت الثانية بالفتح لالتقاء الساكنين قال الحسن علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم عليه السلام فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال

أحدها أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة قاله علي بن أبي طالب والحسن عليهما السلام وقتادة والضحاك وابن جريج قال أنس ابن مالك كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا أهل القبلة فتقلد ابو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره
والثاني أبو بكر وعمر روي عن الحسن أيضا
والثالث أنهم قوم أبي موسى الأشعري روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هم قوم هذا يعني أبا موسى
والرابع أنهم أهل اليمن رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والخامس أنهم الأنصار قاله السدي
والسادس المهاجرون والأنصار ذكره أبو سليمان الدمشقي قال ابن جرير وقد أنجز الله ما وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممن ارتد
قوله تعالى أذلة على المؤمنين قال علي بن أبي طالب عليه السلام أهل

رقة على أهل دينهم أهل غلظة على من خالفهم في دينهم وقال الزجاج معنى أذلة جانبهم لين على المؤمنين لا أنهم أذلاء يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم لأن المنافقين يراقبون الكفار ويظاهرونهم ويخافون لومهم فأعلم الله عز و جل أن الصحيح الإيمان لا يخاف في الله لومة لائم ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يعني محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين وشدتهم على الكافرين إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون
قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا إن قوما قد أظهروا لنا العداوة ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل

فنزلت هذه الآية فقالوا رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين وأذن بلال بالصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا مسكين يسأل الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل أعطاك أحد شيئا قال نعم قال ماذا قال خاتم فضة قال من أعطاكه قال ذاك القائم فاذا هو علي بن أبي طالب أعطانيه وهو راكع فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل
وقال مجاهد نزلت في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع
والثاني أن عبادة بن الصامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في أبي بكر الصديق قاله عكرمة
والرابع أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم قاله الحسن
قوله تعالى ويؤتون الزكاة وهو راكعون فيه قولان
أحدهما أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه والثاني أن من شأنهم إيتاء الزكاة وفعل الركوع

وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال
أحدها أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس وقيل إن الآية نزلت وهم في الركوع والثاني أنه صلاة التطوع بالليل والنهار وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنه الخضوع والخشوع وأنشدوا ... لا تذل الفقير علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه ...
ذكره الماوردي فأما حزب الله فقال الحسن هم جند الله وقال أبو عبيدة أنصار الله ثم فيه قولان
أحدهما أنهم المهاجرون والأنصار قاله ابن عباس
والثاني الأنصار ذكره أبو سليمان

ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا سبب نزولها أن رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الاسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس فأما اتخاذهم الدين هزوا ولعبا فهو إظهارهم الإسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين والذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى والكفار عبدة الأوثان قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكفار بالنصب على معنى لا تتخذوا الكفار أولياء وقرأ أبو عمرو والكسائي والكفار خفضا لقرب الكلام من العامل الجار وأمال أبو عمرو الألف واتقوا الله أن تولوهم وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون
قوله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة في سبب نزولها قولان
أحدهما أن منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون

إليها قالت اليهود قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا على سبيل الاستهزاء والضحك فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
والثاني أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين على ذلك وقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فان كنت تدعي النبوة فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك فما أقبح هذا الصوت وأسمج هذا الأمر فنزلت هذه الآية ذكره بعض المفسرين وقال السدي كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الكاذب فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله
والمناداة هي الأذان واتخاذهم إياها هزوا تضاحكهم وتغامزهم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ما لهم في إجابة الصلاة وما عليهم في استهزائهم بها قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا سبب نزولها أن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر جميع الأنبياء فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا والله ما نعلم دينا شرا من دينكم فنزلت هذه الآية والتي بعدها قاله ابن عباس وقرأ الحسن والأعمش تنقمون بفتح القاف قال الزجاج يقال نقمت على الرجل أنقم ونقمت

عليه أنقم والأول أجود ومعنى نقمت بالغت في كراهة الشيء والمعنى هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم لأنكم علمتم أننا على حق وأنكم فسقتم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
قوله تعالى هل أنبئكم بشر من ذلك قال المفسرون سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين والله ما علمنا أهل دين أقل حظا منكم في الدنيا والآخرة ولا دينا شرا من دينكم وفي قوله بشر من ذلك قولان
أحدهما بشر من المؤمنين قاله ابن عباس
والثاني بشر مما نقمتم من إيماننا قاله الزجاج فأما المثوبة فهي الثواب قال الزجاج وموضع من في قوله من لعنه الله إن شئت كان رفعا وإن شئت كان خفضا فمن خفض جعله بدلا من شر فيكون المعنى أنبئكم بمن لعنه الله ومن رفع فباضمار هو كأن قائلا قال من ذلك فقيل هو من لعنه الله قال أبو صالح عن ابن عباس من لعنه الله بالجزية وغضب عليه بعبادة العجل فهم شر مثوبة عند الله وروي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب السبت مسخ شبابهم قردة ومشايخهم خنازير وقال غيره الردة أصحاب السبت والخنازير كفار مائدة عيسى وكان ابن قتيبة يقول أنا أظن أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت قال واستدللت بقوله تعالى وجعل منهم القردة والخنازير فدخول الألف واللام يدل على المعرفة وعلى أنها القردة التي تعاين ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى لقال وجعل

منهم قردة وخنازير إلا أن يصح حديث أم حبيبة في المسوخ فيكون كما قال عليه السلام قلت أنا وحديث أم حبيبة في الصحيح انفرد باخراجه مسلم وهو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ فقال النبي عليه السلام إن الله لم يمسخ قوما أو يهلك قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة
قوله تعالى وعبد الطاغوت فيها عشرون قراءة قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر ونافع والكسائي وعبد بفتح العين والباء والدال ونصب تاء الطاغوت وفيها وجهان
أحدهما أن المعنى وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت
والثاني أن المعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين والدال وضم الباء وخفض تاء الطاغوت قال ثعلب ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل وقال الزجاج وجهها أن الاسم بني على فعل كما تقول علم زيد ورجل حذر أي مبالغ في الحذر فالمعنى جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية وقرأ ابن مسعود

وأبي بن كعب وعبدوا بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع الطاغوت بالنصب وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة وعبد بفتح العين والباء والدال إلا أنهما كسرا تاء الطاغوت قال الفراء أرادا عبدة فحذفا الهاء وقرأ أنس ابن مالك وعبيد بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء الطاغوت وقرأ أيوب والأعمش وعبد برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء وكسر تاء الطاغوت وقرأ أبو هريرة وأبو رجاء وابن السميفع وعابد بألف مكسورة الباء مفتوحة الدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو العالية ويحيى ابن وثاب وعبد برفع العين والباء وفتح الدال مع كسر تاء الطاغوت قال الزجاج هو جمع عبيد وعبد مثل رغيف و رغف وسرير وسرر والمعنى وجعل منهم عبيد الطاغوت وقرأ أبو عمران الجوني ومورق العجلي والنخعي وعبد برفع العين وكسر الباء مخففة وفتح الدال مع ضم تاء الطاغوت وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعكرمة وعبد بفتح العين والدال وتشديد الباء مع نصب تاء الطاغوت وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو نهيك وعبد بفتح العين والدال وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطاغوت وقرأ قتادة وهذيل ابن شرحبيل وعبدة بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال الطواغيت بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع وقرأ الضحاك وعمرو بن

دينار وعبد برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء وكسر تاء الطاغوت
وقرأ سعيد بن جبير والشعبي وعبدة مثل حمزة إلا أنهما رفعا تاء الطاغوت
وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري وعبد بفتح العين ورفع الباء والدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو الأشهب العطاردي وعبد برفع العين وتسكين الباء ونصب الدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو السماك وعبدة بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء الطاغوت وقرأ معاذ القارىء وعابد مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم الدال وقرأ أبو حيوة وعباد بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين وفتح الدال وقرأ ابن حذلم وعمرو بن فائد وعباد مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة وقد سبق ذكر الطاغوت في سورة البقرة
وفي المراد به هاهنا قولان أحدهما الأصنام والثاني الشيطان
قوله تعالى أولئك شر مكانا أي هؤلاء الذين وصفناهم شر مكانا من المؤمنين ولكن الكلام مبني على كلام الخصم حين قالوا للمؤمنين لا نعرف شرا منكم فقيل من كان بهذه الصفة فهو شر منهم وإذا جآؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون
قوله تعالى وإذا جاؤوكم قالوا آمنا قال قتادة هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به وهم متمسكون بضلالتهم

قوله تعالى وقد دخلوا بالكفر أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين فالكفر معهم في حالتيهم والله أعلم بما كانوا يكتمون من الكفر والنفاق وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون
قوله تعالى وترى كثيرا منهم يعني اليهود يسارعون أي يبادرون في الإثم وفيه قولان أحدهما أنه المعاصي قاله ابن عباس والثاني الكفر قاله السدي فأما العدوان فهو الظلم
وفي السحت ثلاثة أقوال
أحدها الرشوة في الحكم والثاني الرشوة في الدين والثالث الربا لو لا ينههم الربانيون والأحبار لولا بمعنى هلا والربانيون مذكورون في آل عمران والأحبار قد تقدم ذكرهم في هذه السورة وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإنكار في الذم قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيمة كلمآ أوقدوا نارا للحرب

أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين
قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه قالوا يد الله مغلولة وقال مقاتل فنحاص وابن صلوبا وعازر بن أبي عازر وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال
أحدها أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق فلما عصوا الله تعالى في أمر محمد صلى الله عليه و سلم وكفروا به كف عنهم بعض ما كان بسط لهم فقالوا يد الله مغلولة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عكرمة
والثاني أنه الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة فقالوا إن الله بخيل ويده مغلولة فهو يستقرضنا قاله قتادة
والثالث أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود لو كان الله صحيحا لمنعنا منه فيده مغلولة ذكره قتادة أيضا
والمغلولة الممسكة المنقبضة وعن ماذا عنوا أنها ممسكة فيه قولان
أحدهما عن العطاء قاله ابن عباس وقتادة والفراء وابن قتيبة والزجاج
والثاني ممسكة عن عذابنا فلا يعذبنا إلا تحلة القسم بقدر عبادتنا العجل قاله الحسن وفي قوله غلت أيديهم ثلاثة أقوال
أحدها غلت في جهنم قاله الحسن والثاني أمسكت عن الخير قاله مقاتل والثالث جعلوا بخلاء فهم أبخل قوم قاله الزجاج قال ابن الأنباري وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم وموضعه نصب على معنى الحال تقديره قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم ولعنته

إياهم ويجوز أن يكون المعنى فغلت أيديهم ويجوز أن يكون دعاء معناه تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم كقوله تبت يدا أبي لهب اللهب 1 وقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الفتح 27
وفي قوله ولعنوا بما قالوا ثلاثة أقوال
أحدها أبعدوا من رحمة الله والثاني عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار والثالث مسخوا قردة وخنازير وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إياهم قال الزجاج وقد ذهب قوم إلى أن معنى يد الله نعمته وهذا خطأ ينقضه بل يداه مبسوطتان فيكون المعنى على قولهم نعمتاه ونعم الله أكثر من أن تحصى والمراد بقوله بل يداه مبسوطتان أنه جواد ينفق كيف يشاء وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري قال ابن عباس إن شاء وسع في الرزق وإن شاء قتر
قوله تعالى وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا
قال الزجاج كلما أنزل عليك شيء كفروا به فيزيد كفرهم والطغيان هاهنا الغلو في الكفر وقال مقاتل وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا

قوله تعالى وألقينا بينهم العداوة والبغضاء فيمن عني بهذا قولان
أحدهما اليهود والنصارى قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل فان قيل فأين ذكر النصارى فالجواب أنه قد تقدم في قوله لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء والثاني أنهم اليهود قاله قتادة
قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ذكر إيقاد النار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة وقيل إن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة ليعلم استعدادهم للحرب فيتأهب من يريد إعانتهم وقيل كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا
وفي معنى الآية قولان
أحدهما كلما جمعوا لحرب النبي صلى الله عليه و سلم فرقهم الله
والثاني كلما مكروا مكرا رده الله
قوله تعالى ويسعون في الأرض فسادا فيه أربعة أقوال
أحدها بالمعاصي قاله ابن عباس ومقاتل والثاني بمحو ذكر النبي صلى الله عليه و سلم من كتبهم ودفع الإسلام قاله الزجاج والثالث بالكفر والرابع بالظلم ذكرهما الماوردي ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيآتهم ولأدخلناهم جنات النعيم
قوله تعالى ولو أن أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسله واتقوا الشرك لكفرنا عنهم سيئاتهم التي سلفت

ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون
قوله تعالى ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل قال ابن عباس عملوا بما فيهما وفيما أنزل إليهم من ربهم قولان أحدهما كتب أنبياء بني إسرائيل والثاني القرآن لأنهم لما خوطبوا به كان نازلا إليهم
قوله تعالى لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فيه قولان
أحدهما لأكلوا بقطر السماء ونبات الأرض وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أن المعنى لوسع عليهم كما يقال فلان في خير من قرنه إلى قدمه ذكره الفراء والزجاج وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الأعراف 96 وقال ويرزقه من حيث لا يحتسب الطلاق3
قوله تعالى منهم أمة مقتصدة يعني من أهل الكتاب وهم الذين أسلموا منهم قاله ابن عباس ومجاهد وقال القرظي هم الذين قالوا المسيح عبد الله ورسوله والاقتصاد الاعتدال في القول والعمل من غير غلو ولا تقصير يآايها الرسول بلغ مآأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين
قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ذكر المفسرون أن هذه

الآية نزلت على أسباب روى الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يهاب قريشا واليهود والنصارى فأنزل الله هذه الآية وقال مجاهد لما نزلت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قال يا رب كيف أصنع إنما أنا وحدي يجتمع علي الناس فأنزل الله وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وقال مقاتل لما دعا اليهود وأكثر عليهم جعلوا يستهزؤون به فسكت عنهم فحرض بهذه الآية وقال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرس فيرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية فقال يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس وقال أبو هريرة نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من يمنعني منك فقال الله فنزل قوله والله يعصمك من الناس قالت عائشة سهر رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فقلت ما شأنك قال ألا رجل صالح يحرسني الليلة فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال من هذا فقال سعد وحذيفة جئنا نحرسك فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى

سمعت غطيطه فنزلت والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه من قبة أدم وقال انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله تعالى قال الزجاج قوله بلغ ما أنزل إليك معناه بلغ جميع ما أنزل إليك ولا تراقبن أحدا ولا تتركن شيئا منه مخافة أن ينالك مكروه فان تركت منه شيئا فما بلغت قال ابن قتيبة يدل على هذا المحذوف قوله والله يعصمك وقال ابن عباس إن كتمت آية فما بلغت رسالتي وقال غيره المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك جهرا فان أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك فكأنك ما بلغت شيئا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي رسالته على التوحيد وقرأ نافع رسالاته على الجمع
قوله تعالى والله يعصمك من الناس قال ابن قتيبة أي يمنعك منهم وعصمة الله منعه للعبد من المعاصي ويقال طعام لا يعصم أي لا يمنع من الجوع فان قيل فأين ضمان العصمة وقد شج جبينه وكسرت رباعيته وبولغ في أذاه فعنه جوابان
أحدهما أنه عصمه من القتل والأسر وتلف الجملة فأما عوارض الأذى فلا تمنع عصمة الجملة والثاني أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك لأن المائدة من أواخر ما نزل

قوله تعالى إن الله لا يهدي القوم الكافرين فيه قولان
أحدهما لا يهديهم إلى الجنة والثاني لا يعينهم على بلوغ غرضهم قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم ألست تؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق قال بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها فأنا بريء من إحداثكم فقالوا نحن على الهدى ونأخذ بما في أيدينا ولا نؤمن بك فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
فأما أهل الكتاب فالمراد بهم اليهود والنصارى وقوله لستم على شيء أي لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل وإقامتهما العمل بما فيهما ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم وفي الذي أنزل إليهم من ربهم قولان قد سبقا وكذلك باقي الآية إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤن والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون قد ذكرنا تفسيرها في البقرة وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بينا هناك فأما رفع الصائبين فذكر الزجاج عن البصريين منهم الخليل وسيبويه أن قوله

والصائبون محمول على التأخير ومرفوع بالابتداء والمعنى إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصائبون والنصارى كذلك أيضا وأنشدوا ... وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق ...
المعنى فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق وأنتم أيضا كذلك لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون
قوله تعالى لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل قال مقاتل أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها قال ابن عباس كان فيمن كذبوا محمد وعيسى و فيمن قتلوا زكريا ويحيى قال الزجاج فأما التكذيب فاليهود والنصارى يشتركون فيه وأما القتل فيختص اليهود وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون
قوله تعالى وحسبوا أن لا تكون فتنة قرأ ابن كثير ونافع وعاصم

وابن عامر تكون بالنصب وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تكون بالرفع ولم يختلفوا في رفع فتنة قال مكي بن أبي طالب من رفع جعل أن مخففة من الثقيلة وأضمر معها الهاء وجعل حسبوا بمعنى أيقنوا لأن أن للتأكيد والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين والتقدير أنه لا تكون فتنة ومن نصب جعل أن هي الناصبة للفعل وجعل حسبوا بمعنى ظنوا ولو كان قبل أن فعل لا يصلح للشك لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة ولم يجز نصب الفعل بها كقوله أفلا يرون ألا يرجع إليهم طه 89 و علم أن سيكون المزمل 20 وقال أبو علي الأفعال ثلاثة فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره نحو العلم والتيقن وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار وفعل يجذب إلى هذا مرة وإلى هذا أخرى فما كان معناه العلم وقعت بعده أن الثقيلة لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره كقوله ويعلمون أن الله هو الحق المبين النور 25 ألم يعلم بأن الله يرى العلق 14 وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو أطمع وأخاف وأرجو وقعت بعده أن الخفيفة كقوله فان خفتم أن لا يقيما حدود الله البقرة 229 تخافون أن يتخطفكم الناس الأنفال 26 فخشينا أن يرهقهما الكهف 80 أطمع أن يغفر لي الشعراء 82 وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت فانه يجعل تارة بمنزلة العلم وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في وحسبوا ألا تكون فتنة قد جاء بها التنزيل فمثل مذهب من نصب أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم الجاثية 21 أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا العنكبوت 4 أحسب الناس أن يتركوا العنكبوت 2 ومثل مذهب من رفع أيحسبون أنما نمدهم المؤمنون 55 أم يحسبون انا لا نسمع سرهم الزخرف 80

قال ابن عباس ظنوا أن الله لا يعذبهم ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء وتكذبيهم الرسل
قوله تعالى فعموا وصموا قال الزجاج هذا مثل تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات فصاروا كالعمي الصم
قوله تعالى ثم تاب الله عليهم فيه قولان
أحدهما رفع عنهم البلاء قاله مقاتل وقال غيره هو ظفرهم بالأعداء وذلك مذكور في قوله ثم رددنا لكم الكرة عليهم الاسراء 6
والثاني أن معنى تاب عليهم أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا قاله الزجاج وفي قوله ثم عموا وصموا قولان
أحدهما لم يتوبوا بعد رفع البلاء قاله مقاتل
والثاني لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه و سلم قاله الزجاج
قوله تعالى كثير منهم أي عمي وصم كثير منهم كما تقول جاءني قومك أكثرهم قال ابن الأنباري هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم وجانيا عليهم فقال الله تعالى وحسبوا أن لا تكون فتنة أي ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر فعموا وصموا بمجانبة الحق ثم تاب الله عليهم أي عرضهم للتوبة بأن أرسل محمد صلى الله عليه و سلم وإن لم يتوبوا ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد كثير منهم فخص بعضهم بالفعل الأخير لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قال مقاتل نزلت في نصارى نجران قالوا ذلك
قوله تعالى وقال المسيح أي وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال مجاهد هم النصارى قال وهب بن منبه لما ولد عيسى لم يبق صنم إلا خر لوجهه فاجتمعت الشياطين إلى إبليس فأخبروه فذهب فطاف أقطار الأرض ثم رجع فقال هذا المولود الذي ولد من غير ذكر أردت أن أنظر إليه فوجدت الملائكة قد حفت بأمه فليتخلف عندي اثنان من مردتكم فلما أصبح خرج بهما في صورة الرجال فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى ويقولون مولود من غير أب فقال إبليس ما هذا ببشر ولكن الله أحب أن يتمثل في امرأة ليختبر العباد فقال أحد صاحبيه ما أعظم ما قلت ولكن الله أحب أن يتخذ ولدا وقال الثالث ما أعظم ما قلت ولكن الله أراد أن يجعل إلها في

الأرض فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس ثم تفرقوا فتكلم به الناس
وقال محمد بن كعب لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل وانتخبوا منهم أربعة فقال أحدهما عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له ثم صعد إلى السماء لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقال الثاني ليس كذلك لأنا قد عرفنا عيسى وعرفنا أمه ولكنه ابن الله وقال الثالث لا أقول كما قلتما ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح فقال الرابع لقد قلتم قبيحا ولكنه عبد الله ورسوله وكلمته فخرجوا فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس قال المفسرون ومعنى الآية أن النصارى قالت الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم وكل واحد منهم إله وفي الآية إضمار فالمعنى ثالث ثلاثة آلهة فحذف ذكر الآلهة لأن المعنى مفهوم لأنه لا يكفر من قال هو ثالث ثلاثة ولم يرد الآلهة لأنه ما من اثنين إلا وهو ثالثهما وقد دل على المحذوف قوله وما من إله إلا إله واحد قال الزجاج ومعنى ثالث ثلاثة أنه أحد ثلاثة ودخلت من في قوله وما من إله للتوكيد
والذين كفروا منهم هم المقيمون على هذا القول وقال ابن جرير المعنى ليمسن الذين يقولون المسيح هو الله والذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكل كافر يسلك سبيلهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم
قوله تعالى أفلا يتوبون إلى الله قال الفراء لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر كقوله فهل أنتم منتهون المائدة 91

ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
قوله تعالى ما المسيح بن مريم إلا رسول فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته والمعنى أنه ليس باله وإنما حكمه حكم من سبقه من الرسل وفي قوله وأمه صديقة رد على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة قال الزجاج والصديقة المبالغة في الصدق وصديق فعيل من أبنية المبالغة كما تقول فلان سكيت أي مبالغ في السكوت
وفي قوله تعالى كانا يأكلان الطعام قولان
أحدهما أنه بين أنهما يعيشان بالغذاء ومن لا يقيمه إلا أكل الطعام فليس باله قاله الزجاج
والثاني أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته وهو الحدث إذ لا بد لآكل الطعام من الحدث قاله ابن قتيبة قال وقوله انظر كيف نبين لهم الآيات من ألطف ما يكون من الكناية ويؤفكون يصرفون عن الحق ويعدلون يقال أفك الرجل عن كذا إذا عدل عنه وأرض مأفوكة محرومة المطر والنبات كأن ذلك صرف عنها وعدل قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم
قوله تعالى قل أتعبدون من دون الله قال مقاتل قل لنصارى نجران أتعبدون من دون الله يعني عيسى بن مريم ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا ولا

نفعا في الآخرة والله هو السميع لقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة العليم بمقالتهم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب قال مقاتل هم نصارى نجران والمعنى لا تغلوا في دينكم فتقولوا غير الحق في عيسى وقد بينا معنى الغلو في آخر سورة النساء
قوله تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل قال أبو سليمان من قبل أن تضلوا وفيهم قولان
أحدهما أنهم رؤساء الضلالة من اليهود
والثاني رؤساء اليهود والنصارى والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه و سلم نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل في لعنهم قولان
أحدهما أنه نفس اللعن ومعناه المباعدة من الرحمة قال ابن عباس لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ولعنوا على لسان عيسى في الإنجيل قال الزجاج وجائز أن يكون داود وعيسى أعلما أن محمدا نبي ولعنا من كفر به
والثاني أنه المسخ قاله مجاهد لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقال الحسن وقتادة لعن أصحاب السبت

على لسان داود فانهم لما اعتدوا قال داود اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فجعلوا خنازير
قوله تعالى ذلك بما عصوا أي ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه وباعتدائهم في مجاوزة ما حده لهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
قوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه التناهي تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر
وذكر المفسرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال
أحدها صيد السمك يوم السبت والثاني أخذ الرشوة في الحكم
والثالث أكل الربا وأثمان الشحوم وذكر المنكر منكرا يدل على الإطلاق ويمنع هذا الحصر ويدل على ما قلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فاذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم

قوله تعالى لبئس ما كانوا يفعلون قال الزجاج اللام دخلت للقسم والتوكيد والمعنى لبئس شيئا فعلهم ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
قوله تعالى ترى كثيرا منهم في المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم المنافقون روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد
والثاني أنهم اليهود قاله مقاتل في آخرين فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم وفي الذين كفروا قولان أحدهما أنهم اليهود قاله أرباب القول الأول والثاني أنهم مشركو العرب قاله أرباب هذا القول الثاني
قوله تعالى لبئسما قدمت لهم أنفسهم أي بئسما قدموا لمعادهم أن سخط الله عليهم قال الزجاج يجوز أن تكون أن في موضع رفع على إضمار هو كأنه قيل هو أن سخط الله عليهم لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

قوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود قال المفسرون نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه قال سعيد بن جبير بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها وسنذكر قصتهم فيما بعد قال الزجاج واللام في لتجدن لام القسم والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال وعداوة منصوب على التمييز واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى والذين أشركوا يعني عبدة الأوثان فأما الذين قالوا إنا نصارى فهل هذا عام في كل النصارى أم خاص فيه قولان
أحدهما أنه خاص ثم فيه قولان
أحدهما أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا قاله ابن عباس وابن جبير
والثاني أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا قاله قتادة
والقول الثاني أنه عام قال الزجاج يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود
قوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين قال الزجاج القس والقسيس من رؤساء النصارى وقال قطرب القسيس العالم بلغة الروم فأما الرهبان فهم العباد أرباب الصوامع قال ابن فارس الترهب التعبد فان قيل كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمر شريعتنا فالجواب أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم