ج1 الكتاب الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
مصدر
بَسْمَلَ ، أي قال : بسم الله ، نحو : حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ ، أي : قال :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله . وهذا شَبيه بباب
النحت في النسب ، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً ،
فينسِبون إليه كقولهم : حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت
وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس . قال :
6 وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة ... كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً
وهو غيرُ مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة ،
[ قال الماوردي : يقال لمَنْ قال : بسم الله : مُبَسْمِل وهي ] لغةٌ مُوَلَّدة وقد
جاءَتْ في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :
7 لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها ... ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ
وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة ك ثعلب والمطرِّز .
وبِسْم : جارٌّ ومجرور ، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم ، لأنَّ المعنى
: أقرأ مستعيناً بالله ، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها ، وهي :
الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً ، نحو : مَسَحْتُ برأسي ، مررْتُ بزيدٍ ، والسببية : [
نحو ] { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء : 160
] ، أي بسببِ ظلمهم ، والمصاحبة نحو : خرج زيدٌ بثيابه ، أي مصاحباً لها ، والبدلُ
كقوله عليه السلام : « ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم » أي بدلها ، وكقول
الآخر :
8 فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا
أي : بَدَلَهم ، والقسم : أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ ، والظرفية نحو : زيد بمكة أي
فيها ، والتعدية نحو : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، والتبعيض
كقول الشاعر :
9 شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
أي من مائه ، والمقابلة : « اشتريتهُ بألف » أي : قابلتُه بهذا الثمنِ ، والمجاوزة
مثلُ قولِه تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] أي عن
الغمام ، ومنهم مَنْ قال : لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو : { فَاسْأَلْ
بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي عنه ، وقول علقمة :
10 فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني ... خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ
والاستعلاء كقوله تعالى : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } [ آل عمران : 75 ]
. والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ ، ويَرُدُّون جميعَ
المواضعِ المذكورةِ إليهما ، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال .
وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة ، فالمطَّردةُ في فاعل « كفى » نحو : { وكفى
بالله } [ النساء : 6 ] / أي : كفى اللهُ ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر :
11 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كفى
الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً
وفي خبرِ ليس و « ما » أختِها غيرَ موجَبٍ ب إلاَّ ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ
الله بِكَافٍ [ عَبْدَهُ ] } [ الزمر : 36 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ } [
الأنعام : 132 ] وفي : بحَسْبكِ زيدٌ . وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ « كفَى » ، كقوله
:
12 فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا ... حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا
أي : كَفانا ، وفي البيت كلامٌ آخرُ ، وفي المبتدأ غيرَ « حَسْب » ومنه في أحدِ
القولين :
{
بِأَييِّكُمُ المفتون } [ القلم : 6 ] وقيل : المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور
، فعلى هذا ليست زائدةً ، وفي خبر « لا » أختِ ليس ، كقوله :
13 فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ
أي : مُغْنياً ، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو :
14 وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ ... بِأعجلِهم ، إذْ أَجْشَعُ القومِ
أَعْجَلُ
أي : لم أكنْ أعجلَهم ، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله :
15 فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ ... حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها
وقولِ الآخر :
16 دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه ... فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ
أي : ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً ، ولم يَجِدْني قُعْدَداً ، وفي خبر « إنَّ » كقول
امرئ القيس :
17 فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها ... فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي : فإنك المجرِّب ، وفي : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله } [ الأحقاف : 33 ]
وشبهه .
والاسمُ لغةً : ما أبانَ عن مُسَمَّى ، واصطلاحاً : ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط
غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء
معناه ، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ ، والتسميةُ : جَعْلُ ذلك
اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى .
واختلف الناسُ : هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ ، تكلَّم
الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه ،
فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه ، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة ،
أجودُها : أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية ، والتسميةُ غيرُ الاسم ، لأنَّ التسمية
هي اللفظُ بالاسم ، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا . الثاني : أنَّ في
الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : باسم مُسَمَّى اللهِ . الثالث : أن لفظَ « اسم »
زائدٌ كقولِه :
18 إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ
أي : السلام عليكما ، وقول ذي الرمة :
19 لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ ... داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ
مَبْغَومُ
وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب .
واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش : ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ
التبرُّك « . وقال قطرب : » زيد للإِجلال والتعظيم « ، وهذان الجوابان ضعيفان
لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما .
ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى
اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ ، نحو : سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ
وبَقْلَةُ الحمقاءِ ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى
المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ ، فتقديرُه : جاءني مسمَّى هذا اللفظِ ، وفي
الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ : بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ
، ومسجدُ الجامعِ : مسجدُ المكانِ الجامعِ .
واختلف النحويون في اشتقاقه : فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو
الارتِفاعُ ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ ، وذهب الكوفيون إلى
أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه ، وهذا وإنْ كان
صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ .
استدلَّ
البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على « أَسْماء » وتصغيرهم له على سُمَيّ ، لأن
التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها ، وتقولُ العَربُ : فلانٌ سَمِيُّك
، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا ، وأَسْمَيْتُه بكذا ، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من
السموّ ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير : أَوْسام ، وفي التصغير : وُسَيْم ،
ولقالوا : وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا ، فدلَّ عدمُ قولِهم
ذلك أنه ليس كذلك . وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ ،
وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ
وحذفَ الفاءِ قليلٌ ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ
الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ
كَوْنِها عوضاً من الفاء . فإن قيل : قولُهم « أسماء » في التكسير و « سُمَيّ » في
التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ : أَوْسَاماً ووُسَيْماً ، ثم
قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام : أَسْماواً
، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء ، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ
تصغير جَرْو . فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ
القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ . وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم
لا؟ والجوابُ أن له فائدةً ، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول : إنه
لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم ، لا تأثيرَ لهم في
أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ . وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم
يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً
وصفاتٍ وهو قول المعتزلة ، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا
الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى .
وفي الاسم خمسُ لغاتٍ : « اسم » بضم الهمزة وكسرها ، و « سُِم » بكسر السين وضمها
. وقال أحمد بن يحيى : « سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو ، ومَنْ قاله
بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي ، وعلى اللغتين قوله :
20 وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ ... يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ
مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ ... يُنْشَدُ بالوجهين ، وأنشدوا على الكسر :
21 باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ ... [ فعلى هذا يكون في لام » اسم « وجهان ،
أحدُهما : أنها واو ، والثاني : أنها ياء وهو غريبٌ ، ولكنَّ ] أحمد بن يحيى جليلُ
القدر ثقةٌ فيما ينقل . و » سُمَىً « مثل هُدَىً . واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر
:
22 واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً ... آثرك اللهُ به إيثارَكَا
ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء
به منصوباً ، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل : سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ .
وهمزتُه
همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً ، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله :
23 وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ ... ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما
وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي : اسم
واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم . والأصل في
هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل ، وإنما حَذَفوها حين
يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال . وقيل : ليوافقَ الخطُّ اللفظَ
. وقيل لا حذفَ أصلاً ، وذلك لأن الأصل : « سِمٌ » أو « سُم » بكسر السين أو ضمها
فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً ، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ
، [ وهذا حكاه النحاس وهو حسن ] ، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ ، نحو : باسم
الرحمن ، هذا هو المشهور ، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت
إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو : بسمِ ربِّك ، بسمِ الخالق .
واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به ، فعلٍ أو ما في
معناه ، إلا في ثلاثِ صور : حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما ،
وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه ، وليس بشيء فإنها تتعلَّق . إذا تقرر ذلك ف
« بسم الله » لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف .
واختلف النحويون في ذلك ، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ ،
وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين : فذهب بعضُ
البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه ، تقديره :
ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة . وفيه
نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ ، وقد نص مكي
على مَنْع هذا الوجهِ . وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي
معمولُه قائماً مَقامَه ، والتقدير : ابتدائي كائنٌ باسمِ الله ، أو قراءتي كائنةٌ
باسم الله نحو : زيدٌ بمكةَ ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه
لقيامِهِ مقامَ الخبر . وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ
قبله ، قال : لأنَّ الأصلَ التقديمُ ، والتقدير : أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم
الله . ومنهم مَنْ قدَّر بعده : والتقدير : باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو ،
وإلى هذا نحا الزمخشري قال : « ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على
الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم : باسم اللات ، باسم العُزَّى »
وهذا حسنٌ جداً ، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [
القلم : 1 ] ، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه ، ثم أجاب بأنَّ
تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة
أهمَّ « . وأجاب غيرُه بأنَّ ب » اسم ربك « ليس متعلقاً ب » اقرأ « الذي قبله ، بل
ب » اقرأ « الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة .
وفي
هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون « اقرأ » الثاني توكيداً للأول فيكون
قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل .
واختلفوا أيضاً : هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه :
اقرأ أنت باسم الله ، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره : اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ
.
و « الله » في « بسم الله » مضافٌ إليه ، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو
حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها . وهو
عَلَمٌ على المعبودِ بحق ، لاَ يُطلق على غيره ، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين
أن يَتَسَّمى به ، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ
بحقٍّ . قال الزمخشري : « كأنه صار عَلَماً بالغلَبة » ، وأمّا « إله » المجردُ من
الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره ، قال تعالى : { لَوْ كَانَ
فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، { وَمَن يَدْعُ مَعَ
الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، { [
أَرَأَيْتَ ] مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . واختلف الناسُ هل هو
مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟ ، والصوابُ الأولُ ، وهو أعرفُ المعارف . يُحْكى أن سِيبوِيه
رُئيَ في المنام فقيل [ له ] : ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال : خيراً كثيراً ، لجَعْلِي
اسمَه أعرفَ المعارفِ .
ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من
لاهَ يليه أي ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها ،
وقيل : لاتخاذِهِم إياها معبوداً ، وعلى هذا قيل : « لَهْيَ أبوك » يريدونَ : للهِ
أبوك ، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام . وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ
حرفَ الجرِ . وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر :
24 ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى ... لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ
قال : الأصلُ : لله إنك كريمٌ عليَّ ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ
التي قبل الهاء من الجلالة ، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف ، فصار
اللفظ : لَهْ ، ثم أَلقى حركة همزة « إنَّ » على الهاء فبقي : لَهِنَّك كما ترى ،
وهذا سماجَةٌ من قائلِه . وفي البيت قولان أيسرُ من هذا .
ومنهمَ مَنْ قال : « هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً . أي احتجَبَ ، فالألف على
هذين القولين أصليةٌ ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار
اللاه ، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام ،
وفُخِّمت لامُه . ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا : فَعَل أو فَعِل بفتح
العين أو كسرِها ، وعلى كل تقدير : فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب
ألفاً ، وكان الأصلَ : لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً .
ومنهم
مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه ، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي : العبادةُ
والسكون والتحيُّر والفزع ، فمعنى « إله » أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه
ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه . ومنه قولُ رؤبة :
25 لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي
أي : من عبادتِه ، ومنه { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] أي عبادتك .
وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله : « كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات
وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات » وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر ، ولهذا/
رُوي : « تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله » وعلى هذا فالهمزةُ أصلية
والألفُ قبل الهاء زائدةٌ ، فأصلُ الجلالة الكريمة : الإِله ، كقولِ الشاعر :
26 معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ
ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس ، والأصل أُناس كقوله :
27 إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمِنينا
فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم . أو نقول : إن الهمزة من
الإِله حُذِفت للنقل ، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف
وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل ، ثم أُدغم لامُ التعريف كما
تقدَّم ، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال .
ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه ، وعلى ذلك
قال بعض الحكماء : « الله محبوب للأشياءِ كلها ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى : {
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] ، فأصله :
وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء ، والأصلُ : وِشاح ووِعاء ،
فصار الفظُ به : إلاهاً ، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام ،
ويُعْزَى هذا القول للخليل ، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه : فِعال ، وهو بمعنى
مَفْعول أي : مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب .
وُردَّ قولُ الخليل بوجهين ، أحدهما : أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز
النطق بالأصلِ ، ولم يَقُلْه أحد ، ويقولون : إشاح ووشاح وإعاء ووعاء . والثاني :
أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى
أَصلها ، ولم يُجْمع » إله « إلا على آلهة .
وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه
اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه ، كما ستقف عليه ، ثم جاء الجمع على
التزامِ البدل .
وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ ،
فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً ، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً . وقد
شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم » لاهِ أبوك « ، والأصل : للهِ
أبوك كما تقدم ، قالوا : وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ
بخط » اللات « اسم الصنم ، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً
تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه .
وقيل
: لئلا يُشَبَّه بخط « اللاه » اسمَ فاعل من لها يلهو ، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة
مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه ، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها
وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ . وقيل : حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط
عليها ، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله ، قال الشاعر :
28 أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ
وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ ، وإن كان أبو القاسم
الزمخشري قد أطلق التفخيمَ ، ولكنه يريد ما قلته . ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ
مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال . وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن
كابرٍ كما ذكره الزمخشري . ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ
ممالةٌ أي قريبة من الكسرة : فمنهم مَنْ يُرَقِّقها ، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها ،
وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه : « حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً » .
ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ
زائدةٍ ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال ، كما يقول الخليل في همزةِ
التعريف ، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ
وزنَه حينئذ فَعَّال نحو : لآَّل وسَآَّل ، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ
على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ .
ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب ، وهو سُريانيُّ
الوَضْعِ وأصله : « لاها » فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا : الله ، واستدلُّوا على
ذلك بقول الشاعر :
29 كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ ... يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي .
[ ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب ]
قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير ، ثم
زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك ، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ
: « لَهُ » ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً ، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل
اللغة ولا النَحْويين ، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة .
ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم ، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ
الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا
يُعَرِّفُه اسمه ، إنما تُعَرِّفه صفاتُه ، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة ،
واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه . وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك
تصفه ولا تَصِفُ به ، فتقول : إله عظيم واحد ، كما تقول : شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم ،
ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا
موصوفاً ، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه ، فلو
جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها ، وليس فيما عدا
الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً .
والقولُ
في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك ، إنما اختصرْتُ ذلك
خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب .
الرحمن الرحيم : صفتان مشتقتان من الرحمة ، وقيل : الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ
لم تَعْرِفْه في قولهم : { وَمَا الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه
بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ ، ولذلك لم يقولوا : وَمَنْ الرحمن؟ وقد
تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة .
وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن « الرحمن » بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له ، وذلك
مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة . واستدَلَّ على ذلك بأنه
قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ ، كقوله تعالى : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن :
1-2 ] { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] . وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه
لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله ، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى
تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ ، ألا تراهم قالوا : { وَمَا الرحمن } [ الفرقان : 60
] ولم يقولوا : وما اللهُ . انتهى . أمَّا قوله : « جاء غيرَ تابع » فذلك لا يمنعُ
كونَه صفةً ، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه ، كقولِه تعالى : {
وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [ فاطر : 28 ] أي نوع
مختلف ، وكقول الشاعر :
30 كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ
أي : كوعلٍ ناطح ، وهو كثير .
والرحمة لغةً : الرقةُ والانعطافُ ، ومنه اشتقاق الرَّحِم ، وهي الابطنُ
لانعطافِها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على
عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه . هذا معنى قول أبي القاسم
الزمخشري . ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ ، وقيل : الرحمة إرادةُ
الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك ، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ ، وهي
حينئذ صفةُ ذاتٍ ، وهذا القولُ هو الظاهرُ .
وقيل : الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ ، وقد تُستعملُ تارةً في
الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد ، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس
يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ ، وعلى هذا رُوي : « الرحمةُ من الله
إنعامٌ وإفضالٌ ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف » .
[ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : « وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي :
أكثرُ رحمة » . قال الخطَّابي : وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة ] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ
. وقال الحسين بن الفضل : « هذا وَهْمٌ من الراوي ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما
أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته » وقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله رفيقٌ
يحبُّ الرِفقَ ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف » ، ويؤيِّده الحديثُ ،
وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة .
واختلف أهلُ العلمِ في « الرحمن الرحيم » بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو
مختلفين .
فذهب
بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم ، ثم اختلف هؤلاء على قولين ، فمنهم
مَنْ قال : جُمِع بينهما تأكيداً ، ومنهم مَنْ قال : لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة -
لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه : الرحمنُ الرحيم ، فالجمعُ بين هاتين الصفتين
لله تعالى فقط . وهذا ضعيفٌ جداً ، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة
، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ .
ومنهم مَنْ قال : لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر ، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى
تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال : « رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة » ، يُروى ذلك عن
النبي صلَى الله عليه وسلم ، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ
، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط ، ويُروَى : رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة ، وفي
المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى .
وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضاً : فمنهم مَنْ قال : الرحمن
أبلغُ ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى ، واختاره الزمخشري ، وجعلَه من باب
غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً ، ولذلك يقال : رحمن الدنيا والآخرة
ورحيم الآخرة فقط ، قال الزمخشري : « فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى ، إلى
الأعلى ، كما يُقال : شُجاع باسل ولا يقال : باسِلٌ شجاع . ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ
الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ
والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف .
ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال : » رحيم الدنيا
وحمان الآخرة « لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا
المؤمن . لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ ،
بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ
بأضعافٍ ، وأثرُها فيها أظهرُ ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ
رحمةً ليوم القيامة . والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ ، فمبالغةُ »
فَعْلان « من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ » فعيل « من حيث التكرارُ
والوقوع بمَحَالِّ الرحمة . وقال أبو عبيدة : » وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل ،
فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل ، نحو : رجل غَضْبانُ للمتلئ
غضباً ، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول ، قال :
31 فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً ... فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ
فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل . والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ ، ولذلك
لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل . حكى ابنُ سِيده : « زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ
غيرك » .
والألفُ واللام في « الرحمن » للغلَبة كهي في « الصَّعِق » ، ولا يُطلق على غير
الباري تعالى عند أكثر العلماء ، لقوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا
الرحمن } [ الإسراء : 110 ] ، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه ، بخلاف « رحيم »
فإنه يُطلق على غيره تعالى ، قال [ تعالى ] في حَقَّه عليه السلام :
{
بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ
الكذاب -لعنه الله تعالى- :
32 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا
فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم ، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ
واللامِ أو مضافاً ، ولا يُلتفت لقوله : « لا زِلْتَ رَحْمانا » لشذوذه .
ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب ، ليس بعربيِّ الأصل ، وأنه بالخاء المعجمة
قاله ثعلب [ والمبرد وأنشد ] :
33 لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ ... بِالخَزِّ أو تَجْعلوا
اليَنْبُوتَ ضَمْرانا
أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ ... ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ
قُرْبانا
وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ ، الذي عليه الجمهور : الرحيمِ بكسر الميم
موصولةً بالحمد . وفي هذه الكسرة احتمالان : أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ
إعرابٍ ، وقيل : يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف ، فلمَّا وقع بعدها ساكن
حُرِّكت بالكسر . والثاني من وَجْهَي الوصل : سكونُ الميمِ والوقفُ عليها ،
والابتداءُ بقطع ألف « الحمد » ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه عليه السلام . الثالث :
حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : الرحيمَ الحمدُ « بفتح الميم ووصل ألف الحمد
، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل ، فألقَتْ حركة همزة
الوصل على الميم الساكنة . قال ابن عطية : » ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [ فيما
علمت ، « وهذا فيه نظرٌ يجيئ في : { الم الله } [ آل عمران : 1-2 ] قلت : يأتي
تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى ، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ
الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع ] ، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
الحمدُ
: الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا ، يقال : حَمِدْتُ
الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته ، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ
الجَواح ، إذ لا يقال : حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً ، بخلافِ
الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ ، يقال : شكرتُه على ما
أعطاني ، ولا يقال : شكرتُه على شجاعته ، ويكون بالقلب واللسان والجوارح ، قال
تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقال الشاعر :
34 أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً ... يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا
فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ . وقيل : الحمدُ هو الشكرُ بدليل
قولهم : « الحمدُ لله شكراً » . وقيل : بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ
من الشكرِ ، وقيل : الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه ، والشكرُ الثناءُ عليه
بأفعالِه ، فالحامدُ قسمان : شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة . وقيل : الحمدُ
مقلوبٌ من المدحِ ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب ، لأن المقلوبَ أقلُّ
استعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مستويان في الاستعمال ، فليس ادِّعاءُ قلبِ
أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس ، فكانا مادتين مستقلتين ، وأيضاً فإنه يَمْتنع
إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ ، فإنه يقال : « حَمِدْتُ الله » ولا يقال
مَدَحْته ، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك . ولقائلٍ أن يقول : مَنَعَ من ذلك
مانعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الراغب : « الحمدُ لله الثناء [ عليه ] بالفضيلة ، وهو أخصُّ من المدحِ
وأعمُّ من الشكر ، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه
بالتسخير ، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ
مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول ، والشكرُ لا يُقال
إلا في مقابلةِ نعمة ، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً ، وكلُّ حَمْدٍ
مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود إذا حُمِد ، ومُحْمَدٌ [ وُجد
محموداً ] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة ، وأحْمَدُ أي : إنه يفوق غيرَه في
الحمد » .
والألفَ واللامُ في « الحَمْد » قيل : للاستغراقِ وقيل : لتعريفِ الجنسِ ، واختاره
الزمخشري ، قال الشاعر :
35 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى الماجِدِ
القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ
وقيل : للعَهْدِ . وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق ، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك ،
ويُشْبِه أن يقال : إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ
يستحيلُ كونُها للاستغراقِ ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه
ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ .
والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه
على أَفْعُل وأنشد :
36 وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه ... بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي
وقرأ الجمهور : « الحمدُ لِلَّه » برفع الدال وكسر لام الجر ، ورفعُه على الابتداء
، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة .
ثم
ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار ، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً
، أي : الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله . والدليلُ على اختيار القول الأولِ
أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها ، وذلك أنك إذا قلت :
« خرجت فإذا في الدار زيدٌ » ، و « أمَّا في الدار فزيدٌ » ، يتعيَّن في هاتين
الصورتين تقديرُ الاسم ، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ
. وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور ، وهو ما إذا ما
وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ ، نحو : « الذي في الدار » فليكنْ راجحاً في
غيره . والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان
اعتباره أولى ، بخلاف وقوعه صلةً ، والأولُ غيرُ أجنبي .
ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها ، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ
إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوفُ لا يجوز
ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً ، فأمَّا قول الشاعر :
37 لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ ... فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ
كائِنُ
فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه . وأمَّا قوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً
عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ
المتعلِّقَ به . ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه
يتعيَّن أن يكون فعلاً ، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ
اسماً . واختلفوا : أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ؟ فقوم رجَّحوا
تقديرَ الاسمِ ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين .
وقرئ شاذاً بنصب الدال من « الحمد » ، وفيه وجهان : أظهرهُما أنه منصوبٌ على
المصدرية ، ثم حُذِف العاملُ ، وناب المصدرُ مَنَابَه ، كقولهم في الإِخبار : «
حمداً وشكراً لا كُفْراً » ، والتقدير : أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن
جملة خبرية . وقال الطبري : إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه ، فكأنه
قال : قولوا الحمدَ لله ، وعلى هذا يجييء « قولوا إياك » فعلى هذه العبارة يكون من
المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر ، وهو محتملٌ للوجهين ، ولكنَّ كونَه خبرياً
أَوْلَى من كونه طلبياً؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ
والمُبْدلِ منه . والثاني : أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ ، أو
اتلوا الحمدَ ، كقولهم : « اللهم ضَبُعاً وذئْباً » ، أي اجمَعْ ضبُعاً ، والأولُ
أحسن للدلالةِ اللفظيةِ .
وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب ، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر
التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب
فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ
والحدوثِ ، ولذلك قال العلماء : إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى
حكايةً عنه :
{
قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أحسنُ مِنْ قول الملائكة « قالوا سلاماً » ،
امتثالاً لقوله تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .
و « لله » على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره :
أَعْنِي لله ، كقولهم : سُقْياً له وَرَعْياً لك ، تقديرهُ : أعني له ولك ، ويدلُّ
على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا
المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا : / سُقياً زيداً ولا رَعْياً
عمراً ، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى
: { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] من باب الاشتغالِ لأنَّ «
لهم » لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ . ويحتمل أن يقال : إنَّ اللام في « سُقياً
لك » ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه .
وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال ، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها ، وهي
لغة تميم وبعض غطفان ، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس ، ومنه : « اضربِ
الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ » ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة . ومثله :
38 وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ
الأصل : ويلٌ لأُِمها ، فَحَذَفَ اللامَ الأولى ، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة
، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها ، وحَذَفَ الهمزةَ ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ
، فصار اللفظ : وَيْلِمِّها ، ومنهم مَنْ لا يُتبع ، فيقول : وَيْلُمِّها بضم
اللام ، قال :
39 وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ [ وإخلافٌ
وتَبِدِيلُ ]
ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ ، لأنَّ الإِعرابَ
مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ .
وقُرئ أيضاً : « لُلَّهِ » بضمِّ لامِ الجرِّ ، قالوا : وهي إتباعٌ لحركة الدالِ ،
وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة
الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس ، يُتْبعون الثاني للأول نحو :
مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين ، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم ، وعليه قُرئ : {
مُرْدِفين } [ الأنفال : 9 ] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في
« الحمدُ لله » وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها .
ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ ، أي الحمدُ مستحقٌ لله ، ولها معانٍ أُخَرُ ،
نذكرها الآن ، وهي الملك والاستحقاق [ نحو : ] المالُ لزيد ، الجُلُّ للفرس ،
والتمليك نحو : وَهَبْتُ لك وشبهِه ، نحو : { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] ، والنسب نحو : لزيد عَمُّ « والتعليلُ نحو : {
لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ النساء : 105 ] والتبليغ نحو : قلتُ لك ، والتعجبُ في
القسم خاصة ، كقوله :
40 للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ ... بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ
والتبيين نحو : قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، والصيرورةُ نحو قوله
تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، والظرفية :
إمَّا بمعنى في ، كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [
الأنبياء : 47 ] ، أو بمعنى عِنْد ، كقولهم : » كتبتُه لخمسٍ « أي عند خمس ، أو
بمعنى بَعْدَ ، كقوله تعالى :
{
أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : بعد دلوكها ، والانتهاء ،
كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ } [ فاطر : 13 ] ، والاستعلاء نحو قوله
تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] أي على الأذقان ، وقد
تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أو كان العاملُ فَرْعاً ، نحوُ قولِه
تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله :
41 ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً ... أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا
وأمَّا قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقيلَ
: على التضمين . وقيل هي زائدة .
قوله { رَبِّ العالمين } : الربُّ لغةً : السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود ،
ومنه :
42 أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه ... لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ
والمُصْلِح . وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد :
43 قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه ... بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ
والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك ، فليس هو معنى زائداً ، وقيل : يكون بمعنى الخالق
.
واختلف فيه : هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال : هو وصفٌ ثم اختلف
هؤلاء في وزنه ، فقيل : هو على وزن فَعَل كقولك : نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ ، وقيل
: وزنه فاعِل ، وأصله رابٌّ ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال ، كقولهم : رجل
بارٌّ وبَرٌّ . ولِقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل
هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ . ومنهم من قال :
هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه ، قال : « لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من
قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن » ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل ، نحو
: رجل عَدْلٌ وصَوم ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة ، نحو قوله
تعالى : { ارجع إلى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : « هو ربُّ الدار وربُّ
البعير » وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ ، قال الحارث بن
حلزة :
44 وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ
وهذا من كفرهم .
وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه ، وقُرئ منصوباً ، وفيه
ثلاثةُ أوجه : إمَّا [ منصوبٌ ] بما دَلَّ عليه الحمدُ ، تقديره : أَحْمَدُ ربِّ
العالمين ، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي
إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف . وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون
خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ .
وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في
ذلك : اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً ، أو
ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [ التابع ] الإِتباعُ والقطعُ ، والقطعُّ إمَّا
على النصب بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف ، ولا يَجُوز
إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ ، نحو قَولِهم : « الحمدُ لله أهلَ الحمدِ »
رُوِي بنصب « أهل » ورفعِه ، أي : أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد .
وإذا
تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ : إمّا إتْباعِ
الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ
البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع ، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ
، نحو : مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف
بالجملة المقطوعة .
والعالمين : خفضٌ بالإِضافةِ ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ
السالمِ ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه ، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم
، لأنَّ الصحيحَ في « عالَم » أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى ،
لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه ، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق
إلا على العقلاء دونَ غيرهم ، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم؛ لأن الجمع لا
يكون أخصَّ من المفرد ، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ « أعراباً » ليس جمعاً
لِ « عَرَب » لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ ، وأعراباً لا يُطلق
إلاَّ على البدوي دون القروي . فإنْ قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون « عالَمون » جمعاً
ل « عالَم » مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أُجيبَ عن
هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال : شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره
، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك . وفي الجواب نظرٌ ، إذ لقائلٍ أن يقول
: شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً ، فلا يلزم مِنْ
مَنْعِ ذلك منعُ « عالَمين » مراداً به العاقلُ ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن
ابن عباس أن « عالَمين » إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ
والإِنسُ ، وقال الراغبُ أيضاً : « إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به
كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به ، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة ،
فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ » ، وقال الراغب أيضاً : « وأمَّا جَمْعُه
جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم ، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ
غَلَب حكمُه » ، وظَاهرُ هذا أن « عالَمين » يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم ، وهو
مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ ، كما زَعَم بعضُهم ، وكلامُ الراغبِ
هو الأصحُّ الظاهرُ .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
نعت أو بدل ، وقُرئا منصوبَيْنِ مرفوعَيْنِ ، وتوجيه ذلك ما ذكر في { رَبِّ العالمين } ، وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقهِما في البسملة/ فأغنى عن إعادته .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
يجوز
أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مشتقٌّ
من المَلْك بفتح الميم ، وهو الشدُّ والربط ، قال الشاعر :
45 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما
وراءها
ومنه : « إملاكُ العَروسِ » ، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح .
وقُرئ « مالِك » بالألف ، قال الأخفش : « يقال : مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم
الميم ، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها » ، ورُوِي ضَمُّها أيضاً
بهذا المعنى . ورُوي عن العربِ : « لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك » مثلثةَ
الفاء ، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة ، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ ، والمضمومُ
هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره ،
والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه ، ولا
يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه . وقال
الراغب : « والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك -
بالكسر - مُلك ، وليس كل مُلك مِلكاً » ، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ
، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك ، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم ،
ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر . وقيل : الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل
مَنْ يَمْلِكُ السياسة : إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ
هواها ، وإمَّا في نفسه وفي غيره ، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ .
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى
، وهذا غير مَرْضِيٍّ ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن
ثعلب أنه قال : [ « إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن ] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً
على إعراب في القرآن ، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى »
نقله أبو عمر الزاهد في « اليواقيت » . وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ : « وقد
أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين ، حتى إنَّ
بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى ، وليس هذا
بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما ، ثم قال : » حتى إني
أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ « ذكر ذلك عند قوله : » مَلِك يوم
الدين ومالِك « .
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي
قَصَدوه . فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ » مالك « أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه ، إذ
يقال : » مالِكُ الجِّن والإِنس والطير « ، وأنشدوا على ذلك :
46 سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه ... مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ
وقالوا
: « فلانٌ مالكُ كذا » لمَنْ يملكه ، بخلاف « مِلك » فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك
نحو : « مَلِك العرب والعجم » ، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في
المعنى كما تقدَّم في « الرحمن » ، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي «
مَلِك » .
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ « مَلِك » ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم
أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله : { رَبِّ العالمين } فلا فائدةَ في
قراءةِ مَنْ قَرَأَ : « مالك » لأنها تكرارٌ ، قال أبو عليّ : « ولا حُجَّة فيه
لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً ، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ ، نحو : { هُوَ
الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] . وقال أبو حاتم : » مالِك «
أَبْلَغُ في مدح الخالق ، و » مَلِك « أبلغُ في مدحِ المخلوقِ ، والفرقُ بينهما أن
المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك ، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان
مالكاً . واختاره ابن العربي . ومنها : أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك
، بخلافِ » مالك « فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم ، ولإِشعارِه بالكثرةِ
، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك ، بقوله تعالى : » قل اللَّهُمَّ مالكَ
المُلْكِ « ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم ، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم-
الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه .
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام ، ومنه :
47 وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا
ومَليك . ومنه :
48 فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما ... قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها
ومَلِكي ، وتُرْوَى عن نافع .
إذا عُرف هذا فكونُ » مَلِك « نعتاً لله تعالى ظاهر ، فإنه معرفةٌ بالإِضافة ،
وأمَّا » مالك « فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً ، لأنَّ
إضافته محضة فَيَتعرَّف بها ، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ : »
مَلَكَ يومَ الدين « ، فجعل » مَلَك « فعلاً ماضياً ، وإن أُريد به الحالُ أو
الاستقبال فَيُشْكِلُ ، لأنه : إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ
اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف ، وإذا لم
يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ
الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً ، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ
بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم . والذي ينبغي أن يُقالَ : إنه نعتٌ على معنى أنَّ
تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه
بزمانٍ غيرَ معتبرٍ ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ
مطلقاً ، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ ، وهذا ما مالَ إليه أبو
القاسم الزمخشري .
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى » يوم الدين « من باب الاتِّساع ، إذ متعلَّقُهما غيرُ
اليوم ، والتقدير : مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين .
ونظيرُ
إضافة « مالك » إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة « طَبَّاخ » إلى « ساعات » من قول
الشاعر :
49 رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ
الكَسِلْ
إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو « زادَ الكَسِل » ، وفي الآيةِ الكريمةِ
غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه . ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ
حَذْفٍ .
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ ،
ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ : « مَلَكَ يومَ الدينِ » فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها
كونُ « يوم » مفعولاً به . والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل ، ومنهم مَنْ
جعلها في هذا النحو على معنى « في » مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ
اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] ، قال : « المعنى مَكْرٌ في الليل ، إذ الليل لا
يُوصَف بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ ، فالمكرُ واقعٌ فيه » . والمشهورُ أن
الإِضافةَ : إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى « مَنْ » ، وكونها بمعنى « في »
غيرُ صحيح . وأمَّا قولُه تعالى : { مَكْرُ اليل } فلا دَلالةَ فيه ، لأن هذا من
باب البلاغة ، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً
في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما ، فهو نظيرُ قولهم : نهارُه صائمٌ وليلُه قائم ، وقولِ
الشاعر :
50 أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ ... والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من
السَّاجِ
لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في
ذلك ، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم .
واليومُ لغةً : القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار ، قال تعالى : {
والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 29-30 ] ، وذلك
كنايةٌ عن احتضارِ الموتى ، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار ، وأمَّا/ في العُرْف فهو
من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس . وقال الراغب : « اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ
الشمس إلى غروبها » ، قلت : وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم ، وجعلوا
الفرقَ بينهما ما ذكرت لك .
والدِّيْنِ : مضافٌ إليه أيضاً ، والمرادُ به هنا : الجزاءُ ، ومنه قول الشاعر :
51 ولم يَبْقَ سوى العُدْوا ... نِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازَيْناهم كما جازونا ، وقال آخر :
52 واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ ... واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ
ومثله :
53 إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم ... ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا
ومثله :
54 حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما ... يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ
وله معانٍ أُخَرُ : العادَة ، كقوله :
55 كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها ... وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ
أي : كعادتك : ومثلُه :
56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني ... أهذا دِينُه أبداً ودِينِي
ودانَ عصى وأطاع ، وذلَّ وعزَّ ، فهو من الأضداد . والقضاءُ ، ومنه قوله تعالى : {
وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] أي في قضائِه
وحكمه ، والحالُ ، سُئل بعضُ الأعراب فقال : « لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه
لأَجَبْتُكَ » أي : على حالة .
والداءُ
: ومنه قول الشاعر :
57 يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
ويقال : دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر -
أي جازَيْتُه . والدِّينُ أيضاً : الطاعةُ ، ومنه : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } [
النساء : 125 ] أي : طاعةً ، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً ، قال تعالى : {
أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } [ آل عمران : 83 ] يعني الإِسلام ، بدليل قوله
تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل
عمران : 85 ] . والدِّينُ : سيرة المَلِك ، قال زهير :
58 لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ ... في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ
يقال : دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ ، ومنه قيل للعبدِ ، مَدين
ولِلأمَةِ مَدِينة . وقيل : هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته ، وجَعَل بعضُهم
المدينةَ من هذا الباب ، قاله الراغب . وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
«
إياك » مفعولٌ مُقدَّمٌ على « نَعْبُدُ » ، قُدِّم للاختصاصِ ، وهو واجبُ
الانفصالِ . واختلفوا فيه : هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟
فالجمهورُ على أنه مضمرٌ ، وقال الزجاج : « هو اسم ظاهر » ، وترجيحُ القولين
مذكورٌ في كتب النحو .
والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال ، أحدُها : أنه كلَّه ضميرٌ .
والثاني : أن : « إيَّا » وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما
يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب ، وثالثُها : أن « إيَّا » وحدَه ضميرٌ وما
بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به . ورابعها : أنَّ « إيَّا » عمادٌ وما بعده هو
الضمير ، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم : « إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه
وإيَّا الشَوابِّ » بإضافة « إيا » إلى الشَوابِّ ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ
الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت : إياك إياه إياي .
وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً ، ثم قال : هل هو مشتقٌ من « أَوّ
» كقول الشاعر :
59 فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
أو من « آية » كقوله :
60 لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي
ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في
المتوغِّل في البناء .
وفيه لغاتٌ : أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها
هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها . قال الشاعر :
61 فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ ... مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ
[ وقال بعضهم : إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه ] ، لأنه يصير « شمسَك نعبد ، فإنَّ
إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة ، وقد تُفتح ، وقيل : هي لها بمنزلة الهالة
للقمر ، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ ، قال :
62 سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه ... أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ
وقد قُرئ ببعضها شاذاً ، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ
، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به .
ونعبُدُ : فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ
الاسم ، وهذا رأيُ البصريين ، ومعنى المضارعِ المشابِهُ ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ
في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما
ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان ، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في
الأشخاصِ ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة .
والعِبادة غاية التذلل ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى
، فهي أبلغُ من العبودية ، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل ، ويقال : طريق مُعَبَّد
، أي مذلَّل بالوطء ، قال طرفة :
63 تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ
مُعَبَّدِ
ومنه : العبدُ لذلَّته ، وبعيرٌ مُعَبَّد : أي مُذَلَّل بالقَطِران .
وقيل
: العبادةُ التجرُّدُ ، ويُقال : عَبَدْت الله بالتخفيف فقط ، وعَبَّدْتُ الرجلَ
بالتشديد فقط : أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً .
وفي قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، إذ لو
جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل : الحمد الله ، ثم قيل : إياه نعبدُ ، والالتفاتُ :
نوع من البلاغة . ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى : { حتى إِذَا
كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، ولم يقل : بكم . وقد التفت
امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله :
64 تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ ... وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ
وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ ... كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ
وذلك من نبأٍ جاءني ... وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ
وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات ، وقال : بل هما
التفاتان ، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله : « ليلُك » إلى الغيبة
في قوله : « وباتَتْ له ليلةٌ » ، والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في
قوله : « من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه » . والجواب أن قوله أولاً : « تطاول ليلُك »
فيه التفاتٌ ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ : تطاول ليلي ، لأنه هو المقصودُ ،
فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، ثم
من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ .
وقُرئ شاذاً : « إِيَّاكَ يُعْبَدُ » على بنائِه للمفعول الغائبِ ، ووجهُها على
إشكالها : أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً ، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها
ضميرُ النصب لضمير الرفع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائعٌ كقولهم : عساك وعساه
وعساني في أحد الأقوال ، وقول الآخر :
65 يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا ... وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا
فالكاف في « عَصَيْكا » نائِبةٌ عن التاء ، والأصل : عَصَيْتَ . وأمَّا الالتفاتُ
فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ : إياك تُعْبَدُ بالخطابِ ، ولكنه التفتَ من
الخطاب في « إيَّاك » إلى الغيبة في « يُعْبَدُ » ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب ،
لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم . ونظيرُ هذا الالتفات قوله :
66 أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً ... سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال : « به » بعد قوله : « أنت وكنت » .
و « إيَّاك » واجبُ التقديمِ على عاملهِ ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان
ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه ، وتحرَّزوا بقولهم :
« لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ » من نحو : « الدرهمَ إياه أعطيتُك » لأنك لو
أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت : « الدرهمَ أعطيتُك إياه » لم يلزمِ الاتصالُ لِما
سيأتي ، بل يجوز : أعطيتُكه .
والكلام في « إياك نَسْتعين » كالكلام في « إياك نعبدُ » والواو عاطفة ، وهي من
المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى ، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور ، خلافاً
لطائفةٍ من الكوفيين . ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى .
وأصل
نَسْتعين : نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ ، لأنه من العَوْنِ ،
فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها ، فَسَكَنت الواوُ بعد
النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً . وهذه قاعدةٌ مطردَة ، نحو : ميزان
ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت .
والسينُ فيه معناها الطلبُ ، أي : نطلب منك العَوْنَ على العبادة ، وهو أحدُ
المعاني التي ل استفعل ، وله معانٍ أُخَرُ : الاتخاذُ نحو : استعْبَدَه أي : اتخذه
عبداً ، والتحول نحو : استحْجَرَ الطين أي : صار حَجَراً ، ومنه قوله : « إن
البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر » ، أي : تتحوَّل إلى صفة النسور ، ووجودُ الشيء بمعنى
ما صِيغ منه ، نحو : استعظَمه أي وجدَه عظيماً ، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ ،
نحو : استحسنه ، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو : أَشْلاه فاستشلى ، وموافقتُه له أيضاً نحو
: أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ ، وموافقةُ تفعَّل ، نجو : استكبرَ بمعنى تكبَّر ،
وموافقةُ افتَعَلَ نحو : استعصمَ بمعنى اعتصم ، والإِغناءُ عن المجردِ نحو :
استكفَّ واستحيى ، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه ، وللإِغناءِ بِهِ
عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو : استرجع واستعانَ ، أي : رَجَع وحَلَق
عانَتَه .
وقرئ « نِسْتعين » بكسر حرفِ المضارعةِ ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة ، وذلك
بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء ، لثقلِ ذلك . على أن بعضهم قال : يِيجَل
مضارع وَجِلَ ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ ،
وقد قرئ : { فإنهم يِيْلمونَ } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء ،
وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ
مكسورِ العينِ نحو : تِعْلم من عَلِمَ ، أو في أوله همزة وصل نحو : نِسْتعين من
استعان أو تاء مطاوعة نحو : نِتَعلَّم من تَعَلَّم ، فلا يجوز في يَضْرِبُ
ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة . ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى
الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي
فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها ، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما
أراد : فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد ، فقالت : بلى ، نِكْتَني ،
وكَسَرتِ النونَ ، فقال : لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى
.
والاستعانة : طلبُ العَوْن ، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ ، وقَدَّم العبادةَ على
الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة ، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة
والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ ، عليه
، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو : { كُلوا واشربوا } [
البقرة : 60 ] ، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قوله
تعالى : { اهدنا الصراط } : إلى آخرها : اهْدِ : صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ .
وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون . وقال بعضهم : إنْ وَرَدَتْ
صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ ، وبالعكس دعاءٌ ، ومن المساوي
التماسٌ . وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ ، أي : اهدِ أنت ، ون مفعول أول ، وهو
ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه ، ويستعملُ في موضع الرفع
والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ : نحو : قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا ، ولا يشاركه
في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر . وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك . تقول :
أكرمَنَي وَمرِّ بي ، وأنت تقومين يا هند ، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ
المحلِّ ، وفي الثاني مجرورتُه ، وفي الثالث مرفوعتُه . وهذا ليس بشيء ، لأن
الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر ، لأن الأولى للمتكلمِ
، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ . وقيل : بل يشاركه لفظُ « هُمْ » ، تقول : هم نائمون
وضربَهم ومررت بهم ، ف « هم » مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ ، وهو
للغائِبِين في كل حال ، وهذا وإن كان أقربَ من الأول ، إلا أنه في حالة الرفع
ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ ، فافترقا ، بخلاف « ن » فإن
معناها لا يختلف ، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة .
والصراطَ : مفعول ثان ، والمستقيمَ : صفتُه ، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة
المذكورة .
وأصل « هَدَى » أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا : إلى
أو اللام ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى
: 52 ] { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، ثم يُتَّسَعُ فيه ،
فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه ، فأصلُ اهدِنا الصراط : اهدنا للصراط
أو إلى الصراطِ ، ثم حُذِف .
والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب ، وَيدَّعون في نحو : « اضرب »
أنَّ أصله : لِتَضْرِب بلام الأمر ، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة
وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن ، وهذا ما لا حاجة إليه ، وللردِّ
عليهم موضع أَلْيَقُ به .
ووزن اهْدِ : افْعِ ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم
تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ .
والهدايةُ : الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها
قال امرؤ القيس :
67 فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه ... جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ
أو التبيينُ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] . أي
بَيَّنَّا لهم ، أو الإِلهامُ ، نحو : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [
طه : 50 ] أي ألهمه لمصالِحه ، أو الدعاءُ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
} [ الرعد : 7 ] أي داعٍ . وقيل هو المَيلُ ، ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [
الأعراف : 56 ] ، والمعنى : مِلْ بقلوبنا إليك ، وهذا غَلَطٌ ، فإنَّ تَيْكَ مادة
أخرى من هادَ يَهُود . وقال الراغب : « الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ
وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها ، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ
، وما كان إعطاءً بأَهْديت .
والصراطُ
: الطريقُ المُسْتَسْهَل ، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ ، قال :
68 فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ ... ومثله :
69 أميرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ
وقال آخر :
70 شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى ... تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ
أي الطريق ، وهو مشتق من السِّرْطِ ، وهو الابتلاعُ : إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه
أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه ، ألا ترى إلى قولهم : « قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت
أرضٌ جاهلَهَا » ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام :
71 رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً ... رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ
ساكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه
سَالِكُه .
وأصلُه السينُ ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف
الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو : صَقَر في سَقَر ، وصُلْح في سُلْح ،
وإصْبَع في اسبَع ، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر ، لما بينهما من التقارب .
وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً ، وقرأ به خلف حيث وَرَد ، وخلاَّد
الأول فقط ، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً ، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع
اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم .
والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث ، فالتذكيرُ لغة تميم ، وبالتأنيث لغة الحجاز ، فإنْ
استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة ، وفي الكثرة على فُعُل ، نحو :
حِمار وأَحْمِرة وحُمُر ، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو :
ذِراع وأَذْرُع . والمستقيم : اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد ، ومعناه السويُّ
من غير اعوجاج وأصله : مُسْتَقْوِم ، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين ، وسيأتي
الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى : { يُقِيمُونَ الصلاة } .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قوله
تعالى : { صِرَاطَ الذين } : بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل ، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة
، والبدلُ سبعة أقسام ، على خلافٍ في بعضها ، بدلُ كلٍ من كل ، بدلُ بعض من كل ،
بدلُ اشتمال ، بدل غلط ، بدل نسيان ، بدل بَداء ، بدل كل من بعض . أمّا الأقسامُ
الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها ، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً
بقوله عليه السلام : « إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها
ربعُها إلى العُشْر » ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن ، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ
فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة :
72 لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
قال : لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص ، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة . ولا
يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم
مستدلاً بظاهر قوله :
73 رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ... بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ
وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ « طلحة » قال : لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة ، وطلحة كلٌ ، وقد
أُبْدِل منها ، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس :
74 كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا ... لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
فغذاةَ بعضُ اليوم ، وقَد أبدل « اليومَ » منها . ولا حُجَّة في البيتين ، أمَّا
الأولُ : فإن الأصل : أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم
المضاف إليه مُقامه ، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر « طلحة » ، على
أن الأصل : أعظُمَ طلحة ، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف ، وأمَّا الثاني
فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم . ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب
دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ ، موضوعُها كتب النحو .
وقيل : إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى ، قاله
جعفر بن محمد ، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ
وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ .
والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة
ونكرة من معرفة ، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من
مضمر ومضمرٍ من ظاهر . وفائدةُ البدلِ : الإِيضاحُ بعد الإِبهام ، ولأنه يُفيد
تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ .
و « الذين » في محلِّ جرٍّ بالإِضافة ، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ
وهو جمع « الذي » في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً ،
وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه :
75 نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا ... يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا
وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه ، كقوله :
76 وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، بخلاف مفرده
، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم .
وأَنْعَمْتَ
: فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول ، والتاءُ في « أنعمتَ » ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ
متصلٌ . و « عليهم » جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت ، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ
جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ .
والهمزة في « أَنْعمت » لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه
ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه . ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى ، تقدَّم
واحدٌ ، والباقي : التعديةُ نحو : أخرجته ، والكثرة نحو : أظبى المكان أي كَثُر
ظِباؤه ، والصيرورة نحو : أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة ، والإِعانة نحو :
أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب ، والسَّلْب نحو : أَشْكَيْتُه أي :
أَزَلْتُ شِكايته ، والتعريض نحو : أَبَعْتُ المتاعَ أي : عَرَضْتُه للبيع ،
وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو : أَحْمدته أي وجدتُه محموداً ، وبلوغُ عدد نحو
: أَعْشَرَتِ الدراهم ، أي : بَلَغَتْ عشرةً ، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح ، أو
مكان نحو : أَشْأَمَ ، وموافقهُ الثلاثي نحو : أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته ، أو
أغنى عن الثلاثي نحو : أَرْقَلَ البعير ، ومطاوعة فَعَل نحو : قَشَع الريحُ
فَأقْشع السحابُ ، ومطاوعة فَعَّل نحو : قَطَّرْته فَأَقْطَرَ ، ونفي الغزيرة نحو
: أَسْرع ، والتسمية نحو : أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً ، والدعاء نحو :
أَسْقيته أي قلت له : سَقاك الله ، والاستحقاق نحو : أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق
الحصاد ، والوصولُ نحو : أَعْقَلْته ، أي : وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه ، والاستقبال
نحو/ : أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ ، والمجيء بالشيء نحو : أكثرتُ أي جئتُ
بالكثير ، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو : أشرقت الشمس أضاءت ، وشَرَقَتْ :
طَلَعت ، والهجومُ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم أي : اطَّلَعْتُ عليهم .
و « على » حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً ، نحو : عليه دَيْنٌ ، ولها معانٍ أُخَرُ
، منها : المجاوزة كقوله :
77 إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها
أي : عني ، وبمعنى الباء : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ]
أي بأَنْ ، وبمعنى في : { مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [
البقرة : 102 ] أي : في ملك ، والمصاحبة نحو : { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي
القربى } [ البقرة : 177 ] والتعليل نحو : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا
هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، أي : لأجل هدايته إياكم ، وبمعنى مِنْ : {
حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] أي : إلا من
أزواجهم ، والزيادة كقوله :
78 أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
لأن « تروق » يتعدَّى بنفسه ، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية ، فتكونُ اسماً في موضعين ، أحدُهما : أَنْ
يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله :
79 غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ
مَجْهَلِ
ومعناها معنى فوق ، أي من فوقه ، والثاني : أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى
تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها
ذلك كقوله :
80 هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها
ومثلُها في هذين الحكمين : عَنْ ، وستأتي إن شاء الله تعالى .
وزعم
بعضُهم أنَّ « على » مترددة بين الاسم والفعل والحرف : أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد
تقدَّما ، وأمَّا الفعلُ قال : فإنك تقول : « علا زيدٌ » أي ارتفع وفي هذا نظرٌ ،
لأنَّ « على » إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا
اشتقاقَ له فليس هو ذاك ، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم : إن
خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر .
والأصل في هاء الكناية الضمُّ ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ
الحجازيين ، نحو : عَلَيْهِم وفيهم وبهم ، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك
والكسرُ قبل ساكنٍ ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ
إلا في ضرورة كقوله : « وفيهُمِ الحكام » بكسر الميم .
وفي « عليهم » عشر لغات قُرئ ببعضها : عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم ،
عليهِمي ، عَلَيْهُمُ ، عليهِمُو : بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو ، عليهُمي
بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط ، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم ،
ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري .
و « غيرِ » بدلٌ من « الذين » بدلُ نكرة من معرفة ، وقيل : نعتٌ للذين وهو مشكلٌ
لأن « غير » نكرةٌ و « الذين » معرفةٌ ، وأجابوا عنه بجوابين : أحدهما : أن « غير
» إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين ، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت
الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ « غير » حينئذٍ بالإِضافة ، تقول : مررتُ بالحركة غير «
السكون » والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو
مرجوح . والثاني : أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل
معاملةَ النكراتِ ، وقيل : إنَّ « غير » بدلٌ من الضمير المجرور في « عليهم » ،
وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، ويُنوَى
بالأول الطرحُ ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ ، ألا ترى أنَّ التقديرَ
يصير : صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم .
و « المغضوب » : خفضٌ بالإِضافةِ ، وهو اسمُ مفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ
الجارُّ والمجرور ، ف « عَليهم » الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه ،
وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ : غيرِ الذين غُضِبَ عليهم . والصحيحُ في ألْ
الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ .
واعلَمْ أنَّ لفظَ « غير » مفردٌ مذكرٌ أبداً ، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز
تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه ، تقول : قامت غيرُك ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل
صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة ، وكذلك أخواتُها
، أعني نحوَ : مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب ، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على «
إلاّ » ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها ، وقد يُرَاد بها النفيُ ك لا ، فيجوز
تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في « لا » تقول : أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، أي
غير ضاربٍ زيداً ، ومنه قول الشاعر :
81
إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
تقديرُه : لغيرُ مكفورٍ عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي ، لو قلت
: جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ ، تريد : غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ ، لأنها ليست
بمعنى « لا » التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في « لا » . وفيها قولٌ
ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً ، وقولٌ ثالثٌ : مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ
فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ .
وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً ، فإدخالُ الألفِ واللامِ
عليها خطأٌ .
وقرئ « غيرَ » نصباً ، فقيل : حالٌ من « الذين » وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ
إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك ، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى ، وقيل :
من الضمير في « عليهم » وقيل : على الاستثناءِ المنقطعِ ، ومنعه الفراء قال : لأن
« لا » لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ ، كقوله :
82 ما كان يرضى رسولُ الله فِعْلَهما ... والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ
وأجابوا بأنَّ « لا » صلةٌ زائدةٌ ، مِثْلُها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقول الشاعر :
83 وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
84 وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه ... وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
وقول الآخر :
85 أبى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ
نائِلُه
ف « لا » في هذه المواضع صلةٌ . وفي هذا الجواب نظرٌ ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ
إنها غيرُ زائدة ، فقولُهم : إن « لا » زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها
بالمواضع المتقدمة لا يفيد/ ، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا : وُجِدَتْ « لا »
زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة . وتحتملُ أن تكونَ « لا » في
قوله : « لا البخلَ » مفعولاً به ل « أبى » ، ويكونَ نصبُ « البخلَ » على أنه بدلٌ
من « لا » ، أي أبى جودُه قولَ لا ، وقولُ لا هو البخلُ ، ويؤيِّدُ هذا قولُه : «
واستعجَلَتْ به نَعَمْ » فَجَعَلَ « نَعَم » فاعلَ « استعجَلَتْ » ، فهو من
الإِسناد اللفظي ، أي أبى جودُه هذا اللفظ ، واستعجل به هذا اللفظُ .
وقيل : إنَّ نَصْبَ « غيرَ » بإضمار أعني ، ويُحكى عن الخليل . وقدَّر بعضُهم بعد
« غير » محذوفاً ، قال : التقديرُ : غيرَ صراطِ المغضوبِ ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ
، فلم يقيِّدْه بجرِّ « غير » ولا نصبِه ، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها ، وتكون صفةً
لقوله : { الصراط المستقيم } ، وهذا ضعيفٌ ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم
الوصفُ ، فالأولى أن يكون صفةً ل « صراطَ الذين » ويجوز أن تكونَ بدلاً من {
الصراط المستقيم } أو من { صِرَاطَ الذين } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل ، وفي
جوازِه نظرٌ ، وليس في المسألة نقلٌ ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة
، أو حالاً من « الصراط » الأول أو الثاني .
.
. واعلم أنه حيث جَعَلْنَا « غير » صفةً فلا بد من القول بتعريف « غير » أو
بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ
« غير » .
و « لا » في قوله : { وَلاَ الضآلين } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من « غير
» لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ « الضالِّين » على { الذين أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون :
هي بمعنى « غير » ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صُرِّح ب « غير » كانَتْ
للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب .
و « الضَّالين » مجرورٌ عطفاً على « المغضوب » ، وقُرِئَ شاذاً : الضَّأَلِّين
بهمز الألف ، وأنشدوا :
86 وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ ... بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ
قال أبو القاسم الزمخشري : « فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين »
انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان ، قال الشاعر :
87 فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز « العَأْلَمِ » وقال آخر :
88 ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز ألف « زَوْزأة » ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ ، فإنهم قالوا في قراءة ابن
ذكوان : « مِنْسَأْتَه » بهمزة ساكنة : إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً .
فإن قيل : لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ
إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء
به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب
الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق
لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام .
والإِنعام : إيصالُ الإِحسان إلى الغير ، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه
الإِحسانُ من العقلاءِ ، فلا يقال : أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره .
والغضبُ : ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ ، ومنه قولُه عليه السلام : « اتقوا
الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم ، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه
وحُمْرةِ عينيه » ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره ،
ويقال : فلانٌ غَضَبة « إذا كان سريعَ الغضبِ .
ويقال : غضِبت لفلانٍ [ إذا كان حَيًّا ] ، وغضبت به إذا كان ميتاً ، وقيل :
الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ ، وقيل : إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ
، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ .
والضَّلال : الخَفاءُ والغَيْبوبةُ ، وقيل : الهَلاك ، فمِن الأول قولُهم : ضَلَّ
الماءُ في اللبن ، وقوله :
89
ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ ... عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا
والضَّلْضَلَةُ : حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي . ومن الثاني : { أَإِذَا
ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضلالُ : العُدول عن الطريق
المستقيم ، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا
} [ البقرة : 282 ] بدليلِ قوله : { فَتُذَكِّرَ } .
القول في « آمين » : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : استجِبْ ، فهي اسمُ فعلٍ
مبنيٌ على الفتحِ ، وقيل : ليس باسم فِعْل ، بل هو من أسماءِ الباري تعالى
والتقدير : يا آمين ، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك
لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ ، والثاني : أن أسماءَ الله
تعالى توقيفيةٌ . ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ
فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى : لأنه اسمُ فعلٍ ، وهو توجيهٌ حسنٌ ، نقله صاحب
« المُغْرِب » .
وفي آمين لغتان : المدُّ والقصرُ ، فمن الأول قوله :
90 آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا
وقال الآخر :
91 يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً ... ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
ومن الثاني قوله :
92 تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه ... آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا
وقيل : الممدودُ اسمٌ أعجمي ، لأنه بزنة قابيل وهابيل . وهل يجوز تشديدُ الميم؟
المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ ،
وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه { ولا
آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
إنْ
قيل : إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي ، بمعنى أن
الميم اسْمٌ لمَهْ ، والعينَ اسمٌ لعَهْ ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ
منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه ، فلا محلَّ لها
حينئذ من الإِعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو :
واحد اثنان ، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة ، أعني أنَّ في الأسماء التي لم
يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ ، أحدها : ما تقدَّم . والثاني :
أنها مُعْرَبَةٌ ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ ، وإليه
مالَ الزمخشري . والثالث : أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ . أو إنْ قيل : إنها
أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها ، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها ،
وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس ، كقوله : الميم من عليهم
والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/ ، فالرفعُ
على أحد وجهين : إمَّا بكونها مبتدأ ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه
مفصَّلاً . والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً : إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه :
اقرَؤوا : ألم ، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر :
93 إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ ... فذاك أمانةَ الله الثريدُ
يريد : وأمانةِ الله ، وكذلك هذه الحروفُ ، أقسم الله تعالى بها ، وقد ردَّ
الزمخشري هذا الوجه بما معناه : أنَّ « القرآن » في { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص :
1 ] و « القلم » في : { ن والقلم } [ القلم : 1 ] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما
، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف ، والأول
يلزم منه محذورٌ ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم ، قال : « وهم يستكرهون ذلك »
، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها ، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه
في محلِّ نصب . وهو ردٌّ واضح ، إلا أَنْ يقال : هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه
الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و { حموالكتاب } [ الزخرف : 1-2 ] و { ق والقرآن
} [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له .
والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها ، حُذِف حرف القسم ، وبقي عملُه
كقولهم : « واللهِ لأفعلنَّ » ، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء . وهذا
صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها .
فتلخَّص ممَّا تقدم : أن في « الم » ونحوها ستةَ أوجه وهي : أنها لا محلَّ لها من
الإِعراب ، أو لها محلٌّ ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ
أو حَذْفِ حرف القسم ، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم .
وأمَّا « ذلك الكتاب » فيجوز في « ذلك » أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه ،
والجملةُ خبرُ « ألم » ، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة ، ويجوز أن يكونَ « الم »
مبتدأً و « ذلك » خبره و « الكتاب » صفةٌ ل « ذلك » أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان ،
وأن يكونَ « ألم » مبتدأً و « ذلك » مبتدأ ثان ، و « الكتاب » : إما صفةٌ له أو
بدلٌ منه أو عطفُ بيان له .
و
{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ عن المبتدأ الثاني ، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول ، ويجوز
أن يكونَ « ألم » خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، تقديرُه : هذه ألم ، فتكونُ جملةً مستقلةً
بنفسها ، ويكونُ « ذلك » مبتدأ ثانياً ، و « الكتابُ » خبرُه ، ويجوز أن يكونَ
صفةً له أو بدلاً أو بياناً و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } هو الخبرُ عن « ذلك » ، أو
يكون « الكتابُ » خبراً ل « ذلك » و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ ثانٍ ، وفيه نظرٌ
من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى : {
فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] إذا قيل إنَّ « تَسْعَى » خبرٌ ، وأمَّا
إن جُعِل صفةً فلا .
وقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه ، ويجوز أَنْ
تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعاملُ فيه معنى الإِشارة ، و « لا
» نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها « إنَّ » ، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ ،
فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به ، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ
معنى الحرفِ ، وهو « مِنْ » الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر :
94 فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه ... فقال : ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ
وقيل : بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ ، وبيانُه في غير هذا
الكتابِ .
وزعم الزجاج أنَّ حركةَ « لا رجلَ » ونحوِه حركةُ إعراب ، وإنما حُذِف التنوين
تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ ، كقوله :
95 ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً ... يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ
ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ : ألا تَرَوْنني رجلاً؟ .
فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو : « لا خيراً
من زيد » ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة ، وأمًّا نحوُ :
96 تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ ... بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ
وقول الآخر :
97 أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ
وقول الآخر :
98 لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي ... وقولِه عليه السلام : « لا قريشَ بعد اليوم ،
إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه » فمؤولٌ .
و « ريبَ » اسمُها ، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو « فيه » ، إلا
أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريبَ
كائنٌ ، ويكون الوقف على « ريب » حينئذ تاماً ، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها ،
قالوا : لا عليك ، أي لا بأسَ عليك ، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع
بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر ، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي
عاملةٌ في الخبر .
ولها
أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو .
واعلم أن « لا » لفظٌ مشتركٌ بين النفي ، وهي فيه على قسمين : قسمٌ تنفي فيه
الجنسَ فتعملُ عمَل « إنَّ » كما تقدم ، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ
عملَ ليس ، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في
{ وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
و « ذلك » اسمُ إشارةٍ : الاسمُ منه « ذا » ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله
ثلاثُ رتبٍ : دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو : ذا وذي وهذا وهذي ، ووسطى
ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو : ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ ، وقصوى ولها/ المتصلُ
باللام والكاف نحو : ذلك وتلك ، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف ، ويجوز
دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإِشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول ، وبعضُ
النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين : دنيا وغيرَها .
واختلف النحويون في ذا : هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ
البصريين . ثم اختلفوا : هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ
ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت ، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً ، وقُلبت العينُ
ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها ، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ
، والمبني لا يدخله تصريف .
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه ، ومنه :
99 أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه ... تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا
أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [ أو لأنه كان
موعوداً به نبيُّه عليه السلام ، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ
المحفوظِ ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد ، وإلاَّ
فالمشارُ إليه لا يكون إلا حاضراً ذهناً أو حساً ، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً
بالغائبِ أي حساً ، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك ] .
والكتابُ في الأصل مصدرٌ ، قال تعالى : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24
] وقد يُراد به المكتوبُ ، قال :
100 بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
ومثله :
101 تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها ... كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ
وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع ، ومنه كتيبةُ الجيش ، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ
: خَرَزْتُها ، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ ، والجمع كُتَبٌ ، قال :
102 وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها
الكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدابَّةَ : [ إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر ] ، قال
:
103 لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به ... على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ
والكتابةُ عُرْفاً : ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ .
والرَّيْبُ : الشكُّ مع تهمة ، قال :
104
ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ ... إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ
وحقيقته على ما قال الزمخشري : قَلَقُ النفس واضطرابُها ، ومنه الحديث : « دَعْ ما
يَريبك إلى ما لا يَريبك » ، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال : « لا يُرِبْهُ أحد »
فليس قول من قال : « الريبُ الشكُّ مطلقاً » بجيدٍ ، بل هو أخصُّ من الشكِّ ، كما
تقدَّم .
وقال بعضهم : في الريب ثلاثةُ معانٍ ، أحدُها : الشكُّ . قال ابن الزبعرى :
105 ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ ... وثانيها التهمةُ : قال جميل بثينة :
106 بُثَيْنَةُ قالت : يا جميلُ أَرَبْتَني ... فقلت : كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ
وثالثها الحاجةُ ، قال :
107 قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ ... وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا
وقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز فيه عدةُ أوجهٍ ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه «
فيه » متقدماً عليه إذا قلنا : إنَّ خبرَ « لا » محذوف ، وإنْ قلنا « فيه » خبرُها
كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر « لا » تقديره : لا ريبَ فيه ، فيه هدىً ،
وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدَىً ، وأن يكونَ خبراً ثانياً ل « ذلك »
، على أن « الكتاب » صفة أو بدلٌ أو بيان ، و « لا ريب » خبرٌ أول ، وأن يكون
خبراً ثالثاً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » خبراً أول و « لا ريبَ » خبراً
ثانياً ، وأن يكونَ منصوباً على الحال من « ذلك » أو من « الكتاب » والعاملُ « فيه
» ، على كلا التقديرين اسمُ الإِشارةِ ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في « فيه » ،
والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل ، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم :
إمَّا على المبالغة ، كأنه نفس الهدى ، أو على حذف مضاف أي : ذا هدى أو على وقوعِ
المصدر موقعَ اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه
الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ . وأجازوا أن يكونَ « فيه » صفةً لريب فيتعلَّقَ
بمحذوفٍ ، وأن يكونَ متعلقاً بريب ، وفيه إشكالٌ ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً ، واسمُ
« لا » إذا كان مطولاً أُعرِب ، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ
عليه « ريبَ » لا لنفس « ريب » .
وقد تقدَّم معنى « الهدى » عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة
: 6 ] ، و « هُدَى » مصدرٌ على فُعَل ، قالوا : ولم يَجىءْ من هذا الوزن في
المصادر إلا : سُرى وبُكى وهُدى ، وقد جاء غيرُها ، وهو : لَقِيْتُه لُقَى ، قال :
108 وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ ... بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا
عَقْلا
والهُدى فيه لغتان : التذكير ، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه ، وقال الفراء : «
بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون : هذه هدىً » .
و « في » معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : زيدٌ في الدار ،
{
وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 197 ] ، ولها معانٍ أُخَرُ :
المصاحَبَةَ نحو : { ادخلوا في أُمَمٍ } [ الأعراف : 38 ] ، والتعليلُ : « إنَّ
امرأةً دخلتِ النارَ في هرة » ، وموافقةُ « على » : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي
جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، والباء : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ]
أي بسببه ، والمقايَسَةُ : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } [ التوبة :
38 ] .
والهاءُ في « فيه » أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ
، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين ، وقد قرأ حمزة :
« لأهلهُ امكثوا » وحفص في « عاهد عليهُ الله » ، « وما أنسانيهُ إلا » بلغةِ
الحجاز ، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو : فيه ومنه -
الاختلاسُ ، ويجوز الإِشباعُ ، وبه قرأ ابن كثير ، فإنْ تحرَّك ما قبلها
أُشْبِعَتْ ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن ، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً .
و « للمتقين » جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ ب « هُدَى » . وقيل : صفةٌ لهدى ، فيتعلَّقُ
بمحذوفٍ ، ومحلُّه حينئذٍ : إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه ، أي
: هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين . والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن
تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها ، ف « ألم » جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ
مضمرٍ ، و « ذلك الكتاب » جملةٌ ، و « لا ريبَ » جملةٌ ، و « فيه هدى » جملةٌ ،
وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ
بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصلُ بالعطفِ . قال الزمخشري ما معناه : فإن
قلت : لِمَ لَمْ يتقدَّمِ الظرفُ على الريب كما قُدِّم على « الغَوْل » في قوله
تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] قلت : لأنَّ تقديمَ الظرفِ ثَمَّ
يُشْعِرُ بأنَّ غيرَها ما نُفِيَ عنها ، فالمعنى : ليس فيها غَوْلٌ كما في خُمور
الدنيا ، فلَو قُدِّم الظرفُ هنا لأَفهمَ هذا المعنى ، وهو أنَّ غيرَه من الكتبِ
السماويةِ فيه ريبٌ ، وليس ذلك مقصوداً ، وكأنَّ هذا الذي ذكره أبو القاسم
الزمخشري بناءً منه على أن التقديمَ يُفيد الاختصاصَ ، وكأنَّ المعنى أنَّ خمرة
الآخرة اختصَّتْ بنفي الغَوْلِ عنها بخلافِ غيرِها ، وللمنازَعةِ فيه مجالٌ .
وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً
خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ ، قال علقمة :
109 تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها ... وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ
تَدْويمُ
وما أبعد هذا من الردِّ عليه ، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ .
فإن قيل : قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن ، وقولُه تعالى : { لاَ
رَيْبَ فِيهِ } ينفي ذلكَ . فالجوابُ من ثلاثة أوجه ، أحدُهما : أنَّ المنفيَّ
كونُه متعلقاً للريبِ ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ
المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه ، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ ، لأنه لم
ينظرْ حقَّ النظرِ ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به .
والثاني
: أنه مخصوصٌ ، والمعنى : لا ريبَ فيه عند المؤمنين ، والثالث : أنه خبرٌ معناه
النهيُ ، أي لا تَرْتابوا فيه . والأول أحسنُ .
و « المتقين » جمعُ مُتَّقٍ ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين ، الأولى لامُ الكلمة
والثانيةُ علامةُ الجمع ، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى
فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِف إحداهما ، وهي الأولى ، ومتَّقٍ من اتَّقَى
يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية ، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا
فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو : اتَّعَدَ من
الوَعْد ، واتَّسَرَ من اليُسْر ، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ ، قالوا : اتَّزر
واتَّكل من الإِزار والأكل .
ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً : الاتخاذ نحو : اتَّقى ، والتَّسَبُّب نحو :
اعْتَمَلَ ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو : اضطرب ، والتخيُّر نحو : انتخب ، والخطف
نحو : اسْتَلَبَ ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو : انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ ، ومطاوعةُ
فَعَّل نحو : عَمَّمْتُه فاعتمَّ ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو :
اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ ، وموافقةُ المجرد
نحو : اقتَدَرَ بمعنى قَدَر ، والإِغناءُ عنه نحو : استلم الحجرَ ، لم يُلفظ له
بمجردٍ .
والوِقايةُ : فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه ، ومنه : فرسٌ واقٍ
إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه . وقيل : هي في أصل اللغة قلةُ الكلام ، وفي
الحديث : « التقيُّ مُلْجَمٌ » ومن الصيانة قوله :
110 سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ
وقال آخر :
111 فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ ... بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ
ومِعْصَمِ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{
الذين يُؤْمِنُونَ } : « الذين » يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ ، والظاهرُ
الجرُّ ، وهو من ثلاثة أوجه ، أظهرُها : أنه نعتٌ للمتقين ، والثاني : بدلٌ ،
والثالث : عطفُ بيان ، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ
محذوفٍ على معنى القطع ، وقد تقدَّم . والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان :
أحدهما : أولئك الأولى ، والثاني : أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ . وهذان القولان
رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه : « والذين يؤمنون » يمنع كونَ « أولئك » الأولى
خبراً ، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ « أولئك » الثانية خبراً أيضاً ، وقولُهم الواوُ
زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه . والنصبُ على القطع ، و « يؤمنون » صلةٌ وعائدٌ ، وهو
مضارعٌ ، علامةُ رفعهِ النونُ ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ . والأمثلةُ الخمسةُ
عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ ، نحو
: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين . والمضارعُ معربٌ أبداً ، إلا أن يباشرَ
نونَ توكيدٍ أو إناثٍ ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب .
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي ، فالهمزة في «
أَمِنَ » للصيرورة نحو : أَعْشَبَ المكانُ أي : صار ذا عشبٍ ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ
نحو : كَبَّ فَأَكَبَّ ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف ، وقد
يتعدَّى باللام كقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] {
فَمَآ آمَنَ لموسى } [ يونس : 83 ] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ
بالباء ، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين .
وأصلُ « يُؤْمِنون » : يُؤَأْمِنُون بهمزتين ، الأولى : همزةُ أَفْعَل ، والثانيةُ
: فاء الكلمةِ ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية ، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد
حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو : أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم
وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم ، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك
إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو : أنا أُكرم . الأصل : أُأَكْرِمُ بهمزتين ،
الأولى : للمضارَعةِ ، والثانيةُ : هَمزَةُ أَفْعل ، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها
حَصَل الثِّقَلُ ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أولى بالمحافظةِ عليه ، ثم حُمِل باقي
البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك ،
إلا في ضرورة كقوله :
112 فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
و « بالغيبِ » متعلِّق بيؤمنون ، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ
المفعولِ . وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ
مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من
فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ . وقال الزمخشري : « يجوز أن يكون
مخفَّفاً من فَيْعِل نحو : هَيْن من هيِّنٍ ، ومَيْت من مَيِّت » ، وفيه نظرٌ لأنه
لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره ، فإنها سُمِعَتْ
مخفَّفةً ومثقَّلةً ، ويَبْعُد أن يقالَ : التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً .
ويجوز
أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي : يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن
المؤمِنِ بهِ ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه .
وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها
فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو : راس وبير ويُؤمن ، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها
همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن .
و « يُقيمون » عطفٌ على « يُؤمنون » فهو صلةٌ وعائدٌ . وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت
همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون ،
فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في « مستقيم » ، وقد
تقدَّم في الفاتحة . ومعنى يُقيمون : يُدِيمون أو يُظْهِرون ، قال الشاعر :
113 أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ ال ... طِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً
وقال آخر :
114 وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا ... حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ
و « الصلاةَ » مفعول به ووزنُها : فَعَلَة ، ولامها واو لقولهم : صَلَوات ، وإنما
تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً ، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ
وهما : عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر
منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب ، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه
، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق . والصلاةُ
لغةً : الدعاءُ ، قال :
115 تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا ... يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ
والوَجَعا
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي ... يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا
أي : مثلُ الذي دَعَوْتِ ، ومثلُه :
116 لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها ... وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها
وَزَمْزَما
وفي الشرع : هذه العبادةُ المعروفة ، وقيل : هي مأخوذةٌ من اللزوم ، ومنه : «
صَلِيَ بالنار » أي لَزِمَها ، [ قال ] :
117 لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ الل ... هُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار ، إذا
فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه ، قال
:
118 فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ ... فما صلى عَصاكَ كمُسْتديمِ
ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من
الياء .
و { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } جارٌّ ومجرور متعلِّق ب « يُنْفِقون » ، و « ينفقون
» معطوفٌ على الصلة قبله ، و « ما » المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنْ
تكونَ اسماً بمعنى الذي ، ورزقناهم صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، قال أبو البقاء : «
تقديره : رزقناهموه أو رزقناهم إياه » ، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ ،
لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة ، وهو واجبُ الانفصال
، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه ،
نصُّوا عليه ، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ
الدلالةُ على ذلك الغرضِ . ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران
جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه ، ويكون كقوله :
119
وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ ... لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها
وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ
القُبْح اللفظي . وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ
هنا . الثاني : يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في
عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً . الثالث : أن تكونَ مصدريةً ، ويكونُ
المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي : مرزوقاً ، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال
: « لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ » من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ .
والرزقُ لغةً : العطاءُ ، وهو مصدرٌ ، قال تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] ، وقال الشاعر :
120 رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه ... إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما
رُزِقا
وقيل : يجوز أن يكونَ « فِعلاً » بمعنى مَفْعول نحو : ذِبْح ورِعْي ، بمعنى مذبوح
وَمَرْعِيّ . وقيل : الرزق بالفتح مصدرٌ ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة
الشكر ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82
] وسيأتي في موضعه ] ، ونفق الشيء نَفِد ، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه
فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت ، قال الزمخشري ، وهو
كما قال نحو : نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل ،
وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ : ماتَتْ نُفوقاً : والنفقَةُ :
اسمُ المُنْفَق .
و « مِنْ » هنا لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أُخر : بيانُ الجنس
: { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، والتعليل : { يَجْعَلُونَ
أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } [ البقرة : 19 ] ، والبدلُ : {
بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] ، والمجاوزةُ : { وَإِذْ غَدَوْتَ
مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] ، وانتهاء الغاية قريبٌ منه ، والاستعلاءُ : {
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] ، والفصلُ : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ
المصلح } [ البقرة : 220 ] ، وموافقةُ الباءِ وفي : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ
خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] ،
والزيادةُ باطِّراد ، وذلك بشرطين : كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ ،
واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط ، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً .
والهمزةُ في « أَنْفَقَ » للتعدية ، وحُذِفَتْ من « ينفقون » لِما تقدَّم في {
يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قوله
تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ } : الذين عطفٌ على « الذين » قبلَها ، ثم لك
اعتباران : أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله :
121 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله :
122 يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال ... صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ
يعني : أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ .
والثاني : أن يكونوا غيرهم . وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على
موضعِ « الذين » المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً ،
كما مرَّ تفصيله ، ويجوز أن يكونَ عطفاً على « المتقين » ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه
« أولئك » وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ « الذين » الأولى ، و « يؤمنون » صلةٌ
وعائدٌ .
و « بما أُنْزِلَ » متعلِّقٌ به و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، و « أُنْزِلَ » صلتُها
وهو فِعْلٌ مبني للمفعول ، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ ، ويَضْعُف
أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، وقد منع أبو البقاء من ذلك ، قال : « لأنَّ النكرةَ
الموصوفةَ لا عموم فيها ، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل » .
و « إليك » متعلِّقٌ ب « أُنزل » ، ومعنى « إلى » انتهاءُ الغاية ، ولها معانٍ
أُخَرُ : المصاحَبَةُ : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [
النساء : 2 ] ، والتبيين : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] ،
وموافقة اللام وفي ومِنْ : { والأمر إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي لك : وقال
النابغة :
123 فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني ... إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ
أي في الناس ، وقال الآخر :
124 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَيُسْقَى فلا
يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا
أي : لا يُرْوى مني ، وقد تُزَادُ ، قُرئ : « تهوى إليهم » بفتح الواو .
والكافُ في محلِّ جرٍّ ، وهي ضميرُ المخاطبِ ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ
والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب . والنزولُ : الوصول والحلولِ من غير
اشتراطِ علوٍّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ]
أي حلَّ ووَصَل ، و « ما » الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على « ما » الأولى قَبلَها ،
فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على « ما » التي قبلَها ، فَلْيُتأمَّلْ .
و « مِنْ قبلِك » متعلِّقٌ ب « أُنْزِلَ » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، و « قبل
» ظرف زمان يقتضي التقدُّم ، وهو نقيضٌ « بعد » ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف
أُعْرِبَ ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم ، فمِن
الإِعرابِ قولُه :
125 فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً ... أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وقال آخر :
126 ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فما شَرِبوا بَعْداً على
لَذَّةً خَمْرا
ومن البناء قولُه تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4
] ، وزعم بعضُهم أن « قبل » في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً ، فإذا قلت : «
قمتُ قبلَ زيد » فالتقدير : قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ ، فحُذِف هذا كلُّه
، ونَاب عنه « قبل زيد » وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله .
واعلمْ
أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم ، وقرئ : « بما
أَنْزَلَ إليك » مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ ، وقُرئ أيضاً :
أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه
الآخر في قوله :
127 إنما شِعْريَ مِلْحٌ ... قد خُلْط بجُلْجُلانْ
بتسكين « خُلْط » ثم حَذَف همزةَ « إليك » ، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ .
و « بالآخرةِ » متعلِّقٌ بيوقنون ، و « يُوقنون » خبرٌ عن « هم » وقُدِّم المجرورُ
للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] لذلك ، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ
الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف : {
وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ
وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ ، أو
لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ : ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون .
والإِيقانُ : تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال : يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر
ما تحته ، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف ، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن ،
وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل .
والآخرة : تأنيث آخِر المقابل لأوَّل ، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ
والتقديرُ : الدار الآخرة أو النشأة الآخرة ، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال
تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] ، وقال : { ثُمَّ الله
يُنشِىءُ النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو ، كأنهم
جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، والواوُ المضمومةُ
يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط : منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً ، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها
، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها ، وألاّ تكونَ زائدةً ، على خلافٍ في هذا الأخير ،
وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } [
آل عمران : 153 ] ، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ
نفسِها لِما ذكرت ذلك ، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل « بالسُّؤْقِ » [ ص :
33 ] ، و « على سُؤْقِه » [ الفتح : 29 ] ، وقال الشاعر :
128 أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى ... وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ
بهمز « المُؤْقدين » . وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد
والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك . وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم
قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ ، لأنه لا بد
من وقوعه فكأنه نَزَل ، فهو من باب قولهِ : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ،
بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله
تعالى : { أولئك } : مبتدأٌ ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى ،
وهذه الجملة : إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله : { الذين يُؤْمِنُونَ } إمَّا
الأولى وإمَّا الثانية ، ويجوز أن يكون « أولئك » وحدَه خبراً عن { الذين
يُؤْمِنُونَ } أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية ، ويكون « على هدى » في هذا الوجهِ
في محلِّ نصب على الحالِ ، هذا كلُّه إذا أعربنا { الذين يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ،
أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمّا تقدم . ويجوز أن يكونَ {
الذين يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، و « أولئك » بدلٌ أو بيانٌ ، و « على هدى » الخبرُ ،
و « مِنْ ربهم » في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى ، ومِنْ لابتداء الغاية . ونَكَّر «
هُدَى » ليفيدَ إبهامُه التعظيم كقوله :
129 فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى ... على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ
ورُوِيَ « مِنْ ربهم » بغير غُنَّة وهو المشهورُ ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو .
و « أولئك » : اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث ، وهو مبنيٌّ على
الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار ، وفيه لغتان : المدُّ والقَصْر ، ولكنَّ
الممدود للبعيد ، وقد يقال : أولا لِك ، قال :
130 أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً ... وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا
لِكَا
وعند بعضهم : المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد ، وفيه لغاتٌ
كثيرة . وكتبوا « أولئك » بزيادةِ واو قبل اللام ، قيل للفرقِ بينها وبين « إليك »
.
{ وأولئك هُمُ المفلحون } : « أولئك » مبتدأ و « هم » مبتدأ ثانٍ ، و « المفلحون »
خبره ، والجملةُ خبر الأول ، ويجوز أن يكونَ « هم » فصلاً أو بدلاً ، والمفلحون :
الخبر . وفائدةُ الفصل : الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً ،
ويفيدُ أيضاً التوكيدَ ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون « أولئك » الأولى أو الثانية
خبراً عن « الذين يؤمنون » ، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين . وكَرَّرَ « أولئك »
تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح ، فجُعِلت
كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت
لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها .
وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ
المفلحون } بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرَيْن هنا متغايران
فاقتضى ذلك العطفَ ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ ، لأن
التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل
، قال الزمخشري : « وفي اسم الإِشارة الذي هو » أولئك « إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد
عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم ، كقول
حاتم : » وللهِ صعلوكٌ « ، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة ، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله
:
131
فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه ... وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً
والفلاحُ أصله الشَّقُّ ، ومنه قوله : « إن الحديد بالحديد يفلح » ومنه قول بكر بن
النطاح :
132 لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها ... إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح
ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَة وهو مقصودُ الآيةِ ، ويُراد به البَقاءُ
، قال :
133 لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ ... أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقال آخر :
134 نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا ... ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ
وقال :
135 لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه
وقال آخر :
136 أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بال ... ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله
تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } : الآية ،
« إنَّ » حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما
كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ ،
لكن النواسخَ غالباً ، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه
المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر ، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختصُّ
أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها . ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها
بهذا الكتابِ .
و { الذين كَفَرُواْ } اسمُها ، و « كفروا » صلةٌ وعائدٌ و « لا يؤمنون » خبرُها ،
وما بينهما اعتراضٌ ، و « سواءٌ » مبتدأ ، و « أأنذرتهم » وما بعده في قوة التأويل
بمفرد/ هو الخبرُ ، والتقدير : سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ ، ولم يُحْتَجْ هنا
إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ . ويجوز أن يكون سواءٌ « خبراً مقدماً ، و »
أنذرتهم « بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه : الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ . وهذه
الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو » لا يؤمنون « كما
تقدَّم ، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن ، وجملة » لا يؤمنون « في محلِّ
نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ ،
أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك ، ويجوز أن يكونَ » سواءٌ «
وحده خبرَ إنَّ ، و » أأنذرتَهُم « وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه
فاعلٌ له : والتقديرُ : استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه ، و » لا يؤمنون « على ما
تقدَّم من الأوجه ، أعنى الحالَ والاستئناف ، والدعاءَ والخبريةَ .
والهمزةُ في » أأنذرتَهُمْ « الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ ، إذ
المرادُ التسويةُ ، و » أأنْذَرْتَهم « فعل وفاعل ومفعول .
و » أم « هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً ، ولكونها متصلةٌ شرطان ، أحدُهما : أن
يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً ، والثاني : أن يكونَ ما
بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما
تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء ، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا ب » لا « .
فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً . وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، وجوابُها
نعم أَوْلا ، ولها أحكامٌ أُخَرُ .
و » لم « حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي
المنقطع ، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ
شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] ، وهذا
لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه
ماضياً في المعنى كما تقدَّم ، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى ، أم المعنى دونَ
اللفظ؟ قولان أظهرهُما الثاني ، وقد يُحْذَفُ مجزومُها .
والكَفْر
: السِّتْر ، ومنه سُمِّي الليل كافراً ، قال :
137 فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ ... وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ
وقال آخر :
138 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها
في كافِر
وقال آخر :
139 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ليلةٍ كَفَر النجومَ
غَمامُها
و « سواء » اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي ،
فيتحمَّل حينئذ ضميراً ، ويَرْفع الظاهرَ ، ومنه قولُهم : مررت برجلٍ سواءٍ
والعدمُ « برفع » العَدَم « على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في » سواء « ،
وشذَّ عدمُ الفصل ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع : إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً ،
وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو » سِيّ « بمعنى مِثْلَ ، تقول : »
هما سِيَّان « أي مِثْلان ، قال :
140 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
على أنه قد حُكي » سواءان « وقال الشاعر :
141 وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها
فسواءٌ خبر عن جمع وهو » صحيحات « . وأصله العَدْل . قال زهير :
142 أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
أي : يَعْدِل بيننا العَدْلُ ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك : قاموا
سَواءَ زيد ، وإنْ شاركه لفظاً . ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ
في » سواء « المستثنى به ، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في » سواء «
الذي بمعنى الاستواء . وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة
بأم كهذه الآية ، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى : { فاصبروا أَوْ لاَ
تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد
يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة :
143 سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه ... أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ
فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه ، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو :
144 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سواءٌ صحيحاتُ العيون
وعُورُها
والإِنذار : التخويفُ . وقال بعضهم : هو الإِبلاغ ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف
يَسَعُ زمانُه الاحترازَ ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ
قال :
145 أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل ... قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو
ويتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ]
{ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً
تقديرُه : أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ
له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره .
والهمزةُ في » أَنْذَرَ « للتعدية ، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ
مرادٍ ، فقال ابن عطية : » لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ ، وإنما جرى عليه
لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ ، ألا ترى أنَّك إذا
قلتَ مُخْبراً : « سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ » ، وإذا قلتَ مستفهماً : «
أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ »؟ فقد استوى الأمران عندكَ ، هذان في الخبر وهذان في
الاستفهام ، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه ، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى
على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام ، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ
وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً « وهو كلامٌ حسنٌ .
إلا
أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله : « أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام
ومعناه الخبر » بما معناه : أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ
لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم ، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ
الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .
ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ « أم لم تُنذِرْهم » والابتداء بقوله : « لا يؤمنون »
على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه ، وإنْ
كانَ قد نقله الهذلي في « الوقف والابتداء » له .
وقرئ « أَأَنْذَرْتَهُمْ » بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ ، وبتخفيف الثانية
بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً ، ومنه
:
146 أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ
وقال آخر :
147 تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ ... فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ
وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة ، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ
، قال : « لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما ، ولأن تخفيفَ مثلِ
هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ » وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً ،
وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر .
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله
تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } . . الآية { على قُلُوبِهمْ } : متعلّق
بخَتَم ، و « على سمعهم » يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك ، أعني
نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23
] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه ، و « غِشَاوة » مبتدأ ،
وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ
عليها جاز الابتداء بها ، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء
بالنكرة ، والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا بخلافِ قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى
عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ ، فعلى
الاحتمال الأول يُوقف على « سمعهم » ويُبتدأ بما بعده وهو « وعلى أبصارهم غشاوةٌ »
فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر ، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على «
قلوبهم » ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو « على » ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك
بتغايرِ الختمين ، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ . وقد فرَّق
النحويون بين : « مررت بزيد وعمرو » وبين : « مررت بزيد وبعمرو » ، فقالوا : في
الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران ، وهو يؤيِّد ما قلته ، إلاَّ أن
التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين ، أعني جَعْلَ « وعلى سَمْعِهم » معطوفاً
على قوله « على قلوبهم » وجَعْلَه خبراً مقدماً ، وأمَّا التعليلُ بتغاير
الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني
إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين ، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ
الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين .
وقُرئ : « غِشاوةً » نصباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، الأولُ : على إضمار فعلٍ لائق ،
أي : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى : {
وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . والثاني : الانتصابُ على
إِسقاط حرف الجر ، ويكون « وعلى أبصارهم » معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم
الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب
ما بعده كقوله :
148 تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
أي تمرون بالديارِ ، ولكنه غيرُ مقيسٍ . والثالث : أن يكونَ « غِشاوةً » اسماً
وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى ، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة
يشتركانِ في معنى السَِّتر ، فكأنه قيل : « وخَتَم تغشيةً » على سبيل التأكيد ،
فهو من باب « قَعَدْتُ جلوساً » وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها
مُغَشَّاةً .
وقال الفارسي : « قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ : إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على
خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ ،
وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر ، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه »
خَتَم « تقديره : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، فيجيء الكلامُ من باب :
149
يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحا
وقوله :
150 عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها
ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار « . واستشكل بعضهم هذه
العبارةَ ، وقال : » لا أَدْري ما معنى قوله : « لأن النصبَ إمَّا أن تحمله على
خَتَم الظاهر » ، وكيف تَحْمِل « غشاوةً » المنصوبَ على « ختم » الذي هو فعل وهذا
ما لا حَمْلَ فيه؟ « . ثم قال : » اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى { خَتَمَ
الله على قُلُوبِهمْ } دعاءٌ عليهم لا خبرٌ ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر
المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ فكأنه قيل : وغَشَّى الله على أبصارهم ،
فيكون إذ ذاك معطوفاً على « خَتَم » عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء
، نحو : « رَحِمَ الله زيداً وسقياً له » ، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين « غشاوة
» المعطوفِ وبين « ختم » المعطوفِ عليه بالجار والمجرور « انتهى ، وهو تأويلٌ حسنٌ
، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً ، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف
والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفِ ، فتحرير
التأويلِ أنْ يقال : فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ
والمجرور .
وقُرئ » غشاوة « بفتح العين وضَمِّها ، و » عشاوة « بالمهملة . وأصوبُ القراءاتِ
المشهورةُ ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة
كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة .
والخَتْمُ لغةً : الوَسْمُ بطابع وغيره و » القلبُ « أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا
العضوُ ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها ، عليه
، ولهذا قال :
151 ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه ... فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ
وتَحْويلِ
ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه ، وكثيراً ما
يراد به العقلُ ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه .
والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ، قال :
152 وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ
كَذِبُ
أي في استماعه ، والسِّمْع - بالكسر - الذِّكْرُ الجميل ، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب
من الضبُعِ ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ
حقيقةً ، ولأنه على حذفِ مضافٍ ، أي مواضعِ سَمْعِهم ، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن
، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله :
153 كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم ، وَمثلُه :
154 لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي : جلودها ، ومثله :
155 لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا
وقُرِئَ شاذاً » على أسماعِهم « وهي تؤيِّد هذا .
والأَبْصار
: جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ ، قالوا : وليس بمصدر
لجَمْعِه ، ولقائلٍ أن يقولَ : جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما
سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما
تقدَّم في قلوب جمع قَلْب ، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به ، ويجوز أن
يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً
كما تقدَّم .
والغِشاوى الغِطَاءُ ، قال :
156 تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي
أَلومُها
وقال :
157 هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي ... إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ
البَرِمَا
وجَمْعُها غِشَاءٌ ، لمَّا حُذِفَتِ الهاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ ، وقيل : غشاوى
مثل أَداوى ، قال الفارسي : « ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو ، وإذا لم
يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يغشى بدليلِ قولِهم :
الغِشْيان ، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ
من الياء ، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة » انتهى .
وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء ، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون
مادة الواو ، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين : غ ش و ، و غ ش ي ، ثم
تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى ، وهذا
أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو
فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل؟
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } : « لهم » خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و «
عذابٌ » مبتدأ مؤخر ، و « عظيمٌ » صفته ، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم ، لأنَّ
للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه ، فهو نظير : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [
الأنعام : 2 ] من حيث الجوازُ .
والعَذابُ في الأصل : الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ ، وقيل : أصلُه
المنعُ ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنه قيل للماء : عَذْب ، لأنه يمنع العطشَ ، والعذابُ
يمنع من الجريمة . و « عظيمٌ » اسمُ فاعلٍ من عَظُم ، نحو : كَريم من كَرُم غيرَ
مذهوبٍ به مذهبَ الزمان ، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ ، ثم قد توصفُ به المعاني ،
وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ
، والكبيرَ يقابل الصغيرَ ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان .
وفعيل له معانٍ كثيرةٌ ، يكون اسماً وصفةً ، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ ، والمفردُ اسمُ
معنى واسمُ عينٍ ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب ، والصفةُ مفردُ فُعَلَة
كعَرِيّ يجمع على عُرَاة ، ومفرد فَعَلة كَسِريٍّ يُجْمَعُ على سَراة ، ويكون اسمَ
فاعل من فَعُل نحو : عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم ، ومبالغةً في فاعِل نحو : عليم من
عالم ، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح ،
ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع ، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد ، ومُفاعِل كجليس
بمعنى مُجالِس ، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع ، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى
مُتَسَعِّر ، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن ، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب ،
وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب ، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح ، وبمعنى الفاعلِ والمفعول
كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط ، وجمع فاعِل كغريب
جمع غارِب .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
قوله
تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } . . الآية { مِنَ الناس } خبر مقدم و « من
يقول » مبتدأ مؤخر ، و « مَنْ » تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي :
الذي يقول أو فريقٌ يقول : فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً ، وعلى
الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ . واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً
، قال : لأن « الذي » يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإِبهام « انتهى .
وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله
بن أُبَيّ ورهطِه . وقال الأستاذ الزمخشري : » إن كانَتْ أل للجنس كانت « مَنْ »
نكرةً موصوفة كقوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ } [ الأحزاب : 23 ] ،
وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً « ، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ
للعهد ، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم ، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ »
مَنْ « موصولةً ، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/ . وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا
في موضعٍ تختص به النكرةُ ، كقوله :
158 رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه ... قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر : إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة ، قال
:
159 فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
و » مَنْ « تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً ، وهل تقع
نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة
:
160 يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له ... حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم
تَحْرُمِ
ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص : إمَّا على المبالغة أو على حذف
مضاف .
و » مِنْ « في » مِنَ الناس « للتبعيض ، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم
تقدُّم ما يتبيَّن بها . و » الناس « اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه ، ويرادفُهُ
» أناسِيٌّ « جمع إنسان أو إِنْسِيّ ، وهو حقيقةٌ في الآدميين ، ويُطْلق على الجن
مجازاً . واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ
ونون وسين والأصل : أناس اشتقاقاً من الأنس ، قال :
161 وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه ... ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ
لأنه أَنِس بحواء ، وقيل : بل أَنس بربه ، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً ، يدلُّ على
ذلك قوله :
162 إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمنينا
وقال آخر :
163 وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ
وقال آخر :
164 وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم ... دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين ، والأصلُ : نَوَسَ ، فَقُلبت الواوُ ألفاً
لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، والنَّوْس والحركةُ . وذهب بعضُهم إلى أنه من نون
وسين وياء ، والأصل : نَسِي ، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً ،
ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس ، قال : سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه
الإِنسان لنسيانه ، قال :
165
فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً ... فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس
ومثله :
166 لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما ... سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي
فوزنُه على القول الأول : عال ، وعلى الثاني ، فَعَل ، وعلى الثالث : فَلَع بالقلب
.
و « يقول » : فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على « مَنْ » ، والقولُ حقيقةً : اللفظُ
الموضوعُ لمعنىً ، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى
الكلام النفساني أيضاً ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ
يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] ، وتراكيبه الستة وهي : القول
واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ ، وإنْ
اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ . والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو : « قُلْتُ
خطبةً » ، وتحكى بعده الجملُ ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ
معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو ،
كقوله :
167 متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما ... يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما
وبغير شرط عندهم كقوله :
168 قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً ... هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا
و « آمَنَّا » : فعلٌ وفاعلٌ ، و « بالله » متعلقٌ به ، والجملةُ في محلِّ نصب
بالقول ، وكُرِّرَت الباءُ في قوله « وباليومِ » للمعنى المتقدِّم في قوله : {
وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 7 ] ، وقد سأل سائل فقال :
الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من
الناس لا من غيرهم . واُجيب عن ذلك : بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ
المؤمنين ، ثم ذِكْرُ الكافرين ، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين ، فصار نَظيرَ
التفصيلِ اللفظي ، نحو قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ } [ البقرة : 204 ] {
وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي } [ لقمان : 6 ] فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ
وكافرٍ ومنافقٍ ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ : إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ
لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك . وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ : وبعضُ الناسِ
كَيْتَ وكَيْتَ .
واعلم أن « مَنْ » وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً ، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ ، فإن أريد
بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى ، فتقول : « جاء مَنْ قام
وقعدوا » والآيةُ الكريمة كذلك ، روعي اللفظُ أولاً فقيل : « مَنْ يقول » ،
والمعنى ثانياً في « آمَنَّا » ، وقال ابن عطية : « حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ
الجمعِ في الرتبة ، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ ، لو
قلت : ومن الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز » . وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ
، وذلك لأنه منع من مراعاة [ اللفظ بعد مراعاة ] المعنى ، وذلك جائزٌ ، إلا أنَّ
مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى ، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر :
169
لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو ... ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي
وقال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ } [ التغابن : 9 ] إلى أن قال : «
خالدين » فراعى المعنى ، ثم قال : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فراعى
اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله : « أو يَستكينون » ثم راعى
اللفظَ في « إذا كافحته » . وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها ، أعني مِنْ
كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ أمَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ : « ليس
في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى » يعني تقول : مررت بمَنْ محسنون لك .
و « الآخِر » صفةٌ لليوم ، وهو مقابِلُ الأولِ ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات
المحدودة .
و { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ما نافية ، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ
الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ « هم » اسمَها ، وبمؤمنين خبرَها ، والباء زائدةٌ
تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ ، فلا تعملَ شيئاً ، فيكونُ « هم » مبتدأ و « بمؤمنين
» الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً ، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ
لا تُزاد في خبر « ما » إلا إذا كانَتْ عاملةَ ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق ، وهو
تميمي :
170 لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه ... ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
إلا أنَّ المختارَ في « ما » أن تكونَ حجازِيةً ، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح
بالنصب قال الله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] { مَا
هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها ، حتى زعم
بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآن إلا في قول الشاعر :
171 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها
أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ ... حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها
وأتى بالضمير في قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جمعاً اعتباراً بمعنى « مَنْ
» كما تقدم في قولِه « آمنَّا » . فإنْ قيل : لِمَ أتى بخبر « ما » اسمَ فاعل غيرَ
مقيَّدٍ بزمان ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم « آمنَّا » فيقال
: وما آمنوا؟ فالجوابُ : أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإِيمانَ منتفٍ عنهم في
جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم « آمنَّا » فقال : وما آمنوا لكان
يكونُ نفياً للإِيمان في الزمن الماضي فقط ، والمرادُ النفيُ مطلقاً ، أي : إنهم
ليسوا متلبسين بشيء من الإِيمان في وقتٍ من الأوقات .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قوله
تعالى : { يُخَادِعُونَ الله } : هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً
جواباً لسؤال مقدَّر ، وهو : ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل :
يُخادعون اللهَ ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً ل « مَنْ » وهي «
يقولُ » ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال ، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو
نظيرُ قوله :
172 إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا
وقول الآخر :
173 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً
تَأجَّجَا
ف « تُؤْخَذَ » بدلُ اشتمالٍ من « تُبايع » وكذا « تُلْمم » بدلٌ من « تأتِنا » ،
وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . والجملُ التي لا محلَّ
لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي : المبتدأ
والصلة والمعترضة والمفسِّرة ، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها . ويُحْتمَل أن تكونَ
هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في « يقول » تقديرُه : ومن الناسِ مَنْ
يقول حالَ كونِهم مخادِعين . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ
المستكنِّ في « بمؤمنين » والعاملُ فيها اسمُ الفاعل . وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما
معناه : أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ : ما زيدٌ أقبل ضاحكاً ، قال : « وللعربِ
في مثل هذا التركيبِ طريقان ، أحدُهما : نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل ،
وهذا هو الأكثر ، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ ، وهذا المعنى لا
يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية ، أعني نفيَ الخِداع ، وثبوتَ الإِيمان . الطريقُ
الثاني : أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق : لم
يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً ،
أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً ، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع ،
ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في » بمؤمنين « . والعجبُ من أبي البقاء كيف
استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟
قال : » لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم ، والمعنى على إثباتِ الخداعِ « ، ثم
جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير » مؤمنين « ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا .
والخِداعُ أصلُه الإِخفاء ، ومنه الأَخْدَعان : عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه
مَخْدَع البيت ، فمعنى خادع أي : مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه ،
وقيل : هو الفساد ، قال الشاعر :
174 أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ
أي : فَسَد . والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء ، ومثله : الخَدِيعة . ومعنى يخادعون
الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى ، وقيل : لعدم عرفانِهم بالله تعالى
وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ . وقال أبو القاسم الزمخشري/ : » إنَّ اسمَ الله
تعالى مُقْحَمٌ ، والمعنى : يُخادِعون الذين آمنوا ، ويكون من باب « أعجبني زيدٌ
وكرمُه » .
المعنى
: أعجبني كرمُ زيد ، وإنما ذُكر « زيدٌ » توطئةً لذِكْر كرمه « وجَعَل ذلك نظيرَ
قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] {
إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] . وهذا منه غيرُ
مُرْضٍ ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا
ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى ، وأمَّا » أعجبني زيدٌ وكرمُه «
فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه ، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً
لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه
تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ : المشاركةُ المعنويةُ نحو : » ضاربَ زيدٌ عمراً «
وموافقةُ المجرد نحو : » جاوَزْتُ زيداً « أي جُزْتُه ، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً
نحو : » باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته « ، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو : » وارَيْتُ
الشيءَ « ، وعن المجردِ نحو : سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت ، والآيةُ فيها فاعَلَ
يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ . أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم
معناها ، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا ،
ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم ، وأمَّا كونُه بمعنى
المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة : » يَخْدَعون « .
وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان : » وما يُخَادِعون « كالأولى ، والباقون : وما
يَخْدعون ، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد ، أي يكون فاعَلَ بمعنى فَعَل
، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها ، أعني صدورَها من اثنين ، فهم يُخادعون
أنفسَهم ، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك
أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر :
175 لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها ... عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ
ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فيها وفي أختِها لم تَكَدِ
وقال آخرُ :
176 يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ
لا يَطورُها
وقوله » إلا أنفسَهم « : » إلا « في الأصل حَرف استثناء ، ِ وأنفسَهم مفعول به ،
وهذا الاستثناءُ مفرغٌ ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ » إلا « لِما بعدها
، ألا ترى أن » يُخادعون « يَفْتَقِرُ إلى مفعولٍ ، ومثلُه : » ما قام إلا زيدٌ «
فقام يفتقر إلى فاعل ، ٍ والتامُّ بخلافِه ، أي : ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ »
إلاَّ « لِما بعدها ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، وضرْبتُ القوم إلا بكراً ،
فقام قد أخذ فاعلَه ، وضرْبتُ أخذ مفعولَه ، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد
نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي . وأمَّا قولُهم : » قرأتُ إلا يومَ كذا «
فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره : ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا ، ومثلُه : { ويأبى
الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }
[
التوبة : 32 ] ، { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45
] ، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى .
وقُرئ : « وما يُخْدَعون » مبنياً للمفعول ، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما
يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم ، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ :
177 تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
و « يُخَدِّعون » ، مِنْ خَدَّعَ مشدداً ، و « يَخَدِّعون » بفتح الياء والتشديد
والأصل : يَخْتَدِعون فأدغم .
{ وَمَا يَشْعرونَ } هذه الجملةُ الفعليةُ ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من
الإِعراب ، لأنها استئنافٌ ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل «
يَخْدعون » ، والمعنى : وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين
بذلك . ومفعولُ « يَشْعُرون » محذوفٌ للعلم به ، تقديرُه : وما يشعرون أنَّ وبالَ
خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم ، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ
له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ ،
والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ ، والثاني
يُسَمَّى حذفَ الاقتصار ، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ .
والشعورُ : إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى ، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته ،
وقيل : هوالإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار ، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ ، ومنه
مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قولُه
تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } : الآية . الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ
التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله : { وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [
البقرة : 7 ] . والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ « مَرَض » ، ورَوى الأصمعي عن أبي
عمرو سكونَها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض . والمرضُ : الفتورُ ، وقيل :
الفساد ، ويُطلق على الظلمة ، وانشدوا :
178 في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ ... فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ
أي لظلمتها ، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت ، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ
بالظلمةِ .
وقوله : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ
الاسميةِ قبلها ، مُتَسَبِّبَةٌ عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في
قلوبهم ، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى . و « زاد
» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا ، فيجوز حذفُ
معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : زاد المال ، فهذا لازمٌ ، وزِدْتُ
زيداً خيراً ، ومنه { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ الله
مَرَضاً } « وزدتُ زيداً » ولا تذكر ما زِدْتَه ، وزدْتُ مالاً ، ولا تذكر مَنْ
زِدْتَه وألفُ « زاد » منقلبةٌ عن ياء لقولهم : يزيدُ .
{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظير قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [
البقرة : 7 ] وقد تقدَّم . وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم ، كقوله :
179 ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ
ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء ، وأَفْعال مثل : شريف وأَشْراف ، ويجوزُ أن
يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين ، وعلى هذا يكون نسبةُ
الألم إلى العذاب مجازاً ، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب ،
فهو نظيرُ قولهم : شِعْرٌ شاعِرٌ .
و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في « لهم » أي :
استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم . و « ما » يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي
بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل « كان » مصدراً ، وهو الصحيحُ عند بعضهم
للتصريحِ به في قول الشاعر :
180 بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ
فقد صرَّح بالكون . ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [ الخبر ] بعدها
، وهو : « إياه » ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه . وعلى
القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها ، لا تقول : « كان زيد قائماً
كوناً » ، قالوا : لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر ، ولا يُجْمع بين العِوَضِ
والمُعَوَّضِ منه ، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على « ما » لأنها حرفٌ
مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً .
ويجوز أن تكونَ « ما » بمعنى الذي ، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي : بالذي
كانوا يكذِّبونه ، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط ، وهو كونُه منصوباً
متصلاً بفعل ، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ .
وزعم
أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ ، قال : « لأن الهاء المقدرةَ
عائدةٌ على » الذي « لا على المصدرِ » وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ ، إذ لقائلٍ أن
يقولَ : لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة ، حتى يلزمَ جَعْلُ « ما » اسميةً
، بل مَنْ قرأ « يَكْذِبون » مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ ، ومَنْ قرأه
مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي : بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ
والقرآنَ ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف . وقرأ الكوفيون : « يَكْذِبون »
بالفتح والتخفيفِ ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ .
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمْيُ بكذا ، ومنه
الآيةُ الكريمةُ ، والتعديةُ نحو : فَرَّحْتُ زيداً ، والتكثير نحو : قَطَّعْتُ
الأثواب ، والجَعْلُ على صفة نحو : قطَّرْتُه أي : جعلته مُقَطَّرا ، ومنه :
181 قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا
والتسميةُ نحو : فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً ، والدعاءُ له نحو : سَقَّيْتُه
أي : قلت له : سَقاك الله ، أو الدعاءُ عليه نحو : عَقَّرْته ، أي : قلت له :
عَقْراً لك ، والإِقامة على شيء نحو : مَرَّضْتُه ، والإِزالة نحو : قَذَّيْتُ
عينَه أي أزلْتُ قَذاها ، والتوجُّه نحو : شَرَّق وغَرَّب ، أي : تَوَجَّه نحو
الشرق والغرب ، واختصارُ الحكاية نحو : أَمَّن قال : آمين ، وموافقة تَفَعَّل
وفَعَل مخففَّاً نحو : ولَّى بمعنى تَوَلَّى ، وقَدَّر بمعنى قَدَر ، والإِغناء عن
تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو : حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ ، قالوا : « مَنْ
دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر » وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً ، وإن لم
يُلْفَظْ به .
و « الكذب » اختلف الناسُ فيه ، فقائلٌ : هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه
ذهناً وخارجاً ، وقيل : بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم
أم لا . وقيل : الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج
أم لا ، والصدقُ نقيضُه ، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
قوله
تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } : الآية . « إذا »
ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً ، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق
أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط ، فإنها
للأمر المحتمل ، ومن الجزم قولُه :
182 تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي ... ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم
تَقِدِ
وقال آخر :
183 واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى ... تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ
وقول الآخر :
184 إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها ... خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ
فقوله : « فَنُضَارِبِ » مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه « كان وصلُها » . وقال
الفرزدق :
185 فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ ... وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ
وقد تكونُ للزمنِ الماضي ك « إذ » ، كما قد تكون إذْ للمستقبل ك « إذا » ، وتكون
للمفاجأة أيضاً ، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو
حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال ، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ ، وهل تتصرَّف أم لا؟
الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها ، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة
مَنْ قرأ : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً
رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } [ الواقعة : 1-4 ] بنصب { خَافِضَةً
رَّافِعَةً } ، فَجَعَلَ « إذا » الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها ، التقديرُ :
وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض ، وبقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [
الزمر : 71 ] { حتى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] ، فجعلَ « حتى » حرفَ جر و «
إذا » مجرورةً بها ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه . ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ
الفعليةِ خلافاً للأخفش .
وقولُه تعالى : « قيل » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ ، وأصلُه : قُولَ كضُرِبَ
فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها ،
فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً ، وهذه أفصحُ اللغاتِ ، وفيه لغةٌ ثانية
وهي الإِشمامُ ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ ، ولغةٌ
ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم ، نحو : قُوْلَ وبُوعَ ، قال الشاعر :
186 ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ ... ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ
وقال آخر :
187 حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ ... تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ
وقال الأخفش : « ويجوزُ » قُيْل « بضم القافِ والياءُ » يعني مع الياء لا أنَّ
الياءَ تضمُّ أيضاً . وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ
ونحوها ، فتقول : اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور ، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ
ورِدَّ ، وأنشدوا :
188 وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ... ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ
بكسر حاء « حِلَّ » وقرئ : « ولو رِدُّوا » بكسر الراء ، والقاعدةُ فيما لم
يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً ، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ
آخرهِ لفظاً نحو : ضُرِب أو تقديراً نحو : قِيلَ واخْتِير ، وإن كان مضارعاً فُتح
لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو : يُقال ويُختار ، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي
أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ
وصل نحو : انطُلِق بزيدٍ .
واعلم
أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ ، فإن أَلْبس
عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس ، هكذا قال بعضُهم ، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ
ذلك ، وأشمَّ الكسائي : { قيل } [ البقرة : 11 ] ، { وغيض } [ هود : 44 ] { وجيء }
[ الزمر : 69 ] ، { وحيل بينهم } [ سبأ : 54 ] ، { وسيق الذين } [ الزمر : 71 ] ،
{ وسيىء بهم } [ هود : 77 ] ، { وسيئت وجوهُ } [ الملك : 27 ] ، وافقه هشام في
الجميع ، وابنُ ذكوان في « حيل » وما بعدها ، ونافع في « سيئ » و « سيئَتْ »
والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع . والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح
القرَّاء سيأتي ذلكَ في « يوسف » إن شاء الله تعالى عند { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا
} [ يوسف : 11 ] فإنه أليقُ به .
و « لهم » جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل ، واللامُ للتبليغ ، و « لا » حرفُ نهي
تَجْزِمُ فعلاً واحداً ، « تُفْسِدوا » مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون
لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ ، و « في الأرضِ » متعلّقٌ به ، والقائمُ مقامَ الفاعل
هو الجملةُ من قوله « لا تُفْسِدوا » لأنه هو المقولُ في المعنى ، واختاره أبو
القاسم الزمخشري ، والتقديرُ : وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ ، فهو من
باب الإِسنادِ اللفظي . وقيل : القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه : وإذا قيل لهم
[ قولٌ ] هو ، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه : { حتى
تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] والمعنى : « وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ » فَأُضْمِر
هذا القولُ الموصوفُ ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب ،
قال : « فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي ، وقد أمكن ذلك
بما تقدَّم » وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال : « والمفعولُ القائمُ
مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره ، ولا يجوزُ أن
يكونَ » لا تُفْسِدوا « قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا
تقومُ مقامَ الفاعل » . انتهى . وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى : وإذا قيل
لهم هذا اللفظُ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « لهم » قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي
الكوفيين والأخفشِ ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه . وتلخَّص
مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه : « لا تُفْسدوا » في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري ،
ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه . والجملةُ من قوله : « قيل » وما في
حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه . والعاملُ في « إذا » جوابُها عند
الجمهور وهو « قالوا » ، والتقدير : قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا
تُفْسدوا ، وقال بعضهم : « والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ
لها ، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط ، فحكمُها حكمُ
الظروفِ التي يُجازى بها ، فكما أنك إذا قلتَ : » متى تقمْ أقمْ « كان » متى «
منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك » إذا « .
قال
هذا القائل : « والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك : » إذا قمت فعمورٌ قائمٌ
« ، ووقوعُ » إذا « الفجائية جواباً لها ، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل
ما بعدهما فيما قبلهما . وهو اعتراضٌ ظاهر .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } » إنَّ « حرفٌ مكفوفٌ ب » ما « الزائدة
عن العمل ، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً ، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم . وأَبْعَدَ
مَنْ زعم أن » إنما « مركبة من » إنَّ « التي للإِثبات و » ما « التي للنفي ،
وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ . واعلم أنَّ » إنَّ « وأخواتِها إذا
ولِيَتْها » ما « الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ ، إلا
» ليت « فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً ، وأنشدوا قولَ النابغة :
189 قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا ... إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ
برفع » الحمام « ونصبه ، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها ، وأمَّا إهمالُها
فلحَمْلِها على أخواتها ، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على
رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل » ما « موصولةً بمعنى الذي ، كالتي في قوله تعالى :
{ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] و » هذا « خبرُ مبتدأ محذوف هو
العائدُ ، و » الحَمام « نعتٌ ل » هذا « و » لنا « خبر لليت ، وحُذِف العائدُ وإنْ
لم تَطُلْ الصلةُ ، والتقدير : ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا ، وهذا
أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها ، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ .
وزعم بعضُهم أن » ما « الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في
الجميع .
و » نحن « مبتدأ ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم ، ومن معه ، أو المعظِّمِ نفسه
، و » مصلحون « خبرُه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا . والجملة
الشرطيةُ وهي قولُه : » وإذا قيلَ لهم « عطفٌ على صلة مَنْ ، وهي » يقولُ « ، أي :
ومن الناس مَنْ يقول ، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا :
. وقيل : يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من
الإِعراب لما تقدم ، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول
الثاني ، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على » يَكْذِبُون « الواقع
خبراً ل » كانوا « ، فيكونَ محلُّها النصبَ . وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي
أجازاه على أحدِ وَجْهَي » ما « مِنْ قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } خطأٌ ،
وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، إذ لا عائدَ فيها يعود على » ما « الموصولةِ ،
وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج .
والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن » ما « موصولةٌ حرفيةٌ
، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به ، ولكنه يُشْكِل على أبي
البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ » ما « مصدريةً كما تقدم .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قوله
تعالى : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } : الآية . « ألا » حرف تنبيه واستفتاح ،
وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ ، بل هي بسيطةٌ ، ولكنها لفظٌ
مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح ، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية ، وبين
العَرْض والتخصيص ، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً ، وتكون النافيةَ للجنس
دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام ، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله { لاَ رَيْبَ
فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى « ليت » في بعض أحكامِها .
وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى ، يقول القائل : لم يقم زيد ، فتقول : ألا
، بمعنى بلى قد قام ، وهو غريب .
و « إنهم » « إنَّ » واسمُها ، و « هم » تَحْتمل ثلاثةَ أوجه ، أحدها : أن تكون
تأكيداً لاسم « إنَّ » لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ
ضروبِ الضميرِ المتصلِ ، وأن تكون فصلاً ، وأن تكونَ مبتدأ و « المفسدون » خبره ،
وهما خيرٌ ل « إنَّ » ، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ « المفسدون » وحده
خبراً لإِنَّ . وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد ، منها : الاستفتاحُ والتنبيه
والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر
مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم : إنما نحن مصلحون ، لأنهم
أَخْرجوا الجوابَ جملةً اسمية مؤكَّدة بإنما ، لِيَدُلُّوا بذلك على ثبوتِ الوصفِ
لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه .
قوله تعالى : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها
و « لكن » معناها الاستدراكُ ، وهو معنىً لا يفارقها ، وتكون/ عاطفةً في المفردات
، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ ، نحو : « ما قام
زيدٌ لكن خرج بكر » ، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة :
190 ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ ... ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ
فقوله : : متى يسترفدِ القوم أرفدِ « ليس ضداً ولا نقيضاً لما قبله ، ولكنه خلافُه
. قال بعضهم : وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعَى ، لأنَّ قولَه : » لستُ بحلاَّل
التِّلاعِ لبيته « كنايةٌ عن نفي البخلِ أي : لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ ،
وقوله : » متى يسترفد القوم أرفد « كنايةٌ عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلاً ولكن
كريماً ، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ . ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس ، ولها
أحكامٌ كثيرة .
ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر ، وذلك أنهم
لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم
مصلحون في ذلك ، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن
ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى
الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك ، ومثلُه قولك : » زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم « ،
وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل ، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ
بهذا الوصفِ من نفسه ، لأن الإِنسانَ ينبغي له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من
الصفات فاستدركْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله .
ومفعول » يَشْعرون « محذوف : إمَّا حذفَ اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ،
وإمَّا حذفَ اقتصار ، وهو الأحسنُ ، أي ليس لهم شعورٌ البتة .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قوله
تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُواْ } : الكلامُ عليها كالكلامِ على
نظيرتِها قبلها . وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ
على ما تقدَّم في { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] ،
والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ هنا فلا حاجة لذِكْرِها .
والكافُ في قوله : { كَمَآ آمَنَ الناس } في محلِّ نصبٍ . وأكثرُ المُعْرِبينَ
يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، والتقدير : آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس ، وكذلك
يقولون في : « سِرْ عليه حثيثاً » ، أي سيراً حثيثاً ، وهذا ليس من مذهب سيبويه ،
إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ
المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ .
وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا
يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ ، ليس هذا منها ، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً
بالموصوفِ ، نحو : مررت بكاتبٍ ، أو واقعةً خبراً نحو : زيد قائم ، أو حالاً نحو :
جاء زيدٌ راكباً ، أو صفةً لظرف نحو : جلستُ قريباً منك ، أو مستعمَلةً استعمالَ
الأسماء ، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه ، نحو : الأَبطح والأَبْرق ، وما عدا هذه
المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : « ألا ماءَ ولو
باردا » ، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف ، وأجاز : ألا ماءَ ولو بارداً لأنه
نَصْبٌ على الحال .
و « ما » مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف ، و « آمَنَ الناسُ » صلتُها . واعلم أن « ما
» المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف ، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ
المتصرِّف في قوله :
191 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ
والغَدْرِ
وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ ، واستُدِلَّ على جوازه ، بقوله :
192 واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ ... فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ
وقول الآخر :
193- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ ... كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب
وقول الآخر :
194- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا ... كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ
إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله : « واصلْ خليلَك . البيت .
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ » ما « كافةً للكاف عن العمل ، مثلُها في
قولك : ربما قام زيد . ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا ، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ
للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً . والألفُ واللامُ في »
الناس « تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً . والهمزةُ في » أنؤمن « للإِنكار أو
الاستهزاءِ ، ومحلُّ » أنؤمن « النصبُ ب » قالوا « .
وقوله : { كَمَآ آمَنَ السفهآء } : القولُ في الكافِ و » ما « كالقول فيهما فيما
تقدَّم ، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ ، وأَبْعَدَ مَنْ
جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق ، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم ، بحيث إذا قيل
السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون ، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص .
والسَّفَهُ
: الخِفَّةُ ، تقول : « ثوبٌ سفيه » أي خفيفُ النَّسْج . وقوله : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ
السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } كقولِه فيما تقدَّم : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ
المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] فلا حاجة إلى إعادتِه . ومعنى
الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم ، إلا أنه قال هناك : « لا يشعرون » ، لأن المثبتَ
لهم هناكَ هو الإِفسادُ ، وهو ممَّا يُدْرَكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات
التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير ، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ
مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم ،
والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ به هو الأمرُ بالإِيمان وذلك ممَّا
يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ يُفْضي إلى الإِيمانِ والتصديقِ ، ولم يَقَعْ
منهم المأمورُ به وهو الإِيمانُ ، فناسَبَ ذلك نفيَ العلمِ عنهم . ووجهٌ ثان وهو
أن السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور ، قال السمَوْءَل :
195- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا ... فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ
والعلمُ نقيضُ الجهلِ فقابلَه بقولِه : لا يَعْلمون ، لأنَّ عدمَ العلمِ بالشيءِ
جهلٌ به .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
قوله
تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } : « إذا » منصوب بقالوا
الذي هو جوابٌ لها ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك ، و « لَقُوا » فعلٌ وفاعل ،
والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها . وأصل لَقُوا : لَقِيُوا بوزن
شَرِبوا ، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة ، فحُذِفَتِ الضمةُ
فالتقى ساكنان : لامُ الكلمة وواوُ الجمع ، ولا يمكن تحريكُ أحدهما ، فَحُذِف
الأول وهو الياء ، وقُلِبت الكسرةُ التي على القاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير ،
فوزن « لَقُوا » : فَعُوا ، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ نحو : خَشُوا وحَيُوا .
وقد سُمع في مصدر « لَقي » أربعة عشر وزناً : لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون
العين ، ولِقاء ولِقاءة [ ولَقاءة ] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة ، ولَقَى
ولُقَى بفتح القافِ وضمها ، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما
والتشديد ، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد ، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم
الفاء وكسرها ، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً ، وتِلْقاء .
و « الذين آمنوا » مفعولٌ به ، و « قالوا » جوابُ « إذا » ، و « آمنَّا » في محلِّ
نَصْبٍ بالقول .
قوله تعالى : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا } تقدَّم نظيرُه ،
والأكثرُ في « خلا » أن يتعدَّى بالباء ، وقد يتعدَّى بإلى ، وإنما تعدَّى في هذه
الآية بإلى لمعنى بديعٍ ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما :
الانفرادُ ، والثاني : السخرية والاستهزاءُ ، تقول : « خَلَوْتُ به » أي سَخِرْتُ
منه ، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط ، أو تقول : ضُمِّن خَلا
معنى صَرَف فتعدَّى بإلى ، والمعنى : صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم ، أو تضمَّن معنى
ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق :
196 ألم تراني قالِباً مِجنِّي ... قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي
أي : صرفه بالقتل ، وقيل : هي هنا بمعنى مع ، كقوله : { وَلاَ تأكلوا
أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . وقيل : هي بمعنى الباء ،
وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز
في الحروف لضَعْفِها . وقيل : المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، ف «
إلى » على بابِها ، قلت : وتقديرُ « مِن المؤمنين » لا يجعلُها على بابِها إلاَّ
بالتضمينِ المتقدِّم .
والأصل في خَلَوْا : خَلَوُوْا ، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة
ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها ، فبقيَتْ ساكنةً ، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ
، فالتقَى ساكنان ، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً
عليهَا .
و « شياطينهم » جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن
شياطين : إمَّا فعاليل أو فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في
الاستعاذة . والفصيح في « شياطين » وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ
، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم ، سُمع منهم :
« لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون » ، وقُرئ شاذاً : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشياطون } [ الشعراء : 210 ] .
قوله
تعالى : { قالوا إِنَّا مَعَكُمْ } إنَّ واسمُها و « معكم » خبرُها ، والأصل في
إنَّا : إنَّنا ، كقوله تعالى : { إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً } [ آل عمران :
93 ] ، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني « إنَّ » لَمَّا اتصلت بنونِ ن ، تخفيفاً ، وقال
أبو البقاء : « حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في » إنَّ «
إذا خُفِّفَتْ .
و » مع « ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم ،
فيتعلَّقُ بمحذوف ، وهو ظرفُ مكانٍ ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ . قالوا : لأنه
يَدُلُّ على الصحبةِ ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ
فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو : » زيدٌ معك « ، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه
ذلك . واعلَم أنَّ » مع « لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله :
197 وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ ... وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما
وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ ، وإنْ كان
النحاس ادَّعَى الإِجماع في ذلك ، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ ، وقد
تُقْطَعُ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً ، تقولُ : جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ ،
وقد تقع خبراً ، قال الشاعر :
198 حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ ... مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما
مَعَا
فَشْعباكما مبتدأ ، و » معاً « خبرُه ، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً ،
و » معا « حالاً . واختلفوا في » مع « حالَ قَطْعِها عن الإِضافة : هل هي من باب
المقصور نحو : عصا ورحا ، أو المنقوص نحو : يد ودم؟ قولان ، الأولُ قولُ يونسَ
والأخفشِ ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى
الأول تقول : جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً ، وعلى الثاني : جاءني معٌ ورأيت
معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله : » وشَعْباكما معاً
لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر ، نحو : « زيدٌ عندَك » وفيها
كلامٌ أطولُ من هذا ، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ .
قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] ، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من
الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم ، كأنهم لمَّا قالوا لهم : « إنَّا
معكم » توجَّه عليهم سؤالٌ منهم ، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على
دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ ، وقيل : محلُّها النصب ، لأنها بدلٌ من قولِه
تعالى : « إنَّا معكم » . وقياسُ تخفيفِ همزةِ « مستهزئون » ونحوِه أن تُجْعَلَ
بينَ بينَ ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي منه حركتُها وهو الواو ، وهو رأيُ سيبويه
، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً . وقد وَقَف حمزةُ على « مستهزئون » و {
فَمَالِئُونَ } [ الصافات : 66 ] ونحوهِما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ
المصحفِ .
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قولُه
تعالى : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } : « اللهُ » رفعٌ بالابتداء و «
يَسْتَهْزىء » جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه ، و « بهم » متعلقٌ به ، ولا محلَّ
لهذه الجملة لاستئنافِها ، « وَيَمُدُّهم » في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر
وهو يستهزىء ، و « يَعْمَهُوْن » في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في « يَمُدُّهم »
أو من الضميرِ في « طغيانهم » وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ .
و « في طغيانهم » يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون ، وقُدِّم عليه ،
إلا إذا جُعِل « يَعْمَهون » حالاً من الضميرِ في « طُغْيانهم » فلا يتعلَّق به
حينئذ لفسادِ المعنى .
وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ « في طُغيانهم » و « يَعْمَهون » حالَيْن من
الضميرِ في « يَمُدُّهُمْ » ، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في
حالين ، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك ، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ
مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ
ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء ، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ
حالاً ، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ ، أعني يَمُدُّهُمْ
أو يَعْمَهُونَ ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ .
والمشهورُ فتحُ الياءِ من « يَمُدُّهم » ، وقُرئ شاذاً بِضمِّها ، فقيل : الثلاثي
والرباعي بِمعنى واحدٍ ، تقول : مَدَّة وأَمَدَّه بكذا ، وقيل : مَدَّه إذا زاده
من جنسه ، وأَمَدَّه إذا زادَه من غير جنسِه ، وقيل : مَدَّه في الشرِّ ، كقوله
تعالى : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وَأَمَدَّه في
الخير ، كقوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] ، {
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] ، { أَن يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ } [ آل عمران : 124 ] ، إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين
الفرقين أنه قرئ : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 202 ]
باللغتين ، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ
قولِهِ تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] { فَسَنُيَسِّرُهُ
للعسرى } [ الليل : 10 ] ، يعني أبو علي رحمه الله تعالى بذلك أنه على سبيل التهكم
.
وقال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في
العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ؟ قلت : كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير
وابنِ محيصن : » ويُمِدُّهم « وقراءةُ نافعِ » « وإخوانُهم يُمِدُّونهم » على أنَّ
الذي بمعنى أمهله إنما هو « مَدَّ له » باللام كأَمْلى له « .
والاستهزاءُ لغةً : السُّخْرِيةُ واللعبُ : يقال : هَزِئَ به ، واستَهْزَأَ قال :
199 قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ ... قالَتْ : أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ
وقيل : أصلُه الانتقامُ ، وأنشدَ :
200- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ
جُثَّمُ
فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها ، وأمَّا على
القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك .
فقيل
: المعنى يُجازيهم على استهزائهم ، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ
الكلامُ ، ومنه : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ،
{ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] . وقال عمرو ابن
كلثوم :
201 ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
وأصلُ المَدَدِ : الزيادةُ . والطغيانُ : مصدر طغى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً
بكسر الطاء وضمِّها ، ولامُ طغى قيل : ياءٌ وقيل : واو ، يقال : طَغيْتُ وطغَوْتُ
، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه : طَغَى الماءُ . والعَمَهُ : التردُّدُ
والتحيُّرُ ، وهو قريبٌ من العَمَى ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، لأن العَمَى
يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي ، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ
في الرأي ، يقال : عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وَعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قولُه
تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } : « أولئك » رفعٌ بالابتداءِ
والذين وصلتُه خبرُه ، وقولُه تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } هذه
الجملةُ عطفٌ على الجملةِ الواقعةِ صلةً ، وهي « اشْتَرَوْا » وزعم بَعضُهم أنها
خبرُ المبتدأ ، وأنَّ الفاءَ دَخَلَتْ في الخَبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ من معنى
الشرط ، وجعل ذلك نظيرَ قوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } [ البقرة :
274 ] ثم قال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } وهذا وَهْمٌ ، لأنَّ الذين اشتروا ليس
مبتدأ حتى يُدَّعَى دخولُ الفاءِ في خبره ، بل هو خبرٌ عن « أولئك » كما تقدَّم .
فإنْ قيل : يكونُ الموصولُ مبتدأً ثانياً فتكونُ الفاءُ دَخَلَتْ في خبره فالجوابُ
أنه يلزم مِن ذلك عدمُ الربطِ بين المبتدأ والجملة الواقعةِ خبراً عنه ، وأيضاً
فإنَّ الصلَةَ ماضيةٌ معنى . فإنْ قيل : يكونُ « الذين » بدلاً من « أولئك »
فالجوابُ أنه يصير الموصولُ مخصوصاً لإِبداله من مخصوصٍ ، والصلة أيضاً ماضيةٌ .
فإن قيل : يكونُ « الذين » صفةً لأولئك ويصيرُ نظيرَ قولك : « الرجلُ الذي يأتيني
فله درهمٌ » فالجوابُ : أنه مردودٌ بما رُدَّ به السؤالُ الثاني ، وبأنه لا يجوز
أن يكونَ وصفاً له لأنه أعرفُ منه فبانَ فسادُ هذا القول .
والمشهورُ ضَمُّ واو « اشتروا » لالتقاءِ الساكنين ، وإنما ضُمَّتْ تشبيهاً بتاءِ
الفاعل . وقيل : للفرقِ بين واوِ الجمع والواوِ الأصليةِ نحو : لو استطعنا . وقيل
: لأن الضمة هنا أخفُّ من الكسرةِ لأنها من جنسِ الواو . وقيل حُرِّكَتْ بحركة
الياءِ المحذوفةِ ، فإنَّ الأصلَ اشْتَرَيُوا كما سيأتي . وقيل هي للجمع فهي مثل :
نحن . وقُرئ بكسرِها على أصلِ التقاء الساكنين ، وبفتحِها : لأنه أخفُّ . وأجاز
الكسائي همزَها تشبيهاً لها بأَدْؤُر وأَثْؤُب وهو ضعيف ، لأن ضمَّها غيرُ لازمٍ ،
وقال أبو البقاء : « ومِنهم مَنْ يَخْتَلِسُها ، فيحذِفُها لالتقاءِ الساكنين وهو
ضعيفٌ جداً؛ لأن قبلها فتحةً والفتحةُ لا تَدُلُّ عليها » .
وأصل اشْتَرَوا : اسْتَرَيُوا ، فتحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ
ألفاً ، ثم حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليها ، وقيل
: بل حُذِفَت الضمة من الياءِ فَسَكَنَتْ ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَت الياءُ
لالتقائِهما . فإن قيل : فواوُ الجمع قد حُرِّكَت فينبغي أن يعودَ الساكنُ
المحذوفُ ، فالجوابُ أن هذه الحركةَ عارضةٌ ، فهو في حكمِ الساكنِ ، ولم يجيءْ ذلك
إلا في ضرورةِ شعرٍ ، أنشد الكسائي :
202 يا صَباحِ لَمْ تنامِ العَشِيَّا ... فأعاد الألفَ لمَّا حُرِّكَتِ الميمُ
حَركةً عارضةً .
و « الضلالةَ » مفعولُه ، و « بالهدى » متعلِّق ب « اشتروا » ، والباءُ هنا للعِوض
وهي تدخلُ على المتروكِ أبداً . فأمَّا قولُه تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة } [ النساء : 74 ] فإنَّ ظاهرَه أنَّ
الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكةُ ، فالجوابُ ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى من
أن المرادَ بالمُشترين المُبْطِئُون وُعِظُوا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ
ويُخْلِصوا الإِيمانَ بالله تعالى وسولِه ويجاهدوا في الله حَقَّ الجهادِ ، فحينئذ
إنما دخلتِ الباءُ على المتروكِ .
والشراءُ
هنا مجازٌ عن الاستبدالِ بمعنى أنهم لَمَّا تَرَكوا الهدى ، وآثروا الضلالةَ ،
جُعِلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى ، ثُم رُشِّح هذا المجازُ بقولِه تعالى : {
فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } فَأَسْنَدَ الربحَ إلى التجارةِ ، والمعنى : فما
ربحوا في تجارتهم ، ونظيرُ هذا الترشيحِ قولُ الآخر :
203 بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكرَ جِلْدَه ... وَعجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ
المَطارِفُ
لمَّا أَسْنَدَ البكاءَ إلى الخَزِّ من أجل هذا الرجل وهو رَوْحٌ وإنكارِه لجِلْده
مجازاَ رشَّحه بقوله : « وعَجَّت المَطارِف من جُذام » أي : استغاثت الثياب من هذه
القبيلة ، وقولُ الآخر :
204 ولَمَّا رأيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنُ دايةٍ ... وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جاشَ له
صَدْري
لمَّا جَعَلَ النَّسْرَ عبارةً عن الشيب ، وابنَ دايةَ وهو الغرابُ عبارةً/ عن
الشباب مجازاً رشَّحه بقوله : « وعَشَّشَ في وَكْريه » ، وقولُ الآخر :
205 فما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أَدَلَّتْ ... بعالمةٍ بأخلاقِ الكرامِ
إذا الشيطانٌ قصَّع في قَفاها ... تَنَقَّفْناه بالحَبْل التُّؤامِ
لمَّا قال : « قصَّع في قفاها » أي دخل من القاصعاء وهي جُحْر من جُحْرة اليَرْبوع
رشَّحه بقولِه : « تَنَقَّفْناه » أي : أخرجناه من النافِقاء ، وهي أيضاً من
جُحْرة اليربوع .
قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذه الجملةُ معطوفةٌ على قوله : {
فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } ، والرِّبْحُ : الزيادةُ على رأس المال ،
والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى ، وافتعل هنا للمطاوعة ، ولا يكونُ افْتَعَل
للمطاوعة إلا من فِعْلٍ متعدٍ . وزعم بعضُهم أنه يجيء من اللازم ، واستدلَّ على
ذلك بقول الشاعر :
206 حتى إذا اشْتَال سُهَيْلٌ في السِّحَرْ ... كشُعلةِ القابِس تَرْمِي
بالشَّرَرْ
قال : « فاشْتال افْتَعَل لمطاوعة » شَال « وهو لازمٌ » ، وهذا وَهْمٌ من هذا
القائل ، لأن افتعلَ هنا ليس للمطاوعةِ ، بل بمعنى فَعَل المجردِ .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
قوله
تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } : « مثلُهم » مبتدأ و « كمثل
» : جارٌّ ومجرور خبره ، فيتعلَّقُ بمحذوف على قاعدةِ الباب ، ولا مبالاة بخلافِ
مَنْ يقول : إن كافَ التشبيه لا تتعلَّق بشيء ، والتقديرُ مَثَلُهم مستقر كمثل
وأجاز أبو البقاء وابنُ عطية أن تكونَ الكافُ اسماً هي الخبرُ ، ونظَّره بقول
الشاعر :
207 أَتَنْتَهُون ولن ينهى ذوي شَطَط ... كالطَّعْن يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُل
وهذا مذهبُ الأخفش : يُجيز أَنْ تكونَ الكافُ اسماً مطلقاً . وأمّا مذهب سيبويه
فلا يُجيز ذلك إلا في شعر ، وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس كما قال ، لأنَّا في
البيت نضطُّر إلى جَعْلِها اسماً لكونِها فاعلةً ، بخلاف الآية . والذي ينبغي أن
يقال : إنَّ كافَ التشبيه لها ثلاثةُ أحوال : حالٌ يتعيَّن فيها أَنْ تكونَ اسماً
، وهي ما إذا كانت فاعلةً أو مجرورةً بحرفٍ أو إضافةٍ . مثالُ الفاعل : « أتنتهون
ولن يَنْهى » البيت ، ومثالُ جَرِّها بحرفٍ قولُ امرئ القيس :
208 وَرُحْنا بكابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنا ... تَصَوَّبُ فيه العينُ طوراً
وتَرْتقي
وقولُه :
209 وَزَعْتُ بكالهَراوةِ أَعْوَجِيٍّ ... إذا جَرَت الرياحُ لها وِثابا
ومثالُ جَرِّها بالإِضافة قولُه :
210 فَصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وحالٌ يتعيَّن أن تكونَ فيها حرفاًَ ، وهي : الواقعةُ صلةً ، نحو : جاء الذي
كزيدٍٍ ، لأنَّ جَعْلَها اسماً يستلزمُ حَذْفَ عائدِ مبتدأٍ من غير طولِ الصلةِ ،
وهو ممتنعٌ عند البصريين ، وحالٌ يجوز فيها الأمران وهي ما عدا ذلك نحو : زيد
كعمرو . وأَبْعَدَ مَنْ زعم أنها زائدةٌ في الآية الكريمة ، أي : مَثَلُهم مثلُ الذي
، ونظَّره بقوله : « فَصُيِّروا مثل كعصف » كأنه جعل المِثْل والمَثَل بمعنى واحدٍ
، والوجهُ أَنَّ المَثَلَ هنا بمعنى القصةِ ، والتقديرُ : صفتُهم وقصتُهم كقصةِ
المستوقِدِ فليست زائدةً على هذا التأويلِ ، ولكن المَثَلَ بالفتح في الأصل بمعنى
مِثْل ومثيل نحو : شِبْه وشَبَه وشَبيه . وقيل : بل هي في الأصل الصفةُ ، وأمَّا
المَثَل في قوله : « ضَرَب مَثَلاً » فهو القولُ السائرُ الذي فيه غَرابةٌ من بعضِ
الوجوهِ ، ولذلك حُوفظ على لفظِه فلم يُغَيَّرْ ، فيقال لكلِّ مَنْ فَرَّط في أمرٍ
عَسِرْ تَدارُكُه : « الصيفَ ضَيّعْتِ اللبنَ » ، سواءٌ أكان المخاطب به مفرداً أم
مثَنَّى أم مجموعاً أم مذكراً أم مؤنثاً ، ليدلَّ بذلك على قَصْدٍ عليه .
و « الذي » في محلِّ خَفْضٍ بالإِضافة ، وهو موصولٌ للمفردِ المذكرِ ، ولكن
المرادَ به هنا جَمْعٌ ، ولذلك رُوعي معناه في قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً ، والأَوْلى أن يقال إن « الذي » وقع
وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه ، والتقديرُ :
مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ ، ويكون قد رُوعي
الوصفُ مرةً ، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله : « استوقد » و « حَوْلَه » ،
والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله : « بنورِهم ، وتركَهم » .
ووهِم
أبو البقاء فَجَعَل هذه الآيةَ من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ تخفيفاً ، وأن
الأصلَ : الذين ، ثم خُفِّف بالحذفِ ، وكأنه جَعَلَه مثلَ قولِه تعالى في الآية
الأخرى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ، وقول الشاعر :
211 وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهم ... هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ
خالدِ
والأصل : كالذينَ خاضُوا ، وإنَّ الذين حانَتْ . وهذا وَهْمٌ فاحش ، لأنه لو كان
من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ لوجَبَ مطابقةُ الضميرِ جمعاً كما في قوله : «
كالذي خاضوا » و « دماؤُهُمْ » ، فلمَّا قال تعالى : « استوقد » بلفظ الإِفراد
تعيَّن أحدُ الأمرين المتقدِّمين : إمَّا جَعْلُه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ
الجمعِ لأن المرادَ به الجنسُ ، أو أنه من باب ما وقع فيه صفةً لموصوف يُفْهِم
الجَمْعَ .
وقال الزمخشري ما معناه : إنَّ هذه الآيةَ مثلُ قولِه تعالى : { كالذي خاضوا } / ،
واعتلَّ لتسويغِ ذلك بأَمْرين : أحدُهما أنَّ « الذي » لمَّا كانَ وُصْلَةً لوصفِ
المعارفِ ناسَبَ حَذْفَ بعضِه لاستطالتِه ، قال : « ولذلك نَهَكُوه بالحَذْفِ ،
فحذَفوا ياءَه ثم كَسْرَتَه ثم اقتصروا منه على اللامِ في أسماء الفاعِلِين
والمفعولين » . والأمرُ الثاني : أنَّ جَمْعَه ليس بمنزلةِ جَمْعِ غيرِه بالواو
والنون ، إنما ذلك علامةٌ لزيادةِ الدلالةِ ، ألا ترى أن سائرَ الموصولاتِ لَفْظُ
الجمع والمفردِ فيهنَّ سواءٌ . وهذا القولُ فيه نَظَرٌ مِنْ وجهين ، أحُدهما :
أنَّ قول ظاهرٌ في جَعْلِ هذه الآيةِ من باب حَذْف نون « الذين » ، وفيه ما تقدَّم
من أنه كان ينبغي أن يطابقَ الضميرَ جَمْعاً كما في الآية الأخرى التي نَظَّر بها
. والوجهُ الثاني : أنه اعتقدَ كونَ أل الموصولةِ بقيةَ « الذي » ، وليس كذلك ، بل
أل الموصولةُ اسمٌ موصولٌ مستقل ، أي : غيرُ مأخوذٍ من شيءٍ ، على أن الراجحَ من
جهةِ الدليلِ كونُ أل الموصولةِ حرفاً لا اسماً كما سيأتي . وليس لمرجِّحٍ أن
يرجِّح قولَ الزمخشري بأنهم قالوا : إنَّ الميمَ في قولهم : « مُ الله » بقية
ايمُن ، فإذا انتهكوا ايمن بالحذف حتى صار على حرفٍ واحد فأولى أن يقال بذلك فما
بقي على حرفين ، لأن أل زائدةٌ على ماهِيَّةِ « الذي » فيكونون قد حَذَفوا جميعَ
الاسم ، وتركوا ذلك الزائدَ عليه بخلاف ميم ايمُن ، وأيضاً فإنَّ القولَ بأنّ
الميمَ بقيةُ أيمُن قولٌ ضعيف مردودٌ يأباه قولُ الجمهور .
وفي « الذي » لغاتٌ : أشهرُها ثبوتُ الياء ساكنةً . وقد تُشَدَّد مكسورةً مطلقاً ،
أو جاريةً بوجوهِ الإِعرابِ ، كقوله :
212 وليسَ المالُ فاعلَمْهُ بمالٍ ... وإنْ أرضاكَ إلا ِللَّذيِّ
يَنالُ به العَلاءَ ويَصْطَفيه ... لأقربِ أَقْرِبيه وللقَصِيِّ
فهذا يَحْتمل أنْ يكونَ مبنيًّا وأن يكونَ مُعْرباً ، وقد تُحْذف ساكناً ما قبلها
، كقولِ الآخر :
213
فلم أَرَ بيْتاً كان أكثرَ بهجةً ... مِنَ اللذْ به من آلِ عَزَّةَ عامرُ
أو مكسوراً ، كقوله :
214 واللذِ لو شاء لكانَتْ بَرّاً ... أو جبلاً أَصَمَّ مُشَمْخِراً
ومثلُ هذه اللغات في « التي » أيضاً ، قال بعضُهم : « وقولُهم هذه لغاتٌ ليس جيداً
لأنَّ هذه لم تَرِدْ إلا ضرورةً ، فلا ينبغي أن تسمى لغات » .
واستوقَدَ استفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ ، نحو : استجاب بمعنى أَجاب ، وهو رأي الأخفش ،
وعليه قولُ الشاعر :
215 وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى ... فلم يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ
أي : فلم يُجِبْه ، وقيل : بل السينُ للطلب ، ورُجِّحَ قولُ الأخفش بأنَّ كونَه
للطلب يستدعي حَذفَ جملةٍ ، ألا ترى أنَّ المعنى استدعَوْا ناراً فَأَوْقدوها ،
فلمَّا أضاءَتْ لأنّ الإِضاءةَ لا تَتَسَبَّبُ عن الطلبِ ، إنما تُسَبَّبُ عن
الإِيقاد .
والفاء في « فلمَّا » للسبب . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : « كمثل الذين » بلفظِ الجمع
، « استوقد » بالإِفراد ، وهي مُشْكِلةٌ ، وقد خَرَّجوها على أوجهٍ أضعفَ منها وهي
التوهُّمُ ، أي : كانه نطق بمَنْ ، إذا أعاد ضميرَ المفرد على الجمع كقولهم : «
ضربني وضربتُ قومَك » أي ضربني مَنْ ، أو يعودُ على اسمِ فاعلٍ مفهومٍ من
اسْتَوْقََد ، والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ ، وإن لم يَكْمُلْ شرطُ الحذفِ ،
والتقدير : استوقدها مستوقدٌ لهم ، وهذه القراءة تُقوِّي قولَ مَنْ يقولُ : إن
أصلَ الذي : الذين ، فَحُذِفَتِ النونُ .
و « لَمَّا » حرفُ وجوب لوجوب هذا مذهبُ سيبويه . وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء
أنها ظرفٌ بمعنى حين ، وأنَّ العاملَ فيها جوابُها ، وقد رُدَّ عليه بأنها أُجيبت
ب « ما » النافية وإذا الفجائية ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا
زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] . وقال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، وما النافيةُ وإذا
الفجائية لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما فانتفى أَنْ تكونَ ظرفاً .
وتكون « لَمَّا » أيضاً جازمةً لفعلٍ واحد ، ومعناها نفيُ الماضي المتصلِ بزمنِ
الحال ، ويجوزُ حَذْفُ مجزومها ، قال الشاعر :
216 فجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولَمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
وتكونُ بمعنى إلا ، قال تعالى : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة
الدنيا } [ الزخرف : 35 ] في قراءة مَنْ قرأه .
و « أضاء » يكونُ لازماً ومتعدياً ، فإن كان متعدياً ف « ما » مفعولٌ به ، وهي
موصولة ، و « حولَه » ظرفُ مكانٍ ومخفوضٌ به ، صلةٌ لها ، ولا يَتَصَرَّفُ ،
وبمعناه : حَوال ، قال الشاعر :
217 وأنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
ويُثَنَّيان ، قال عليه السلام : « اللهم حوالَيْنا » ، ويُجْمَعان على أَحْوال .
ويجوز أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً ، و « حولَه » صفتُها ، وإن كان لازماً
فالفاعلُ ضميرُ النار أيضاً ، و « ما » زائدةٌ ، و « حوله » منصوبٌ على الظرفِ
العاملُ فيهِ « أضاء » . وأجاز الزمخشري أن تكون « ما » فاعلةً موصولةً أو نكرةً
موصوفةً ، وأُنِّثَ/ الفِعلُ على المعنى ، والتقدير : فلمَّا أضاءَتِ الجهةُ التي
حولَه أو جهةٌ حولَه .
وأجاز
أبو البقاء فيها أيضاً أن تكونَ منصوبةً على الظرف ، وهي حينئذٍ إمَّا بمعنى الذي
أو نكرة موصوفة ، التقدير : فلمَّا أضاءت النارُ المكانَ الذي حوله أو مكاناً حوله
، فإنه قال : « يُقال : ضاءَتِ النارُ وأَضاءَتْ بمعنىً ، فعلى هذا تكون » ما «
ظرفاً وفي » ما « ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أن تكونَ بمعنى الذي . والثاني : هي نكرة
موصوفةٌ أي : مكاناً حوله ، والثالث : هي زائدةٌ » انتهى .
وفي عبارتِه بعضُ مناقشةٍ ، فإنه بَعْدَ حُكْمِه على « ما » بأنَّها ظرفيةٌ كيف
يجوزُ فيها والحالةُ هذه أن تكونَ زائدةً ، وإنما أراد : في « ما » هذه من حيث
الجملةُ ثلاثةُ أوجهٍ : وقولُ الشاعر :
218 أضاءَت لهم أحسابُهم ووجُوهُهم ... دجى الليلِ حتى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ
يَحْتمل التعدِّيَ واللزوم كالآية الكريمة . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : ضاءَتْ
ثلاثياً .
قولُه تعالى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } هذه الجملةُ الظاهرُ أنَّها جوابُ «
لَمَّا » . وقال الزمخشري : « جوابُها محذوفٌ ، تقديرُه : فلمَّا أضاءَتْ خَمَدَت
» ، وجَعَل هذا أبلَغَ من ذِكْرِ الجواب ، وجعلَ جملةَ قوله : { ذَهَبَ الله
بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل . وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا
بوجْهَيْن أحدهما : أنَّ هذا تقديرٌ مع وجودِ ما يُغْني عنه فلا حاجةَ إليه ، إذ
التقديراتُ إنما تكونُ عند الضروراتِ . والثاني : أنه لا تُبْدَلُ الجملةُ
الفعليةُ من الجملةِ الاسميةِ .
و « بنورهم » متعلِّقٌ ب « ذَهَبَ » ، والباءُ فيها للتعدية ، وهي مرادِفَةٌ
للهمزة في التعديةِ ، هذا مذهبُ الجمهورِ ، وزَعَمَ أبو العباس أنَّ بينهما
فَرْقاً ، وهو أن الباءَ يلزَمُ معها مصاحبةُ الفاعل للمفعولِ في ذلك الفعلِ الذي
فَعَلَه به والهمزةُ لا يَلْزَمُ فيها ذلك . فإذا قلتَ : « ذهبْتُ بِزيد » فلا بد
أن تكونَ قد صاحَبْتَه في الذهاب فذهبْتَ معه ، وإذا قلت : « أَذْهَبْتَه » جاز أن
يكونَ قد صَحِبْتَه وألاَّ يكونَ . وقد رَدَّ الجمهورُ على المبرِّد بهذه الآية
لأنَّ مصاحَبَتَه تعالى لهم في الذهابِ مستحيلةٌ . ولكن قد أجاب أبو الحسنِ ابنُ
عصفور عن هذا بأنه يجوزُ أن يكونَ تعالى قد أَسْنَدَ إلى نفسِه ذهاباً يليقُ به
كما أَسْند إلى نفسِه المجي والإِتيان على معنى يليقُ به ، وإنما يُرَدُّ عليه
بقولِ الشاعر :
219 ديارُ التي كانت ونحن على مِنى ... تَحِلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائِب
أي : تَجْعلنا حلالاً بعد أن كنا مُحْرِمين بالحَجّ ، ولم تكن هي مُحْرِمةً حتى
تصاحبَهم في الحِلّ ، وكذا قولُ امرئ القيس :
220 كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِه ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ
بالمُتَنَزَّلِ
الصَّفْوُ : الصخرة ، وهي لم تصاحِبْ الذي تَزِلُّه .
والضميرُ في « بنورِهم » عائدٌ على معنى « الذي » كما تقدَّم ، وقال بعضُهم : هو
عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه : كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ ، واحتاج هذا القائلُ
إلى هذا التقديرِ قال : « حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به ، لأنَّ المشبَّهَ
جمعٌ ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو » أصحاب « لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ
بالمفردِ وهو الذي استوقد » انتهى .
ولا
أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ
بينهما ، وأيضاً فإنَّ المشبَّهَ المشبَّهَ به إنما هو القصتان ، فلم يقع التشبيهُ
إلا بين قصتين إحداهما مضافةٌ إلى جمع والأخرى إلى مفردٍ .
قولُه تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } هذه جملةٌ معطوفةٌ
على قوله « ذَهَبَ الله » . وأصل الترك : التخليةُ ، ويُراد به التصييرُ ،
فيتعدَّى لاثنين على الصحيح ، كقولِ الشاعر :
221 أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
فإن قُلْنا : هو متعدٍّ لاثنين كان المفعولُ الأول هو الضميرَ ، والمفعولُ الثاني
« في ظلمات » و « لا يُبْصرون » حالٌ ، وهي حالٌ مؤكدة لأنَّ مَنْ كان في ظلمة فهو
لا يُبْصِرُ ، وصاحبُ الحالِ : إمّا الضميرُ المنصوبُ أو المرفوعُ المستكنُّ في
الجارِّ والمجرورِ . ولا يجوزُ أن يكونَ « في ظلمات » حالاً ، و « لا يُبْصِرون »
هو المفعولَ الثاني لأن المفعولَ الثاني خبرٌ في الأصل ، والخبرُ لا يؤتَى به
للتأكيد ، وأنت إذا جعلت « في ظلمات » حالاً فُهِمَ منه عَدَمُ الإِبصارِ ، فلم
يُفِدْ قولُك بعد ذلك لا « يُبْصرون » إلا التأكيدَ ، لكنَّ التأكيدَ ليس من شأن
الإِخبار ، بل من شأنِ الأحوال لأنها فَضَلاتٌ . ويؤيِّد ما ذكرتُ أن النَّحْويين
لَمَّا أَعربُوا قولَ امرئ القيس :
222 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصَرفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٍّ عندنا لم يُحَوَّلِ
أعربوا « شِق » مبتدأً و « عندنا » خبرَه ، و « لم يُحَوَّل » جملةً حاليةً
مؤكِّدةً ، قالوا : وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنه موضعُ تفصيل ، وأبَوْا أن
يَجْعلوا « لم يُحَوَّل » خبراً ، و « عندنا » صفةً لشِق مُسَوِّغاً للابتداء به ،
قالوا : لأنه فُهم معناه من قوله : « عندنا » لأنه إذا كان عندَه عُلِم منه أنه لم
يُحَوَّل ، وقد أعربَه أبو البقاء كذلك ، وهو مردودٌ بما ذكرْتُ لك .
ويجوز إذا جَعَلْنا « لا يُبْصِرون » هو المفعولَ الثانيَ أن يتعلَّقَ « في ظلمات
» به أو ب « تَرَكهم » ، التقدير : « وتَرَكهم لا يُبْصرون في ظلماتٍ » . وإن كان
« تَرَكَ » متعدياً لواحد كان « في ظلمات » متعلَّقاً بتَرَكَ ، و « لا يُبْصرون »
حالٌ مؤكِّدة ويجوز أن يكونَ « في ظلمات » حالاً من الضمير المنصوب في « تَرَكهم »
، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و « لا يُبْصرون » حالٌ أيضاً : إمَّا من الضميرِ المنصوب في
« تَرَكَهم » فيكونُ له حالان/ ويجري فيه الخلافُ المتقدمُ ، وإمَّا مِنَ الضميرِ
المرفوعِ المستكنِّ في الجارِّ والمجرور قبلَه فتكونُ حالَيْنِ متداخلتين .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
الجمهورُ
على رَفْعِها على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، ويَجيء
فيه الخلافُ المشهورُ في تعدُّدِ الخبرِ ، فَمَنْ أجازَ ذلك حَمَلَ الآيةَ عليه من
غير تأويلٍ ، ومَنْ مَنَعَ ذلك قال : هذه الأخبارُ وإن تعدَّدَتْ لفظاً فهي
متَّحِدَةٌ معنًى ، لأنَّ المعنى : هم غيرُ قائلين للحقِّ بسبب عَماهم وصَمَمِهم ،
فيكون من باب : « هذا حُلوٌ حامِضٌ » أي مُزٌّ ، و « هو أَعْسَرُ يَسَرٌ » أي
أَضْبَطُ ، وقول الشاعر :
223 ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي ... بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ
أي : متحرِّزٌ ، أو يقدَّر لكلِّ خبرٍ مبتدأً تقديرُه : هم صُمٌّ ، هم بُكْم ، هم
عُمْي ، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصافِ الثلاثة ، ولولا ذلك لجاز أن تكونَ
هذه الآيةُ من باب ما تعدَّدَ فيه الخبرُ لِتعدُّدِ المبتدأ ، نحو قولِك :
الزيدونَ فقهاءُ شعراءُ كاتبون ، فإنه يَحْتمل أن يكونَ المعنى أن بعضَهم فقهاءُ ،
وبعضَهم شعراء وبعضَهم كاتبون ، وأنَّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل
بعضُهم اختصَّ بالفقه ، والبعضُ الآخر بالشعرِ ، والآخرُ بالكتابة .
وقُرئ بنصبها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه حالٌ ، وفيه قولان ، أحدُهما : هو
حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في « تَرَكَهم » ، والثاني من المرفوع في « لا يُبْصرون
» . والثاني : النَصبُ على الذَمِّ ، كقولِه : { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد : 4 ]
. وقول الآخر :
224 سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني ... عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي : أَذُمُّ عُداةَ اللهِ . الثالث : أن يكونَ منصوباً بتَرَكَ أي : تَرَكهم
صُمَّاً بُكْماً عُمْياً .
والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع ، وأصلُه من الصَّلابة ، يقال : « قناةٌ
صَمَّاء » أي صُلبة ، وقيل : أصلُه من الانسدادِ ، ومنه : صَمَمْتُ القارورةَ أي :
سَدَدْتُها . والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ ، وقيل : هو عدمُ الفَهْمِ ، وقيل :
الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ .
وقولُه : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ
قبلها ، وقيل : بل الأُولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم ، ولا حاجةَ إلى ذلك . وقال أبو
البقاء : « وقيل : فهم لا يَرْجِعُون حالٌ ، وهو خطأٌ ، لأن الفاء تُرَتِّبُ ،
والأحوالُ لا ترتيبَ فيها » . و « رَجَعَ » يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ ،
وهُذَيْل تقول : أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى « عاد » كان لازماً ، وإذا كان
بمعنى أعاد كان متعدياً ، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ ، فإنْ جَعَلْنَاه
متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : لاَ يَرْجِعُون جواباً ، مثلُ قوله : {
إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] . وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن
معنى صار ، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر ، وجَعَل منه قولَه عليه السلام : « لا
تَرْجِعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض » ، ومَنْ مَنَعَ جريانِهِ
مَجْرى « صار » جَعَلَ المنصوبَ حالاً .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قولُه
تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } : في « أو » خمسة أقوال ، أظهرهُا : أنها
للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال
المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه .
الثاني : أنها للإِبهام ، أي : إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو
بهؤلاء ، الثالث : أنها للشَّكِّ ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم . الرابع :
أنها للإِباحة . الخامس : أنها للتخيير ، أي : أًُبيح للناس أن يشبِّهوهم بكذا أو
بكذا ، وخُيِّروا في ذلك . وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين ، أحدُهما : كونُها
بمعنى الواو وأنشدوا :
225 جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثاني : كونُها بمعنى بل ، وأنشدوا :
226 بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصورتِها أَوْ أَنْتَ في
العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت .
و « كصيبٍ » معطوفٌ على « كَمَثَل » ، فهو في محلِّ رفع ، ولا بُدَّ من حذف
مضافَيْنِ ، ليصِحَّ المعنى ، التقدير : أو كمثل ذَوي صَيِّب ، ولذلك رَجَعَ عليه
ضميرُ الجمع في قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم } لأنَّ المعنى
على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه . والصيِّبُ : المطر : سُمِّي بذلك
لنزولِهِ ، يقال : صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ ، قال :
227 فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقال آخر :
228 فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ
واختُلف في وزن صَيِّب : فمذهبُ البصريين أنه « فَيْعِل » ، والأصلُ : صَيْوبٍ
فَأُدْغِمَ كميِّت وهيِّن والأصلُ : مَيْوِت وهَيْوِن . وقال بعض الكوفيين : وزنه
فَعِيل ، والأصل « صَويب بزنة طَويل ، قال النحاس : » وهذا خطأٌ لأنه كانَ ينبغي
أن يَصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويل « وكذا قال أبو البقاء . وقيل وزنه : فَعْيِل فقُلِب
وأُدْغِم .
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } استئنافيةٌ
ومن قوله { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ بين
المتعاطفَين ، أعني قوله : كمثل وكصيّب ، وهي مسألةُ خلاف منعها الفارسي وقد رُدَّ
عليه بقول الشاعر :
229 لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ ... وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي
لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى ... ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي
فَفَصَلَ بين القسمِ وهو قولُهُ : » لَعَمْرُك « وبين جوابِهِ وهو قولُهُ : » لقد
بالَيْت « بجملتين ، إحداهما : » والخطوبُ مغيِّرات « والثانيةُ : » وفي طولِ
المعاشرةِ التقالي « [ قولُه : ] » مِن السماءِ « يَحْتمل وجهينِ ، أحدُهما أَن
يكونَ متعلقاً ب » صَيِّب « لأنه يعملُ عملَ الفعلِ ، التقديرُ : كمطرٍ يصوبُ من
السماء ، و » مِنْ « لابتداء الغاية . والثاني : أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لصيِّب
، فيتعلَّقَ بمحذوف ، وتكونُ » مِنْ « للتبعيض ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ ،
تقديرهُ : كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ .
والسماءُ
: كلُّ ما عَلاَك من سقف ونحوه ، مشتقةٌ من السُّمُوِّ ، وهو الارتفاعُ والأصل :
سَماوٌ ، وإنما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ، وهو
بدلٌ مطَّرد ، نحو : كِساء ورِدَاء ، بخلافِ نحو : سِقاية وشَقاوة ، لعدم تطرُّفِ
حرفِ العلة ، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو : سَماوة ، قال
الشاعر :
230 طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا ... سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا
والسماءُ مؤنث ، وقد تُذَكَّر ، وأنشدوا :
231 فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ
فأعاد الضميرَ مِنْ قوله : « إليه » على السماءِ مذكَّراً ، ويُجْمع على سَماوات
وأَسْمِيَة وسُمِيَّ ، والأصل : فُعول ، إلا أنه أُعِلَّ إعلالَ عُصِيّ بقلب
الواوين يائين وهو قلبٌ مطَّرد في الجمع ، ويَقِلُّ في المفرد نحو : عتا عُتِيَّا
، كما شَذَّ التصحيحُ في الجمع ، قالوا : « إنكم تنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ » ،
وجُمِعَ أيضاً على سَمَاء ، ولكن مفردَه سَماوة ، فيكونُ من باب تَمْرة وتمر ،
ويدلُّ على ذلك قولُه :
232 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . .
. . . . . . . . . فوق سَبْعِ سَمَائِيا
ووجهُ الدلالة أنه مُيِّزَ به « سبع » ، ولا تُمَيَّز هي وأخواتُها إلا بجمعٍ
مجرور .
قولهُ تعالَى : « فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ » يَحْتمل أربعةَ أوجه ، أحدها :
أَنْ يكونَ صفةً ل « صَيِّب » . الثاني : أن يكونَ حالاً منه ، وإنْ كان نكرةً
لتخصُّصِهِ : إِمَّا بالعملِ في الجار بعدَه ، أو بصفةٍ بالجارِ بعده . الثالث :
أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في « مِن السماء » إذا قيل إنه صفةٌ لصيِّب ،
فيتعلَّقُ في التقادير الثلاثة بمحذوفٍ ، إلاَّ أنه على القولِ الأولِ في محلِّ
جرٍّ لكونه صفةً لمجرورٍ ، وعلى القولين الأخيرين في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ . و
« ظلماتٌ » على جميع هذه الأقوال فاعلٌ به لأنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ متى
اعتمدا على موصوفٍ أو ذي حال أو ذي خبرٍ أو على نفي أو استفهام عمِلاَ عَمَلَ الفِعْلِ
، والأخفش يُعْمِلهما مطلقاً كالوصف ، وسيأتي تحريرُ ذلك . الرابعُ : أن يكونَ
خبراً مقدَّماً و « ظلماتٌ » مبتدأ ، والجملةُ تحتمل وجهين : الجرَّ على أنها
صِفَةٌ لصيِّب . والثاني : النصبُ على الحال ، وصاحِبُ الحال يُحْتمل أن يكونَ «
كصيِّب » وإن كان نكرةً لتخصيصهِ بما تقدَّمه ، وأن يكونَ الضميرَ المستكنَّ في «
مِنْ السماء » إذا جُعِلَ وصفاً لصيِّب ، والضمير في « فيه » ضميرُ الصَيِّب « .
واعلم أنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً ، ورفعَ » ظلماتٌ « على الفاعلية به
أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ » فيه ظلماتٌ « جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ ، لأنَّ
الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة ، وأصلُ الصفةِ والحال أن يكونا مفرَدَيْنِ .
» وَرَعْدٌ وبَرْقٌ « معطوفانِ على ظُلُماتٌ » بالاعتبارين المتقدمين ، وهما في
الأصل مصدران تقول : رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً ، قال أبو
البقاء : « وهما على ذلك [ مُوَحَّدَتان ] هنا » ، يعني على المصدريَّة ، ويجوز أن
يكونا بمعنى الراعِد والبارِق نحو : رجل عَدْلٌ ، والظاهرُ أنهما في الآية ليس
المرادُ بهما المصدرَ بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ ، وهو مقصودٌ الآيةِ ، ولا
حاجةَ حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعل .
قولُه
تعالى : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم } هذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا
محلَّ لها لاستئنافِها ، كأنه قيل : ما حالُهم؟ فقيل : يَجْعَلون . وقيل : بل لها
محلٌّ ، ثم اختُلِفَ فيه ، فقيل : جَرٌّ لأنها صفةٌ للمجرور ، أي : أصحابُ صيِّب
جاعلين ، والضميرُ محذوفٌ ، أو نابَتْ الألفُ واللام منابَه ، تقديرُهُ :
يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعِقِه . وقيل : محلُّها
نصبٌ على الحال من الضمير « فيه » . والكلامُ في العائدِ كما تَقَدَّم ، والجَعْلُ
هنا بمعنى الإِلقاء ، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ ، ويكون بمعنى صيَّر
أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين ، ويكون للشروع فيعملُ عَمَلَ عسى .
وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع ، وفيها عشرُ لغاتٍ ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء ،
والعاشرة : أُصْبوع بضمِّ الهمزة . والواوُ في « يَجْعلون » تعود للمضاف المحذوف
كما تقدم إيضاحُهُ . واعلمْ أنَّه إذا حُذِفَ المضافُ جاز فيه اعتباران ، أحدهما :
أن يُلْتفت إليه ، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه ، وقد جُمِع الأمران في قوله
تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ
هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، التقدير : وكم من أهل قرية فلم يُرَاعِه في
قوله : { أَهْلَكْنَاهَا [ فَجَآءَهَا } ] وراعاه في قوله : { أَوْ هُمْ
قَآئِلُونَ } / . و { في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } كلاهما متعلقٌ بالجَعْل ، و «
مِنْ » معناها التعليل . والصواعِقُ : جمع صاعقة ، وهي الصيحة الشديدة من صوت
الرعد يكون معها القطعة من النار ، ويقال : ساعِقة بالسين ، وصاقِعة بتقديمِ القاف
وأنشد :
233 ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ ... صواقِعُ ، لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ
ومثلُه قول الآخر :
234- يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ ... تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ
وهي قراءةُ الحسن ، قالَ النحاسَ : « وهي لغةُ تميم وبعض بني ربيعة » فيُحتمل أن
تكونَ صاقِعَة مقلوبةً من صاعِقَة ، ويُحْتَمَل ألاَّ تكونَ ، وهو الأظهرُ لثبوتها
لغةً مستقلةً كما تقدَّم ، ويقال : صَعْقَة أيضاً ، وقد قَرَأَ بها الكسائي في
الذاريات ، يقال : صُعِقَ زيدٌ وأَصْعَقَهُ غيرُه : قال :
235 تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحادَ وَمَثْنَى
أصْعَقَتْهَا صواهِلُهْ
قولُه تعالى : « حَذَرَ الموت » فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه مفعولٌ من أجله ناصبُه
« يَجْعلون » ولا يَضُرُّ تعدُّدُ المفعولِ مِنْ أجْله ، لأنَّ الفعلَ يُعَلِّل
بعِلَلٍ .
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ : يَحْذَرُونَ حَذَراً
مثلَ حَذَرِ الموت ، والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي : خافَ خوفاً شديداً .
واعلم أنَّ المفعولَ مِنْ أجله بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجرِّه بالحرف على ثلاثةِ
أقسام : قسم يكثُر نصبُه وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافٍ نحو : جِئْت
إكراماً لك ، وقسم عكسُه ، وهو ما كان معرَّفاً بأل . ومِنْ مجيئه منصوباً قولُ
الشاعر :
236 لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ ... ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
وقسم
يستوي فيه الأمران وهو المضافُ كالآيةِ الكريمة ، ويكونُ معرفةً ونكرةً ، وقد
جَمَعَ حاتِم الطائيُّ الأمرينِ في قوله :
237 وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ
تَكَرُّمَا
و « حَذَرَ الموت » مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول ، وفاعلُه محذوفٌ ، وهو أحدُ
المواضِعِ التي يجوزُ فيها حذفُ الفاعلِ وحدَه ، [ والثاني : فِعْلُ ما لم يُسَمَّ
فاعلُهُ ، والثالث : فاعل أَفْعَل في التعجب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه
حذفُ الفاعلِ وحدَه ] خلافاً للكوفيين . والموتُ ضدُّ الحياة يقال : مات يموت
ويَمات ، قال الشاعر :
238 بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ ... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي
وعلى هذه اللغة قُرِئَ : مِتْنَا ومِتُّ بكسر الميم كخِفْنَا وخِفْت ، فوزنُ ماتَ
على اللغةِ الأولى : فَعَل بفتح العينِ ، وعلى الثانية : فَعِل بكسرِها ، والمُوات
بالضمِّ الموتُ أيضاً ، وبالفتح : ما لا رُوحَ فيهِ ، والمَوَتان بالتحريك ضد
الحَيَوان ، ومنه قولُهم « اشْتَرِ المَوَتانِ ولا تَشْتَرِ الحَيَوان » ، أي :
اشتر الأَرَضِين ولا تَشْترِ الرقيق فإنه في مَعْرِضِ الهلاك . والمُوتان بضمِّ
الميم : وقوعُ الموتِ في الماشية ، ومُوِّت فلانٌ بالتشديد للمبالغة ، قال :
239 فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً ... فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ
والمُسْتميتُ : الأمرُ المُسْتَرْسِلُ ، قال رؤبة :
240 وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ ... والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ
قولُه تعالى : « والله محيطٌ بالكافرين » جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وأصلُ مُحِيط :
مُحْوِط ، لأنه من حاطَ يَحُوطُ فأُعِلَّ كإعلال نَسْتعين . والإِحاطةُ : حَصْرُ
الشيء مِنْ جميعِ جهاتِهِ ، وهو هنا عبارةٌ عن كونِهِم تحت قَهْرِهِ ، ولا
يَفُوتونه . وقيل : ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي عقابُهُ محيطٌ بهم . وهذه الجملةُ قال
الزمخشري : « هي اعتراضٌ لا محلَّ لها من الإِعراب » . كأنه يَعْني بذلك أنَّ
جملَةَ قولِه : يَجْعلون أصابِعَهم ، وجملةَ قوله : « يكاد البرق » شيءٌ واحدٌ ،
لأنَّهما من قصةٍ واحدةٍ فوقَعَ ما بينهما اعتراضاً .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله
تعالى : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } : « يكادُ » مضارع كَادَ ، وهي
لمقاربةِ الفعل ، تعملُ عمل « كانَ » ، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً ،
وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً ، قال :
241 فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً ... وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ
والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من « أنْ » عَكَسَ « عسى » ، وقد شَذَّ اقترانُهُ
بها ، وقال رؤبة :
242 قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا ... لأنها لمقاربةِ الفعلِ ، و « أَنْ »
تُخَلِّصُ للاستقبال ، فَتَنَافَا . واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً-
منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة ، فإذا قلت : « كاد زيدٌ يفعلُ » كان معناه
قارَبَ الفعلَ ، إلا أنه لم يَفْعَل ، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ
الأَوْلى ، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ
قَولُه تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل :
لم يَرَها ، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو
البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها
فقال :
243 أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ ... جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ
وَثَمُودِ
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ ... وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ
جُحُودِ
وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه :
244 إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ
يَبْرَحُ
عِيْبَ عليه لأنه قال : لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ ، فغيَّره إلى قوله
: « لم يَزَلْ » أو ما هو بمعناه ، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى : {
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] قالوا : فهي هنا منفيَّةٌ
وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى ، لأن الذبْحَ وقع لقوله : « فَذَبَحُوها » . والجوابُ
عن هذهِ الآية من وَجْهَين ، أحدُهما : أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ ، أي
: ذَبَحوها في وقتٍ ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ ، والثاني : أنه عَبَّر
بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ .
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن
قولِهِ ، وقالوا : هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه .
واعلم أَنَّ خَبَرَ « كاد » وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً
على اسمها ، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى ، فإنها للترجِّي ، تقول : «
عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه » ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأمَّا قولُه :
245 وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي ... فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ
فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ ، وينبغي أن يُقال : إنما
جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتى
كاد يكلِّمني ، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه ، وقولُ الأخر :
246
وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ
السَّكِرِ
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [ خبر ] جَعل ظاهراً ، فقد أُجيب عنه بوجهين : أحدُهما : أنه على حَذْفِ
مضافٍ تقديره : وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني . والثاني : أنه من باب إقامةِ
السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه ،
والمعنى : وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي .
ووزن كاد كَودِ بكسر العين ، وهي من ذواتِ الواو ، كخاف يَخاف ، وفيها لغةٌ أخرى :
فتحُ عينها ، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم
وأخواتِها ، فتقولُ : كُدْت وكُدْنا مثل : قُلْت وقُلْنا ، وقد تُنْقَلُ كسرةُ
عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر ، كقوله :
247 وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي ... وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ ، وسيأتي هذا كلُه في « كاد » الناقصة ، أمَّا «
كاد » التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء ، بدليل قوله : {
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 - 16 ] .
و « البرق » اسمها ، و « يخَطف » خبرُها ، ويقال : خَطِف يَخْطَفُ بكسر عين الماضي
وفتح المضارع ، وخَطَف يخطِف ، عكسُ اللغة الأولى ، وفيه قراءاتٌ كثيرة ، المشهورُ
منها الأولى . الثانية : يَخْطِف بكسر الطاء . الثالثة يَخَطَّفُ بفتح الياء
والخاء والطاء مع تشديدِ الطاء ، والأصل : يَخْتَطِفُ ، فَأُبْدلت تاءُ الافتعال
طاءً للإِدغام ، الرابعة : كذلك إلا أنَّه بكسر الخاء إتباعاً لكسرة الطاء .
السادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء ، السابعة : يَخْتَطِف على
الأصل . الثامنة : يَخْطِّف بفتح الياء وسكونِ الخاء وتشديد الطاء ، وهي رديئةٌ
لتأديتها غلى التقاء ساكنين . التاسعة : بضم الياء وفتح الخاء وتشديدِ الطاء
مكسورةً ، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية . العاشرة : يَتَخَطَّف .
والخَطْفُ : أَخْذُ شيءٍ بسرعة ، وهذه الجملةُ - أعني قولَه : يكاد البرق يَخْطَف
- لا محلَّ لَها ، لأنها استئنافٌ ، كأنه قيل : كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟
فقيل : يكاد يَخْطَف ، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة ، التقدير :
أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف .
قوله تعالى : / { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } : « كل » نَصْبٌ على
الظرفية ، لأنها أُضيفت إلى « ما » الظرفية ، والعاملُ فيها جوابُها ، وهو «
مَشَوا » . وقيل : « ما » نكرةٌ موصوفةٌ ، ومعناها الوقتُ أيضاً ، والعائدُ محذوفٌ
، تقديرُه : كلَّ وقتٍ أضاءَ لهم فيه ، فأضاءَ على الأول لا محلَّ له لكونِه صلةً
، ومحلُّه الجرُّ على الثاني . و « أضاء » يجوز أن يكون لازماً . وقال المبرد : «
هو متعدٍّ ومفعولُه محذوفٌ » ، أي : أضاء لهم البرقُ الطريقَ ، فالهاء في « فيه »
تعودُ على البرق في قولِ الجمهور ، وعلى الطريقِ المحذوفِ في قول المبرد .
و
« فيه » متعلِّق بمَشَوا ، و « في » على بابها أي : إنه محيطٌ بهم : وقيل : هي
بمعنى الباء ، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين ، أي : مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه ،
ولا محلَّ لجملةِ قولهِ « مَشَوا » لأنها مستأنفةٌ .
واعلم أنَّ « كُلاًّ » من ألفاظِ العموم ، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ للإِضافة ، وقد
يُحْذَفُ ما يضاف إليه ، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان
. والمضافُ إليه « كل » إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها ، فلهذا انتصَبَ
عنها الحالُ ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم ،
وربما انتَصَبَتْ حالاً ، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ ، والأحسنُ
استعمالُها مبتدأً ، وليس كونُها مفعولاً بها مقصوراً على السماعِ ، ولا مختصاً
بالشعر خلافاً لزاعم ذلك . وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ
أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة
فيما لها من ضميرٍ وغيره ، تقول : كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم ، ولا يجوزُ أن
يراعى لفظ « كل » فتقول : كلُّ رجال أتاكَ فأكرمه ، و [ تقول : ] كلُّ رجلٍ أتاك
فأكرمه ، ولا تقول : أَتَوْك فأكرِمْهم ، اعتباراً بالمعنى ، فأما قوله :
248 جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم
فراعى المعنى فهو شاذٌّ لا يُقاس عليه ، وإذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ فوجهانِ ، سواءً
كانت الإِضافة لفظاً نحو : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم
: 95 ] فراعى لفظَ كل ، أو معنىً نحو : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [
العنكبوت : 40 ] فراعى لفظَها ، وقال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل :
87 ] ، فراعى المعنى ، وقولُ بعضهم : إن « كُلَّما » تفيدُ التكرارَ ، ليس ذلك من وَضْعها
، فإنك إذا قُلْتَ : « كلما جِئْتَني أَكْرَمْتُك » كان المعنى : أُكْرِمُكَ في
كلِّ فردٍ فردٍ من جَيئاتِكَ إليَّ .
وقُرئ « ضاء » ثلاثياً ، وهي تَدُلُّ على أنَّ الرباعيَّ لازمٌ . وقرئ : « وإذا
أُظْلِم » مبنياً للمفعول ، وجَعَلَه الزمخشريُّ دالاَّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ ،
واستأنَسَ أيضاً بقول حبيب :
249 هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ
أَشْيَبِ
ولا دليلَ في الآيةِ لاحتمالِ أن أصلَه : وإذا أَظْلم الليلُ عليهم ، فلمَّا بُنِي
للمفعولِ حُذِف « الليل » وقام « عليهم » مَقَامَه ، وأمَّا حبيبٌ فمُوَلِّدٌ .
وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما ، والثانيةُ بإذا ، قال الزمخشري : « لأنهم
حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به معقودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه ، فكُلَّما صادفوا
منه فرصةً انتهزوها ، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتحبُّسُ » وهذا الذي قاله هو
الظاهرُ ، إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ « إذا » تُفيد التكرار أيضاً ،
وأنشد :
250 إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي ... أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ
أَبْتَرِدُ
قال : « معناها معنى كلما » .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } « لو »
حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره ، هذه عبارةُ سيبويه ، وهي أَوْلى من عبارة غيره :
/ حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى :
{
لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر } [ الكهف : 109 ]
، وفي قوله عليه السلام : « نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه
» ، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً ، ولفسادِ نحو قولهم : « لو كان
إنساناً لكان حيواناً » إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإِنسانِ امتناعُ الحيوان ، ولا
يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم ، فأمَّا قولُه :
251 لو يَشَأْ طارَ به ذو مَيْعَةٍ ... لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ
وقول الآخر :
252 تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ ... إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ
شَيْبَانا
فمِنْ تسكينِ المحرَّكِ ضرورةً ، وأكثر ما تكونُ شرطاً في الماضي ، وقد تأتي بمعنى
إنْ كقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 9 ] وقولِه :
253 ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ ... عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ
لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا ... إليها صَدَىً مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ
ولا تكونُ مصدريةً على الصحيح ، وقد تُشَرَّبُ معنى التمني فَتَنْصِبُ المضارعَ
بعد الفاء جواباً لها نحو : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء :
102 ] ، وسيأتي تحريرُه في مَوْضِعِه .
و « شاء » أصلُه : شَيِئَ علَى فَعِلَ بكسر العين ، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً
للقاعدةِ المُمَهَّدةِ . ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه : ولو شاء الله إذهابَ ، وكَثُر
حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ « أراد » حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ
المستغرَبِ كقولِه :
254 ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ
قال تعالى : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ الزمر : 4 ] .
واللامُ في « ذهب » جوابُ لو . واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه
مثبتاً ، وقد تُحْذَفُ ، قال تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [
الواقعة : 70 ] ، ويَقِلُّ دخولُها عليه منفيَّاً ب « ما » ، ويَمْتَنِعُ دخولُها
عليه منفيَّاً بغير « ما » نحو : لو قُمْتَ لم أَقُمْ ، لِتوالِي لامين فيثقلُ ،
وقد يُحْذَفُ كقوله :
255 لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً
و « بسَمْعِهم » متعلِّقٌ بذَهَب . وقُرِئَ : « لأَذْهَبَ » فتكونُ الباءُ زائدةً
، أو يكونُ فَعَل وأَفْعَل بمعنىً ، ونحوهُ : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20
] .
قوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى
ما قبلَها ، و « على كل شيء » متعلِّقٌ بقدير ، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من
القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ ، وفعلُها قَدَر بفتح العين ، وله ثلاثةَ عشَرٍ
مصدراً : قدرة بتثليث القاف ، ومَقْدرة بتثليث الدال ، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً
وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً . وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج
، وقِيل : هما بمعنى ، قاله الهروي . والشيءُ : ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه ،
ويُخْبَرَ عنه ، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/ ، وهل يُطْلق على المعدومِ
والمستحيل؟ خلافٌ مشهور .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
قوله
تعالى { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } . . « يا » حرف نداء وهي أم الباب ،
وزعم بعضُهم أنها اسمُ فعلٍ ، وقد تُحْذَفُ نحو : { يُوسُفُ أَعْرِضْ } [ يوسف :
29 ] وينادى بها المندوبُ والمستغاثُ ، قال الشيخ : « وعلى كثرة وقوع النداءِ في
القرآن لمَ يَقَعْ نداءٌ إلا بها » . قلت : زَعَمَ بعضُهم أنَّ قراءةَ { أَمَنْ
هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] بتخفيف الميم أنَّ الهمزةَ فيه للنداءِ وهو غريبٌ .
وقد يُراد بها مجردُّ التنبيه فيليها الجملُ الاسمية والفعلية ، قال تعالى : {
أَلاَ يا اسْجُدوا } [ النمل : 25 ] بتخفيف أَلا ، وقال الشاعر :
256 ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وقال الآخر :
257 يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمِ ... والصالحينَ على سِمْعانَ من جارِ
و « أيّ » اسمُ منادى في محل نصب ، ولكنه بُني على الضمِّ لأنه مفردٌ معرفةٌ .
وزعم الأخفشُ أنَّها هنا موصولةٌ ، وأنَّ المرفوعَ بعدها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ،
والجملة صلةٌ ، والتقديرُ : يا الذين هم الناسُ ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها
صفةٌ لها يلزم رَفْعُه ، ولا يجوزُ نَصْبُه على المحلِّ ، خلافاً للمازني ، و « ها
» زائدةٌ للتنبيه لازمةٌ لها ، والمشهورُ فتحُ هائِها . ويجوزُ ضَمُّها إتباعاً
للياء ، وقد قرأ عامر بذلك في بعض المواضع نحو : { أيُّهُ المؤمنون } [ النور : 31
] ، والمرسُوم يساعده .
ولا يجوزُ وَصْفُ « أيّ » هذه إلا بما فيه الألفُ واللامُ ، أو بموصولٍ هما فيه ،
أو باسم إشارة نحو : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] ، وقال
الشاعر :
258 ألا أيُّهذا النابِحُ السِّيدَ إنني ... على نَأْيها مُسْتَبْسِلٌ مِنْ
ورائِها
ول « أيّ » معانٍ أُخَرُ كالاستفهام والشرطِ وكونِها موصولةً ونكرةً موصوفةً وصفةً
لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ .
و « الناسُ » صفةٌ لأي ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقدَّم من الخلاف . و «
اعبدوا رَبَّكُمُ » جملةٌ أمرية لا محلَّ لها لأنها ابتدائيةٌ .
قولُه تعالى : { الذي خَلَقَكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : نصبهُ على النعتِ
لِرَّبكم . الثاني : نصبُه على القَطْع . الثالثُ : رَفْعُه على القطعِ أيضاً ،
وقد تقدَّم معناه .
قوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في «
خَلَقَكم » ، و « مِنْ قبلكم » صِلةُ الذين ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ، و
« مِنْ » لابتداء الغاية . واستشكلَ بعضُهم وقوعَ « مِنْ قبلكم » صلةً من حيث إنَّ
كلَّ ما جاز أن يُخْبَرَ به جاز أن يَقَعَ صلةً ، و « مِنْ قبلكم » ناقصٌ ليس في
الإِخبار به عن الأعيان فائدةٌ إلا بتأويل ، فكذلك الصلةُ ، قال : « وتأويلُه أنَّ
ظرفَ الزمانِ إذا وُصِفَ صَحَّ الإِخبارُ والوصلُ به تقول : نحن في يومٍ طَيِّبٍ ،
فيكون التقديرُ هنا والله أعلم : والذين كانوا من زمان قبلَ زمانكم » . / وقال أبو
البقاء : « التقدير : والذين خَلَقَهم من قبلِ خَلْقِكم ، فَحَذَفَ الخَلْقَ وأقام
الضميرَ مُقامَه » .
وقرأ
زيدٌ بنُ علي : « والذين مَن قَبْلِكُمْ » بفتح الميم . قال الزمخشري : ووجهُها
على إشكالِها أن يقالَ : أَقْحَمَ الموصولَ الثاني بين الأول وصلتِه تأكيداً ، كما
أقحم جرير في قوله :
259 يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَالكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
تَيْماً الثاني بين الأولِ وما أُضيفَ إليه ، وكإقحامِهم لمَ الإِضافة بين المضافِ
والمضاف إليه في نحو : لا أبالكَ ، قيل : « هذا الذي قاله مذهبٌ لبعضِهم ومنه
قولُه :
260 من النَفَر اللاءِ الذين إذا هُمُ ... يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ
قَعْقَعُوا
فإذا وجوابُها صلةُ » اللاء « ، ولا صلة للذين لأنه توكيدٌ للأول .
إلا أنَّ بعضَهم يَرُّدُّ هذا القولَ ويجعلُه فاسداً ، مِنْ جهةِ أنه لا يُؤكَّدُ
الحرفُ إلا بإعادةِ ما اتصل به فالوصولُ أَوْلَى بذلك ، وخَرَّجَ الآية والبيتَ
على أنَّ » مَنْ قبلكم « صلةٌ للموصولِ الثاني ، والموصولُ الثاني وصلتُه خبرٌ
لمبتدأ محذوفٍ ، والمبتدأُ وخبرُه صلةُ الأول ، والتقديرُ : والذينَ هُمْ قبلكم ،
وكذا البيتُ ، تَجْعَلُ » إذا « وجوابَها صلةً للذين ، والذين خبرٌ لمبتدأ محذوف ،
وذلك المبتدأُ وخبرُه صلةٌ لِلاَّءِ ، ولا يَخْفَى ما في هذا من التعسُّفِ .
والخَلْق يقال باعتبارين ، وأحدهما : الإِبداع والاختراع ، وهذه الصفةُ ينفردُ بها
الباري تعالى . والثاني : التقديرُ : قال زهير :
261 ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري
وقال الحَّجاج : » ما خلقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ ولا وَعَدْتُ إلا وَفَيْتُ « .
وهذه الصفةُ لا يختصُّ بها اللهُ تعالى ، وقد غَلِط أبو عبد الله البصري في أنه لا
يُطْلق اسمُ الخالقِ على الله تعالى ، قال : لأنه مُحَالٌ ، وذلك أن التقدير
والتسويةَ في حق الله تعالى ممتنعان ، لأنهما عبارةٌ عن التفكُّر والظنِّ ، وكأنه
لم يسمع قوله تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] { الله خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] . وكأنه لم يعلم أنَّ الخَلْقَ يكون عبارةً عن
الإِنشاءِ والاختراع .
قولُه تعالى : » لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ « لعلَّ واسمُها وخبرُها ، وإذا وَرَدَ
ذلك في كلام الله تعالى ، فللناسِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّ » لَعَلَّ «
على بابها من الترجِّي والإِطماع ، ولكنْ بالنسبةِ إلى المخاطَبين ، أي : لعلَّكم
تتقون على رجائِِكم وطمعِكم ، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ } أي : اذهبا على رجائكما . والثاني : أنها للتعليل ، أي اعبدوا
ربَّكم لكي تتقوا ، وبه قال قطرب والطبري وغيرُهما وأنشدوا :
262- وقُلْتُمْ لنا كُفُّوا الحروبَ لَعَلَّنا ... نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لنا كلَّ
مَوْثِقِ
فلمّا كَفَفْنَا الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في المَلاَ
مُتَألِّقِ
أي : لكي نَكُفَّ الحربَ ، ولو كانت » لعلَّ « للترجي لم يقلْ : وَوَثَّقْتُمْ لنا
كلَّ مَوْثِقِ . والثالث : أنها للتعرُّض/ للشيء ، كأنه قيل : افعلوا ذلك
متعرِّضين لأَِنَّ تتَّقوا . وهذه الجملةُ على كلِّ قولٍ متعلقةٌ من جهةِ المعنى
باعبُدوا ، أي : اعبدوه على رجائِكم التقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرِّضين للتقوى ،
وإليه مالَ المهدوي وأبو البقاء .
وقال
ابن عطية : « يتَّجِهُ تعلًُّقُها ب » خَلَقَكم « ، أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على
الفطرةِ فهو بحيِثُ يُرْجى أَنْ يكونَ مُتَّقِياً ، إلاَّ أنَّ المهدويَّ مَنَع من
ذلك ، قال : » لأنَّ مَنْ ذَرأَه الله لجهنَّم لم يَخْلُقْه ليتَّقِيَ « ولم
يَذْكر الزمخشري غيرَ تعلُّقِها ب » خَلَقَكُمْ « ، ثم رتَّب على ذلك سؤالين ،
أحدُهما : أنه كما خَلَقَ المخاطبين لعلهم يتقون كذلك خَلَقَ الذين مِنْ قبلهم
لذلك ، فلِمَ خَصَّ المخاطبينَ بذلك دونَ مَنْ قَبلهم؟ وأجابَ عنه بأنَّه لَم
يَقْصُرْه عليهم بل غلَّبَ المخاطبين على الغائبين في اللفظِ ، والمعنى على إرادةِ
الجميع . السؤالُ الثانِي : هَلاَّ قيل » تعبدونَ « لأجلِ اعبدوا ، أو اتقوا
لمكانِ » تَتَّقُون « ليتجاوبَ طَرفا النَّظْم ، وأجابَ بأنَّ التقوى ليست غيرَ
العبادةِ ، حتى يؤدِّيَ ذلك إلى تنافُرِ النظم ، وإنما التقوى قُصارى أمرِ العابدِ
وأقصى جُهْدِه . قال الشيخ : » وأمَّا قولُه : ليتجاوبَ طرفاً النَظْم فليس بشيء ،
لأنه لا يمكن هنا تجاوبُ طَرَفَي النظْمِ ، إذ نَظْمُ اللفظ : اعبدوا ربَّكم لعلكم
تعبدُون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيدٌ في المعنى ، إذ هو مثل : اضربْ
زيداً لعلك تَضْربُه ، واقصدْ خالداً لعلك تَقْصِدُه ، ولا يَخْفَى ما في ذلك من
غَثاثةِ اللفظِ وفسادِ المعنى « . والذي يظهرُ به صحتُه أن يكونَ » لعلكم تتقون «
متعلقاً بقولِه : » اعبدوا « ، فالذي نُودوا لأجلهِ هو الأمرُ بالعبادة ، فناسَبَ
أن يتعلَّقَ بها ذلك ، وأتى بالموصولِ وصلتِه على سبيل التوضيحِ أو المدحِ الذي
تعلَّقت به العبادةُ ، فلم يُجَأ بالموصولِ لَيُحَدِّثَ عنه ، بل جاءَ في ضمنِ
المقصودِ بالعبادةِ ، فلم يكُنْ يتعلَّقُ به دونَ المقصودِ . قلت : وهذا واضحٌ .
وفي » لعلَّ « لغاتٌ كثيرةٌ ، وقد يُجَرُّ بها ، قال :
263 لَعلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ علينا ... بشيء أنَّ أمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنصِبُ الاسمين على الصحيح ، وقد تَدْخُلُ » أَنْ « في خبرها حَمْلاً على »
عسى « ، قال :
264 لَعَلَّكَ يوماً أن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تأتي للاستفهامِ والتعليلِ كما تقدَّم ، ولكنَّ أصلَها أن تكونَ للترجِّي
والطمعِ في المحبوباتِ والإِشفاق في المكروهات كعسى ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا
يأتي مفصَّلاً في غضونِ هذا الكتابِ إنْ شاء الله تعالى .
وأصلُ تَتَّقُون : تَوْتَقِيُون لأنه من الوقاية ، فأُبْدِلَتْ الواوُ تاء قبل تاء
الافتعالِ ، وأُدْغِمَتْ فيها ، وقد تقدَّم ذلك في { لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة :
2 ] ، ثم اسْتُثْقِلَت الضمةُ على الياء فَقُدِّرَتْ ، فَسَكَنَتْ الياءُ والواوُ
بعدَها ، فحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين ، وضُمَّت القافُ لتجانِسَها ،
فوزنُه الآن : تَفْتَعُونَ . وهذه الجملةُ أعني » لعلكم تتقونَ « لا يجوزُ أن
تكونَ حَالاً لأنها طلبيةٌ ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهم ذلك . ومفعولُ
تَتَّقون محذوفٌ أي » تَتَّقون « الشِرْك أو النارَ .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قوله
تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } : « الذي » تحتملُ النصبَ والرفعَ . فالنصبُ من
خمسةِ أوجهٍ ، أظهرُها : أن يكونَ نصبُه على القطع . الثاني : أنه نعتٌ لربكم .
الثالث : أنه بدلٌ منه . الرابع : أنه مفعول « تتقون » وبه بدأ أبو البقاء .
الخامس : أنه نعتُ النعت أي : الموصولُ الأول ، لكن المختارَ أن النعتَ لا
يُنْعَتُ/ بل إنْ جاء ما يُوهم ذلك جُعِلَ نعتاً للأول ، إلا أَنْ يمنَع مانعٌ
فيكونَ نعتاً للنعت نحو قولهم : « يا أيُّها الفارسُ ذو الجُمَّة » ، فذو الجُمَّة
نعتٌ للفارس لا ل « أيّ » لأنها لا تُنْعَتُ إلاَّ بما تقدَّم ذِكْرُه . والرفعُ
من وجهين : أحدهما وهو الأصح أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو الذي جَعَلَ . والثاني
أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه بعد ذلك : « فلا تَجْعَلُوا » وهذا فيه نظرٌ من وجهين ،
أحدُهما : أنَّ صلتَه ماضِيةٌ فلم يُشْبِهِ الشرطَ فلا تُزَادُ في خبرِهِ الفاءُ ،
الثاني : عدمُ الرابط إلا أن يقالَ بمذهبِ الأَخفش وهو أَنْ يُجْعَلَ الربطُ
مكرَّرَ الاسم الظاهر إذا كان بمعناه نحو : « زيدٌ قام أبو عبد الله » ، إذا كان
أبو عبد الله كنيةً لزيد ، وكذلك هنا أقامَ الجلالة مُقامَ الضميرِ كأنه قال :
الذي جعل لكم فلا تَجْعلوا له أنداداً .
و « جَعَل » فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين
فيكونُ « الأرضُ » مفعولاً أولَ ، و « فراشاً » مفعولاً ثانياً . الثاني : أن
تكونَ بمعنى « خَلَقَ » فتتعدَّى لواحد وهو « الأرضَ » ويكونُ « فراشاً » حالاً .
« والسماء بِنَآءً » عطف على « الأرض فراشاً » على التقديرين المتقددِّمين ، و «
لكم » متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم . والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه .
والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ
، وقد يُرادُ به المفعولُ . و « أَنْزل » عطفٌ على « جَعَلَ » ، و « من السماء »
متعلِّقٌ به ، وهي لابتداءِ الغاية . ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ
حالاً مِنْ « ما » لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً ، وحينئذٍ
معناها التبعيضُ ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من مِياه السماءِ ماءً .
وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم : « ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه » وفي جَمْعه : مياه
وأَمْواه ، وفي تصغيرِه : مُوَيْه ، فتحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها فقُلبت
ألفاً ، فاجتمع حرفان خَفِيَّان : الألفُ والهاءُ ، فَأَبْدَلوا من الهاءِ أختَها
وهي الهمزةُ لأنها أَجْلَدُ منها .
وقوله : « فَأَخْرَجَ » عطفٌ على « أَنْزَل » مُرَتَّبٌ عليه ، و « به » متعلِّقٌ
بِه ، والباءُ فيه للسببية . و « من الثمرات » متعلقٌ به أيضاً ، ومِنْ هنا
للتبعيضِ .
وأَبْعَدَ
مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين ، أحدُهما : زيادتُها في الواجبِ ، وكَونُ المجرور بها
معرفةً ، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش . والثاني : أن
يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا ، وهذا يخالف الواقعَ ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس
رزقاً . وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ ، وفيه نظرٌ ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ
هذا ، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى ، و « رزقاً » ظاهرُه أنه مفعولٌ
به ، ناصبُه « أَخْرَجَ » . ويجوز أن يكونَ « من الثمرات » في موضع المفعول به ،
والتقديرُ : فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات . وفي « رزقاً » حينئذ وجهان أحدُهما
: أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ ، كالطِّحْنِ والرِّعْي .
والثاني : أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه ، وفيه شروطُ
النصبِ موجودةٌ . وإنما نَكَّر « ماء » و « رزقاً » ليفيدَ التبعيضَ ، لأنَّ
المعنى : وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم ،
إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « من الثمراتِ » حالاً مِنْ « رزقاً » لأنه لو تأخَّر
لكان نعتاً ، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وجعلَ الزمخشري « من الثمرات » واقعاً
موقعَ الثمر أو الثمار ، يَعْني مِمَّا نابَ جمعُ قلةٍ عن جمعِ الكثرة ، نحو : {
كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] و { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة :
228 ] . ولا حاجةَ تدعو إلى هذا لأنَّ جَمْعَ السلامةِ المحلَّى بأَلْ التي
للعمومِ يقعُ للكثرةِ ، فلا فرقَ إذاً بين الثمراتِ والثمار ، ولذلكَ ردَّ
المحققونَ قولَ مَنْ ردَّ على حسان بن ثابت رضي الله عنه :
265 لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من
نَجْدةٍ دَما
قالوا : كان ينبغي أن يقولَ : الجِفان : وسيوفُنا ، لأنه أمدحُ ، وليس بصحيحٍ لما
ذَكَرْتُ لك .
و « لكم » يَحْتملُ التعلُّقَ ب « أَخْرَج » ، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ ، على
أن يكونَ صفةً ل « رِزْقاً » ، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقُ ، وإنْ أُريد به
المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في « لكم » مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له ،
نحو : « ضربت ابني تأديباً له » أي : تأديبَه .
قولُه تعالى : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } الفاءُ للتسبُّب ،
تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ . و « لا »
ناهية و « تَجْعلوا » مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ ، وهي هنا بمعنى
تُصَيِّروا . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا . وعلى القولين فيتعدَّى
لاثنين أولُهما : أنداداً ، وثانيهما : الجارُّ والمجرورُ قبلَه ، وهو واجبُ
التقديمِ . و « أنداداً » جمع نِدّ ، وقال أبو البقاء : « أَنْدَاداً جمعُ نِد
ونَديد » وفي جَعْلَه جمعَ نديد نظرٌ ، لأن أَفْعالاً لا يُحْفظ في فَعيل بمعنى
فاعل ، نحو : شَريف وأَشَرْاف ولا يُقاسُ عليه .
والنِّدُّ
: المقاوِمُ المضاهي ، سواء كان [ مثلاً ] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل : هو/ الضدُّ
عن أبي عبيدة ، وقيل : الكُفْء والمِثْل ، قال حسان :
266 أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ ... فشرُّكما لخيركما الفِداءُ
أي : لستَ له بكُفْءٍ ، وقد رُوِي ذلك ، وقال آخر :
267 نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له ... عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ
وقال الزمخشري : « النِّدُ المِثْل ، ولا يُقال إلا للنِّدِّ المخالف ، قال جرير :
268 أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً ... وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ
ونادَدْتُ الرجلَ خالَفْتُه ونافَرْتُه مِنْ : نَدَّ يَنِدُّ نُدُوداً أي نَفَر »
. انتهى ، ويقال « نَديدة » على المبالغة ، قال لبيد :
269 لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي ... وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً
عَماعِمَا
وأمَّا النَّدُّ بفتح النون فهو التل المرتفعُ ، والنَّدُّ الطِّيب أيضاً ، ليس
بعربي . وهذه الجملةُ متعلقةٌ من حيث المعنى بقوله : « اعبدُوا » ، لأنَّ أصلَ
العبادةِ التوحيدُ ، ويجوز أن يتعلَّقَ ب « الذي » إذا جعلتَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ،
أي هو الذي جعل لكم هذه الآياتِ العظيمةَ والدلائلَ النَّيِّرة الشاهدَةَ
بالوَحْدانية فلا تَجْعلوا له أنداداً . وقال الزمخشري : « يتعلَّق ب » لعلَّكم «
على أن ينتصِبَ » تجعلوا « انتصابَ { فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 37 ] في قراءةِ حَفْص
، أي : خلقكم لكي تَتَّقوا وتخافوا عقابَه فلا تُشَبِّهوه بخَلْقه ، فعلى قولِه :
تكون » لا « نافيةً ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمارِ » أَنْ « في جوابِ الترجِّي ،
وهذا لا يُجيزه البصريون ، وسيأتي تأويلُ » فأطَّلِع « ونظائِرِه في موضعِه إنْ
شاء الله تعالى .
قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على
الحال ، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى : وأنتم من أهلِ العِلم ، أو حُذِف
اختصاراً أي : وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك . والاسمُ من » أنتم « قيلَ : أَنْ ،
والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب . وقيل : بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ
عمادٌ قبلها . وقيل : بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ ، وحكمُ ميمِه
بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإِشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم ، وقد تقدَّم
جميعُ ذلكَ .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
قولُه
تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ
} : إنْ حرف شرطٍ يَجْزِم فعلينِ شرطاً وجزاءً ، ولا يكونُ إلا في المحتملِ وقوعُه
، وهي أمُّ ألبابِ ، فلذلك يُحْذَفُ مجزومُها كثيراً ، وقد يُحْذَفُ الشرطُ
والجزاءِ معاً ، قال :
270 قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ : وإنْ
أي : وإن كان فقيراً تزوجتُه ، وتكونُ « إنْ » نافيةً لتعملُ وتُهْمَلُ ، وتكون
مخففةً وزائدةً باطِّراد وعدمِه ، وأجاز بعضُهم أن تكونَ بمعنى إذْ ، وبعضُهم أن
تكونَ بمعنى قد ، ولها أحكامٌ كثيرة . و « في ريب » خبر كان ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ،
ومحلُّ « كان » الجزمُ ، وهي وإن كانَتْ ماضيةً لفظاً فهي مستقبلةٌ معنى .
وزعم المبردُ أنَّ ل « كان » الناقصةِ حكماً مع « إنْ » ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ
فزعم أن لقوةِ « كان » أنَّ « إنْ » الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال ،
بل تكونُ على معناها من المضيِّ ، وتبعه في ذلك أبو البقاء ، وعَلَّلَ ذلك بأنه
كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ . وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ
إنما يكون في المستقبلِ ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك ، نحو : { إِن كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ } [ يوسف : 26 ] : إمَّا بإضمار « يَكُنْ » بعد « إنْ » ، وإمَّا
على التبيين ، والتقديرُ : إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه ، ولمَّا
خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل « إنْ » هنا بمنزلة « إذْ » .
وقوله : « في ريبٍ » مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم ، بمنزلةِ
المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم . و « مِمَّا » يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في
محلِّ جَرٍّ . و « مِنْ » للسببية أو ابتداءِ الغاية ، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ
، ويجوز أن تتعلَّق بريب ، أي : إن ارتَبْتُمْ من أجل ، ف « مِنْ » هنا للسببيةِ «
وما » موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كلا القولين محذوفٌ أي : نَزَّلناه
. والتضعيفُ في « نزَّلنا » هنا للتعدية مرادفاً لهمزةِ التعدِّي ، ويَدُلُّ عليه
قراءةُ « أنْزَلْنا » بالهمز ، وجَعَلَ الزمخشري التضعيفَ هنا دالاًّ على نزولِه
مُنَجَّماً في أوقاتٍ مختلفة . قال بعضُهم : « وهذا الذي ذهبَ إليه في تضعيفِ
الكلمة هنا هو الذي يُعَبَّر عنه بالتكثير ، أي يَفْعَلُ [ ذلك ] مرةً بعد مرةٍ ،
فَيُدَلُّ على ذلك بالتضعيفِ ، ويُعَبَّرُ عنه بالكثرةِ » . قال : « وذَهَلَ عن
قاعدةٍ وهي أن التضعيفَ الدالَّ على ذلك من شرطه أن يكونَ في الأفعال المتعديةِ
قبل التضعيفِ غالباً نحو : جَرَّحْتُ زيداً وفتَّحْتُ الباب ، ولا يُقال : جَلَّس
زيدٌ ، ونَزَّل لم يكن متعدياً قبلَ التضعيفِ ، وإنَّ ما جَعَلَه متعدياً تضعيفُه
.
وقولُه
« غالباً » لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو : «
مَوَّت المالُ » وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ
متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال ، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً
، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير ، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى : {
لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] إلى تأويل
، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى : {
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ } [ الأنعام : 37 ] { لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] إلا بتأويل بعيدٍ
جداً ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آيةٍ ، ولا أنه عَلَّق تكريرَ
نزولِ مَلَكٍ رسولٍ على تقديرِ كونِ ملائكةٍ في الأرض .
وفي قوله : « نَزَّلْنا » التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه : {
اعبدوا رَبَّكُمُ } ، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل : ممَّا نَزَّلَ على عبدِه ،
ولكنه التفت للتفخيمِ . و « على عبدنا » متعلِّقٌ بنزَّلنا ، وعُدِّي ب « على »
لإفادتها الاستعلاءَ ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه ، ولهذا
جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها ، دونَ « إلى » ، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ
فقط ، والإِضافة في « عبدِنا » تفيدُ التشريف كقوله :
271 يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ ... يَعْرِفُه السامعُ والرائي
لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها ... فإنه أَشْرَفُ أسمائي
وقُرئ : « عبادِنا » ، فقيل : المرادُ النبيُّ عليه السلام وأمته ، لأنَّ جَدْوَى
المنزَّلِ حاصلٌ لهم . وقيل : المرادُ بهم جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام .
قوله تعالى : « فَأْتُواْ » جوابُ الشرط ، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا
يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه ، وأصلُ فأْتُوا : اإْتِيُوا مثل : اضْربوا فالهمزة
الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ ، اجتمع
همزتان ، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ « إيمان » وبابِه ، واستُثْقِلَتِ
الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ ، فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدها
واوُ الضميرِ ساكنةٌ فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ ، وضُمَّتِ التاءُ
للتجانُسِ فوزنُ ايتوا : افْعُوا ، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً ،
أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ
لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : « فَأْتوا » وبابِه
وقد تُحْذَفُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ في الأمرِ كقوله :
272 فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ ... فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ
يريد : فَأْتونا كقوله : فَأْتوا . وبسورة متعلق ب أتوا « .
قوله تعالى : { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها تعودُ
على ما نَزَّلنا ، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة ، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ،
أي : بسورةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك ،
ويكونُ معنى » مِنْ « التبعيضَ ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان ، وأجازا
هما وأبو البقاء أن تكون زائدةً ، ولا تجيء إلا على قول الأخفش .
الثاني
: أنها تعودُ على « عبدِنا » فيتعلَّقُ « من مثله » بأْتُوا ، ويكون معنى « مِنْ »
ابتداءَ الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة ، أي : بسورةٍ
كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا . الثالث : قال أبو البقاء : « إنها تعود على الأنداد
بلفظِ المفرد كقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا
فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] قلت : ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك ، والمعنى يَأْباه
أيضاً .
والسُّورة : الدرجةُ الرفيعة ، قال النابغة :
273 ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ
وسُمِّيَتْ سورةُ القرآنِ بذلك لأنَّ صاحبَها يَشْرُفُ بها وَترْفَعُه . وقيل :
اشتقاقُها من السُّؤْر وهو البَقِيَّة ، ومنه » أَسْأَروا في الإِناء « قال الأعشى
:
274 فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا ... دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْتطيرا
أي : أَبْقَتْ ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ تميماً وغيرَها يهمزون فيقولون : سُؤْرة
بالهمز ، وسُمِّيت سورةُ القرآن بذلك لأنها قطعةٌ منه ، وهي على هذا مخففةٌ من
الهمزة ، وقيل : اشتقاقُها من سُورِ البِناءِ لأنها تُحيط بقارئها وتحفظُه كسُورِ
المدينة ، ولكنَّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الواو ، وجَمْعَ سُورةِ البِناء
سُوْر بسكونِها فَفرَّقوا بينها في الجمعِ .
قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَآءَكُم } هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها ،
فهي في محلِّ جَزْم أيضاً . ووزنُ ادْعُوا : افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ
دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع ، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين
و » شهداءَكم « مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف ، وقيل : بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ
أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ : الحضور .
و { مِّن دُونِ الله } متعلقٌ بادْعُوا ، أي : ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم ،
فلا تستشهدوا بالله ، فكأنه قال : وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم ، ويُحتمل
أَنْ يَتَعَلَّقَ ب » شهداءَكم « ، والمعنى : ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ
الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم ، أو أعوانكم مِنْ دون
أولياء الله ، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله . أو يكونُ معنى » مِنْ دونِ الله
« بين يدي الله كقوله :
275 تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه ... لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ
أي : تريكَ القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه لرقتِها وصفائها .
واختار أبو البقاء أن يكون { مِّن دُونِ الله } حالاً من » شهداءكم « ، والعاملُ
فيه محذوفٌ ، قال : » تقديرُه : شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله « .
و » دونَ « مْنِ ظروف الأمكنة ، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ ب » مِنْ
« ، وزعم الأخفش أنها متصرِّفة ، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى : { وَمِنَّا دُونَ
ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] قال : » دونَ « مبتدأ ، و » منَّا « خبرُه ، وإنما بُني
لإِضافتِه إلى مبني ، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر :
276
ألم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي ... وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنىً . وأمّا « دون » التي بمعنى رديء
فتلك صفةٌ كسائرِ الصفات ، تقول : هذا ثوبٌ دونٌ ، ورأيت ثوباً دوناً ، أي :
رديئاً ، وليستْ ممَّا نحن فيه .
قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه ،
تقديره : إنْ كنتم صادِقين فافعلوا ، ومتعلَّقُ الصدقِ محذوفٌ ، والظاهرُ تقديرُه
هكذا : إنْ كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا .
وقيل : فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة ، وقد صَرَّح بذلك عنهم في آية أخرى حيث
قال تعالى حاكياً عنهم : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ]
. والصدقُ ضدُّ الكذبِ ، وقد تقدَّم فَيُعْرَفُ مِنْ هناك ، والصديقُ مشتقٌّ منه
لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ ، والصِّدْقُ من الرماح : الصُّلبة .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قوله
تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } : « إنْ » الشرطيةُ داخلةٌ
على جملة « لم تفعلوا » وتفعلوا مجزومٌ بلم ، كما تدخل إنْ الشرطيةُ على فعلٍ منفي
بلا نحو : { إنْ لا تفعلوه } [ الأنفال : 73 ] فيكون « لم تفعلوا » في محلِّ جزم
بها .
وقوله : « فاتَّقوا » جوابُ الشرطِ ، ويكونُ قولُه : « ولَنْ تفعلوا » جملةً
معترضةً بين الشرطِ وجزائه . وقال جماعةٌ من المفسرين : معنى الآيةِ : وادعوا
شهداءَكم مِنْ دونِ اللهِ إنْ كنتم صادِقين ، ولَنْ تَفْعلوا فإنْ لم تَفْعلوا
فاتَّقوا النار . وفيه نظرٌ لا يَخْفى . وإنما قال تعالى : { فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } فَعَبَّر بالفعلِ عن الإِتْيانِ لأن الفعلَ يجري
مَجْرى الكناية ، فيُعَبَّر به عن كلِّ فعلٍ ويُغْني عن طول ما تَكْني به . وقال
الزمخشري : « لو لم يَعْدِلْ من لفظِ الإِتيانِ إلى لفظِ الفعلِ لاسْتُطِيل أن
يقال : فإنْ لم تأتوا بسورةٍ من مثله ولَنْ تأتوا بسورةٍ مِنْ مثلِه » . قال الشيخ
: « ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه لو قال : » فإنْ لم تأتوا ولَنْ تأتوا « كان المعنى
على ما ذَكَر ، ويكونُ قد حَذَفَ ذلك اختصاراً ، كما حَذَف اختصاراً مفعولَ {
لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } ، ألا ترى أنَّ التقدير : فإنْ لم تفعلوا
الإِتيانَ بسورةٍ من مِثله ، ولن تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مثله » .
و « لَنْ » حرفُ نَصْبٍ معناه نَفْيُ المستقبل ، ويختصُّ بصيغةِ المضارع ك « لم »
، ولا يقتضي نََفْيُه التأبيدَ ، وليس أقلَّ مدةً مِنْ نفي لا ، ولا نونُه بدلاً
من ألفِ لا ، ولا هو مركباً من « لا أَنْ » خلافاً للخليلِ ، وزَعَم قومٌ أنها قد
تَجْزِمُ ، منهم أبو عبيدةَ وأنشدوا :
277 لن يَخِبْ لانَ مِنْ رجائِك مَنْ حَرْ ... رَكِ مِنْ دونِ بابِك الحَلَقَهْ
وقال النابغة :
278 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلن أُعَرِّضْ
أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ
ويُمكِنُ تأويلُ ذلك بأنه مِمَّا سُكِّنَ فيه للضرورةِ .
قوله تعالى : { فاتقوا النار } هذا جوابُ الشرطِ كما تقدم ، والكثير في لغة العرب
: « اتقى يتَّقي » على افْتَعَل يَفْتَعِلُ ، ولغة تميم وأسد : تَقَى يَتْقي مثل :
رَمَى يَرْمي ، فيُسكِّنون ما بعد حرفِ المضارعة ، حكى هذه اللغة سيبويه ، ومنهم
مَنْ يُحَرِّكُ ما بعد حرف المضارعة ، وأنشدوا :
279 تَقُوه أيُّها الفِتْيانُ إنّي ... رأيتُ الله قد غَلَبَ الجُدودا
وقال آخر :
280 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تتلو
قوله تعالى : { النار } مفعول به ، و « التي » صفتُها ، وفيها أربع اللغاتِ
المتقدمةِ ، كقوله :
281 شُغِفَتْ بك اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمثلُ ما ... بك ما بها مِنْ لَوْعةٍ
وغَرامِ
وقال آخر :
282- فقلْ لِلَّتْ تَلُومُك إنَّ نَفْسي ... أراها لا تُعَوَّذُ بالتَّميمِ
وقوله : { وَقُودُهَا الناس } جملةٌ من مبتدأ وخبر صلةٌ وعائدٌ ، والألفُ واللامُ
في « النار » للعهدِ لتقدُّمِ ذكرها في سورة التحريم وهي مكية عند قوله تعالى :
{
قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] .
والمشهورُ فتحُ واوِ الوَقود ، وهو اسمُ ما يُوقَدُ به ، وقيل : هو مصدر كالوَلوع
والقَبول والوَضوء والطَّهور . ولم يجىءْ مصدرٌ على فَعُول غيرُ هذه الألفاظِ فيما
حكاه سيبويه . وزاد الكسائي : الوَزُوع ، وقُرئ شاذاً في سورة ( ق ) { وما مسَّنا
من لَغوب } [ الآية : 38 ] ، فتصير سبعةً ، وهناك ذَكرْتُ هذه القراءةَ ، ولكن
المشهور أن الوقود والوَضوءَ والطَهور بالفتح اسمٌ وبالضم مصدرٌ ، وقرئ شاذاً
بضمها وهو مصدرٌ . وقال ابن عطية : « وقد حُكيا جميعاً في الحَطَب ، وقد حُكيا في
المصدر » انتهى . فإن أريدَ اسمُ ما يُوقد به فلا حاجةَ إلى تأويل ، وإنْ أَريد
بهما المصدرُ فلا بدَّ من تأويلٍ وهو : إمَّا المبالغة أي جُعلوا نفس التوقُّدِ
مبالغةً في وصفهم بالعذاب ، وإمّا حذفُ مضافٍ : إمَّا من الأولِ أي أصحابُ توقدِها
، وإمَّا من الثاني أي : يُوقِدُها إحراقُ الناس ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم
المضافُ إليه مُقامَه .
والهاءُ في الحجارةِ لتأنيثِ الجمع .
قوله تعالى : { أُعِدَّتْ } فعلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، والقائمُ مَقَامَ الفاعلِ
ضميرُ « النار » والتاء واجبة ، لأن الفعلَ أُسْنِدَ إلى ضمير المؤنث ، ولا يُلتفت
إلى قوله :
283 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
لأنه ضرورةٌ خلافاً لابن كيسان . و « للكافرين » متعلقٌ به ، ومعنى أُعِدَّت :
هُيِّئَتْ ، قال :
284 أَعْدَدْتَ للحَدَثان سا ... بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدى
وقرئ : « أُعْتِدَتْ » من العَتاد بمعنى العُدَّة . وهذه الجملةُ الظاهر أنها لا
محلَّ لكونِها مستأنفةً جواباً لمَنْ قال : لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ وقال أبو البقاء : «
محلُّها النصبُ على الحالِ من » النار « ، والعامِلُ فيها اتقوا » . قيل : وفيه
نظرٌ فإنها مُعَدَّةٌ للكافرين اتَّقَوْا أم لم يَتَّقُوا ، فتكونُ حالاً لازمةً ،
لكن الأصل في الحال التي ليسَتْ للتوكيدِ أن تكونَ منتقلةً ، فالأَوْلَى أن تكونَ
استئنافاً . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُُ أن تكون حالاً من الضمير في » وَقُودُها
« لثلاثة أشياء أحدها : أنها مضافا إليها . الثاني : أنَّ الحَطَب لا يعمل ، يعني
أنه اسمٌ جامدٌ . الثالث : الفصلُ بين المصدرِ أو ما يَعْمَلُ عَمَلَهُ وبين مَا
يَعْمَلُ فيه بالخبر وهو » الناسُ « ، يعني أنَّ الوُقودَ بالضمِّ وإن كان مصدراً
صالحاً للعملِ فلا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنه عاملٌ في الحالِ وقد فَصَلْتَ بينه
وبينها بأجنبي وهو » الناسُ « . وقال السجستاني : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } من
صلة » التي « كقوله : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران
: 131 ] ، قال ابن الأنباري : » وهذا غَلَطٌ لأن « التي » هُنا وُصِلَتْ بقوله : {
وَقُودُهَا الناس } فلا يجوز أن تُوصل بصلةٍ ثانية ، بخلافِ التي في آل عمران .
قلت : ويمكن ألاَّ يكون غَلطاً ، لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ { وَقُودُهَا الناس }
والحالةُ هذه صلةٌ ، بل إمَّا معترضةً لأنَّ فيها تأكيداً وإمَّا حالاً ، وهذان
الوجهان لا يَمْنَعهُما معنىً ولا صناعةً .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
قولُه
تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها ،
عَطَفَ جملةَ ثوابِ المؤمنين على جملةِ عقابِ الكافرين ، وجاز ذلك لأنَّ مذهبَ سيبويه
وهو الصحيح أنه لا يُشْتَرَطُ في عطفِ الجملِ التوافُقُ معنىً ، بل تُعْطَفُ
الطلبيةُ على الخبريةِ وبالعكس ، بدليلِ قولِهِ :
285 تُناغي غَزالاً عند بابِ ابنِ عامرٍ ... وَكَحِّلْ أماقِيكَ الحسانَ بإِثْمِدِ
وقول امرئ القيس :
286- وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ ... وهل عند رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكونَ عطفاً على « فاتقوا » ليَعْطِفَ أمراً على
أمر . وهذا قد رَدَّهُ الشيخ بأنَّ « فاتَّقُوا » جوابُ الشرط ، فالمعطوفُ يكون
جواباً لأنَّ حكمَه حكمُه ، ولكنه لا يَصِحُّ لأنَّ تبشيرَه للمؤمنين لا يترتَّبُ
على قولِهِ : فإنْ لَمْ تَفْعَلوا .
وقرئ : « وبُشِّرَ » ماضياً مبنياً للمفعولِ . وقال الزمخشري : « وهو عطف على
أُعِدَّت » . قيل : « وهذا لا يتأتَّى على إعرابِ » أُعِدَّتْ « حالاً لأنها لا
تَصْلُحُ للحاليَّةِ » .
والبِشارةُ : أولُ خبرٍ من خيرٍ أو شرٍّ ، قالوا : لأنَّ أثرَها يَظْهَرُ في
البَشَرة وهي ظاهِرُ جلدِ الإِنسان ، وأنشدوا :
287 يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي ... فقُلْتُ له : ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ
وقال آخر :
288 وبَشَّرْتَنِي يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وأنَّ الوُدَّ
موعدُهُ الحَشْرُ
وهذا رأي سيبويه ، إلا أن الأكثرَ استعمالُها في الخير ، وإن اسْتُعْمِلَتْ في
الشرِّ فبقَيْدٍ ، كقولِهِ تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ]
وإن أُطْلِقَتْ كانت للخير ، وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنها تختصُّ بالخَيْرِ ، لأنه
تَأَوَّلَ مثلَ : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } على العكسِ في الكلامِ الذي يُقْصَدُ
به الزيادةُ في غَيْظِ المُسْتَهْزَأ به وتألُّمِهِ . والفعلُ منها : بَشَرَ
وبَشَّر مخففاً ومثقلاً ، كقولَه : « بَشَرْتُ عيالي » البيت ، والتثقيلُ للتكثيرِ
بالنسبة إلى المُبَشِّرِ به . وقد قرئ المضارعُ مخففاً ومشدداً ، وأمَّا الماضي
فَلَمْ يُقْرَأْ به إلا مثقَّلاً نحو : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود :
71 ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مثل أَكْرَمَ ، وأنكر أبو حاتم التخفيفَ ، وليس
بصوابٍ لمجيء مضارعِهِ . وبمعنى البِشارة : البُشور والتَبْشير والإِبْشَار ، وإن
اختَلَفَتْ أفعالُها ، والبِشارَةُ أيضاً الجَمالُ ، والبَشير : الجميلُ ، وتباشير
الفجرِ أوائلُهُ .
[ وقرأ زيدٌ بنُ علي رضي الله عنهما « وبُشِّرَ » : ماضياً مبنياً للمفعول قال
الزمخشري : « عطفاً على » أُعِدَّت « انتهى . وهو غلط لأن المعطوف عليه [ مِن ]
الصلة ، ولا راجعَ على الموصولِ من هذه الجملةِ فلا يَصِحُّ أن يكونَ عطفاً على
أُعِدَّت ] .
وفاعلُ » بَشِّرْ « : إِمَّا ضميرُ الرسولِ عليه السلام ، وهو الواضحُ ، وإمَّا
كلُّ مَنْ تَصِحُّ منه البشارةُ . وكونُ صلةِ » الذين « فعلاً ماضياً دونَ كونِهِ
اسمَ فاعلٍ دليلٌ على أَنْ يستحقَّ التبشيرَ بفضلِ الله مَنْ وَقَعَ منه الإِيمانُ
وتَحَقَّقَ به وبالأعمالِ الصالحةِ .
والصالحاتُ جمعُ صالحة وهي من الصفاتِ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ في إيلائِها
العواملَ ، قال :
289
كيفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لأَْمٍ بظهرِ الغَيْبِ
تَأْتِينِي
وعلامةُ نصبِه الكسرةُ لأنه من بابِ جَمْعِ المؤنث السالم نيابةً عن الفتحةِ التي
هي أصلُ النصبِ .
قولُه تعالى : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } جناتٍ اسمُ أنَّ ، و « لهم » خبرٌ مقدمٌ
، ولا يجوز تقديمُ خبرِ « أنَّ » وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ ، وأنَّ وما
في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء ، لأن
الأصلَ « : وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم ، فحُذِفَ حرفُ الجر مع أَنَّ ، وهو
حَذْفٌ مُطَّردٌ معها ومع » أَنْ « الناصبة للمضارعِ ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ ،
بسبب طولهما بالصلة ، فلما حُذِفَ حرفُ الجرّ جرى الخلافُ المذكورُ ، فالخليل
والكسائي يقولان : كأنَّ الحرفَ موجودٌ فالجرُّ باقٍ ، واستدلَّ الأخفشُ لهما
بقولِ الشاعر :
290 وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً ... إليَّ لا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ
فَعَطْفُ » دَيْنٍ « بالجرِّ على محلِّ » أن تكون « يبيِّنُ كونَها مجرورةً ، قيل
: ويَحْتملُ أن يكونَ من بابِ عَطْفِ التوهُّم فلا دليلَ فيه . والفراء وسيبويه
يقولان : وَجَدْناهم إذا حذفوا حرفَ الجر نَصَبُوا ، كقولِهِ :
291 تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرَامُ
أي بالديار ، ولا يجوزُ الجرُّ إلا في نادرِ شعرٍ ، كقولِهِ :
292 إذا قيلَ : أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أَشَارتْ كليبٍ بالأَكفِّ الأصابعُ
أي : إلى كُلَيْبٍ ، وقولِ الآخر :
293 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تَبَذَّخَ فارتقى
الأَعْلامِ
أي : إلى الأعلام .
والجَنَّةُ : البُسْتَانُ ، وقيل : الأرضُ ذاتُ الشجرِ ، سُمِّيَتْ بذلك لسَتْرِها
مَنْ فيها ، ومنه : الجنين لاستتارِه ، والمِجَنُّ : التُرْس ، وكذلك » الجُنَّة «
لأنه يَسْتُر صاحبَه ، والجِنَّة لاستتارِهم عن أعينِ الناسِ .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ لأنها صفةٌ
لجنَّات ، و » تَجْرِي « مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ ، وعلامةُ رفعِه
ضمةٌ مقدرةٌ في الياءِ استثقالاً ، وكذلك تُقَدَّرُ في كلِّ فعلٍ معتلٍ نحو :
يَدْعو ويَخْشَى إلاَّ أَنَّها في الألِفِ تُقَدَّرُ تعذُّراً .
والأنهارُ جمع نَهْر بالفتح ، وهي اللغة العالية ، وفيه تسكينُ الهاءِ ، ولكن »
أَفْعال « لا ينقاسُ في فَعْل الساكنِ العينِ بل يُحْفظ نحو : أَفْراخ وأَزْنَاد
وأَفراد .
والنهرُ دونَ البحرِ وفوقَ الجدولِ ، وهل هو مجرى الماءِ أو الماءُ الجاري نفسُه؟
والأولُ أظهرُ ، لأنه مشتقٌّ من نَهَرْت أي : وسَّعْتُ ، قال قيس بن الخطيم يصفُ
طعنةِ :
294 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
أي وَسَّعْتُ ، ومنه : النهارُ لاتساعِ ضوئِهِ ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماءِ
مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ .
و { مِن تَحْتِهَا } متعلقٌ بتجري ، و » تحت « مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ ، وهو نقيضُ »
فوق « ، إذا أُضيفا أُعْرِبَا ، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم . و » مِنْ «
لابتداءِ الغايةِ وقيل : زائدةٌ ، وقيل : بمعنى في ، وهما ضعيفان .
واعلمْ أنه إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشجرِ فلا بُدَّ من حَذْفِ
مضافٍ ، أي : من تحتِ عَذْقِها أو أشجارِها .
وإن
قيل بأنها الشجرُ نفسَه فلا حاجةَ إلى ذلك . وإذا قيل بأنَّ الأنهارَ اسمٌ للماءِ
الجاري فنسبةُ الجَرْيِ إليه حقيقةٌ . وإنْ قيلَ بأنه اسمٌ للأُخْدُودِ الذي
يَجْرِي فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجازٌ كقول مهلهل :
295 نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدكَ أُوْقِدَتْ ... واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ
المَجْلِسُ
قال الشيخ : « وقد ناقضَ ابنُ عطيةَ كلامَهُ هنا فإنه قال : » والأنهار : المياهُ
في مجارِيها المتطاولةِ الواسعةِ « ثم قال : » نَسَبَ الجَرْيَ إلى النهر ، وإنما
يَجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً ، كما قال تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [
يوسف : 82 ] ، وكما قال : نُبِّئْتُ أنَّ النار . البيت « .
والألف واللامُ في » الأنهار « للجنس ، وقيل : للعَهْدِ لِذِكْرِها في سورة القتال
. وقال الزمخشري : » يجوزُ أَنْ تَكونَ عوضاً من الضمير كقوله : { واشتعل الرأس
شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : أنهارُها « ، بمعنى أنَّ الأصلَ : واشتعلَ رأسي ،
فَعَوَّض » أل « عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البصريين ، بل قال به بعض
الكوفيين ، وهو مردودٌ بأنه لو كانت » أل « عوضاً من الضمير لَما جُمع بينهما ،
وقد جُمع بينهما ، قال النابغة :
296 رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رفيقةٌ ... بجَسِّ الندامى بَضَّةُ
المُتَجَرِّدِ
[ فقال : الجيبِ منها ] ، وأمَّا ما وَرَدَ وظاهرُه ذلك فيأتي تأويله في موضِعِه .
قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ } تقدَّم الكلامُ في »
كُلَّما « ، والعاملُ فيها هنا : » قالوا « ، و » منها « متعلِّق ب » رُزِقوا « ،
و » مِنْ « لابتداء الغاية وكذلك » مِنْ ثمرةٍ « لأنها بَدَلٌ من قولِه » منها «
بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ ، وإنما قُلْنَا بدلُ اشتمالٍ ، لأنه لا يتعلَّقُ
حرفان بمعنىً واحدٍ بعاملٍ واحدٍ إلا على سبيلِ البدليةِ أو العطفِ . وأجاز
الزمخشري أن تكونَ » مِنْ « للبيانِ ، كقولِك : رأيت منكَ أسداً . وفيه نظرٌ ،
لأنَّ مِنْ شرطِ ذلك أن يَحُلَّ مَحَلَّها موصولٌ وأن يكونَ ما قبلَها مُحَلَّى
بأل الجنسية ، وأيضاً فليس قبلَها شيءٌ يَتَبَيَّنُ بها ، وكونُها بياناً لِما
بعدها بعيدٌ جداً وهو غيرُ المصطلح .
و » رِزْقاً « مفعولٌ ثانٍ ل » رُزِقوا « وهو بمعنى » مَرْزوقٍ « ، وكونُه مصدراً
بعيدٌ لقولِه : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً }
والمصدرُ لا يؤتى به متشابهاً ، وإنما يُؤْتى بالمرزوق كذلك .
قوله : » قالوا : هذا الذي رُزِقْنا مِنْ قبلُ « » قالوا « هو العاملُ في » كلما «
كما تقدَّم ، و { هذا الذي رُزِقْنَا } مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول ، وعائدُ
الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ ، أي : رُزِقْناه . و » مِنْ قَبلُ «
متعلِّقٌ به . و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، ولَمَّا قُطِعَتْ » قبلُ « بُنِيَتْ
، وإنما بُنِيَتْ على الضَّمةِ لأنها حركةٌ لم تكنْ لها حالَ إعرابها .
واختُلِفَ
في هذه الجملةِ ، فقيل : لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها استئنافيةٌ ، كأن
قيل لَمَّا وُصِفَت الجناتُ : ما حالُها؟ فقيل : كلما رُزِقوا قالوا . وقيل :
لَهَا محلٌّ ، ثم اختُلِفَ فيه فقيل : رفعٌ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، واختُلِفَ
في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضميرُ الجنات أي هي كلما . وقيل : ضميرُ الذين آمنوا أي :
هم كلما رُزقوا قالوا ذلك . وقيل : محلًّها نصبٌ على الحالِ وصاحبُها : إمَّا
الذينَ آمنوا وإمَّا جنات ، وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لأنها تَخَصَّصَتْ بالصفةِ ،
وعلى هذين تكونُ حالاً مقدَّرةً لأن وقتَ البشارةِ بالجناتِ لم يكونوا مرزوقينَ
ذلك . وقيل : مَحَلُّهَا َنَصْبٌ على أنها صفةٌ لجنات أيضاً .
قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } الظاهرُ أنها جملةٌ مستأنفةٌ . وقال
الزمخشري فيها : « هو كقولِكَ : فلانٌ أَحْسِنْ بفلان ، ونِعْمَ ما فعل ، ورأى من
الرأي كذا ، وكان صواباً ، ومنه : { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك
يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] وما أشْبَه ذلك من الجملِ التي تُساق في الكلام
معترضةً فلا محلَّ لها للتقرير » . قلت : يعني بكونها معترضةً أي بين أحوالِ أهل
الجنة ، فإنَّ بعدها : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } ، وإذا كانت معترضةً فلا
محلَّ لها أيضاً . وقيل : هي عطفٌ على « قالوا » ، وقيل : محلُّها النصبُ على
الحالِ ، وصاحبُها فاعلُ « قالوا » أي : قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ ، ولا
بُدَّ من تقديرِ « قد » قبل الفعلِ أي : وقد أُتوا ، وأصلُ أُتُوا : أُتِيُوا مثل
: ضُرِبوا ، فَأُعِلَّ كنظائرِه . وقرئ : وأتَوا مبنياً للفاعل ، والضميرُ
للوِلْدان والخَدَمْ للتصريحِ بهم في غير موضع . والضميرُ في « به » يعودُ على
المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أنَّ « هذا » إشارةٌ إليه . وقال الزمخشري : «
يعودُ إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأنَّ قولَه : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن
قَبْلُ } انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن . ونظيرُ ذلك قولُه تعالى : {
إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] أي :
بجنسَي الغنيّ والفقيرِ المدلولِ عليهما بقولِه : غنياً أو فقيراً » . انتهى .
قلت : يَعْني بقولِه : « انطوى تحتَه ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن » أنه لمَّا
كان التقديرُ : مثل الذي رُزِقْناه كان قدِ انطوى على المرزوقَيْنِ معاً كما أنَّ
قولَكَ : « زيدٌ مثل ُ حاتم » مُنْطَوٍ على زَيد وحاتم . قال الشيخ : « وما قالَه
غيرُ ظاهر ، لأنَّ الظاهر عَوْدُه على المرزوق في الآخرةِ فقط ، لأنه هو
المُحَدَّثُ عنه ، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ ، لا سيما إذا فسَّرْتَ
القبلِيَّةَ بما في الجنة ، فإنه يتعيَّن عَوْدُه على المَرزوق في الجنةِ فقط ،
وكذلك إذا أَعْرَبْتَ الجملةَ حالاً ، إذْ يَصيرُ التقديرُ : قالوا : هذا [ مثلُ ]
الذي رُزقنا من قبل وقد أُتُوا به [ متشابهاً ] ، لأنَّ الحاملَ لهم على هذا القول
كَونُه أُتُوا به متشابهاً وعلى تقديرِ أن يكونَ معطوفاً على » قالوا « لا يَصِحُّ
عَوْدُهُ على المرزوقِ في الدارَيْنِ لأنَّ الإِتيانَ إذ ذاك يستحيل أن يكونَ
ماضياً معنًى ، لأنَّ العاملَ في » كلما « وما في حَيِّزها يتعيَّنُ هنا أن يكونَ
مستقبلَ المعنى ، لأنها لا تَخْلُو من معنى الشرط ، وعلى تقديرِ كونها مستأنفةً لا
يظهرُ ذلك أيضاً لأنَّ هذه الجملَ مُحَدَّثٌ بها عن الجنة وأحوالِها » .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
قولُه
تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } : « لا يَسْتَحْيي »
جملةٌ في محل الرفع خبرٌ ل « إنَّ » ، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد
، وقال الزمخشري : « إنه موافق له » أي : قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد ،
والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف ،
وقد جاء استحى يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل : استقى يستقي ، وقُرئ به ، ويروى عن
ابن كثير . واختُلف في المحذوفِ فقيل : عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل . وقيل :
لامُها فوزنُه يَسْتَفِع ، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ
على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ ، ومن الحَذْفِ قولُه :
301 ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ
وقال آخر :
302 إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه ... كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ
مِنَ الوَرْدِ
والحياءُ لغةً : تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به ،
واشتقاقُه من الحياة ، ومعنا على ما قاله الزمخشري : « نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ
مجازاً كما يُقال : نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ ،
جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ
الحياةِ ، كما قالوا : فلان هَلَك من كذا حياءً » . انتهى . يعني قوله : « نَسِيَ
وَحشِيَ وشَظِيَ » أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ ، وحَشاهُ وهو ما احتوى عليه البطن ،
وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك .
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ ، وقيل : مجازٌ عن الخشيةِ
لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه ، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة ، يعني أنَّ
الكفار لَمَّا قالوا : « أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل
بالمُحَقِّراتِ » قوبل قولُهم ذلك بقوله : « إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ » ،
ونظيرُه قول أبي تمام :
303 مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها ... أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ
المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ .
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ ، تقول : اسْتَحْيَتْهُ ، وعليه :
« إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ » البيت ، واستَحْيَيْتُ منه ، وعليه : « ألا
تَسْتَحِي منا الملوكُ » البيت ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى
« أَنْ يضربَ » بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً ، ويَحْتَمِل أن يكونَ
تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه
« أنَّ لهم جناتٍ » .
و « يَضْرِبَ » معناه : يُبَيِّنَ ، فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه التصييرُ ،
فيتعدَّى لاثنين نحو : « ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً » ، وقال بعضُهم : « لا يتعدَّى
لاثنين إلا مع المَثَل خاصة » ، فعلى القول الأول يكونُ « مَثَلاً » مفعولاً و «
ما » زائدةٌ ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً ، ونظيرُه قولُهم :
« لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه » وقولُ امرئ القيس :
304
وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقال أبو البقاء : « وقيل » ما « نكرةٌ موصوفةٌ » ، ولم يَجْعَلْ « بعوضة » صفتَها
بل جَعَلَها بدلاً منها ، وفيه نظرٌ ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً محذوفةً ولا
ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ « بعوضةً » صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها
بالجنسِ المُنَكَّرِ لإِبهامِه فهي في معنى « قليل » ، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج
وثعلب ، وتكون « ما » وصفتُها حينئذ بدلاً من « مثلاً » ، و « بعوضةً » بدلاً من «
ما » أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ « ما » صفةٌ ل « مثلاً » ، أو نعتٌ ل « ما »
إنْ قيل : إنها بدلٌ من « مثلاً » كما تقدَّمَ في قولِ الفراء ، وبدلٌ من « مثلاً
» أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ : إنَّ « ما » زائدةٌ . وقيل : « بعوضة » هو المفعولُ
و « مثلاً » نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ . وقيل : نُصِبَ على إسقاطِ
الخافض التقديرُ : ما بينَ بعوضةٍ ، فلمَّا حُذِفَتْ « بَيْنَ » أُعربت « بعوضةً »
بإعرابها ، وتكونُ الفاءُ في قولِه : « فما فوقها » بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها
، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا :
305 يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ ... ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ
أي : ما بينَ قَرْنٍ ، وحَكَوا : « له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً » ، وعلى القول
الثاني يكونُ « مثلاً » مفعولاً أولَ ، و « ما » تحتملُ الوجهين المتقدمين و «
بعوضةً » مفعولٌ ثانِ ، وقيل : بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و « مَثَلاً » هو الثاني
ولكنه قُدِّم .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في « ما » ثلاثةَ أوجه : زائدةٌ ، صفةٌ لما قبلَها ،
نكرةٌ موصوفةٌ ، وأنَّ في « مَثَلاً » ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ ، مفعولٌ ثانِ ،
حالٌ مقدَّمةٌ ، وأنَّ في « بعوضة » تسعة أوجهٍ . والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ
« ضَرَبَ » متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيَّن ، و « مثَلاً » مفعولٌ به ، بدليلِ قولِه
: { ضُرِبَ مَثَلٌ } [ الحج : 73 ] ، و « ما » صفةٌ للنكرة ، و « بعوضةً » بدلٌ لا
عطفُ بيان ، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ .
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع « بعوضةٌ » ، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ ،
ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو « ما » على أنها استفهاميةٌ ، أي :
أيُّ شيء بعوضةٌ ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه . وقيل : المبتدأ مضمرٌ تقديرُه :
هو بعوضةٌ ، وفي ذلك وجهان ، أحدُهما : أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً ل « ما »
لكونِها بمعنى الذي ، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ ، وهذا لا يجوزُ
عند البصريين إلا في « أيّ » خاصةً لطولِها بالإِضافة ، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو
ضرورةٌ ، كقراءةِ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ } [ الأنعام : 154 ] ، وقولِه
:
306
مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ ... ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ
والكَرمِ
أي : الذي هو أحسنُ ، وبما هو سَفَهٌ ، وتكونُ « ما » على هذا بدلاً من « مثلاً »
، كأنه قيل : مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ . والثاني : أن تُجْعَلَ « ما » زائدةٌ أو
صفةً وتكونَ « هو بعوضةٌ » جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ .
قولُه : { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى ، وهو قولٌ مرجوجٌ
جداً . و « ما » في { فَمَا فَوْقَهَا } إن نَصَبْنا « بعوضةً » كانت معطوفةً
عليها موصولةً بمعنى الذي ، وصلتُها الظرفُ ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً ،
وإنْ رَفَعْنَا « بعوضةٌ » ، وجَعَلْنَا « ما » الأولى موصولةً أو استفهاميةً
فالثانيةُ معطوفةٌ عليها ، لكنْ في جَعْلِنا « ما » موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ
المفرداتِ ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ ، وإنْ
جَعَلْنَا « ما » زائدةً أو صفةً لنكرة و « بعوضةٌ » خبراً ل « هو » مضمراً كانت «
ما » معطوفةً على « بعوضة » .
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول
كالقَطُوع ، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع ، وكذلك البَضْعُ والعَضْب ، قال :
307 لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار ... إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا
ومعنى : { فَمَا فَوْقَهَا } أي : في الكِبَر وهو الظاهرُ ، وقيل : في الصِّغَرِ .
قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ } « أمَّا » : حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ
وفِعْله ، كذا قدَّره سيبويه ، قال : « أمَّا » بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ « .
وقال الزمخشري : » وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ ، تقولُ : زيدٌ
ذاهبٌ ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت : أمَّا زيدٌ فذاهبٌ «
وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك . وقال بعضُهم : » أمَّا « حرفُ تفصيلٍ
لِما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ ، ولا يليها إلا المبتدأ ، وتَلْزَمُ
الفاءُ في جوابها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ كقوله : {
فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقالُ
لهم : أَكَفَرْتُمْ ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ ، كقوله :
308 فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ ... ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ
أي : فلا قتالَ ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها
بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت : » أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار « لم يَجُزْ ، ويجوز أنْ
يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها ، متليٌّ أمّا كقوله :
{
فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا
والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد ، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء .
وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو : أمَّا عِلْماً فعالمٌ « : فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه
عند التميميين برُجْحَان ، وضَعُفَ رفعُه ، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع .
وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ ، نحو : » أمَّا العلمُ فعالمٌ « ونصبُ
المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ ، والمعرَّفُ مفعولٌ له . وأمَّا الأخفشُ
فنصبُهما عنده على المفعول المطلق . والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد
الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو : أمَّا علماً فلا علَمَ له »
أو : فإنَّ زيداً عالمٌ ، لأن « لا » و « إنَّ » لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما ،
وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر ، أي : مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو
العلمُ فزيدٌ عالمٌ ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، والجملَةُ
خبرهُ ، والتقديرُ : أمَّا علمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ
بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا .
و { الذين آمَنُواْ } في محلِّ رفع بالابتداء ، و { فَيَعْلَمُونَ } خبرُه . قوله
: { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } الفاءُ جوابُ أمَّا ، لِما
تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و « أنَّه الحقُّ » سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند
الجمهورِ ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي :
فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً . وقال الجمهور : لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ
النسبةِ فيما بعدَ « أنَّ » كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به ، والضميرُ في «
أنَّه » عائدٌ على المَثَل . وقيل : على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل ، وقيل
: على تَرْكِ الاستحياءِ . و « الحقُّ » هو الثابتُ ، ومنه « حَقَّ الأمرُ » أي :
ثَبَتَ ، ويقابِلُه الباطلُ .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن « الحق » أي : كائناً
وصادراً مِنْ ربهم ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ . وقال أبو البقاء : «
والعامل فيه معنى الحقِّ ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه » أي : في الحق ،
لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً .
قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله } اعلَمْ أنَّ « ماذا صنعت » ونحوَه له في كلامِ
العربِ ستةُ استعمالات : أن تكون « ما » اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ ،
و « إذا » اسمُ إشارةٍ خبرهُ . والثاني : أن تكونَ « ما » استفهاميةً وذا بمعنى
الذي ، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما
أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله :
209 ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ ... أَنَحْبٌ فيقضى أم ضَلالٌ وباطِلُ
ف « ذا » هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو « أَنَحْبٌ » ، وكذا {
مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] في قراءة أبي عمرو .
والثالث
: أن يُغَلَّبَ حكمُ « ما » على « ذا » ، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ ،
فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ
منه كقولِه : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } في قراءة غير أبي عمروٍ ، و « ماذا
أَنْزَلَ ربُّكم ، قالوا : خيراً : عند الجميع ، ومنه قوله :
310 يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم ... لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ
تَحْنانَا
ف » ماذا « مبتدأ ، و » بالُ نسوتكم « خبرُه . الرابع : أن يُجْعَلَ » ماذا «
بمنزلةِ الموصول تغليباً ل » ذا « على » ما « ، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه ،
وهو قليلٌ جداً ، ومنه قولُ الشاعر :
311 دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه ... ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني
فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ . الخامسُ : زعم الفارسي أن » ماذا «
كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد : » دَعي ماذا عَلِمْتِ « أي : دَعي شيئاً معلوماً
وقد تقدَّم تأويلُه . السادس : وهو أضعفُها أن تكونَ » ما « استفهاماً و » ذا «
زائدةً وجميعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له ، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ
ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً .
إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه : { مَاذَآ أَرَادَ الله } يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ
الباقيةِ ، أحَدُهما : أن تكونَ » ما « استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وذا
بمعنى الذي ، و » أراد الله « صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه ، تقديره :
أرادَه اللهُ ، والموصولُ خبرُ » ما « الاستفهاميةِ . والثاني : أن تكونَ » ماذا «
بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه : أيَّ شيء أرادَ الله ،
ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ .
[ والإِرادةُ لغةً : طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه ، وقد تتجرَّدُ للطلبِ ، وهي
التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي : طَلَب ، فأصلُ
أراد أَرْوَدَ مثل أَقام ، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ ، وأصلُها : إرْوَاد
فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث ] .
قوله : » مَثَلاً « نصبٌ على التمييزِ ، قيل : جاءَ على معنى التوكيدِ ، لأنه من
حيث أُشير إليه ب » هذا « عُلِم أنه مثلٌ ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم
الذي أُشير إليه . وقيل : نصبٌ على الحال ، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل : اسمُ
الإِشارةِ ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ ، وقيل : اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً
بذلك ، وقيل : على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين ، ومعناه عندهم : أنه كان أصلُه أَنْ
يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ : بهذا المثلِ ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ ،
وعلى ذلك قولُ امرئ القيس :
312 سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ ... وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ
أَحْمَرَا
أصله : من البسر الأحمر .
قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } » الباء « للسببيةِ ، وكذلك في { يَهْدِي بِهِ }
وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ ب »
أمَّا « ، وهما من كلام الله تعالى ، وقيل : في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً ،
أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به ، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين ، وهما على هذا من
كلامِ الكفار وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي : مُضِلاً به
كثيراً وهادياً به كثيراً .
وجَوَّزَ
ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } من كلام الكفار ،
وجملةُ قوله : { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من كلام الباري تعالى . وهذا ليس
بظاهرٍ ، لأنه إلباسٌ في التركيب . والضميرُ في « به » عائدٌ على « ضَرْب » المضاف
تقديراً إلى المثل ، أي : بِضَرْب المَثَل ، وقيل : الضمير الأول للتكذيبِ ،
والثاني للتصديق ، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام .
وقُرئَ : { يُضِلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثيرٌ ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون }
بالبناء للمفعول ، وقُرئَ أيضاً : { يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ ، وما يَضِلُّ
بِه إلا الفاسقون } بالبناء للفاعل ، قال بعضهم : « وهي قراءة القَدَرِيَّة » قلت
: نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة ، ثم قال : « وابنُ أبي
عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين » يعني قارئها ، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف
. فإن قيل : كيف وَصَف المهتدين هنا بالكثرةِ وهم قليلون ، لقوله تعالى : {
وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ :
13 ] ؟ فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرون في الحقيقةِ كقولِهِ
:
313 إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ ... قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ
كَثُروا
فصار ذلك باعتبارَيْن .
قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } . الفاسقين : مفعولٌ ل « يُضِلُّ »
وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وقد تقدَّم معناه ، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على
الاستثناء ، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه : وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين
كقوله :
314 نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه ... ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ
ومِئْزَرا
أي : لم ينجُ بشيء ، ومنعَ أبو البقاء نصبَه على الاستثناءِ ، كأنه اعتبرَ مذهبَ
جمهورِ البصريين .
والفِسْقُ لغةً : الخروجُ ، يقال : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها ، أي :
خَرَجَتْ ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى ، يقال : فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ
بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ . وزعم ابن الأنباري أنه لم
يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ ، وهذا عجيب ، قال رؤبة :
315 يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً ... فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قوله
تعالى : { الذين يَنقُضُونَ } . . فيه أربعة أوجهٍ ، أحدُها : أنْ يكونَ نعتاً
للفاسِقين . والثاني : أنه منصوبٌ على الذمِّ . والثالث أنه مرفوعٌ بالابتداء ،
وخبرُه الجملةُ من قوله : { أولئك هُمُ الخاسرون } . والرابع : أنه خبرٌ لمبتدأٍ
محذوفٍ أي : هم الفاسقون .
والنَّقْضُ : حَلُّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى . والعهدُ في
كلامِهم على معانٍ منها : الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ . والخَسار :
النقصانُ في ميزان أو غيره ، قال جرير :
316 إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ ... أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ
وخَسَرْتُ الشيء بالفتح وأَخَسَرْتُه نَقَصْتُه ، والخُسْران والخَسار والخيسرى
كلُّه بمعنى الهلاك .
و « مِنْ بعد » متعلقٌ ب « يَنْقْضُون » ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وقيل :
زائدةٌ وليس بشيء . و « ميثاقَه » الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ ، وأن
يعودَ على اسم الله تعالى ، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ ، وعلى الثاني
مضافٌ للفاعل ، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد ،
وقال ابنُ عطية : « وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ :
317 أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا
أي : إعطائك » ، ولا حاجة تدعُو إلى ذلك . والمادةُ تَدُلُّ على الشَدِّ والربطِ
وجمعُه مواثيق ومياثِق وأنشد ابن الأعرابي :
318 حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا ... ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ
المَيَاثِقِ
و « يقطعونَ » عطف على « ينقصون » فهي صلةٌ أيضاً ، و « ما » موصولةٌ ، و { أَمَرَ
الله بِهِ } صلتُها وعائدُها . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، ولا
يجوز أن تكونَ مصدرِيَّةً لعَوْدِ الضميرِ عليها إلا عند أَبي الحسن وابن السراج ،
وهي مفعولةٌ بيَقْطَعون .
قوله : { أَن يُوصَلَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : الجرُّ على البدلِ من الضمير
في « به » أي : ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ ، كقول امرئ القيس :
319 أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً
وتَبُوصُ
أي : أمِنْ نَأْيِها . والنصبُ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من ما أمر اللهُ
بدلُ اشتمالٍ . والثاني : أنه مفعولٌ من أجله ، فقدَّره المهدوي : كراهةَ أن يُوصل
، وقدَّرَهُ غيرُه : أن لا يُوصلَ . والرفع [ على ] أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي هو
أن يُوصلَ ، وهذا بعيدٌ جداً ، وإنْ كان أبو البقاء ذَكَرَهُ .
و { يُفْسِدُونَ } عطفٌ على الصلةِ أيضاً و { فِي الأرض } متعلِّقٌ به . وقولُه {
أولئك هُمُ الخاسرون } كقولِهِ : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] . وقد
تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ خبراً عن { الذين يَنقُضُونَ } إذا جُعِلَ
مبتدأً ، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ . وتقدم معنى
الخَسار ، والأمرُ : طلبُ الأعلى من الأدنى .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قوله
تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } : « كيف » اسمُ استفهامٍ يُسْأَلُ بِهِ عن
الأحوالِ ، وبُنِيَ لتضمُّنِهِ معنى الهمزة ، وبُنِيَ على أخفِّ الحركات ، وشَذَّ
دخولُ حرفِ الجرِّ عليها ، قالوا : « على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ » ، وكونهُا
شرطاً قليلٌ ، ولا يُجزْم بها خلافاً للكوفيين ، وإذا أُبْدِل منها اسمٌ أو وَقَعَ
جواباً لها فهو منصوبٌ إن كان بعدها فعلٌ متسلِّطٌ عليها نحو : كيف قمت؟ أصحيحاً
أم سقيماً ، وكيف سِرْت؟ فتقول : راشداً ، وإلاَّ فمرفوعان : نحو : كيف زيدٌ؟
أصحيحٌ أم سقيمٌ . وإنْ وقعَ بعدَها اسمٌ مسؤولٌ عنه بها فهو مبتدأٌ وهي خبرٌ
مقدَّمٌ ، نحو : كيف زيدٌ؟ وقد يُحْذَفُ الفعلُ بعدَها ، قال تعالى : { كَيْفَ
وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [ التوبة : 8 ] أي كيف تُوالونهم . و « كيفَ » في
هذه الآيةِ منصوبةٌ على التشبيهِ بالظرف عند سيبويه ، أي : في أيِّ حالةٍ تكفُرون
، وعلى الحالِ عند الأخفشِ ، أي : على أي حالٍ تكفُرون ، والعاملُ فيها على
القولين « تكفرون » وصاحبُ الحالِ الضميرُ في تكفرون ، ولم يَذْكر أبو البقاء غيرَ
مذهبِ الأخفشِ ، ثم قال : « والتقدير : معانِدين تكفرون . وفي هذا التقدير نظرٌ ،
إذ يذهبَ معه معنى الاستفهام المقصودِ به التعجبُ أو التوبيخُ أو الإِنكارُ ، قال
الزمخشري بعد أَنْ جَعَلَ الاستفهامَ للإِنكارِ : » وتحريرهُ أنه إذا أنْكَرَ أن
يكونَ لكفرهم حالٌ يُوجَدُ عليها ، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ موجودٍ لا بُدَّ له من
حالٍ ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ بغيرِ صفةٍ من الصفاتِ كان إنكاراً لوجودِه على الطريق
البرهاني « .
وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه : » وأمَّا الذين كفروا « إلى آخره ،
إلى الخطاب في قولِهِ : » تَكْفُرون ، وكُنْتُم « . وفائدتُهُ أنَّ الإِنكارَ إذا
توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ . وجاء » تكفرونَ « مضارعاً لا ماضياً لأنَّ
المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك ، ولئلا يكونَ ذلك
تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر .
و » كَفَرَ « يتعدَّى بحرف الجر نحو : { تَكْفُرُونَ بالله } { تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ الله } [ آل عمران : 70 ] { كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] ، وقد
تعدَّى بنفسه في قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ
بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا .
قوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } الواوُ واوُ الحالِ ، وعلامتُها
أن يَصْلُح موضِعَها » إذ « ، وجملَةُ { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } في محلِّ نصبٍ على
الحال ، ولا بد من إضمار » قد « ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً . وقال الزمخشري : »
فإن قلت « كيف صَحَّ أن يكونَ حالاً وهو ماضٍ بها؟ قُلْتُ : لَمْ تَدْخُل الواوُ
على { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } وحدَه ، ولكنْ على جملة قوله : { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً
} إلى { تُرْجَعُونَ } ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتُكم هذه وحالُكم أنكم
كنتم أمواتاً نُطَفَاً في أصْلاَبِ آبائكم فَجَعَلَكم أحياءً ، ثم يُميتكم بعد هذه
الحياة ، ثم يُحْييكم بعد الموتِ ثم يُحاسِبُكم » .
ثم
قال : « فإنْ قلتَ : بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ ، والماضي والمستقبل كلاهما
لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً حتى يكونَ فعلاً حاضراً وقتَ وجودِهَا هو حالٌ عنه فما
الحاضرُ الذي وقع حالاً؟ قلت : هو العلمُ بالقصة كأنه قيل : كيف تكفرونَ وأنتم
عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها »؟ قال الشيخُ ما معناه : هذا تَكَلُّفٌ ،
يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية . قال : « والذي حَمَله على ذلك
اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى » . قال : « ولا يتعيَّن ،
بل يكونُ قولُه تعالى : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ
بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ
بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً
فَأَحْيَاكُمْ } .
والفاءُ في قولِه : » فَأَحْيَاكُمْ « على بابِها مِن التعقيبِ ، و » ثم « على
بابها من التراخي ، لأنَّ المرادَ بالموتِ الأول العدَمُ السابقُ ، وبالحياةِ
الأولى الخَلْقُ ، وبالموتِ الثاني الموتُ المعهودُ ، وبالحياةِ الثانية الحياةُ
للبعثِ ، فجاءت الفاءُ و » ثم « على بابِهما من التعقيبِ والتراخي على هذا التفسير
وهو أحسنُ الأقوالِ ، ويُعْزَى لابنِ عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوعُ إلى
الجزاءِ أيضاً متراخٍ عن البعثِ . والضميرُ في » إليه « لله تعالى ، وهذا ظاهرٌ
لأنه كالضمائر قبلَه وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : إلى ثوابِهِ وعقابِه . وقيل : على
الجزاءِ على الأعمالِ . وقيل : على المكانِ الذي يَتَوَلَّى اللهُ فيه الحكمَ
بينكم . وقيل : على الإِحياء المدلولِ عليه بأَحْياكم ، يعني أنكم تُرْجَعُون إلى
الحالِ الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياةِ الأولى من كونِكم لا تَمْلِكُون
لأنفسِكم شيئاً .
والجمهورُ على قراءة » تُرْجَعُون « مبنياً للمفعولِ ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث
جاء ، ووجهُ القراءتين أنَّ » رَجَع « يكونُ قاصراً ومتعدياً ، فقراءةُ الجمهورِ
من المتعدِّي وهو أرجحُ؛ لأنَّ أصلَها : » ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ « لأنَّ
الإِسنادَ في الأفعالِ السابقة لله تعالى ، فيناسِبُ أن يكونَ هذا كذا ولكنه
بُنِيَ للمفعول لأجل الفواصل والقواطع .
وأَمْوات جمعُ » مَيِّت « وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ ، والأَوْلَى أن
يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل ، وقد تقدَّمت هذه المادةُ .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قوله
تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ } : هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ
المذكر ، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها ، وقد تُشَدَّد كقوله :
320 وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ
عَلْقَمُ
وقد تُسَكَّنُ ، وقد تُحْذَفُ كقوله :
321 فَبَيْنَاهُ يَشْرِي . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه . و « لكم » متعلقٌ بَخَلَقَ ، ومعناه السببيةُ ، أي :
لأجلِكم ، وقيل : للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه ،
وقيلَ : للاختصاص ، و « ما » موصولةٌ و « في الأرض » صلُتها ، وهي في محلِّ نصبٍ
مفعولٌ بها ، و « جميعاً » حالٌ من المفعول بمعنى كل ، ولا دلالة لها على الاجتماع
في الزمانِ ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك : « جاؤوا جميعاً » و « جاؤوا معاً » ،
فإنَّ « مع » تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع . قيل : وهي هنا حالٌ
مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه : « ما في الأرضِ » عامٌّ .
قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أصل « ثُمَّ
» أن تقتضيَ تراخياً زمانياً ، ولا زمانَ هنا ، فقيل : إشارةٌ إلى التراخي بين
رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ . وقيل : لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ
أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ كما أشار إليه في
الآيةِ الأخرى عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ .
واستوى معناه لغةً : استقامَ واعتدلَ ، مِن استوى العُود . وقيل : عَلاَ وارتفع
قال الشاعر :
322 فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ ... وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ
فاسْتَوَى
وقال تعالى : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } [ المؤمنون : 28 ] ، ومعناه
هنا قَصَد وعَمَدَ ، وفاعل استوى ضميرٌ يعودُ على الله ، وقيل : يعودُ على الدخان
نقله ابن عطية ، وهذا غلطٌ لوجهين ، أحدهُما : عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه ، والثاني :
أنه يَرُدُّهُ قولُه : ثُمَّ استوى إلى السماء ، وهي « دُخانٌ » . و « إلى » حرفُ
انتهاءٍ على بابها ، وقيل : هي بمعنى « على » فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر :
323 قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ ... مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
أي : استولى ، ومثلُه قول الآخر :
324 فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ
وكاسِرِ
وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ ، و { إِلَى
السمآء } متعلِّقٌ ب « استوى » ، و « فَسَوَّاهُنَّ » الضميرُ يعودُ على السماءِ :
إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على
الجَمْعِ ، وقال الزمخشري : « هُنَّ » ضميرٌ مُبْهَمٌ ، و « سبعَ سماواتٍ »
يُفَسِّرُهُ كقولِهم : « رُبَّه رَجُلاً » . وقد رُدَّ عليه هذا ، فإنَّه ليس من
المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه ، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في
سبعةِ مواضع : ضميرِ الشأن ، والمجرور ب « رُبَّ » ، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما
جرى مَجْراهما ، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه ، ثم
قال هذا المعترض : « إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ » سبع سماواتٍ « بدلاً وهو
الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً ، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه ،
لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً
كلياً ، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما : أنه استوى إلى السماء .
والثاني
: أنه سَوَّى سبع سماوات ، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه
.
قوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } في نصبه خمسةُ أوجه ، أحسنُها : أنه بدلٌ من الضميرِ
في { فَسَوَّاهُنَّ } العائدِ على السماءِ كقولِكَ : أخوك مررتُ به زيدٍ . الثاني
: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً ، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده . وهذا
يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري ، وقد تقدَّم آنِفاً . الثالث : أنه مفعولٌ
به ، والأصلُ : فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى : {
واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [ الأعراف : 155 ] أي : مِنْ قومه ، قاله أبو
البقاء وغيرُه . وهذا ضعيفٌ لوجهين ، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ . والثاني
بالنسبة إلى المعنى . أمَّا الأولُ : فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ
أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما . الثاني : أنه
يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سماواتٌ كثيرةٌ ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك .
الرابعُ : أنَّ « سَوَّى » بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين ، فيكونُ « سبع » مفعولاً
ثانياً ، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ « سَوَّى » مثل صَيَّرَ . الخامس : أن
ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش . وفيه بُعْدٌ من وجهين : أحدُهما : أنه حالٌ
مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل . والثاني : أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ
أيضاً .
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } « هو » مبتدأ و « عليمٌ » خبره ،
والجارُّ قبلَه يتعلَّق به .
واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء « هو » و « هي » بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم
، نحو : { فَهِيَ كالحجارة } [ البقرة : 74 ] ، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة } [
القصص : 61 ] { لَهُوَ الغني } [ الحج : 64 ] { لَهِيَ الحيوان } [ العنكبوت : 64
] ، تشبيهاً ل « هو » بعَضْد ، ول « هي » بكَتْف ، فكما يجوز تسكين عين عَضُد
وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء « هو » و « هي » بعد الأحرفِ المذكورةِ ، إجراء للمنفصل
مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها ، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله :
325 فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي ... سُلُوٌّ ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً
مُتَيَّمَا
وبعد همزة الاستفهامِ كقوله :
326 فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي ... فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني
حُلُمُ
وبعد « لكنَّ » في قراءة ابن حمدون : { لَّكِنَّ هْوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38
] وكذا من قوله : { يُمِلُّ هْوَ } [ البقرة : 282 ] .
فإن قيل : عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء ، وكان مِنْ حقِّه
إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية ، وإذا تأخَّرَ
أَنْ يتعدَّى إليه بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ
فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ ،
وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي ، فأُعْطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك
الحُكْمَ : وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا ، فإن كان
الأول : فإمّا أن يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا ، فإن كان الأولَ تعدَّت
بالباء نحو :
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } [ النجم : 32 ] { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الحديد : 6 ] وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به . وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو : أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب ، ومنه { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو : أنا أصبرُ على كذا ، وأنا صبورٌ عليه ، وأزهدُ فيه منك ، وزهيدٌ فيه . وهذا مقررٌ في علم النحو .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله
تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : « إذ » ظرفُ زمانٍ ماضٍ ،
يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه
الجملُ مطلقاً ، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ
نحو : إذ زيدٍ قام ، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو : يومئذٍ وحينئذٍ ،
ولا يكون مفعولاً به ، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين ، فإنهم يُقَدِّرونَ : اذكر
وقتَ كذا ، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً
لزاعمي ذلك ، وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ
كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] ، وليس
كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش ، بل
الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :
327- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
وللأخفشِ أن يقولَ : أصلُه « وأنتَ حينئذٍ » فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ
إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه ، نحو : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال
: 67 ] بالجر ، إلا أنه ضعيفٌ .
و { قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .
واعلم أنَّ « إذ » فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ ب { قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ
خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذكُرْ » مقدراً وقد
تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ ب « خَلَقَكم »
المتقدمِ في قولِه : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ النساء : 1 ] والواو
زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ ب « قال » بعده . وهو
فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد .
السادس : أنه بمعنى قد . السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : ابتداءُ خَلْقِكم
وقتُ قولِ ربِّك . الثامن : أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ
قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه
لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ ب « أحياكم » مقدَّراً ، وهذا مردودٌ
باختلافِ الوقتين أيضاً .
و « للملائكة » متعلِّقٌ ب « قال » واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك .
واختُلِف في « مَلَك » على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ
أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من
المُلْك ، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم : بل
أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام
وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند
هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من «
أَلَك » أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قوله :
328
أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ... غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر :
329 وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه ... بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر :
330- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ... أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع
العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ
وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم
مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم
نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا
الأصلِ قال :
331 فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة
على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو
مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره ، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في
فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ،
فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم
حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت
الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ
زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب
ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : « معائِش » بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال
النضر بن شميل : « لا اشتقاقَ للملك عند العرب » .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة
ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر :
332 أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ... قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض
خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت « إنَّ »
هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ
جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ ، وأنشدوا :
333 إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ ... نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر
وكان ينبغي أن يُفَتَح ليسَ إلاَّ نظراً لمعنى الظنِّ ، لكن قد يقال جاز الكسر
مراعاةً لصورةِ القولِ .
و « إنَّ » على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها
وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، وليس هذا موضعَ تقريرِه ، بل يأتي في غضون السور ، ولكن
الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها
نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها
كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها
جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في
هذا الضابطِ .
و
« جاعلٌ » فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ « خليفةً » مفعولاً به ، و
« في الأرض » فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني :
أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . القولُ الثاني : أنه بمعنى
مُصَيِّر ، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه ، فيكونُ خليفةً « هو المفعولَ الأولَ ، و »
في الأرض « هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و » خليفة
« يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ،
وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل : بمعنى مفعول أي : يَخْلُف كلُّ جيلٍ
مَنْ تقدَّمَه ، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً . إلا أن يُقال : » إنَّ «
خليفةً » جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد « خليفة » وإن كانَ
المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى
بذكرِ أبي القبيلة نحو : مُضَر ورَبِيعة ، وقيل : المعنى على الجنس .
وقرئ : « خليقةً » بالقاف .
و « خليفةً » منصوبٌ ب « جاعل » كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل
يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال
والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل
بينهما كهذه الآية .
قوله : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أن « قالوا » عامل
في « إذ قال ربُّك » وأنه المختارُ ، والهمزةُ في « أتجعل » للاستفهامِ على بابها
، وقال الزمخشري : « للتعجب » ، وقيل : للتقرير كقوله :
334 ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا ... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
وقال أبو البقاء : « للاستشهاد » ، أي : أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ
« وهي عبارةٌ غريبةٌ . و » فيها « الأولى متعلقةٌ ب » تَجْعَل « إن قيل : إنها
بمعنى الخَلْق ، و » مَنْ يُفْسِدُ « مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير
فيكون » فيها « مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو » مَنْ يفسد « ، و » مَنْ «
تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها
من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب ، و » فيها « الثانيةُ مُتَعلقةٌ ب »
يُفْسِدُ « . و » يَسْفِكُ « عطفٌ على » يُفْسِدُ « بالاعتبارين .
والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي
تقتضي الجمع بإضمار » أَنْ « كقوله :
335 أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ... وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
وقال ابن عطية : » منصوبٌ بواو الصَرْف « وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ
الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب ، والمشهورُ
» يَسْفِك « بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من
أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .
والسَّفْكُ
: هو الصَّبُّ ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ ، وقال ابن فارس ، والجوهري : « يُستعمل
أيضاً في الدمع » . وقال المَهدوي « ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ ، وقد
يُستعمل في نثرِ الكلامِ ، يقال : سَفَكَ الكلامَ أي : نثره » .
والدِّماء : جمعُ دَمٍ ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين ، فلا بدَّ له من ثالث
محذوفٍ هو لامُه ، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً ، لقولِهم في التثنيةِ :
دَمَوان ودَمَيان ، قال الشاعر :
336- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
وهل وزنُ دم « فَعْل » بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان ، وقد يُرَدُّ محذوفُه ،
فَيُسْتعملُ مقصوراً كعصا وغيرِه ، وعليه قولُه :
337 كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها ... أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً
غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه ... فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً
وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً ، قال الشاعر :
338 أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه ... يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على
الحَسَد
وأصلُ : الدِّماء : الدِّماو أو الدِّماي ، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه
طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو : كساء ورداء .
قولُه : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } الواوُ للحال ، و {
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، في محلِّ النصب على الحال ، و « بحمدك
» متعلقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ أيضاً ، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين
بحمدك ، نحو : « جاء زيد بثيابِه » فهما حالان متداخلتان ، أي حالٌ في حال . وقيل
: الباءُ للسببية ، فتتعلَّق بالتسبيح . قال ابن عطية : « ويُحْتمل أن يكونَ
قولُهم : » بحمدِكَ « اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبِّح ونقدِّس
، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم ، أي : وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك » قلتُ
: كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية ، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً
محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه : حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك .
والحمدُ هنا : مصدرٌ مضاف لمفعولِه ، وفاعلُه محذوف تقديره : بحمدِنا إياك . وزعم
بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه ،
على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو : ضرباً زيداً ، هل
يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم .
و « نُقَدِّسُ » عطف على « نُسَبِّح » فهو خبر أيضاً عن « نحن » ومفعولُه محذوفٌ
أي : نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك ، و « لكم » متعلِّقٌ بِه أو ب « نُسَبِّح » ،
ومعناها العلةُ ، وقيل : هي زائدةٌ ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه ، وهو ضَعيفٌ
إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً ، وقيل : هي
مُعَدِّيَةٌ نحو : سجدت لله ، وقيل : هي للبيان ، كهي في قولك : سُقْياً لك ، فعلى
هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : تقديسُنا لك .
وهذا
التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم : « أعني » لأنه أليقُ بالموضِع . وأبعدَ مَنْ
زَعَم أنَّ جملةَ قولِه « ونحنُ نسبِّح » داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ
تقديرُه : وأنحن نسبِّح أم نتغيَّر . واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام
المحضِ في قولهم : « أتجعلُ » ، وهذا يَأْباه الجمهورُ ، أعني حَذْفَ همزةِ
الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر « أم » المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش ، وجَعَل مِن ذلك
قَولَه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] أي :
وأتلك نعمةٌ ، وقول الآخر :
339 طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ
يَلْعَب
أي : وأذو الشيب ، وقول الآخر :
340 أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً
أي : أأفرحُ ، فأمَّا مع « أمْ » فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله :
341 فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً ... بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ
أي : أبسبعٍ .
والتسبيحُ : التنزِيهُ والبَرَاءَةُ ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد ، ومنه
السابحُ في الماء ، فمعنى « سبحان الله » أي : تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ
بجلالِه ومنه قولُ الشاعر :
342 أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ ... سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر
أي : تنزيهاً ، وهو مختصٌّ بالباري تعالى ، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة
: « إن أصلَه سبحانَ علقمةَ ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه » مِنْ « ، وقيل :
تقديرُه : سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة » ، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ
لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم ، وفيه نظرٌ .
والتقديسُ : التَطْهير ، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ ، وبيت المَقْدِس ، وروحُ
القُدُس ، وقال الشاعر :
343 فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا ... كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ
المَقْدِسِ
أي : المطهَّرُ لهم . وقال الزَمخشري : « هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها
وأبعدَ ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح » . انتهى .
قوله تعالى : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أصلُ إنِّي : إنني
فاجتمع ثلاثةُ أمثال ، فحذَفْنا أحدَها ، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى؟
قولان الصحيحُ الثاني ، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في { إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة :
14 ] وبابه .
والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، و « أعلمُ » يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً
وهو الظاهرُ ، و « ما » مفعولٌ به ، وهي : إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ ، وعلى
كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي : تعلمونَه ، وقال المهدوي ،
ومكي وتبعهما أبو البقاء : « إنَّ » أعلمُ « اسمٌ بمعنى عالم » كقوله :
344 لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ ... على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ
ف « ما » يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإِضافةِ أو نصبٍ ب « أَعْلَمُ »
ولم يُنوَّنْ « أعلمُ » لعدمِ انصرافِه ، نحو : « هؤلاء حَوَاجُّ بيتَ الله » وهذا
مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ ، أحدُهما : جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ
، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه ، والجمهورُ لا
يثبتونها .
وقيل
: « أعلمُ » على بابها من كونِها للتفضيلِ ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، أي : أعلمُ
منكم ، و « ما » منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل ، أي : علمتُ ما لا تعلمون
، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من
اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أَوَّلوه
من قول الشاعر :
345 فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً ... ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا
فوارِساً
أَكَرَّ وأحمى للحقيقةِ منهمُ ... وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا
فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر ، أي ب « ضَرَب » ، لا ب « أَضْرَبَ » ، وفي
ادِّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين : المفضَّلِ عليه
والناصبِ ل « ما » .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قولُه
تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } . . هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ
لها مَحَلٌّ من الإِعرابِ لاستئنافِها ، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على «
قال ربك » . و « عَلَّم » هذه متعديةٌ إلى اثنين ، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً
لواحدٍ لأنها عرفانيةٌ ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ ، وفَرَّقوا بين « عَلِم »
العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ
عَدَّوْها بالتضعيف ، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ ،
ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين ، وفاعلُ « عَلَّم » يعودُ على الباري تعالى ، و «
آدمَ » مفعولُه .
وفيه ستةُ أقوال ، أرجحُها [ أنه ] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٍّ ، ووزنُه فاعَل
كنظائِره نحو : آزَر وشالَح ، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ
الشخصيةِ ، الثاني : أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة ، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ ،
الثالث : أنه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض ، [ وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على
هذين القولين للوزنِ والعلميةِ . الرابعُ : أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض ] أيضاً على
هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ . الخامس :
أنه عِبْرِيٌّ من الإِدام وهو الترابُ . السادس : قال الطبري : « إنه في الأصل
فِعْلٌ رباعي مثل : أَكْرَم ، وسُمِّي به لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تُعْرَفَ جِهتُه
» والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا
يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى ،
و « الأسماءَ » مفعولٌ ثانٍ ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا ، وله أحكامٌ تأتي إن
شاء الله تعالى .
وقُرئ : « عُلِّم » مبنياً للمفعول ، و « آدمُ » رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ . و
« كلَّها » تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً ، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم . وقولُه «
الأسماء كلَّها » الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ ، لأنَّ المعنى :
وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ ، [ ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً ، بل دَلَّ كلُّها
على الشمولِ ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ ] ، وإنْ لم يَعْلَمْ
مُسَمَّياتِها ، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات ، فعلى هذين الوجهين
لا حَذْفَ . وقيل : لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه ، فقيل : تقديرُه : أسماءَ
المسمَّيات ، فَحُذِفَ المضافُ إليه للعلم . قال الزمخشري : « وعُوَِّض منه اللامُ
، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ورُجِّح هذا القول بقولِه
تعالى : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء . . . فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ
} [ البقرة : 31-33 ] ولم يَقُل : أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم . ولكن في
قوله : وعُوَّض منه اللام » نظرٌ ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإِضافةِ
عند البصريين . وقيل : تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء ، فَحُذِف المضافُ ، وأُقيمَ
المضافُ إليه مُقامه ، ورُجِّح هذا القولُ بقولِه تعالى : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ }
لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك ، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ .
ونحوُ
هذه الآيةِ قولُه تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ
مَوْجٌ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُمات ، فالهاءُ في « يَغْشَاه »
تعودُ على « ذي » المحذوفِ .
قوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } « ثم » حرفٌ للتراخي كما تقدَّم ،
والضميرُ في « عَرَضَهُمْ » للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ
المسمَّيات ، كما تقدَّم . وقيل : يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس ،
ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ : « عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ » إلا أنَّ في هذا القول
جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ ، أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناءً
منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ . و « على الملائكة
» متعلق ب « عرضهم » .
قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء } الإِنباءُ : الإِخبارُ ، وأَصلُ « أنبأ
» أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية ، وقد يُحْذَفُ الحرفُ ، قال
تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] أي : بهذا وقد يتضمَّن معنى «
أَعْلَم » اليقينية ، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل ، ومثلُ أنبأ : نَبَّأ
وأخبر ، وخبَّر وحدَّث . و « هؤلاء » في محلِّ خفضٍ بالإِضافة وهو اسمُ إشارة
ورتبتُه دنيا ، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ ، كقولِه :
346 هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْ ... تَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ
والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً ، وقد تُبْدَلُ
همزتُه هاءً ، فتقولُ : هَؤُلاه ، وقد يقال : هَوْلا ، كقوله :
347 تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا ... بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما
ولامُه عند الفارسي همزةٌ فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ ، وعند المبرِّد
أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة .
قوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قد تقدَّم نظيره ، وجوابُه محذوف أي : إنْ
كنتمْ صادقين فأنبئوني ، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ ،
وهو مردودٌ بقولِهِم : « أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ » لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت
الفاءُ معه ، كما تَجِبُ متأخراً ، وقال ابن عطية : « إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً
وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه » وهو وَهْمٌ .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قوله
تعالى : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ } . . « سُبْحان » اسمُ مصدرٍ وهو التسبيح ، وقيل
: بل هو مصدرٌ لأنه سُمِعَ له فعلٌ ثلاثي ، وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافة وقد
يُفْرَدُ ، وإذا أُفْرِد مُنِعَ الصرفَ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنونِ كقوله :
348 أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه ... سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ
وقد جاء منوَّناً كقوله :
349 سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به ... وقبلَنَا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
فقيل : صُرِف ضرورةً ، وقيل : هو بمنزلة قبلُ وبعدُ ، إن نُوي تعريفُه بقي على
حالِه ، وإن نُكِّر أُعْرِبَ منصرفاً ، وهذا البيتُ يساعِدُ على كونِهِ مصدراً [
لا اسمَ مصدرٍ ] لورودِه منصرفاً . ولقائلِ القولِ الأولِ أن يُجيبَ عنه بأنّ هذا
نكرةٌ لا معرفةٌ ، وهو من الأسماءِ اللازمةِ النصبَ على المصدريةِ فلا يتصرَّفُ ،
والناصبُ له فعلٌ مقدرٌ لا يجوزُ إظهارُه ، وقد رُوي عن الكسائي أنه جَعَلَه منادى
تقديرُه : يا سبحانَك ، وأباه الجمهورُ من النحاةِ ، وإضافتُه [ هنا ] إلى
المفعولِ لأنَّ المعنى : نُسَبِّحُك نحنُ . وقيل : بل إضافتُه للفاعل ، والمعنى :
تنزَّهْتَ وتباعَدْتَ من السوء وسبحانَك ، والعاملُ فيه في محلِّ نصبٍ بالقول .
قوله : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } كقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ
فِيهِ } [ البقرة : 2 ] و « إلاَّ » حرفُ استثناء ، و « ما » موصولةٌ ، و «
علَّمتنا » صلتُها ، وعائدُها محذوفٌ ، على أن يكونَ « عِلْم » بمعنى مَعْلُوم ،
ويجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً وهي في محلِّ نصب على الاستثناءِ ، [ ولا يجوزُ أن تكونَ
منصوبةً بالعِلْم الذي هو اسمُ لا لأنه إذا عَمِل كان مُعْرباً ] ، وقيل : في
محلِّ رفعٍ على البدلِ من اسم « لا » على الموضع . وقال ابن عطية : « هو بدلٌ من
خبر التبرئة كقولهم : » لا إلهَ إلا اللهُ « وفيهِ نظرٌ ، لأن الاستثناءَ إنما هو
من المحكومِ عليه بقيدِ الحكم لا مِن المحكومِ به . وَنقَل هو عن الزهراوي أنَّ »
ما « منصوبَةٌ بعلَّمْتَنَا بعدَها ، وهذا غيرُ معقولٍ لأنه كيف ينتصِبُ الموصولُ
بصلتِه وتَعْمَلُ فيه؟ قال الشيخُ : » إلا أَنْ يُتَكَلَّف لَه وجهٌ بعيدٌ ، وهو
أن يكونَ استثناءً منقطعاً بمعنى لكنْ ، وتكونُ « ما » شرطيةً ، و « علَّمتنَا »
ناصبٌ لها وهو في محلِّ جَزْمٍ بها والجوابُ محذوفٌ ، والتقديرُ : لكنْ ما علَّمْتنا
عَلِمناه .
قولُه : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } أنتَ يَحتمِلُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أن يكونَ
تأكيداً لاسم إنَّ فيكونَ منصوبَ المحلِّ ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه ما بعده
والجملةُ خبرُ إنَّ ، وأن يكونَ فَصْلاً ، وفيه الخلافُ المشهورُِ ، وهل له محلُّ
إعرابٍ أم لا؟ وإذا قيل : إنَّ له محلاًّ ، فهل بإعرابِ ما قبلَه كقولِ الفراء
فيكونُ في محلِّ نصبٍ ، أو بإعراب ما بعده ، فيكونُ في محلِّ رَفعٍ كقول الكسائي؟
و « الحكيمُ » خبَرٌ ثانٍ أو صفةٌ للعليم ، وهما فَعِيل بمعنى فاعِل ، وفيهما من
المبالغةِ ما ليس فيه .
والحُكْم لغةً : الإِتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإِرادة ، ومنه حَكَمَةُ
الدابَّة وقال جرير :
350 أبني حَنِيفَةَ أحْكِموا سفهاءَكُمْ ... إني أخافُ عليكُمُ أَنْ أغْضَبَا
وقَدَّم « العليم » على « الحكيم » لأنه هو المتصلُ به في قولِه : « عَلَّم »
وقولِه : « لا عِلْمَ لنا » ، فناسَبَ اتَّصالَه به ، ولأنَّ الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن
العِلْمِ وأثرٌ له ، وكثيراً ما تُقَدَّمُ صفةُ العِلْم عليها ، والحكيمُ صفةُ
ذاتٍ إنْ فُسِّر بذي الحكمةِ ، وصفةُ فِعْلٍ إنْ فُسِّر بأنه المُحْكِمُ
لصَنْعَتِه .
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
قوله
تعالى : { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } . . « آدَمُ » مبنيٌّ
على الضم لأنه مفردٌ معرفةٌ ، وكلُّ ما كان كذلكُ بني على ما كان يُرْفع به ، وهو
في مَحلِّ نصبٍ لوقوعه موقعَ [ المفعولِ به فإنَّ تقديره : أدعو آدمَ ، وبُنِي
لوقوعِه موقعَ ] المضمرِ ، والأصلُ : يا إياك ، كقولهم : « يا إياك قد كُفِيْتُكَ
» ويا أنتَ كقوله :
351 يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا ... أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا
قد أحسنَ اللهُ وقد أَسَأْتَا ... و « يا إياك » أقيسُ من « يا أنت » لأنَّ
الموضعَ موضعُ نَصْبٍ ، فإياك لائقٌ به ، وتحرَّزْتُ بالمفردِ من المضافِ نحو : يا
عبدَ الله ، ومن الشبيهِ به وهو عبارةٌ عَمَّا كان الثاني فيه من تمامِ معنى الأول
نحو : يا خيراً من زيدٍ ويا ثلاثةً وثلاثين ، وبالمعرفة من النكرةِ غيرِ المقصودة
نحو قوله :
352 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... ندامَاي مِنْ نجرانَ ألاَّ تلاقِيا
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربةٌ نصباً .
و « أَنْبِئْهُمْ » فعلُ أمر وفاعلٌ ومفعولٌ ، والمشهورُ : أَنْبِئْهُمْ مهموزاً
مضمومَ الهاء ، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر ، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ
لحركةِ الباء ولم يَعْتَدَّ بالهمزةِ لأنها ساكنةٌ ، فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ ،
وقُرِئ بحَذْفِ الهمزةِ ورُوِيَتْ عن ابنِ كثير ، قال ابن جني : « هذا على إبدالِ
الهمزةِ ياءً كَمَا تقولَ : أَنْبَيْتُ بزنة أَعْطَيْت . قال : » وهذا ضعيفٌ في
اللغة لأنه بدلٌ لا تخفيف ، والبَدلُ عندنا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ « ، وهذا من
أبي الفتح غيرُ مُرْضٍ لأن البدَل جاء في سَعَةِ الكلام ، حكى الأخفشُ في » الأوسط
« له أنهم يقولون في أَخْطَأْت : أَخْطَيْتُ ، وفي توضَّأْت : توضَّيْتُ ، قال : »
وربما حَوَّلوه إلى الواو ، وهو قليلٌ ، قالوا : رَفَوْتُ في رَفَأْتُ ولم يُسْمع
رَفَيْتُ « .
إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري
مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها
: هل يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غيرِ المُبْدل [ أم لا ] نظراً إلى أصلِه ، واستدلَّ
بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير :
353 جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه ... سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ
يَظْلِمِ
لأنَّ أصله » يُبْدَأ « بالهمزةِ فكذلك هذه الآيةُ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً ثم
حُذِفَتَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ . وقُرئ » أنبيهم « بإثباتِ الياء نظراً إلى
الهمزةِ وهل تُضَمُّ الهاءُ نظراً للأصلِ أم تُكْسَرُ نظراً للصورة؟ وجهان
مَنْقولان عن حمزةَ عند الوقفِ عليه .
و » بأسمائِهم « متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم ، وقد
يتعدَّى ب » عن « نحو : أنبأْتُه عن حالِه ، وأمَّا تعديتُه ب » مِنْ « في قوله
تعالى :
{
قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] فسيأتي في موضعه إنْ
شاءَ اللهُ تعالى .
قوله : { قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ } الأية . « قال » جوابُ «
فلمَّا » والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو
: { أَلَمْ نَشْرَحْ } [ الانشراح : 1 ] أي : قد شرحنا و « لم » حرفُ جزمٍ وقد
تَقَدَّمَ أحكامُها ، و « أَقُلْ » مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وهي الواوُ لالتقاءِ
الساكنين . و « لكم » متعلقٌ به ، واللامُ للتبليغِ . والجملةُ من قوله : « إني
أَعْلَمُ » في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ . وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ
إلى إعادتِه .
قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } كقولِه : { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
من كونِ « أَعْلَمُ » فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل ،
وكونِ « ما » في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم . والظاهرُ : أن جملةَ قولِه : «
وأعلمُ » معطوفةٌ على قولِه : { إني أَعْلَمُ غَيْبَ } ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ
بالقولِ ، وقال أبو البقاء : « إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ » ، ثم جَوَّزَ
فيه ذلك .
و « تُبْدُون » وزنه : تُفْعون لأن أصله تُبْدِوُونَ مثل تُخْرِجون ، فَأُعِلَّ
بحذْفِ الواو بعد سكونها . والإِبداءُ : الإِظهارُ . والكَتْمُ : الإِخفاءُ ، يقال
: بَدا يَبْدُو بَداءً ، قال :
354 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ
بَداءُ
قوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } : « ما » عطفٌ على « ما » الأولى بحسَبِ ما
تكونُ عليه من الإِعرابِ .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قوله
تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ } : العاملُ في « إذ »
محذوفٌ دلَّ عليه قولُه : « فَسَجَدوا » تقديرُه : « فَسَجَدوا » تقديرُه : أطاعوا
وانقادُوا فسجدوا ، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ ، وقيل : العاملُ « اذكُرْ »
مقدرةً ، وقيل : [ إذ ] زائدةٌ ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين . وقال ابنُ عطية
: « وإذ قلنا معطوفٌ على » إذ « المتقدمةِ » لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين ،
وقيل : « إذ » بدلٌ من « إذ » الأولى ، ولا يَصِحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ
العطفِ ، وجملةُ « قلنا » في محلِّ خفضٍ بالظرفِ ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى
التكلمِ للعظمة ، واللامُ للتبليغ كنظائِرها .
والمشهورُ جَرُّ تاءِ « الملائكة » بالحرفِ ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً لضمةِ
الجيم ، ولم يَعْتَدَّ بالساكن ، وغَلَّطه الزجَّاج ، وخطّأه الفارسي ، وشَبَّهه
بعضُهم بقولِه تعالى : { وَقَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] بضم تاء التأنيث ، وليس
بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها ،
والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ . وقال الزمخشري : « لا يجوزُ استهلاكُ
الحركةِ الإِعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ : { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة : 1
] يعني بكسر الدال » ، قلتُ : وهذا أكثرُ شذوذاً ، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من
الضعفِ المتقدِّم ، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً ، وقال أبو البقاء : « وهي
قراءةٌ ضعيفةٌ جداً ، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن
القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ
مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإِشارَةَ . وقيل : إنه نوى الوقفَ
على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم ، وهذا من إجراءِ
الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ . ومثلُه : ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت
: » أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه « نوتِ الوقف على » سَوْءَة « فسكَّنَتِ التاءَ ثم
ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ » أنتنَّ « . قلت » فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ
التقاءِ ساكنين ، وحينئذٍ يكونُ كقوله : { قَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] وبابه ،
وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارِئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع
شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ ، وترجمتُهما مشهورةٌ .
و « اسجُدوا » في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، واللامُ في « لآدمَ » الظاهرُ أنها متعلقةٌ
باسجُدُوا ، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل : بمعنى إلى ، أي : إلى جهته لأنه
جُعِل قِبْلةً لهم ، والسجودُ لله . وقيل : بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ
، وقيل : اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك .
و « فسجدوا » الفاءُ للتعقيبِ ، والتقديرُ : فسَجدوا له ، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ
به . قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ إلا ] حرفُ استثناءٍ ، و « إبليس » نصبٌ
على الاستثناء .
وهل
نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا ، أو بفعلٍ محذوف أو ب «
أنَّ »؟ أقوالٌ ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ ، والأصحُّ أنه
متصلٌ . وأمَّا قولُه تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50
] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال :
355 وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً ... قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ
وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ]
يعني الملائكةَ .
واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ : قسمٍ واجبِ النصبِ ، وقسم واجبِ الجرِّ
، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله
والرجحُ البدلُ . القسم الأول : المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ
والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً ، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ
الجرميّ ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، ما قَام إلا زيداً القومُ ، وما قام أحد
إلا زيداً إلا عَمْراً ، وقاموا إلا حماراً ، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما
خلا زيداً وما عدا زيداً . القسم الثاني : المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء .
القسم الثالث : المستثنى بعدا وخلا وحاشا . القسمُ الرابع : المستثنى من غيرِ
الموجب نحو : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
والسجودُ لغةً : التذلُّلُ والخضوعُ ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ ، وقال
ابن السكيت : « هو المَيْلُ » قال زيدٌ الخيل :
356 بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته ... ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً
للحَوافِرِ
[ يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا ] ،
وقال آخر :
357 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُجودَ النصارى
لأَِحْبارِها
وفَرَّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد ، فسجد : وََضَعَ جَبْهَتَه ، وأَسْجَدَ : أمال
رأسَه وطأطأها ، قال الشاعر :
358 فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ ... سُجودَ النَّصارى لأرْبابها
وقال آخر :
359 وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
يعني : أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها ، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ
كانوا يَسْجُدون لها ، قال الشاعر :
360 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وافى
بها كدَراهمِ الأَسْجادِ ... وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل : [ إنه ] اسمٌ أعجمي
مُنِعَ من الصَّرْفِ للعلَمِيَّة والعَجْمةِ ، وهذا هو الصحيحُ ، وقيل : إنه
مشتقٌّ من الإِبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها ، قال :
361 وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقال آخر :
362 يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا
أي : بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به ، ووزنُه عند هؤلاء : إِفْعِيل ، واعتُرِضَ
عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً ، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ
الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية ، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في
العربية كثيرٌ ، نحو : إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل . وقيل : لمَّا لم
يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه
بُعْدٌ .
قوله : { أبى واستكبر } الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال
: فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تامٌّ . وقال أبو البقاء :
« في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه : تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً
عنه فالوقفُ عنده على » واستكبر « ، وجَوَّز في قولِه تعالى : { وَكَانَ مِنَ
الكافرين } أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً .
والإِباء
: الامتناعُ ، قالَ الشاعر :
363 وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا ... وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ
وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي ، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ ، قال
الله تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ]
والمشهورُ أبى يأبى بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك
اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال : تِئْبى ونِئْبى . وقيل : لمَّا كانت
الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ . وقيل : أَبى يأبى
بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ
المضارعةِ فقال : تئبى ونئبى . وقيل : لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح
لأجلها عين المضارع . وقيل : أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع ،
وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال : أبى يأبى بالفتح فيهما استغنى بمضارع
مَنْ قال : أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو : ركَن يركَنُ وبابِه .
واستكبر بمعنى تكبَّر وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في
الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب .
وقوله « وكان » قيل : هي بمعنى صار كقوله :
364 بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً
بيوضُها
أي : قد صارَتْ ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال : « تَرُدُّه الأصولُ » والأظهر
أنها على بابها ، والمعنى : وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل
خَلْقِ آدمَ ما رُوي ، أو : وكانَ في عِلْم الله .
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله
تعالى : { وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } : هذه الجملةُ
معطوفةٌ على جملةِ : « إذْ قلنا » لا على « قُلْنا » وحدَه لاختلافِ زمنَيْهِما ،
و « أنت » توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في « اسكُن » ليصِحَّ العطفُ عليه ، و « زوجُك
» عَطْفٌ عليه ، هذا مذهبِ البصريين ، أعني : اشتراط الفصلِ بين المتعاطِفَيْن إذا
كان المعطوفُ عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً ، ولا يُشْترط أن يكونَ الفاصلُ توكيداً
، [ بل ] أيَّ فصلٍ كان ، نحو : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام :
148 ] . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا :
365 قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى ... كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريينَ ضرورةً لا يُقاسُ عليه . وقد مَنَعَ بعضَهُم أن يكونَ « زوجُك
» عطفاً على الضميرِ المستكنِّ في « اسكُنْ » وجعله من عطفِ الجملِ ، بمعنى أن
يكونَ « زوجُك » مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : وَلْتَسْكُنْ زوجك ، فحُذِف لدلالة «
اسكنْ » عليه ، ونَظَّره بقولِه تعالى : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [
طه : 58 ] وزعم أنه مذهبُ سيبويهِ ، وكأن شُبْهَتَه في ذلك أنَّ مِنْ حقِّ
المعطوفِ حُلولَه مَحَلَّ المعطوفِ عليه ، ولا يَصِحُّ هنا حلولُ « زوجُك » محلَّ
الضميرِ ، لأنَّ فاعلَ فِعْلِ الأمر الواحدِ المذكَّر نحو : قُمْ واسكُنْ لا يكونُ
إلاَّ ضميراً مستتراً ، وكذلك فاعل نفعلُ ، فكيف يَصِحُّ وقوعُ الظاهرِ موقَع
المضمرِ الذي قبله؟ وهذا الذي زعمه ليس بشيءٍ لأنَّ مذهبَ سيبويهِ بنصِّه يخالِفُه
، ولأنَّه لا خلافَ في صِحَّةِ : « تقوم هندٌ وزيدٌ » ، ولا يَصِحُّ مباشرةُ زيدٍ
ل « تقوم » لتأنيثه .
والسكونُ والسُّكْنى : الاستقرارُ . ومنه : المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه
وتصرُّفِه ، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ ، والسَّكِينة لأنَّ بها
يَذْهَبُ القلقُ .
و « الجَنَّةَ » مفعولٌ به لا ظرفٌ ، نحو : سَكَنْتُ الدارَ . وقيل : هي ظرفٌ على
الاتساعِ ، وكان الأصلُ تعديتَه إليها ب « في » ، لكونها ظرفَ مكان مختصٍّ ، وما
بعد القولِ منصوبٌ به .
قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } هذه الجملةُ عَطْفٌ على « اسكُنْ » فهي في
محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، وأصلُ كُلْ : أُأْكُلْ بهمزتين : الأولى همزةُ وصلٍ ،
والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل : اُوكُلْ
بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها ، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ
فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ ، ومثلُه
: خُذْ ومُرْ ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر : جُرْ . ولا
تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول : قم وخذ وكُلْ ، إلا « مُرْ » فإنَّ
الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ } [ الأعراف
: 145 ] و { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [ طه : 132 ] ، وعدمُ الردِّ قليلٌ ، وقد حَكَى
سيبويه : « اؤْكُلْ » على الأصلِ وهو شاذٌّ .
وقال
ابن عطية : « حُذِفَتِ النونُ من » كُلا « [ للأمر ] » وهذه العبارةُ مُوهِمةٌ
لمذهبِ الكوفيين من أنَّ الأمرَ عندهم مُعْربٌ على التدريجِ كما تقدَّم ، وهو عند
البصريين محمولٌ على المجزومِ ، فإن سُكِّنَ المجزومُ سُكِّن الأمرُ منه ، وإنْ
حُذِفَ منه حرفٌ حُذِفَ من الأمر .
و « منها » متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » للتبعيضِ ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ ، أي :
مِنْ ثمارِها ، ويجوز أن تكونَ « مِنْ » لابتداءِ الغاية وهو أَحْسَنُ ، و «
رَغَداً » نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ . وقد تقدَّم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوِه أن
ينتصبَ حالاً ، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي : كُلا طيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ .
وقُرئ : « رَغْداً » بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ . وقال بعضُهم : كل فعلٍ حلقيٍّ
العين صحيحِ اللامِ يجوزُ فتحُ عينِه وتسكينها نحو : نهر وبحر . وهذا فيه نظرٌ بل
المنقولُ أنَّ فعْلاً بسكونِ العينِ إذا كانت عينُه حلقيةً لا يجوزُ فتحُها عند
البصريين إلا أَنْ يُسَمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه ، ويكون ذلك على لغتين لأنَّ
إحداهما مأخوذةٌ من الأخرى . وأمَّا الكوفيون فبعضُ هذا عندهم ذو لغتين ، وبعضُه
أصلُه السكونُ ويجوز فتحُه قياساً ، أمَّا أنَّ فعَلاً المفتوحَ العينِ
الحلقِيَّها يجوزُ فيه التسكينُ فيجوز في السَّحَر : السَّحْر فهذا لا يُجيزه أحد
. والرغَدُ : الواسِعُ الهنيءُ ، قال امرؤ القيس :
366 بينما المرءُ تراهُ ناعماً ... يَأْمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغَدْ
ويقال : رَغُِدَ عيشُهم بضم الغين وكسرها وأَرْغَدَ القومُ : صاروا في رَغَد .
قوله : { حَيْثُ شِئْتُمَا } حيث : ظرفُ مكانٍ ، والمشهور بناؤُها على الضم
لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهاً ب « قبل »
و « بعد » . ونقل الكسائي إعرابَها عن فَقْعَس ، وفيها لغاتٌ : حيث بتثليث الثاء
وحَوْث بتثليثها أيضاً ، ونُقل : حاث بالألف ، وهي لازمةُ [ الظرفيةِ لا تتصرفُ ،
وقد تُجَرُّ بمِنْ كقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ } [ البقرة : 222 ] {
مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] ، وهي لازمةٌ ] للإِضافة إلى
جملةٍ مطلقاً ولا تُضاف إلى المفرد إلا نادراً ، قال :
367 أَمَا تَرى حيثُ سهيلٍ طالِعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقال آخر :
368 وَنَطْعَنُهم تحت الحُبَى بعد ضَرْبهم ... ببيضِ المواضي حيثُ لَيِّ العَمائم
وقد تُزاد عليها « ما » فتجزمُ فعلين شرطاً وجزاء كإنْ ، ولا يُجْزَمُ بها دونَ «
ما » خلافاً لقوم ، وقد تُشَرَّبُ معنَى التعليلِ ، وزعم الأخفش أنها تكونُ ظرفَ
زمانٍ وأنشد :
369 للفتى عَقْلٌ يَعيشُ به ... حيث تَهْدي ساقَهُ قَدَمُهْ
ولا دليلَ فيه لأنها على بابِها .
والعامِلُ فيها هنا « كُلا » أي : كُلا أيَّ مكانٍ شِئْتُما تَوْسِعَةً عليهما .
وأجاز أبو البقاء أن تكونَ بدلاً من « الجنَّة » ، قال : « لأنَّ الجنةَ مفعولٌ
بها ، فيكون » حيث « مفعولاً به » وفيه نظرٌ لأنها لا تتصرَّف كما تقدَّم إلا
بالجرِّ ب « مِنْ » .
قوله
: « شِئْتُمَا » : الجملةُ في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها . وهل الكسرةُ التي
على الشين أصلٌ كقولِك : جِئْتُما وخِفْتُما ، أو مُحَوَّلة من فتحة لتدلَّ على
ذواتِ الياءِ نحو : بِعْتما؟ قولان مبنيَّان على وزنِ شَاءَ ما هو؟ فمذهب المبرد
أنه : فَعَل بفتحِ العينِ ، ومذهبُ سيبويه فَعِل بكسرِها ولا يخفى تصريفُهما .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } لا ناهيةٌ ، و « تَقْرَبا » مجزومٌ بها
حُذِفَتْ نونُه . وقُرئ : « تِقْرَبا » بكسر حرف المضارعة ، والألفُ فاعلٌ ، و «
هذه » مفعولٌ به اسمُ إشارةِ المؤنث ، وفيها لغاتٌ : هذي وهذهِ [ وهذهِ ] بكسرِ
الهاء بإشباعٍ ودونِهِ ، وهذهْ بسكونِه ، وذِهْ بكسر الذالِ فقط ، والهاءُ بدلٌ من
الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ . قال ابنُ عطية ونُقِلَ أيضاً عن النحاس «
وليس في الكلام هاءُ تأنيثٍ مكسورٌ ما قبلَها غيرُ » هذه « . وفيه نظرٌ ، لأن تلك
الهاء التي تَدُلُّ على التأنيث ليستْ هذه ، لأن تيكَ بدلٌ من تاءِ التأنيث في
الوقف ، وأمَّا هذه الهاءُ فلا دلالةَ لها على التأنيثِ بل الدالُّ عليه مجموعُ الكلمةِ
، كما تقول : الياءُ في » هذي « للتأنيثِ . وحكمُها في القُرْبِ والبُعْدِ والتوسط
ودخولِ هاءِ التنبيه وكافِ الخطاب حكمُ » ذا « وقد تقدَّم . ويُقال فيها أيضاً :
تَيْك وتَيْلَكَ وتِلْكَ وتالِك ، قال الشاعر :
370 تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا ... وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً
قال هشام : » ويقال : تافَعَلَتْ « ، وأنشدوا :
371 خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ ... بتا الدارِ إلاَّ عابرَ ابنِ سبيلٍ
و » الشجرةِ « بدل من » هذه « ، وقيل : نعتٌ لها لتأويلِها بمشتق ، أي : هذه
الحاضرةَ من الشجر . والمشهورُ أن اسمَ الإِشارةِ إذا وقع بعده مشتقٌّ كان نعتاً
له ، وإن كان جامداً كان بدلاً منه . والشجَرةُ واحدة الشَّجَر ، اسم جنس ، وهو ما
كان على ساقٍ بخلاف النجم ، وسيأتي تحقيقُهما في سورة » الرحمن « إن شاء الله
تعالى . وقرئ : » الشجرة « بكسر الشينِ والجيمِ وسكونِ الجيمِ ، وبإبدالها ياءً مع
فتحِ الشين وكسرِها لقُرْبِها منها مَخْرجاً ، كما أُبْدِلَتِ الجيمُ منها في قوله
:
372 يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ ... فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ
يريد بذلك حَجَّتي وبي ، وقال آخر :
373 إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من
شِيَرَاتِ
وقال أبو عمرو : » إنما يقرأ بها برابِرُ مكةَ وسُودانُها « . وجُمعت الشجرُ أيضاً
على شَجْراء ، ولم يأتِ جمعٌ على هذه الزِنة إلا قَصَبَة وَقَصْباء ، وطَرَفَة
وطَرْفاء وحَلَفة وحَلْفاء ، وكان الأصمعي يقول : » حَلِفة بكسر اللام « وعند
سيبويه أنَّ هذه الألفاظَ واحدةٌ وجمعٌ .
وتقول : قَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه بكسرِ العين في الماضي ، وفتحِها في المضارع أي :
التبَسْتُ به ، وقال الجوهري : » قَرُب بالضمِّ يقرُبُ قُرْباً أي : دَنَا ،
وقَرِبْتُهُ بالكسر قُرْبَاناً دَنَوْتُ [ منه ] ، وقَرَبْتُ أقرُبُ قِرابَةً مثل
: كَتَبْتُ أكتُبُ كِتابة إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه لَيْلَةٌ .
وقيل
: إذا قيل : لا تَقْرَبْ بفتح الراء كان معناه لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ وإذا قيل :
لا تَقْرُب بالضمِّ كان معناه : لاَ تَدْنُ منه « .
قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } فيه وجهان : أحدُهما : أَنْ يكونَ مجزوماً
عطفاً على » تَقْرَبَا « كقولِهِ :
374 فقلت له : صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيُذْرِكَ من أُخرى القَطَاةِ
فَتَزْلَقِ
والثاني : أنه منصوبٌ على جوابِ النهي كقولِهِ تعالى : { لاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ
فَيَحِلَّ } [ طه : 81 ] والنصبُ بإضمارِ » أَنْ « عند البصريينَ ، وبالفاءِ
نفسِها عند الجَرْمي ، وبالخلافِ عند الكوفيين ، وهكذا كلُّ ما يأتي مثلَ هذا .
و { مِنَ الظالمين } خبرُ كان . والظُلْمُ : وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه ومنه
قيل للأرضِ التي لم تستحقَّ الحفرَ فتُحْفَر : مظلومةٌ ، وقال النابغة الذبياني :
375 إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ
الجَلَدِ
وقيل : سُمِّيَتْ مَظلومةً لأنَّ المطرَ لا يأتيها ، قال عمرو بن قَمِيئَةَ :
376 ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصةٍ ... فصفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ
المُقْلَعِ
وقالوا : » مَنْ أشبه أباهَ فما ظَلَمْ « ، قال :
377 بأبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ ... ومَنْ يشابِهْ أَبَه فما ظَلَمْ
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
قوله
: { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } : المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ
متصلٌ ، والفاعلُ ظاهرٌ ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه . قرأ حمزة : « فَأَزَالهما
» والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ «
أَزَلَّهما » يجوز أَنْ تكونَ مِنْ « زَلَّ عن المكان » إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ
من الزوالِ كقراءَةِ حمزة ، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس :
378 كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ
بالمُتَنَزَّلِ
وقال أيضاً :
379 يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ ... ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ
المُثَقَّلِ
فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة ، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ
الجماعة بأَنْ نقول : معنى أزالَهما أي : صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى
فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ
للزوالِ . ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً ، فقراءةُ الجماعةُ
تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ ، فيكونُ زلَّ استنزل ، وقراءةُ حمزة تؤذن
بتنحيتِهما عن مكانِهما ، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [
أصلُه ] في زَلَّة القَدَمِ ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي ، والتنحيةُ لا
يَقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي ،
والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ
التنحيةِ . و « عنها » متعلقٌ بالفعلِ قبلَه . ومعنى « عَنْ » هنا السببيَّةُ إن
أَعَدْنَا الضميرَ على « الشجرة » أي : أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة .
ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [ عاد ] الضميرُ على « الجَنَّةِ » ،
وهو الأظهرُ ، لتقدُّمِ ذِكْرِها ، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً ، ولا تظهَرُ
قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة ، قال ابن عطية : « وأمَّا مَنْ
قرأ » أَزَالهما « فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط » ، وقيل : الضميرُ للطاعةِ أو
للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ
جداً .
قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } الفاءُ هنا واضحةُ السببية . وقال
المهدويُّ : « إذا جُعِلَ » فَأَزَلَّهما « بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى
: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيداً ، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن
مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ » ، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ
لا التأكيدِ ، لإِفادتِهِ معنىً جديداً ، قال ابن عطية : « وهنا محذوفٌ يَدُلُّ
عليه الظاهرُ تقديرُهُ : فأكلا من الشجَرَةِ » ، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ
يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ « فَأزَلَّهما » .
و { مِمَّا كَانَا } متعلِّقٌ بأَخْرَجَ ، و « ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً
وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، أي : من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه ، أو من مكانٍ
أو نعيمٍ كانا فيه ، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ
ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ .
وقوله
: « اهبِطوا » جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [ قبلها ] . وقُرئ : « اهبُطوا
» بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي ، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط ،
وجاء في مضارعِهِ اللغتان ، والمصدرُ : الهُبوط بالضم ، وهو النزولُ . وقيلَ :
الانتقال مطلقاً . وقال المفضل : « الهبوطُ : الخروجُ من البلد ، وهو أيضاً
الدخولُ فيها فهو من الأضداد » . والضمير في « اهبطوا » الظاهرُ أنه لجماعةٍ ،
فقيل : لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ ، [ وقيلَ : لهما وللجنة ] ، وقيل : لهما
وللوسوسةِ ، وفيه بُعْدٌ . وقيل : لبني آدمَ وبني إبليس ، وهذا وإنْ نُقِلَ عن
مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق .
وقال الزمخشري : « إنه يعودُ لآدمَ وحواء ، والمرادُ هما وذريتُهما ، لأنهما لمَّا
كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإِنسُ كلُّهم ، ويَدُلُّ عليه »
قال اهبِطوا منها جميعاً « .
قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، وفيها قولان
، أَصَحُّهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : اهبِطوا مُتعادِيْن .
والثاني : أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة . وأُفْرِدَ لفظُ »
عدو « وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ : إِمَّا اعتباراً بلفظِ »
بعض « فإنه مفردٌ ، وإِمَّا لأن » عَدُوَّاً « أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ
كالقَبول ونحوِهِ . وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً ، قال
في سورة النساء : » وقيلَ : عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ «
، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال : » وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى
المصدرِ تقديرُهُ : ذوي عَداوة « . [ ونحوُه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [
الشعراء : 77 ] ، وقولُه : { هُمُ العدو فاحذرهم } [ المنافقون : 4 ] . واشتقاقُ
العدوّ من عَدا يعدُو : إذا ظَلَمَ . وقيل : من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ ،
وهما متقاربان . وقيل : من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا بُعْدَ ما بينهما
، ويقال : عُدْوَةَ ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء . ] .
واللامُ في » لِبعض « متعلقةٌ ب » عَدُوّ « ومقوِّيةٌ له ، ويجوزُ أن تكونَ في
الأصلِ صفةً ل » عدُوّ « ، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً ، فتتعلَّقُ اللامُ
حينئذٍ بمحذوفٍ ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ
منها ، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ
الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ .
والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ
من الناسِ لأنها قطعةٌ منه ، وهو يقابِلُ » كُلاًّ « ، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ
الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل وينتصِبُ عنه
الحال . تقول : » مررت ببعضٍ جالساً « وله لفظٌ ومعنًى ، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ
ذلك في لفظِ » كُل « .
قوله
: { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان
في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ ، كأنه قيل : اهبِطوا مُتَعادِينَ
ومستحقِّينَ الاستقرارَ . و « لكم » خبرٌ مقدمٌ . و { فِي الأرض } متعلقٌ بما
تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار . وتعلُّقُه به على وجهين أحدُهما : أنه حالٌ ،
والثاني : أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ ، ويجوزُ أن يكونَ { فِي الأرض } هو
الخبرَ ، و « لكم » متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ ، لكن على أنه غيرُ
حالٍ ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي ، على أنّ بعضَ النَّحويين
أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية ، فيكونَ في «
لكم » أيضاً الوجهان ، قال بعضُهم : « ولا يجوز أن يكونَ { فِي الأرض } متعلقاً
بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً ، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ
لا تعملُ ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ
عليه » . ولِقائلٍ أن يقول : هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ ، لكنه غيرُ مؤولٍ
بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم : « له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ » . وقد
اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا .
قوله : { إلى حِينٍ } الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع ، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال
لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ : { مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ } يَطْلُبُ قولَه « { إلى
حِينٍ } من جهةِ المعنى . وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ
الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه ، والتقديرُ : ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه
ومتاعٌ إلى حين ، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني ، فإن قيل : مِنْ
شرطِ الإِعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ ، و »
مستقرٌ « لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئَلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ
ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول . فالجوابُ : أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي
يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ ، فلا يُؤَول بموصولٍ ، وأيضاً
فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله :
380 أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ ... و » مستقر « يجوز أن يكونَ اسمَ
مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ ، ولذلك سُمِّيَتِ
الأرضُ قَرارَةٌ ، قال الشاعر :
381 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَتَرَكْنَ كلَّ
قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ
ويقال : استقرَّ وقرَّ بمعنًى . والمَتاعُ : البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار
أي : ارتفع . واختار أبو البقاء أن يكونَ » إلى حين « في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع .
والحينُ : القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً ، وهذا هو المشهورُ ، وقيل :
الوقتُ البعيدُ . ويُقال : عامَلَتْهُ محايَنَةً ، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به
حِيناً ، وحانَ حينُ كذا : قَرُبَ ، قالت بثينة :
382 وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها
وقال بعضُهم : » إنه يُزادُ عليه التاءُ فيقال : تحينَ قُمْتَ « وأنشد :
383 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ
وليس كذلكَ ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قوله
: { فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } : الفارُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما
قبلَها ، و « تلقَّى » تفعَّل بمعنى المجرد ، وله معانٍ أُخَرُ : مطاوعة فَعَّلَ
نحو : كسَّرته فتكسَّرَ ، والتجنُّب نحو : تجنَّب أي جانَبَ الجَنْبَ ، والتكلُّف
نحو : تحلَّم ، والصيرورةُ نحو : تَأثَّم ، والاتخاذُ نحو : تَبَنَّيْتُ الصبيَّ
أي : اتخذتُه ابناً ، ومواصلةُ العمل في مُهْلَة نحو : تَجَرَّع وتَفَهَّمَ ،
وموافقةُ استَفْعَل نحو : تكبَّر ، والتوقُّع نحو : تَخَوَّف ، والطلبُ نحو :
تَنَجَّز حاجَته ، والتكثير نحو : تَغَطَّيت بالثياب ، والتلبُّس بالمُسَمَّى
المشتقِّ منه نحو : تَقَمَّص ، أو العملُ فيه نحو : تَسَحَّر ، والخَتْلُ نحو :
تَغَفَّلْتُه . وزعم بعضُهم أن أصل تلقَّى تلقَّن بالنون فأُبْدِلَتِ النونُ ألفاً
، وهذا غَلَطٌ لأن ذلك إنما ورد في المضعَّف نحوَ : قَصَّيْتُ أظفاري
وَتَظَنَّيْتُ وأَمْلَيْتُ الكتابَ ، في : قَصَصْتُ وتَظَنَّنْتُ وَأَمْلَلْتُ .
و { مِن رَّبِّهِ } متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وأجاز أبو
البقاء أن يكونَ في الأصلِ صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً ، فيتعلَّقَ
بمحذوفٍ ، و « كلماتٍ » مفعول به .
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ « آدم » ورفعِ « كلمات » ، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد
تلقَّيْتَه ، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ . وقيل : لمَّا كانَتِ الكلماتُ
سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً . ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان
الفاعلُ مؤنثاً [ لأنه غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ
بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً ] مجازياً .
قولُه تعالى : { فَتَابَ عَلَيْهِ } عَطْفٌ على ما قبلَه ، ولا بُدَّ من تقديرِ
جملةٍ قبلَها أي : فقالَها . والكلماتُ جمع كلمة ، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى
مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله
تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ } [ آل عمران : 64 ] ثم فَسَّرها بقوله : {
أَلاَّ نَعْبُدَ } إلى آخره . وقال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [
المؤمنون : 100 ] يريدُ قولَه : { رَبِّ ارجعون } إلى آخرِه ، وقال لبيد :
384 ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمةً ، فقال : « أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ
كلمةُ لبيدٍ » .
والتوبةُ : الرجوعُ ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على
عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المعصيةِ
إلى الطاعةِ ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ ، ولا يختصَّان بالباري تعالى .
قال تعالى : { يُحِبُّ التوابين } [ البقرة : 222 ] ، ولا يُطْلَقُ عليه « تائب »
وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى ، وقُدِّم التوابُ على الرحيم لمناسبةِ «
فَتَاب عليه » ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } نظير قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم
الحكيم } [ البقرة : 32 ] . وأدغم أبو عمرو هاء « إنه » في هاء « هو » . واعتُرِض
على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع [ من ] الإِدغام وهو الواوُ ، وأُجيب بأنَّ
الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها بدليلِ سقوطِها في قوله :
385 لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّه صوتُ حادٍ ... إذا طَلَبَ الوسِيقَةَ أو زَمِيرُ
وقوله :
386 أو مُعْبَرُ الظهرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه ... ما حَجَّ في الدنيا ولا
اعْتَمَرا
والمشهورُ قراءةُ : « إنَّه » بكسر إنَّ ، وقُرئ بفتحِها على تقديرِ لامِ العلة .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قولُه
: { قُلْنَا اهبطوا } إنما كرَّر قولِه : « قُلْنا » لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان
باعتبارِ متعلَّقَيْهما ، فالهبوطُ الأول [ عَلَّق به العداوةَ ، والثاني علَّقَ
به إتيانَ الهدى . وقيل : « لأنَّ الهبوطَ الأول ] من الجنةِ إلى السماءِ ،
والثاني من السماءِ إلى الأرض » . واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله : { وَلَكُمْ فِي
الأرض مُسْتَقَرٌّ } . وقال ابن عطيةِ : « وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو
من الجنة إلى السماءِ ، والأولى في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ
في الوقوعِ » . انتهى ، وقيل : كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك : قُمْ قُمْ ،
والضمير في « منها » يَعُودُ على الجنةِ أو السماء .
قوله : « جميعاً » حالٌ من فاعلِ « اهبِطوا » أي : مجتمِعِين : إمَّا في زمانٍ
واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل ، وهذا [ هو ]
الفرقُ بين : جاؤوا جميعاً ، وجاؤوا معاً ، فإن قولَك « معاً » يستلزمُ مجيئهم
جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه « مع » مِن الاصطحاب ، بخِلاف « جميعاً »
فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ أحدٌ منهمْ عن المجيءِ ، من غيرِ تعرُّضٍ
لاتحادِ الزمانِ . وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره ، فلم يعرِفْها ذاك
الرجلُ فأفادها له ثعلب .
و « جميع » في الأصل من ألفاظِ التوكيد ، نحو : « كُل » ، وبعضُهم عَدَّها معها .
وقال ابنُ عطية : « وجميعاً حالٌ من الضميرِ في » اهبِطوا « وليس بمصدرٍ ولا اسمِ
فاعل ، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما ، كأنه قال : » هبوطاً جميعاً أو هابطين
جميعاً « كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ ، وأنَّ » جميعاً « تأكيدٌ له
، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه .
وقال بعضُهُم : التقديرُ : قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً ، فَحُذِفَ
الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ
عليه ، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ .
قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع } . . . الآية .
الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ . و » إمَّا « أصلُها : إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها »
ما « تأكيداً ، و » يأتينَّكم « في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ
التوكيدِ . وقيل : بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً . وقيل : مبنيٌّ مطلقاً . والصحيح :
التفصيلُ : إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني ، وإلاَّ أُعْرِبَ ، نحو : هل
يقومانِّ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة ، وقيل : بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ
بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ . وذهب الزجاج والمبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن
الشرطية المؤكَّدة ب » ما « يجب تأكيدُه بالنون ، قالا : ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ
إلا عليه . وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر
غيرَ مؤكَّد ، فكثرةُ مجيئِه غيرَ مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ ، فمِنْ ذلك
قولُه :
387
فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً ... على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ
وقولُ الآخر :
388 يا صاحِ إمَّا تَجِدْني غيرَ ذي جِدَةٍ ... فما التَخلِّي عن الخُلاَّنِ من
شِيَمي
وقولُ الآخر :
389- زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ
خُلَّتي
وقول الآخر :
390- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أودى بِها
وقولُ الآخر :
391- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً ... مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ
فَأَنْعَسَا
وقول الآخر :
392 إمَّا تَرَيِْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي
وقال المهدوي : « إما » هي إنْ التي للشرطِ زِيدَتْ عليها « ما » ليصِحَّ دخولُ
النون للتوكيدِ في الفعلِ ، ولو سَقَطَتْ « ما » لم تَدْخُلِ النونُ ، ف « ما »
تؤكِّدُ أولَ الكلامِ ، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه « وتبعه ابنُ عطية . وقال بعضهم : »
هذا الذي ذَهَبا إليه من أنَّ النونَ لازِمَةٌ لفعلِ الشرطِ إذا وُصِلَتْ « إنْ »
ب « ما » هو مذهبُ المبردِ والزجاجِ « . انتهى . وليس في كلامِهما ما يدُلُّ على
لزومِ النونِ كما ترى ، غايةُ ما فيه أنَّهما اشترطا في صِحَّةِ تأكيدِه بالنونِ
زيادةَ » ما « على » إنْ « ، أمَّا كونُ التأكيدِ لازماً أو غيرَ لازم فلم
يتعرَّضا له ، وقد جاء تأكيدُ الشرطِ بغيرِ » إنْ « كقوله :
393 مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ ... أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي
و » مني « متعلق ب » يَأْتِيَنَّ « ، وهي لابتداءِ الغاية مَجازاً ، ويجوز أن تكون
في محلِّ حالٍ من » هُدَىً « لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، وهو نظيرُ
ما تَقَدَّم في قوله تعالى : { مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] ، و »
هُدى « فاعلٌ ، والفاءُ مع ما بعدها مِنْ قولِه : { فَمَن تَبِعَ } جوابُ الشرطِ
الأولِ ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } جوابُ الثاني ، وقد وقع الشرطُ
[ الثاني وجوابُه جوابَ الأول ، ونُقِل عن الكسائي أن قوله : { فَلاَ خَوْفٌ }
جوابُ الشرطين ] معاً . قال ابن عطية بعد نَقْلِه عن الكسائي : » هكذا حُكِي وفيه
نَظَرٌ ، ولا يتوجَّه أن يُخالَفَ سيبويه هنا ، وإنما الخلافُ في نحوِ قولِه : {
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ } [ الواقعة : 88-89 ] فيقولُ سيبويهِ
: جوابُ أحدِ الشرطينِ محذوفٌ لدلالةِ قوله « فَرَوْحٌ » عليه . ويقول الكوفيون «
فَرَوْح » جوابُ الشرطين . وأمَّا في هذه الآية فالمعنى يمنع أَنْ يكونَ « فلا خوف
» جواباً للشرطين « . وقيل : جوابُ الشرطِ الأول محذوفٌ تقديرُه : فإمَّا
يأتِيَنَّكم مني هدىً فاتَّبعوه ، وقولُه : { فَمَنْ تَبِع } جملةٌ مستقلةٌ . وهو
بعيدٌ أيضاً .
و » مَنْ « يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً ،
ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ ، ولا حاجةَ إلى هذا .
فإن
كانتْ شرطيةً كان « تبع » في محل جزم ، وكذا : « فلا خَوْفٌ » لكونِهما شرطاً
وجزاءً ، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ ل « تَبِع » . وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي
مبتدأٌ أيضاً ، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور : الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ ، بدليل أنه
يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط ، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ ، تقول
: مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً ، [ فليس في « أُكرم زيداً » ضميرٌ يعودُ على « مَنْ
» ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ ] ، ولو قلتَ : « مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه »
وأنت تعيدُ الهاءَ على « مَنْ » لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير . وقيل :
الخبرُ الجوابُُ ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ ، فلا
يَجُوزُ عندهم : « مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً » ولكنه جائز ، هذا ما أورده أبو
البقاء . وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ
عند قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . وقيل :
مجموعُ الشرطِ والجزاءِ هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما . وقيل : ما
كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ .
والمشهورُ : « هُدَايَ » ، وقُرئ : هُدَيَّ ، بقلبِ الألفِ ياءً ، وإدغامها في ياء
المتكلم ، وهي لغة هُذَيْل ، يقولون في عَصاي : عَصَيَّ ، وقال شاعرُهم يرثي بَنيه
:
394 سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ
مَصْرَعُ
كأنهم لمَّا لم يَصِلوا إلى ما تستحقُّه ياءُ المتكلمِ مِنْ كسرِ ما قبلَها لكونِه
ألفاً أتَوا بما يُجَانِسُ الكسرةَ ، فقلبوا الألفَ ياءً ، وهذه لغةٌ مطردةٌ عندهم
، إلا أَنْ تكونَ الألفُ للتثنية فإنهم يُثْبِتُونها نحو : جاء مسلمايَ وغلامايَ .
قولُه : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ
، فيكونَ في محلِّ جزم ، وأن يكونَ خبراً ل « مَنْ » إذا قيل بأنها موصولةٌ ، وهو
أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه : { والذين كَفَرواْ } فيكونَ في محل رفع ،
و « لا » يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس ، فيكونَ « خوفٌ » اسمها ، و « عليهم »
في محلِّ نصبٍ خبرَها ، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ « خوفٌ » مبتدأ ، و «
عليهم » في محل رفع خبرَه . وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين ، أحدُهما : أنَّ
عملَها عملَ ليس قليلٌ ولم يَثْبُتْ إلا بشيءٍ محتملٍ وهو قوله :
395 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً ... ولا وَزرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا
والثاني : أنَّ الجملة التي بعدها وهي : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تُعَيِّنُ أن
تكونَ « لا » فيها غيرَ عاملةٍ لأنها لا تعملُ في المعارفِ ، فَجَعْلُها غيرَ
عاملةٍ فيه مشاكلةٌ لِما بعدها ، وقد وَهِمَ بعضُهم فَجَعَلها عاملةً في المعرفة
مستدلاًّ بقوله :
396 وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا
ف
« أنا » اسمُها و « باغياً » خبرُها . قيل : ولا حُجَّةَ فيه لأنَّ « باغياً » حال
عاملُها محذوفٌ هو الخبرُ في الحقيقة تقديره : ولا أنا أرى باغِياً ، أو يكونُ
التقديرُ : ولا أُرَى باغيا ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ .
وقُرِئَ : « فلا خَوْفُ » بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين ، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ
الإِضافةُ مقدرةً أي : خوفُ شيءٍ ، وقيلَ : لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، وقيل :
حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً . وقرئ : « فلا خوفَ » مبنياً على الفتح ، لأنها لا
التبرئة وهي أبلغُ في النفي ، ولكن الناسَ رجَّحوا قراءةَ الرفع ، قال أبو البقاء
: « لوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه عُطِف عليه ما لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ وهو قولُه :
» ولا هم « لأنه معرفةٌ ، و » لا « لا تعملُ في المعارِفِ ، فالأَوْلى أن يُجْعَلَ
المعطوفُ عليه كذلك لتتشاكلَ الجملتان » ، ثم نظَّره بقولِهم : « قام زيد وعمراً
كلَّمْتُه » يعني في ترجيحِ النصب في جملة الاشتغالِ للتشاكل . ثم قال : « والوجهُ
الثاني من جهة المعنى ، وذلك أنَّ البناءَ يَدُلُّ على نفي الخوفِ عنهم
بالكُلِّيَّة ، وليس المراد ذلك ، بل المرادُ نفيُه عنهم في الآخرةِ . فإنْ قيل :
لِمَ لا يكونُ وجهُ الرفعِ أنَّ هذا الكلامَ مذكورٌ في جزاءِ مَنِ اتَّبع الهدى ،
ولا يَليق أن يُنْفَى عنهم الخوفُ اليسيرُ ويُتَوَهَّمَ ثَبوتُ الخوفِ الكثير؟ قيل
: الرفعُ يجوزُ أَنْ يُضْمَرَ معه نفيُ الكثيرِ ، تقديرُه : لا خوفٌ كثيرٌ عليهم ،
فيُتَوَهَّمَ ثبوتَ القليلِ ، وهو عكسُ ما قُدِّر في السؤال فبانَ أنَّ الوجهَ في
الرفعِ ما ذكرنا » . انتهى .
قولُه تعالى : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ
أنَّها غيرُ عاملةٍ ، و « يَحْزنون » في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ ، وعلى هذا
القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب .
والخوفُ : الذُّعْرُ والفَزَع ، يقال : خافَ يخاف فهو خائِفٌ والأصل : خَوِف بزون
عَلِمَ ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف . قال تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ } [ الإسراء
: 60 ] ، ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل . والحزنُ ضدُّ السرورِ ، وهو مأخوذٌ من
الحَزْن ، وهو ما غَلُظَ من الأرض فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ ، ولا يكون إلا في
الأمرِ الماضي ، يقال : حَزِن يَحْزَن حُزْناً وحَزَناً . ويتعدَّى بالهمزةِ نحو :
أَحْزَنْتُه ، وحَزَّنْتُه ، بمعناه ، فيكون فَعَّل وأَفْعَلَ بمعنى . وقيل :
أَحْزَنَه حَصَّل له حُزْناً . وقيل : الفتحةُ مُعَدِّيةٌ للفعلِ نحو : شَتِرَتْ
عينُه وشَتَرها الله ، وهذا على قولِ مَنْ يَرَى أنَّ الحركةَ تُعَدِّي الفعلَ .
وقد قُرِئ باللغتين : « حَزَنَه وأَحْزَنه » وسيأتي تحقيقهما .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
قوله
: { والذين كَفَرواْ ، إلى قوله : خَالِدُونَ } : « الذين » مبتدأ وما بعده صلةٌ
وعائدٌ ، و « بآياتنا » متعلقٌ بكذَّبوا . ويجوز أن تكونَ الآيةُ من بابِ الإِعمال
، لأنَّ « كفروا » يَطْلُبها ، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول ،
والتقديرُ : كفروا بنا وكَذَّبوا بآياتِنا . و « أولئك » مبتدأٌ ثانٍ و « أصحابُ »
خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، ويجوزُ أن يكونَ « أولئك » بدلاً من الموصول أو
عطفَ بيان له ، و « أصحابُ » خبرَ المبتدأ الموصول . وقوله : { هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ للتصريحِ بذلك في مواضعَ .
قال تعالى : { أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ } [ التغابن : 10 ] . وأجاز أبو البقاء
أن تكونَ حالاً من « النار » ، قال : « لأنَّ فيها ضميراً يعودُ عليها ، ويكونُ العامل
فيها معنى الإِضافةِ أو اللام المقدَّرَةَ » . انتهى . وقد عُرِف ما في ذلك .
ويجوز أن تكونَ في محلِّ رفع خبراً لأولئك ، وأيضاً فيكونُ قد أُخْبِرَ عنه بخبرين
، أحدُهما مفردٌ وهو « أصحابُ » . جملةٌ ، وقد عُرَف ما فيه من الخلافِ .
و « فيها » متعلقٌ ب « خالدون » . قالوا : وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في
الثاني ، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول ، والتقدير : فَمَنْ تبع هُدايَ فلا
خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ
والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك ، ونظَّروه بقولِ الشاعر :
397 وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه
القَطْرُ
والآيَةُ [ لغةً ] : العلامةُ ، قال النابغةُ الذبياني :
398 تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ
وسُمِّيَتْ آيةُ القرآنِ [ آيةً ] لأنها علامةٌ لانفصالِ ما قبلَها عمَّا بعدَها .
وقيل : سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْمَعُ حروفاً من القرآن فيكون مِنْ قولِهم : « خرج
بنو فلان بآيتِهم » أي : بجماعتهم ، قال الشاعر :
399 خَرَجْنا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا ... بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ
المَطافِلاَ
واختلف النحويون في وَزْنِها : فمذهب سيبويه والخليلِ أنها فَعَلَة ، والأصل :
أَيَية بفتح العين ، تحرَّكَتِ الياء وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً ، وهذا شاذٌ
، لأنه إذا اجتمع حرفا عِلة أُعِلَّ الأخيرُ ، لأنه مَحَلُّ التغييرِ نحو : هوى
وحوى ، ومثلُها في الشذوذِ : غاية وطاية وراية .
ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة ، فكانَ القياسُ أن يُدْغَمَ
فيقال : آيَّة كدابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً ، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا
كَيْنونة والأصل : كيَّنونة بتشديد الياء ، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة
أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه .
ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين ، واختاره أبو البقاء قال : « لأنها
من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء ، فَظَهَرَتِ الياءُ [
الأولى ] ، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء ، ووزنُه أَفْعال ، والألفُ الثانيةُ
بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة ، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع ، آواء ،
ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس » انتهى . يعني أنَّ حرفَ
العلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله .
وذهبَ بعضُ الكوفيين إلى أن وزنها أَيِيَة ، بكسر العين مثل : نَبِقَة فَأُعِلَّ ،
وهو في الشذوذِ كمذهبِ سيبويه والخليل . وقيل وزنُها : فَعُلَة بضم العين ، وقيل
أصلُها : أياة بإعلال الثاني ، فَقُلبت بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ وأُخِّرَتِ العينُ
وهو ضعيفٌ . فهذه ستةُ مذاهبَ لا يَسْلَمُ كلُّ واحدٍ منها من شذوذٍ .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قولُه
تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } . . « بني » منادى وعلامةُ نصبِه الياءُ لأنه
جمعُ مذكرٍ سالمٌ وحُذِفَتْ نونُه للإِضافةِ ، وهو شبيهٌ بجَمْعِ التكسيرِ
لتغيُّرِ مفرِده ، ولذلك عامَله العربُ ببعضِ معاملةِ التكسير فَأَلْحقوا في
فِعْلِه المسندِ إليه تاءَ التأنيثِ نحو : قالت بنو فلان ، وقال الشاعرَ :
400 قالَتْ بنو عامِرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
وأعْربوه بالحركاتِ أيضاً إلحاقاً [ له ] به ، قال الشاعر :
401 وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ ... أباً بَرًّا ونحنَ له بنينُ
برفعِ النونِ ، وهل لامُه ياءٌ لأنه مشتقٌ من البناء لأن الابنَ من فَرْعِ الأبِ ،
ومبنيٌّ عليه ، أو واوٌ لقولهم : البُنُوَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؟ قولان .
الصحيحُ الأولُ ، وأمّا البُنُوّة فلا دلالَةَ فيها لأنهم قد قالوا : الفُتُوَّة ،
ولا خلافَ أنها من ذوات الياء ، إلا أنَّ الأخفشَ رَجَّح الثانيَ بأنَّ حَذْفَ
الواو أكثرُ . واختُلِفَ في وزنِه فقيل : بَنَي بفتح العين وقيل بَنْي بسكونها ،
وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرةِ التي سُكِّنَتْ فاؤها وعُوِّضَ من لامِها همزةُ
الوصلِ .
وإسرائيل : خَفْضٌ بالإِضافةِ ، ولا يَنْصَرِفُ للعلَمِيَّة والعُجْمة ، وهو مركبٌ
تركيبَ الإِضافةِ مثل : عبد الله ، فإنَّ « إسْرا » هو العبدُ بلغتِهم ، و « إيل »
هو اللهُ تعالى . وقيل : « إسْرا » مشتقٌ من الأسْرِ وهو القوة ، فكأن معناه :
الذي قَوَّاه الله . وقيل لأنه أُسْرِي بالليلِ مُهاجراً إلى اللهِ تعالى . وقيل :
لأنه أَسَرَ جِنِّيَّاً كان يُطْفِئُ سِراج بيتِ المَقْدِس . قال بعضُهُم : فعلى
هذا يكونُ الاسمِ عربياً وبعضُه أعجمياً ، وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ بلغاتٍ
كثيرةٍ أفصَحُها لغةُ القرآنِ وهي قراءةُ الجمهور . وقرأ أبو جعفر والأعمش ، «
إسْرايِل » بياءٍ بعد الألف من غيرِ همزةٍ ، ورُوِي عن ورش : إسْرائِل بهمزةٍ بعد الألف
دونَ ياءٍ ، واسْرَأَلَ بهمزةٍ مفتوحةٍ بين الراء واللام [ واسْرَئِل بهمزة
مكسورةٍ بين الراء واللام ] وإسْرال بألفٍ محضة بين الراءِ واللامِ ، قال الشاعر :
402 لا أرى مَنْ يُعْينُني في حياتي ... غيرَ نفسي إلا بني إسْرالِ
وتُرْوى قراءةً عن نافع . و « إسرائِين » أَبْدلوا من اللامِ نوناً كأُصَيْلان في
أُصَيْلال ، قال :
403 قالَتْ وكنتُ رجلاً فَطِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسرائينا
ويُجْمَع على « أَساريل » . وأجاز الكوفيون : أَسارِلَة ، وأسارِل ، كأنهم يُجيزون
التعويضَ وعدمه ، نحو : فَرازِنة وفرازين . قال الصفَّار : « لا نعلم أحداً يُجيز
حذفَ الهمزةِ من أوَّلِه » .
قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } اذكروا فعلٌ وفاعلٌ ، ونعمتي مفعولٌ ، وقال ابن
الأنباري : « لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه : شُكْرَ نِعْمتي . والذِّكر
والذُّكر بكسرِ الذال وضَمِّها بمعنىً واحدٍ ، ويكونان باللسانِ وبالجَنانِ . وقال
الكسائي : » هو بالكسر لِلِّسان وبالضمّ للقلب « فضدُّ المكسور : الصمتُ ، وضدُّ
المضمومِ : النِّسْيان ، وفي الجملةِ فالذكرُ الذي محلُّه القلبُ ضدُّه النسيانُ ،
والذي محلُّه اللسانُ ضِدُّه الصمتُ ، سواءً قيل : إنهما بمعنىً واحدٍ أم لا .
والنِّعْمَةُ
: اسمٌ لِما يُنْعَمُ به وهي شبيهةٌ بفِعْلٍ بمعنى مَفْعول نحو : ذِبْح ورِعْي ،
والمرادُ بها الجمعُ لأنها اسمُ جنسٍ ، قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ
الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . و { التي أَنْعَمْتُ } صفتُها والعائدُ محذوفٌ
. فإنْ قيل : مِنْ شرطِ حَذْفِ عائدِ الموصولِ إذا كان مجروراً أن يُجَرَّ
الموصولُ بمثلِ ذلك الحرفِ وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقُهما ، وهنَا قد فُقِد الشرطان
، فإنَّ الأصلَ : التي أنعمتُ بها ، فالجوابُ أنه إنما حُذِف بعد أَنْ صار منصوباً
بحَذْفِ حَرْفِ الجرِّ اتساعاً فبقي : أنعمتُها ، وهو نظيرُ : { كالذي خاضوا } [
التوبة : 69 ] في أحدِ الأوجه ، وسيأتي تحقيقُه إنْ شاء الله تعالى .
و « عليكُمْ » متعلِّقٌ به ، وأتى ب « على » دلالةً على شمولِ النعمةِ لهم .
قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي } هذه جملةٌ أمريةٌ عطْفٌ على الأمريَّةِ قبلَها ،
ويقال : أَوْفَى وَوَفَى وَوَفَّى مشدَّداً ومخففاً ، ثلاثُ لغاتٍ بمعنىً ، قال
الشاعر :
404 أمَّا ابنُ طَوْقٍ فقد أَوْفَى بذِمَّتِه ... كما وَفَى بقِلاصِ النَّجْمِ
حادِيها
فَجَمَع بين اللغتين . ويقال : أَوْفَيْتُ وفَيْتُ بالعهدِ وأَوْفَيت الكيلَ لا
غيرُ . وعن بعضِهم أنَّ اللغاتِ الثلاثَ واردةٌ في القرآن ، أمَّا « أَوْفى »
فكهذه الآية ، وأمَّا « وفَّى » بالتشديد فكقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [
النجم : 37 ] ، وأمَّا « وَفَى » بالتخفيف فلِم يُصَرَّح به ، وإنما أُخِذَ مِنْ
قوله تعالى : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } [ التوبة : 111 ] ، وذلك أنَّ
أَفْعَلَ التفضيلَ لا يُبْنَى إلا من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهورُ ، وإنْ
كانَ في المسألة كلامٌ كثيرٌ ، ويُحْكى أن المستنبِطَ لذلك أبو القاسم الشاطبي ،
ويجيء « أَوْفَى » بمعنى ارتفع ، قال :
405 رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
و « بعهدي » متعلِّقٌ ب « أَوْفُوا » والعَهْدُ مصدرٌ ، ويُحتمل إضافتُه للفاعل أو
المفعول . والمعنى : بما عَاهَدْتُكم عليه من قَبول الطاعة ، ونحوُه : { أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني آدَمَ } [ يس : 60 ] أو بما عاهَدْتموني عليه ، ونحوُه
: { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] ، { صَدَقُواْ مَا
عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] .
قوله : « أُوْفِ » مجزومٌ على جوابِ الأمر ، وهل الجازمُ الجملةُ الطلبيةُ نفسُها
لِما تضمَّنَتْه مِنْ معنى الشرط ، أو حرفُ شرطٍ مقَدَّرٌ تقديرُه : « إنْ تُوفوا
بعَهْدي أُوفِ » قولان . وهكذا كلُّ ما جُزِم في جوابِ طلبٍ يَجْري [ فيه ] هذا
الخلاف .
و « بعَهْدِكم » متعلِّقٌ به ، وهو محتمِلٌ للإِضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ كما
تقدَّم .
قولُه : { وَإِيَّايَ فارهبون } « إيَّاي » ضميرٌ منصوبٌ منفصلٌ ، وقد عُرِفَ ما
فيه من الفاتحة . ونصبُه بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ الظاهرُ بعدَه ، والتقديرُ : «
وإياي ارهبوا فارهبون » وإنما قَدَّرْتُه متأخراً عنه ، لأنَّ تقديرَه متقدِّماً
عليه لا يَحْسُنُ لانفصالِه ، وإن كان بعضُهم قَدَّره كذلك . والفاءُ في « فارهبون
» فيها قولان للنحويين ، أحدُهما : أنها جوابُ أمر مقدَّر تقديرُه : تَنَبَّهوا
فارهبون ، وهو نظيرُ قولِهم : « زيداً فاضرب » أي : تنبَّهْ فاضربْ زيداً ، ثم
حُذِف : تَنَبَّه فصار : فاضْرِب زيداً ، ثم قُدِّم المفعولُ إصلاحاً للَّفْظِ ،
لئلا تقعَ الفاءُ صدراً ، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لتربِطَ هاتين الجملتين .
والقولُ
الثاني في هذه الفاءِ : أنها زائدةٌ . وقال الشيخ بعد أن حكى القولَ الأولَ : «
فتحتملُ الآيةُ وجهين أحدُهما : أن يكونَ التقديرُ : وإياي ارهبوا تنبَّهُوا
فارهبون ، فتكونُ الفاء دَخَلَتْ في جواب الأمر وليست مؤخرةً من تقديم . والوجهُ
الثاني أن يكونَ التقديرُ : وتنبَّهوا فارهبون ، ثم قُدِّم المفعولُ فانفصلَ
وأُتِي بالفاء حين قُدِّم المفعول ، وفعلُ الأمر الذي هو تنبَّهوا محذوفٌ ، فالتقى
بحذفِه الواوُ والفاءُ ، يعني فصارَ التقديرُ : وفإياي ارهَبُوا ، فقُدِّم
المفعولُ على الفاءِ إصلاحاً للفظ ، فصارَ : وإيَّاي فارهبوا ، ثم أُعيد المفعولُ
على سبيل ِ التأكيد ولتكميل الفاصِلةِ ، وعلى هذا » فإيَّاي « منصوبٌ بما بَعده لا
بفعلٍ محذوفٍ ، ولا يَبْعُد تأكيد المنفصل بالمتصل كما لا يمتنعُ تأكيدُ المتصلِ
بالمنفصلِ ، وفيه نظرٌ .
والرَّهَبُ والرَّهْبُ والرَّهْبةُ : الخوفُ ، مأخوذٌ من الرَّهابة وهي عَظْْمٌ في
الصدر يؤثِّر فيه الخوف .
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
قوله
تعالى : { بِمَآ أَنزَلْتُ } . . « ما » يجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ
محذوفٌ ، أي : الذي أَنْزَلْتُه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ
المفعولِ أي بالمنزَّلِ . و « مصدقاً » نصبٌ على الحالِ ، وصاحبُها العائدُ
المحذوفُ . وقيل : صاحبُها « ما » والعاملُ فيها « آمنوا » وأجازَ بعضُهم أن تكونَ
« ما » مصدريةً من غير جَعْلِه المصدرَ واقعاً موقعَ مفعولٍ به ، وجَعَل « لِما
معكم » من تمامه ، أي : بإنزالي لِما معكم ، وجَعَل « مُصَدِّقاً » حالاً من « ما
» المجرورةِ باللامِ قُدِّمَتْ عليها وإن كان صاحبُها مجروراً ، لأنَّ الصحيحَ
جوازُ تقديمِ حالِ المجرورِ [ بحرفِ الجر ] عليه كقولِه :
406 فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ
حِبالِ
« فَرْغا » حالٌ من « بقتل » ، وأيضاً فهذه اللامُ زائدةٌ فهي في حكم المُطَّرح ،
و « مصدقاً » حالٌ مؤكدة ، لأنه لا تكونُ إلا كذلك . والظاهرُ أنَّ « ما » بمعنى
الذي ، وأنَّ « مصدقاً » حالٌ مِنْ عائدِ الموصولِ ، وأنَّ اللامَ في « لِما »
مقويةٌ لتعدية « مصَدِّقاً » ل « ما » الموصولةِ بالظرف .
قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } « أولَ » خبرُ « كان » قبلَه ، وفيه أربعة أقوال
، أحدُها وهو مذهبُ سيبويهِ أنه أَفْعَل ، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ ، وتأنيثَه
أُوْلى ، وأصلُها : وُوْلى ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً ، وليست مثلَ «
وُوْرِيَ » في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها ، لأنَّ واوَ « أُولَى »
تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم « أُوَل » ، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك .
ولم يَتَصَرَّفْ من « أوَّل » فِعْلٌ لاستثقاله . وقيل : هو مِنْ وَأَل إذا نجا ،
ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ ، وأصلُه أَوْ أَل ، فَخُفِّفَت بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ
واواً ، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار : أوَّل ، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه ، بل قياسُه
أن تلقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة وتُحْذَفُ الهمزةُ ، ولكنهم شَبَّهوه
بخَطِيَّة وبرِيَّة ، وهو ضعيفٌ ، والجمع : أَوائل وأَوالي أيضاً على القلب . وقيل
: هو من آل يَؤُول إذا رَجَع ، وأصلُه : أَأْوَل بِهمزتين الأولى زائدةٌ والثانيةُ
فاؤُه ، ثم قُلِب فأُخِّرَتِ الفاءُ بعد العين فصار : أوْأَل بوزن أَعْفَل ، ثم
فُعِلَ به ما فُعِل في الوجهِ الذي قبلَه من القلب والإِدغامِ وهو أضعفُ منه . وقيل
: هو وَوَّل بوزن فَوْعَلِ ، فأُبْدِلَتِ الواوُ الأولَى همزةً ، وهذا القولُ
أَضْعَفُها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرفَ ليس إلاَّ . والجمعُ : أوائل ، والأصلُ :
وَواوِل ، فَقُلِبتِ الأولى همزةً لِما تقدَّم ، والثالثة أيضاً لوقوعِها بعد ألفِ
الجمعِ .
واعلم أَنَّ « أَوَّل » أَفْعَلُ تفضيلٍ ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى
نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً .
ثم
النكرةُ المضافُ إليها أَفْعل : إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً ، فإنْ كانَتْ
جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو : الزيدان أفضلُ رجلَيْن ، الزيدون أفضلُ رجال ، الهنداتُ
أفضلُ نسوةٍ . وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون . وإن
كانَتْ مشتقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو : « الزيدُون أفضلُ ذاهبين
وأكرمُ قادمين » ، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها ، أنشد الفراء :
407 وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ
فَأَفْرَدَ في الأولِ وطابَقَ في الثاني . ومنه عندَهم : { وَلاَ تكونوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ } .
إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع « كافر » ، فأجابوا عن ذلك
بأوجهٍ : أَجْوَدُها : أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ
مُفْهِمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه ، فجاءت النكرةُ المضافُ
إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف ، والتقديرُ : ولا تكونوا أولَ
فريقٍ أو فوجٍ كافرٍ ، وكذا : فَالأَمُ فريقٍ طاعمٍ ، وقيل : لأنه في تأويل :
أوَّلَ مَنْ كفر به ، وقيل : لأنه في معنى : لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ
، كقولِك : كساناً حُلَّةً أي : كلَّ واحدٍ منا ، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا
يُراد : ولا تكونوا أولَ كافرٍ بل آخرَ كافر . ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها
مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ « أول » زائداً ، قال : تقديرُه ولا تكونوا
كافرين به ، وهذا ليس بشيء ، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه
: ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ
للابتداءِ به ، وهو نظيرُ قولِه :
408 مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ ... الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ
لا يريد أن فيهم فُحْشاً آجِلاً ، بل يريد لا فُحْشَ عندهم لا عاجلاً ولا آجِلاً .
والهاءُ في « به » تعودُ على « ما أَنْزَلْتُ » وهو الظاهرُ ، وقيل : على « ما
معكم » وقيل : على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه
، وقيل : على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإِحسانِ .
قوله : { بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } متعلِّقٌ بالاشتراءِ قبلَه ، وضُمِّنَ
الاشتراءُ معنى الاستبدالِ ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ ، وكان القياسُ دخولَها
على ما هو ثَمَنٌ لأنَّ الثمنَ في البيعِ حقيقتُه أن يَشْتَرَى به لا أَنْ
يَشْتَري لكنْ لَمَّا دَخَلَ الكلامَ معنى الاستبدالِ جازَ ذلك ، لأنَّ معنى
الاستبدالِ أن يكونَ المنصوبُ فيه حاصلاً والمجرورُ بالباءِ زائلاً . وقد ظَنَّ
بعضُهم أنَّ « بَدَّلْتُ الدرهمَ بالدينار » وكذا « أَبْدَلْتُ » أيضاً أنَّ
الدينارَ هو الحاصلُ والدرهمَ هو الزائلُ ، وهو وَهْمٌ ، ومِنْ مجيءِ اشترى بمعنى
استبدل قوله :
409 كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا ... وقول الآخر :
410 فإنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم ... فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ
بالجَهْلِ
وقال المهدوي : « دخولُ الباءِ على الآياتِ كدخولِها على الثَّمن ، وكذلك كلُّ ما
لا عَيْنَ فيه ، وإذا كان في الكلامِ دراهمُ أو دنانيرُ دخَلَتِ الباءُ على الثمنِ
قاله الفراء » انتهى .
يعني
أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن
ثمناً ومثمَّناً ، لكن يَخْتَلِفُ [ ذلك ] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن ، فَمَنْ
نَسَب الشراءَ إلى نفسِه أَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما
حَصَل له ، فتقولُ : اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ
دراهمُ أو دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ ، نحو : اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ ، ولا
تقول : اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ . وقدَّر بعضُهم [ مضافاً ] فقال : بتعليمِ آياتي
لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، لأنَّ معناه
الاستبدال كما تقدَّم .
و « ثَمناً » مفعولٌ به ، و « قليلاً » صفتُه . و { وَإِيَّايَ فاتقون } كقوله {
وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] . وقال هنا : [ فاتقون ، وهناك فارهبون
لأنَّ تَرْكَ المأمورِ به هناك معصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ
بالعَهْدِ ، وهنا ] تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً
كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً ،
وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه ، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ
الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه .
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } : الباءُ : [ هنا ] معناها الإِلصاقُ
، كقولِك : خَلَطْتُ الماءَ باللبن ، أَي : لاَ تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا
يتميَّزَ . وقال الزمخشري : « إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء
وخَلَطْتُه به كان المعنى : ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ
المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم . وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك :
كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى : ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه »
فأجازَ فيها وجهين كما ترى ، ولا يريدُ بقوله : « صلة » أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها
مُوصِلَةٌ للفعلِ ، كما تقدَّم . قال الشيخ : « وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ
بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من
وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن؟ .
قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } فيه وجهان ، أحدُهما وهو الأظهرُ : أنَّه مجزومٌ
بالعطفِ على الفعلِ قبلَه ، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي : لا تفعلوا لا هذا
ولا هذا . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ » أَنْ « في جوابِ النهي بعد الواو التي
تقتضي المعيةَ ، أي : لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه ، ومنه :
411 لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ
و » أَنْ « مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي
قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه ، والتقديرُ : لا يكُنْ
منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه ، وكذا [ سائرُ ] نظائره . وقال الكوفيون : »
منصوب بواو الصرف « ، وقد تقدَّم معناه ، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن
كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه . وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع ، ولا
يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا
بدليل خارجي
واللَّبْسُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ، يُقال : لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه
خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله ، ومنه قولُ الخَنْساء :
412 ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه ... رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به
التبسا
صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ ... والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
وقال العجَّاج :
413 لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي ... غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي
ومنه أيضاً :
414 وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ ... حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا
وفي فلان مَلْبَسٌ أي : مُسْتَمْتَعٌ ، قال :
415- ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً ... وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ
ومَلْبَسَا
وقولُ الفَرَّار :
416 وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي
يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس ، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي
: لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ .
والباطلُ ضدُّ الحقِّ ، وهو الزائلُ ، كقولِ لبيد :
417 ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً . والبَطَلُ : الشجاعُ ، سُمِّي
بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه . وقيل : لأنه يُبْطِلَ دمَه ، فهو فَعَل بمعنى
مَفْعُولِ ، وقيل : لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ .
وقد
بَطُل [ بالضم ] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي : صارَ شجاعاً . قال النابغة :
418 لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ ... لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي
وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطالة بالكسر : إذا تَعَطَّل فهو بَطَّالٌ ، وذهب دَمُه
بُطْلاً بالضم أَي : هَدْراً .
قولُه : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على
الحال ، وعامُلها : إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا ، إلاَّ أنَّ عَمَل « تكتموا »
أَوْلَى لوجهين ، أحدُهما : أنه أقربُ . والثاني : أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ
به أَبْلَغُ ذمَّاً ، وفيه نوعُ مقابلةٍ . ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ
الإِعمال ، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال ، لأنه لا يكونُ إلا
نكرةً ، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي . فإنْ قيل : تكونُ المسألةُ من باب
الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ
، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ : ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ
وأنتم تعلمون ، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون . فالجوابُ أنَّ هذا لا
يُقال فيه إعمالٌ ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ
. وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال : « ويُحْتمل أن تكونَ
شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام ، ولم يَشْهَدْ لهم
بالعلمِ [ على الإِطلاق ] ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال » وفيما
قاله نظرٌ .
وقُرئ شاذاً : « وَتَكْتُمونَ » بالرفع ، وخَرَّجوها على أنها حالٌ . وهذا غيرُ
صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ ، وما وَرَد من
ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم : « قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه » ، وقولِ
الآخر :
419 فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا
أي : وأنا أصُكُّ ، وأنا أَرْهُنهم ، وكذا : وأنتم تَكْتُمون ، إلاَّ أنه يَلْزَمُ
منه إشكالٌ آخرُ ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً ، والحالُ قََيْدٌ في
الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ ، وليسَ ذلك مُراداً ، إلا أَنْ يُقال :
إنَّها حالٌ لازمةٌ ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين ، فَجَعَله حالاً ، وفيه
الإِشكالُ المتقدِّم ، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ .
ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ ، كأنَّه تعالى نَعَى
عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق . ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ
المعنى : وأنتم مِنْ ذوي العلمِ . وقيلَ : حُذِفَ للعلمِ به ، والتقديرُ :
تَعْلَمُون الحقَّ من الباطِلِ . وقَدَّره الزمخشري « وأنتم تَعْلَمُون في حالِ
عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون » ، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ
المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن ، وهذا حَسَنٌ جداً .
قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ
قبلَها ، عطفَ أمراً على نَهْي . وأصلُ أَقيموا : « أَقْوِمُوا » فَفُعِل به ما
فُعِلَ ب
{
يُقِيمُونَ } [ البقرة : 3 ] وقد تقدَّم ، وأصلُ آتُوا : اَأْتِيُوا بهمزتين مثل :
أَكْرِموا ، فَقُلِبَتْ الثانيةُ ألفاً لسكونِها بعدَ همزةٍ مفتوحةٍ ،
واسْتُثْقِلَتِ الضَّمةُ على الياءِ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان « الياءُ والواوُ ،
فحُذِفَتِ الياءُ لأنها أَوَّلُ ، وحُرِّكَتِ التاءُ بحركتِها . وقيل : بل ضُمَّت
تَبَعاً للواو ، كما ضُمَّ آخِرُ » اضْرِبُوا « ونحوِه ، ووزنه : أَفْعُوا بحذف
اللام .
وألفُ » الزكاة « من واو لقولهم : زَكَوات ، وزَكا يَزْكُو ، وهي النُمُوُّ ، وقيل
: الطهارةُ ، وقيل : أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه » زَكَّى القاضي الشهودَ « ،
والزَّكا : [ الزوجُ ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه . والخَسا : الفَرْدُ
: قال :
420 كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ ... لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ
تَعْتِلجُ
قوله : { مَعَ الراكعين } منصوبٌ باركَعوا . والركوعُ : الطمأنينةُ والانحناءُ ،
ومنه قوله :
421 أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ
راكِعُ
وقيل : الخضوعُ والذِّلَّة ، ومنه قولُ الشاعر :
422 ... لا تُهينَ الفقيرَ علَّكَ أَنْ تَرْ
كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ ...
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قولُه
تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو
للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم . و « أَمَرَ » يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ
بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَفُ ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله :
423 أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا
نَشَبِ
فالناسَ مفعولٌ أولُ ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان . والبِرُّ : سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة
والطاعة ، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما ، والفعلُ [ منه ] : بَرَّيَبَرُّ
على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم ، قال :
424 لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا ... يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا
[ أي : يُطيعونك ، والبِرُّ أيضاً : ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم ، ومنه قولُهم :
« لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ » أي : لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها ،
والبِرُّ أيضاً الفؤادُ ، قال :
425 أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه ... وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ
والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ ، ومنه : وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ ، أي :
يُعَظِّمُهما ، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه ] .
قوله : « وَتَنْسَوْن » داخلٌ في حَيِّز الإِنكار ، وأصلُ تَنْسَوْن : تَنْسَيُون
، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها ، وقد تقدَّم في { اشتروا } [ البقرة : 16 ] ،
فوزنُه تَفْعون ، والنِّسيانُ : ضدُّ الذِّكْر ، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ
العلمِ ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ ، ومنه : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [
التوبة : 67 ] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه ، قال :
426 ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ ... وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ
قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال ،
العاملُ فيها « تَنْسَوْن » . والتلاوةُ : التتابعُ ، ومنه تلاوة القرآنِ ، لأنَّ
القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ ، ومنه : { والقمر إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس
: 2 ] ، وأَصل تَتْلُون : تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى
فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ فوزنُه : تَفْعُون .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً ، وهي في نيَّةِ التأخير
عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو : { أَوَلاَ
يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ،
والنيَّةُ بها التأخيرُ ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول : ما
قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ . وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها
غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ
عليه ما بعده ، فيقدِّر هنا : أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون ، وكذا : { أَفَلَمْ
يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أَعَمُوا فلم يَرَوْا ، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق
الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها . ومفعولُ « تَعْقِلون » غيرُ مرادٍ ،
لأنَّ المعنى : أفلا يكونُ منكم [ عَقْلٌ ] . وقيل : تقديرهُ : أفلا تَعْقِلون
قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك .
والعَقْلُ : الإِدراكُ المانعُ من الخطأ ، وأصلُه المَنْعُ : ومنه : العِقال ،
لأنه يَمْنَعُ البعيرَ ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني ،
والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى ، قال علقمة :
427 عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ ... كأنَّه من دم الأَجْوافِ
مَدْمُومُ
قال ابن فارس : « ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ »
ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها .
قوله
: { واستعينوا بالصبر } هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر ،
ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل . وأصلُ « استعينوا » اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما
فُعِل في { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه . «
وبالصبر » متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ ، والمستعانُ عليه محذوفٌ
ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها ، و « استعان » يتعدَّى بنفسِه نحو : {
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي :
ملتبسينَ بالصبر ، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ : استَعَنْتُ [ الله
واستعنْتُ بالله ] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب . والصبرُ : الحَبْسُ على المكروه ،
ومنه : « قُتِل فلانٌ صبراً » ، قال :
428 فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً ... فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ
قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } إنَّ واسمها وخبرُها ،
والضميرُ في « إنها » قيل : يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان ، لأنها أغلبُ منه
وأهمُّ ، وهو نظيرُ قولِه : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا
إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ ،
كذا قيل ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ العطف ب « أو » فيجبُ الإِفرادُ ، لكنَّ المرادَ أنه
ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ . وقيل : يعودُ على
الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو : { هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وقيل :
على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ ، وقيل : هو عائدٌ على الصبرِ
والصلاةِ ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ ، وهذا ليسَ بشيء . وقيل : حُذِفَ من الأولِ
لدلالةِ الثاني عليه ، وتقديرُه : وإنه لكبيرٌ ، نحو قوله :
429 إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ ... وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً
قوله : { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } استثناءٌ مفرَّعٌ ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ
مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ ، أي : لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء ،
ف « على الخاشعين » متعلَّقٌ ب « كبيرة » نحو : « كَبُر عليَّ هذا » أي : عَظُم
وشَقَّ . والخشوعُ : الخُضوع ، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة ، ومنه « الخُشْعَةُ »
للرَّمْلَةِ المتطامنةِ ، وفي الحديث : « كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ
بعدُ » أي : كانت الأرضُ لينةً ، وقال النابغة :
430 رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ
أَثْلَمُ خاشِعُ
أي : عليه أثرُ الذلَّ ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع ، فقال : الخُضُوع في
البدنِ خاصةً ، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه .
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
قوله
تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } : « الذين » يَحتملُ
موضعُه الحركاتِ الثلاثَ ، فالجرُّ على أنه تابعٌ لِما قَبْلَه نعتاً ، وهو
الظاهرُ ، والرفعُ والنصبُ على القَطْع ، وقد تقدَّم معناه . وأصلُ الظنِّ :
رُجْحانُ أحدِ الطرفينِ وأمَّا هذه الآيةُ ففيها قولانِ ، أحدُهما وعليه الأكثرُ
أنَّ الظنَّ ههنا بمعنى اليقين ومثلُه : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ
حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] ، وقوله :
431 فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
وقال أبو دُؤاد :
432 رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ ... وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ
فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً ، كما استُعْمِل العِلْمُ استعمالَ
الظنِّ كقولِه : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ]
ولكنَّ العربَ لا تَسْتَعْمِلُ الظنَّ استعمالَ اليقين إلا فيما لم يَخْرُجْ إلى
الحِسِّ والمشاهدةِ كالآيتين والبيت ، ولا تَجِدُهم يقولون في رجل مَرْئيٍّ حاضراً
: أظنُّ هذا إنساناً .
والقولُ الثاني : أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تأويلان ، أحدُهما ذَكَره
المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما : أن يُضْمَر في الكلام « بذنوبهم » فكأنهم
يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين . قال ابن عطية : « وهذا تعسُّفٌ » والثاني من
التأويلين : أنهم يظنُّون ملاقاةَ ثوابِ ربهم لأنهم ليسوا قاطِعين بالثوابِ دونَ
العقاب ، والتقديرُ : يَظُنُّون أنهم ملاقُو ثوابِ ربِّهم ، ولكن يُشْكِلُ على هذا
عَطْفُ { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه لا يَكْفي فيه الظنُّ ، هذا إذا
أَعَدْنا الضميرَ في « إليه » على الربِّ سبحانه وتعالى ، أمَّا إذا أَعَدْناه على
الثوابِ المقدَّر فيزولُ الإِشكالُ أو يُقالُ : إنه بالنسبةِ إلى الأول بمعنى
الظنِّ على بابه ، وبالنسبةِ إلى الثاني بمعنى اليقينِ ، ويكونُ قد جَمَعَ في
الكلمةِ الواحدةِ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وهي مسألةُ خلافٍ و « أن » وما في
حَيِّزها سادَّةٌ [ مَسَدَّ ] المفعولَيْنِ عندَ الجمهورِ ، ومسدَّ الأولِ ،
والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، وقد تقدَّم تحقيقُه .
و { مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه
مستقبلٌ ، وحُذِفَتِ النونُ للإِضافة ، والأصلُ : مُلاقونَ ربِّهم . والمفاعلةُ
هنا بمعنى الثلاثي نحو : عافاك الله ، قاله المهدوي : قال ابن عطية : وهذا ضعيفٌ ،
لأنَّ « لَقِيَ » يتضمَّن معنى « لاقى » . كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي
المشاركةَ بخلافِ غيرِها من : عاقَبْت وطارقت وعافاك . وقد تقدَّم أن في الكلام
حَذْفاً تقديرُه : ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه . قال ابن عطية : « ويَصِحُّ أن
تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها متواترُ الحديث
» ، فعلى هذا الذي قاله لا يُحْتاج إلى حَذْفِ مضاف . { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ } عَطْفٌ على « أَنَّهم » وما في حَيِّزها ، و « إليه » متعلق ب «
راجعون » ، والضميرُ : إمَّا للربِّ سبحانَه أو الثَّوابِ كما تقدَّم ، أو اللقاءِ
المفهوم من « مُلاقُو » .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
قوله
تعالى : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } : « أنَّ » وما في حَيِّزها في
محل نصبٍ لعَطْفِها على المنصوبِ في قوله : { اذكروا نِعْمَتِي } أي : اذكروا
نعمتيَ وتفضيلي إياكم ، والجارُّ متعلَِّقٌ به ، وهذا من الباب عَطْفِ الخاصِّ على
العامِّ لأن النعمةَ تَشْمَلُ التفضيلَ . والفضلُ : الزيادةُ في الخَيْر ،
واستعمالُه في الأصل التعدِّي ب « على » ، وقد يَتَعدَّى ب « عَنْ » : إمَّا على
التضمين وإمَّا على التجوُّزِ في الحذف ، كقوله :
433 لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عني ولا أَنْتَ دَيَّاني
فَتَخْزَوني
وقد يتعدَّى بنفسه ، كقوله :
434 وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على
الفَصيلِ
و ب « على » ، وفِعْلُه : فضَل يَفْضُل بالضم ، كقَتَلَ يقتُل . وأمَّا الذي معناه
الفَضْلة من الشيء وهي البقيَّة ففعلُه أيضاً كما تقدَّم ، ويقال فيه أيضاً : «
فَضِل » بالكسر يَفْضَل بالفتح كعَلِم يعلَم ، ومنهم مَنْ يكسِرُها في الماضي
ويَضُمُّها في المضارعِ وهو من التداخُلِ بين اللغتين .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
قوله
تعالى : { واتقوا يَوْماً } : « يوماً » مفعولٌ به ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي
: عذابَ يوم أو هولَ يوم ، وأُجيز أن يكونَ منصوباً على الظرف ، والمفعولُ محذوفٌ
تقديره : واتقوا العذابَ في يومٍ صفتُه كَيْتَ وكَيْتَ ، ومَنَع أبو البقاء كونَه
ظرفاً ، قال : « لأنَّ الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة » ، والجوابُ عَمَّا
قاله : أن الأمرَ بالحَذَرِ من الأسبابِ المؤدِّيةِ إلى العذابِ في يومِ القيامةِ
. وأصلُ اتَّقُوا : اوْتَقُوا ، ففُعِل به ما تقدَّم في { تَتَّقُونَ } [ البقرة :
22 ] .
قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } التنكيرُ في « نفسٌ » و « شيئاً »
معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء ، وكذلك في
« شفاعةٌ » و « عدلٌ » ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « يوماً » والعائدُ محذوفٌ
، والتقديرُ : لا تَجْزي فيه ، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ
يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها ، وهذا مذهبُ سيبويه . وقيل : بل حُذِفَ
بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار : « لا تَجْزيه » كقوله :
435 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً ... قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ
نوافِلُهْ
ويُعْزى للأخفش ، إلا أن المهدويَّ نَقَل أنَّ الوجهين المتقدمين جائزان عند
سيبويه والأخفش والزجاج . ويَدُلُّ على حَذْفِ عائدِ الموصوفِ إذا كان منصوباً
قولُه :
436 وما أَدْري : أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا
أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ التقديرُ : يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ
، فيصيرُ كقولهِ تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ } [ الانفطار : 19 ] ،
ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من « يوماً » الأولِ ، ثم حُذِف المضافُ ، وأُقيم
المضافُ إليه مُقامه كقوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وعلى هذا
لا يُحتاج إلى تقديرِ عائدٍ لأنَّ الظرف متى أُضيف في الجملةِ بعدَه لم يُؤْتَ له
فيها بضمير إلا في ضرورةٍ ، كقوله :
437 مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ... وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ
و { عَن نَّفْسٍ } متعلِّقٌ بتَجْزي ، فهو في محلِّ نَصْب به ، قال أبو البقاء : «
ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الحال » .
والجزاء : القضاءُ والمكافأةُ ، قال الشاعر :
438 يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى ... جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ
العُلَى
والإِجزاءُ : الإِغْناء والكِفاية ، أَجْزَأَني كذا : كفاني ، قال :
439 وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ ... لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ
قيل : وأَجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربان . وقيل : إنَّ الجزاء والإِجزاء بمعنى ، تقول
منه : جَزَيْتُه وأَجْزَيْته ، وقد قُرئ : « تُجْزِئُ » بضمِّ حرفِ المضارعة من
أَجْزَأ ، وَجَزَأْتُ بكذا أي : اجتزَأْتُ به ، قال الشاعر :
440 فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ ... وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ
أي : يَجْتَزِئ به .
قوله : « شيئاً » نصبٌ على المصدرِ ، أي : شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ ،
فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ « تَجْزِي »
بمعنى « تَقْضي » ، أي : لا تَقْضي [ نفسٌ ] من غيرِها شيئاً من الحقوقِ ، والأولُ
أظهَرُ .
قوله
: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلها فهي صفةٌ
أيضاً ل « يوماً » ، والعائدُ منها عليه محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : ولا يُقبل منها
فيه شفاعةٌ . و « شفاعةٌ » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه ، فلذلك رُفِعَتْ ، وقُرئ : «
يُقْبَل » بالتذكير والتأنيثِ ، فالتأنيثُ لِلَّفْظِ ، والتذكيرُ لأنه مؤنثٌ
مجازيٌّ ، وحَسَّنَهُ الفصلُ . وقُرئ : « ولا يَقْبل » مبنياً للفاعل وهو الله
تعالى . و « شفاعةً » نصباً مفعولاً به . و { لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } صفةٌ
أيضاً ، والكلامُ فيه واضحٌ . و « منها » متعلِّقٌ ب « يُقْبل » و « يُؤْخذ » ،
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ نصباً على الحال ، لأنه في الأصلِ صفةٌ لشفاعة وعدل ،
فلمَّا قُدِّم عليهما نُصِبَ على الحالِ ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، وهذا غيرُ
واضحٍ ، فإنَّ المعنى مُنْصَبٌّ على تعلُّقِهِ بالفعلِ ، والضميرُ في « منها »
يعودُ على « نفس » الثانيةِ ، لأنها أقربُ مذكور ، ويجوز أن يعودَ على الأولى
لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ويجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ الأول على الأولى وهي
النفسُ الجازية ، والثاني يعودُ على الثانية وهي المَجْزِيُّ عنها ، وهذا مناسِبٌ
.
والشفاعةُ مشتقةٌ من الشَّفْع ، وهو الزوجُ ، ومنه : الشُّفْعَةُ ، لأنها ضَمُّ
مِلْكٍ إلى غيره ، والشافعُ والمشفوعُ له ، لأنَّ كلاًّ منهما يُزَوِّجُ نفسَه
بالآخر ، وناقةٌ شَفُوع : تَجْمَع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبةٍ واحدةٍ ، وناقةٌ
شافِع إذا اجتمع لها حَمْلٌ وولدٌ يَتْبَعُها ، والعَدْل بالفتح الفِداء ، وبالكسر
المِثْل ، يقال : عَدْل وعَدِيل . وقيل : « عَدْل » بالفتح المساوي للشيء قيمةً
وقَدْراً ، وإنْ لم يكنْ جنسه ، وبالكسر : المساوي له في جنسهِ وجِرْمه ، وحكى
الطبري أنَّ من العرب مَنْ يكسِر الذي بمعنى الفِداء ، والأولُ أشهرُ ، وأمّا
عِدْل واحد الأَعْدال فهو بالكسر لا غيرُ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، معطوفةٌ على ما قبلَها
وإنما أُتي هنا بالجملةِ مصدرةً بالمبتدأ مُخْبَراً عنه بالمضارعِ تنبيهاً على
المبالغةِ والتأكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة . والضميرُ في قوله « ولا هُمْ » يعود على
النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس ، وإنما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ
النفسُ مؤنثةً لأنَّ المراد بها العِبادُ والأناسيُّ . قال الزمخشري : « كما تقول
ثلاثةُ أنفسٍ » يعني : إذا قُصِد بها الذكورُ ، كقوله :
441 ثلاثةُ أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
ولكنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه ضرورةٌ ، فالأَوْلى أن يعودَ على الكفارِ الذين
اقتضَتْهُمُ الآيةُ كما قال ابنُ عطية .
والنَّصْرُ : العَوْنُ ، والأنصار : الأعوان ، ومنه : { مَنْ أنصاري إِلَى الله }
[ آل عمران : 52 ] والنصر أيضاً : الانتقامُ ، انتصر زيد أي : انتقم . والنَّصْرُ
أيضاً : الإِتيان نَصَرْتُ أرضَ بني فلان أتيتُها ، قال الشاعر :
442 إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي ... بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ
وهو أيضاً : العَطاءُ ، قال الراجز :
443 إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً ... لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْرا
ويتعَدَّى ب « على » ، قال : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] ،
وأمَّا قولُه : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] فيحتَمِل
التعدِّيَ ب « مِنْ » ويَحْتمل أن يكونَ من التضمين أي : نَصَرْناه بالانتقام له
منهم .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قوله
تعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } : « إذْ » في موضعِ نصبٍ
عطفاً على « نعمتي » ، وكذلك الظروفُ التي بعده نحو : « وإذا واعَدْنا » « وإذا
قُلتم » . وقُرئ : « أَنْجَيْتُكُم » على التوحيدِ ، وهذا خطابٌ للموجودين في زمن
الرسول عليه السلام ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : أَنْجَيْنا آباءكم ، نحو : {
حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] أو لأنَّ إنجاءَ الآباء سببٌ في
وجودِ الأبناءِ . وأصلُ الإِنجاءِ والنجاةِ الإِلقاءُ على نَجْوَةٍ من الأرضِ ،
وهي المُرتفعُ منها لِيَسْلَمَ من الآفات ، ثم أُطلِقَ الإِنجاء على كل فائزٍ وخارجٍ
من ضيق إلى سَعَة وإن لم يُلْقَ على نَجْوة .
و « من آلِ » متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . و « آل » اختُلِف فيه
على ثلاثةِ أقوال ، قال سيبويه وأتباعُه : إنَّ أصلَه أَهْلٌ ، فأُبْدِلَتِ الهاءُ
همزةً لقُربها منها ، كما قالوا : ماء وأصلُه : ماه ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ألفاً
، لسكونِها بعد همزةٍ مفتوحةٍ نحو : آمَنَ وآدَم ، ولذلك إذا صُغِّر رَجَعَ إلى
أصله فتقول : أُهَيْل . قال أبو البقاء : « وقال بعضُهم : أُوَيْل ، فأُبدلت
الألفُ واواً ، ولَم يَرُدَّه إلى أصله ، كما لَم يَرُدُّّوا » عُيَيَدْ « إلى أصله
في التصغير » . يعني فلم يقولوا « عُوَيد » لأنه من عاد يعود ، قالوا : لئلا
يلتبسَ بعُود الخَشَب . وفي هذا نظر ، لأنَّ النحْويين قالوا : مَنِ اعتقد كونَه
من « أهل » صَغَّره على أُهَيْل ، ومَنِ اعتقد كونَه من آل يَؤُولُ أي رَجَع
صغَّره على أُوَيْل . وذهب النحاس إلى أنَّ أصلَه « أَهْلَ » أيضاً ، إلا أنه
قَلَب الهاءَ ألفاً من غير أَنْ يَقْلِبَها أولاً همزة ، وتصغيرُه عنده على
أُهَيْل . وقال الكسائي : أُوَيْل ، قد تقدَّم ما فيه . ومنهم مَنْ قال : أصلُه
مشتقٌّ من آل يَؤُول ، أي : رَجَع ، لأن الإِنسان يَرْجِع إلى آله ، فتحرَّكَتِ
الواوُ وانفَتَح ما قبلَها فقُلِبَتْ ألفاً ، وتصغيرُه على أُوَيْل نحو : مال
ومُوَيل وباب وبُوَيْب ، ويُعْزى هذا للكسائي . وجمعه آلون وآلين وهو شاذٌّ
كأهلِين لأنه ليس بصفةٍ ولا عَلَمٍ . واختُلِف فيه : فقيل : « آلُ الرجل » قرابتُه
كأهلِه ، وقيل : مَنْ كان مِنْ شيعتِه ، وإن لم قريباً منه وقيل : مَنْ كان تابعاً
له وعلى دينِه وإنْ لم يكنْ قريباً منه ، قال :
444 فلاَ تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي
بَكْرِ
ولهذا قيل : [ إن ] آلَ النبي مَنْ آمَنَ به إلى آخرِ الدهرِ ، ومَنْ لم يُؤْمِنْ
به فليس بآلِه ، وإن كان نسبياً له ، كأبي لهب وأبي طالب . واختَلَفَ فيه النحاة :
هل يُضاف إلى المضمر أم لا؟ فذهبَ الكسائي وأبو بكر الزبيدي والنحاس إلى أنَّ ذلك
لا يجوزُ ، فلا يجوز : اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ ، بل : وعلى آلِ محمد ، وذهبَ
جماعةٌ منهم [ ابنُ ] السِّيد إلى جوازه ، واستدلَّ بقولِه عليه السلام ، لمَّا
سُئِل فقيل : يا رسولَ الله مَنْ آلُكَ؟ فقال :
«
آلي كلُّ تقيّ إلى يوم القيامة » وأنشدوا قولَ أبي طالب :
445 لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ ... نَعُ رَحْله فامنَعْ حَلالَكْ
وانصُرْ على آل الصَّلي ... ب وعابِديه اليومَ آلَكْ
وقول نُدْبة :
446 أنا الفارسُ الحامي حقيقةَ والدي ... وآلي كما تَحْمي حقيقةَ آلِكا
واختلفوا أيضاً فيه : هل يُضافُ إلى غيرِ العقلاءِ فيُقال : آلُ المدينةِ وآلُ
مكةَ؟ فمنعَه الجمهورُ ، وقال الأخفش : قد سَمِعْنَاه في البلدان قالوا : أهلُ
المدينةِ وآلُ المدينة ، ولا يُضاف إلاَّ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطَرٌ ، فلا يُقال
: آلُ الإِسكاف ولا آلُ الحَجَّام ، وهو من الأسماءِ اللازمة للإِضافة معنى لا
لفظاً ، وقد عَرَفْتَ ما اختصَّ به من الأحكامِ دونَ أصلِه الذي هو « أَهْل » .
هذا كلُّه في « آل » مراداً به الأهلُ ، أمَّا « آل » الذي هو السَّراب فليس
مِمَّا نَحْنُ فيه في شيء ، وجَمْعُه أَأْوال ، وتصغيرُه أُوَيْل ليس إلاَّ ، نحوُ
: مال وأَمْوال ومُوَيْل .
قوله : « فِرْعَون » خفضٌ بالإِضافةِ ، ولكنه لا يَنْصَرِفُ للعُجْمة والتعريف .
واختُلِفَ فيه : هل هو علمُ شخصٍ أو علمُ جنسٍ ، فإنه يُقال لكلِّ مَنْ مَلَك
القِبْطَ ومصرَ : فرعون ، مثلَ كِسْرى لَكَلِّ مَنْ مَلَك الفرس ، وقيصرُ لكلِّ
مَنْ مَلَك الروم ، والقَيْلُ لكلِّ مَنْ مَلَكَ حميرَ ، والنجاشي لكلِّ مَنْ
مَلَكَ الحبشةَ ، وَبَطْلَيْموس لكلِّ مَنْ مَلَكَ اليونان . قال الزمخشري : «
وفرعونُ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَك العمالقة كقيصر للروم ، ولعُتُوِّ الفراعِنَة
اشتقُّوا منه : تَفَرْعَنَ فلانٌ إذا عَتا وَتَجَبَّر ، وفي مُلْحِ بعضم .
447 قد جاءَهْ الموسى الكَلُومُ فَزَاد في ... أَقْصَى تَفَرْعُنِه وفَرْطِ
عُرَامِه
وقال المسعودي : » لا يُعْرَفُ لِفرْعَوْنَ تفسيرٌ بالعربيةِ « ، و [ ظاهر ] كلامِ
الجَوْهري أنَّه مشتقٌّ مِنْ معنى العُتُوِّ ، فإنه قال : » والعُتاة الفَرَاعِنة
، وقد تَفَرْعَنَ وهو ذو فَرْعَنةٍ أي : دهاءٍ ومكرٍ « . وفي الحديث : » أَخَذْنا
فِرْعونَ هذه الأمَّةِ « إلاَّ أنْ يريدَ معنى ما قاله الزمخشري المتقدم .
قولُه : » يَسُومونكم « سوءَ العذابِ » هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحالِ مِنْ
« آل » حالَ كونِهم سائِمين . ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً لمجردِ الإِخْبارِ بذلك ،
وتكون حكايةَ حالٍ ماضيةٍ ، قال بمعناه ابن عطية ، وليس بظاهر . وقيل : هي خبرٌ
لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هم يَسُومونكم ، ولا حاجةَ إليه أيضاً . و « كم » مفعولٌ
أولُ ، و « سوء » مفعولٌ ثانٍ ، لأنَّ « سام » يتعدَّى لاثنين كأعطى ومعناه :
أَوْلاهُ كذا وأَلْزمه إياه أو كلَّفه إياه ، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم :
448 إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفاً ... أَبَيْنا أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ
فِينا
قال الزمخشري : « وأصلُهُ مِنْ سَام السِّلْعَةَ إذا طَلَبها ، كأنه بمعنى
يَبْغُونكم سوءَ العذاب ويُريدُونَكم عليه » ، وقيل : أصلُ السَّوْمِ الدَّوامُ ،
ومنه : سائِمَةُ الغَنَم لمُداوَمَتِها الرَّعْيَ .
والمعنى
: يُديمونَ تعذيبكم ، وسوءُ العذابِ أشدُّهُ وأفظعهُ وإنْ كان كَلُّه سيئاً ، كأنه
أقبحُهُ بالإِضافة إلى سائرِه . والسوءُ : كلُّ ما يَعُمُّ الإِنسانَ من أمرٍ
دنيوي وأُخْرَوي ، وهو في الأصل مصدرٌ ، ويؤنَّثُ بالألفِ ، قال تعالى : {
أَسَاءُواْ السواءى } [ الروم : 10 ] . وأجاز بعضُهم أن يكونَ « سوء » نعتاً
لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديرُه : يَسُومونكم سَوْماً سيئاً كذا قدَّره ، وقال أيضاً : «
ويجوزُ أن يكونَ بمعنى سَوْم العذاب » ، كأنه يريد بذلك أنه منصوبٌ على نَوْعِ المصدرِ
، نحو : « قَعَدَ جلوساً » ، لأن سُوء العذابِ نوعٌ من السَّوْمِ .
قولُه تعالى : « يُذَبِّحُون » هذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً للجملة
قبلَها ، وتفسيرُها لها على وجهين : أحدُهما أن تكونَ مستأنفةً ، فلا محلَّ لها
حينئذٍ من الإِعرابِ ، كأنه قيل : كيف كان سَوْمُهم العذابَ؟ فقيل : يُذَبِّحُون .
والثاني : أنْ تكونَ بدلاً منها كقولِه :
449 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في ديارنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ
، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً ثانيةً ، لا على أنها بدلٌ من الأولى ، وذلك على رَأْي
مَنْ يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الحال . وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ محتجَّاً بأنَّ
الحَالَ تُشْبِهُ المفعولَ به ولا يَعملُ العاملُ في مفعولَيْن على هذا الوصفِ ،
وهذا بناءً منه على أحد القولين ، ويحتملُ أن يكونَ حالاً من فاعل « يَسُومونكم »
. وقُرئ : « يَذْبَحُون » بالتخفيف ، والأولى قراءةُ الجماعةِ لأنَّ الذبحَ
متكرِّر .
فإنْ قيل : لِمَ لَم يُؤْتَ هنا بواو العَطْفِ ، كما أُتِي بها في سورة إبراهيم؟
فالجوابُ أنه أُرِيدَ هنا التفسيرُ كما تقدَّم ، وفي سورة إبراهيم معناه :
يُعَذِّبونكم بالذَّبْح وبغيرِ الذبحِ . وقيل : يجوز أن تكونَ الواوُ زائدةً
فتكونَ كآيةِ البقرة ، واستدلَّ هذا القائلُ على زيادةِ الواوِ بقوله :
450 فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ الحِّي وانْتَحَى ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
وقوله :
إلى المَلِكِ القَرْم وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
والجوابُ الأول هو الأَصَحُّ .
والذَّبْحُ : أصلُه الشَّقُّ ، ومنه : « المَذابحُ » لأخاديدِ السيول في الأرض . و
« أبناء » جمع ابن ، رَجَع به إلى أصله ، فَرُدَّت لامُه ، إمَّا الواوُ أو الياءُ
حَسْبما تقدَّم . والأصلُ : « أَبْناو » أو « أبناي » ، فَأُبْدِل حرفُ العلةِ
همزةً لتطرُّفِه بعد ألفٍ زائدةٍ ، والمرادُ بهم الأطفالُ ، وقيل : الرجالُ ،
وعَبَّر عنهم بالأبناءِ اعتباراً بما كانوا .
قوله : { وَيَسْتَحْيُونَ } عطفٌ على ما قبله ، وأصلُه : يَسْتَحْيِيُون ،
فَأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ بعد حَذْفِ حركتها وقد تقدَّم بيانُه ، فوزتُه
يَسْتَفْعُون . والمراد بالنساءِ الأطفالُ ، وإنما عَبَّر عنه بالنساءِ لمآلِهِنَّ
إلى ذلك . وقيل : المرادُ غيرُ الأطفالِ ، كما قيل في الأبناء . ولامُ النساءِ
الظاهرُ أنَّها من واوٍ لظهورها في مرادِفِه وهو نِسْوَان ونِسْوَة ، ويُحْتمل أن
تكونَ ياءً اشتقاقاً من النِّسْيان ، وهل نساء جمعُ نِسوةٍ أو جمعُ امرأةٍ مِنْ
حيث المعنى؟ قولان .
قوله
: { وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و «
بلاءٌ » مبتدأ . ولامُه واوٌ لظهورِها في الفعلِ نحو : بَلَوْتُه ، أَبْلُوه ، {
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } [ البقرة : 155 ] ، فأُبْدِلَتْ همزةً . والبلاءُ يكون في
الخيرِ والشرِّ ، قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء
: 35 ] لأنَّ الابتلاءَ امتحانٌ فيمتحِنُ اللهُ عباده بالخيرِ ليشكُروا ، وبالشرِّ
ليصبِروا ، وقال ابن كَيْسان : « أبلاهُ وبَلاه في الخير » وأنشد :
452 جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم ... وأَبْلاهُمَا خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو
فَجَمَع بين اللغتين ، وقيل : الأكثرُ في الخيرِ أَبْلَيْتُه ، وفي الشرِّ
بَلَوْتُه ، وفي الاختبارِ ابتلَيْتُه وبَلَوْتُه ، قال النحاس : « فاسمُ الإِشارة
من قوله : » وفي ذلكم « يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى الإِنجاءِ » وهو خيرٌ مَحْبوب ،
ويجوز أن يكونَ إشارةً إلى الذَّبْحِ ، وهو شرٌّ مكروهٌ « . وقال الزمخشري : »
والبلاءُ : المِحْنَةُ إنْ أشير ب « ذلك » إلى صنيع فرعون ، والنعمةُ إن أُشير به
إلى الإِنجاء « ، وهو حسن . وقال ابن عطية : » ذلكم « إشارةٌ إلى جملةِ الأمر إذ
هو خيرٌ فهو كمفردٍ حاضر » كأنه يريدُ أنه أُشير به إلى مجموعِ الأمرين من
الإِنجاءِ والذبح ، ولهذا قال بعدَه : « ويكونُ البلاءُ في الخيرِ والشر » وهذا
غيرُ بعيدٍ ، ومثله :
453 إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
و { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلقٌ ب « بلاءٌ » ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ مجازاً .
وقال أبو البقاء : « هو رفعٌ صفةٌ ل » بلاء « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ » وفي هذا نظرٌ ،
من حيث إنه إذا اجتمع صفتان ، إحداهما صريحةٌ والأخرى مُؤَوَّلةٌ قُدِّمَتِ
الصريحةُ ، حتى إنَّ بعضَ الناسِ يَجْعلُ ما سِواه ضرورةً . و « عظيمٌ » صفة ل «
بلاء » وقد تقدَّم معناه مستوفىً في أول السورة .
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قوله
: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } . . « بكم » الظاهرُ أنَّ الباءَ على بابها
من كونِها داخلةً على الآلةِ فكأنه فَرَق بهم كما يُفْرَقُ بين الشيئين بما توسَّط
بينهما . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن تكون المُعَدِّيةَ كقولِك : ذهبتُ بزيدٍ ،
فيكونُ التقدير : أَفْرَقْناكم البحرَ ، ويكونُ بمعنى : { وَجَاوَزْنَا ببني
إِسْرَآئِيلَ البحر } [ الأعراف : 138 ] وهذا قريبٌ من الأولِ . ويحوزُ أن تكونَ
الباءُ للسببيَّة أي : بسببكم ، ويجوزُ أن تكونَ للحالِ من » البحر « أَيْ :
فَرَقْناه ملتبِساً بكم ، ونظَّره الزمخشري بقولِ الشاعر :
454 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدُوس بنا
الجماجِمَ والتَّريبا
أي : تدوسُها ونحن راكبوها . قال أبو البقاء : » أي : فَرَقْنا البحرَ وأنتم به ،
فتكونُ إمَّا حالاً مقدَّرةً أو مقارنةً « . قلت : وأيُّ حاجةٍ إلى جَعْلِه إياها
حالاً مقدَّرة وهو لم يكنْ مفروقاً إلا بهم حالَ كونِهم سالكينَ فيه؟ وقال أيضاً :
و » بكم « في موضعِ نصبٍ مفعولٌ ثانٍ لفَرَقْنا ، و » البحرَ « مفعولٌ أولُ ،
والباءُ هنا في معنى اللام » وفيه نظرٌ؛ لأنه على تقديرِ تسليم كون الباءِ بمعنى
اللام فتكونُ لام العلَّةِ ، والمجرورُ بلام العلةِ لا يُقال إنَّه مفعولٌ ثانٍ ،
لو قلتَ : ضَرَبْتُ زيداً لأجلِك ، لا يقولُ النحوي : « ضَرَبَ » يتعدَّى لاثنين
إلى أحدهما بنفسه والآخر بحرفِ الجر .
والفَرْقُ والفَلْقُ واحدٌ ، وهو الفصلُ والتمييز ، ومنه { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ
} [ الإسراء : 106 ] [ أي : فَصَلْناه ] وميَّزناه بالبيانِ ، والقرآنُ فرقانٌ
لتمييزه بين الحقِّ والباطل وفَرْقُ الرأسِ لوضوحِه ، والبحرُ أصله : الشِّقُّ
الواسعُ ، ومنه : البَحِيرة لشَقِّ أذُنها . والخلافُ المتقدِّمُ في النهر في
كونِه حقيقةً في الماء أو في الأخدُودِ جارٍ هنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه . وهل
يُطْلَقُ على العَذْبِ بَحْرٌ ، أو هو مختصٌّ بالماءِ المِلْحِ؟ خلافٌ يأتي
تحقيقُه في موضِعِه . ويقال : أَبْحَرَ الماءُ أي : صار مِلْحاً قال نُصَيْب :
455 وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادني ... إلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ
العَذْبُ
والغَرَقُ : الرُّسوبُ في الماءِ ، وتُجُوِّزُ به عن المُداخَلَةِ في الشيء ،
فيقال : أَغْرَق فلانٌ في اللَّهْو ، ويقال : غَرِقَ فهو غَرِقٌ وغارِق ، وقال أبو
النجم :
456 مِنْ بَيْنِ مقتولٍ وطافٍ غارِقِ ... ويُطْلَقُ على القتلِ بأيِ نوعٍ كان ،
قال :
457 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ألا لَيْتَ
قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ
والأصلُ فيه أن القابِلَة كانَتْ تُغَرِّق المولودَ في دَمِ السلى عام القَحْطِ
ليموتَ ، ذكراً كان أو أنثى ، ثم جُعِل كلُّ قَتْل تغريقاً . ومنه قول ذي الرمة :
458 إذا غَرَّقْتَ أرباضُها ثِنْيَ بَكْرَةٍ ... بتَيْهاءَ لم تُصْبِحْ رَؤوماً
سَلُوبُها
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملةٌ من مبتدأ أو خبر في محلِّ نصبٍ على الحال
من « آل فرعون » والعاملُ « أَغْرقنا » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعولٍ «
أنْجَيْناكم » . والنظرُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ بالبصرِ لأنهم كانوا يُبْصِرُون
بعضَهم بعضاً لقُرْبِهم . وقيل : إنَّ آلَ فرعون طَفَوْا على الماء فنظروا إليهم ،
وأن يكونَ بالبصيرةِ والاعتبار . وقيل : المعنى وأنتم بحالِ مَنْ ينظرُ لو
نَظَرْتُم ، ولذلك لم يُذْكَرْ له مفعولٌ .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
قوله
تعالى : { وَاعَدْنَا } . قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً ، وقرأه
الباقون : « واعَدنْا » بألف . واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ ، ورجَّحها
بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر ، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد
والوعيد ، على هذا وجَدْنَا القرآن ، نحو : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ
} [ النور : 55 ] { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ } [ الفتح : 20 ] { وَعَدَكُمْ
وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله } [ الأنفال : 7 ] ،
وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً : « وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه
وَعْدٌ من اللهِ لموسى ، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ
بظاهر النص » ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها . وقال أبو حاتم
مُرَجِّحاً لها أيضاً : « قراءةُ العامَّة عندَنا : وَعَدْنا بغيرِ ألفٍ لأن
المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين » . وقد أجابَ الناس عن قول
أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ
قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه ، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما
كلَّفه ربُّه . وقال مكي : « المواعدة أصلُها من اثنين ، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو
: طارَقْتُ النَّعْلَ » ، فجعل القراءتين بمعنىً واحد ، والأولُ أحسنُ . ورجَّح
قوم « واعدنا » . وقال الكسائي : « وليس قولُ الله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ
} [ النور : 55 ] من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ
الموافاة ، وليس من الوَعْد في شيء ، وإنما هو من قولك : مَوْعِدُكَ يومُ كذا
وموضعُ كذا ، والفصيحُ في هذا » واعَدْنا « . وقال الزجاج : » واعَدْنا « بالألفِ
جَيِّدٌ ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة ، فمِنَ الله وَعْدٌ ، ومِنْ
موسى قَبولٌ واتِّباعٌ ، فجَرى مَجْرَى المواعدة » . وقال مكي أيضاً : «
والاختيارُ » واعَدْنا « بالألفِ ، لأن بمعنى وَعَدْنَا ، في أحدِ مَعْنَيَيْه ،
وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة » .
و « وعدَ » يتعدَّى لاثنين ، فموسى مفعولٌ أولُ ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ ، ولا بُدَّ
من حَذْفِ مضاف ، أي : تمامَ أربعين ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ
المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مجرى جَمْعِ المذكر السالم ، وهو في الأصلِ
مفرد اسمُ جمعٍ ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد ، ولذلك أَعْربه بعضُهم
بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه :
459 وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني ... وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ
بكسر النون ، و « ليلةً » نصبٌ على التمييز ، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى
تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيَّز بواحدٍ منصوبٍ .
وموسى اسمٌ أعجمي [ غيرُ منصرفٍ ] ، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ ، والأصل :
مُوشى بالشين لأنَّ « ماء » بلغتهم يقال له : « مُو » والشجر يقال له « شاء »
فعرَّبته العربُ فقالوا موسى ، قالوا : وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ .
واختلافُهم
في موسى : هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من أَوْسَيْتُ رأسَه إذا حلقتُه فهو مُوسى ،
كأعطيتُه فهو مُعْطَىً ، أو هو فُعْلَى مشتقٌّ من ماسَ يميس أي : يتبخترُ في
مِشْيَته ويتحرَّكُ ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين
، [ وهذا ] إنما هو [ في ] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق ، لأنها تتحرَّك
وتضطربُ عند الحَلْقِ بها ، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه
أعجميٌّ .
قوله : { ثُمَّ اتخذتم العجل } اتَّخذ يتعدَّى لإِثنينِ ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ
أي : ثم اتخذتم العجلَ إلهاً . وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل
وجَعَل نحو : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، وقال بعضُهم :
تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهِمَا كَسْباً ، فيتعدَّيان
لواحدٍ . واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل : هو افْتَعَلَ من الأخْذ والأصلُ : اأتخذ
الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد
أخرى ، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان ، فَوَقَعَت الياءُ قبلَ تاءِ الافتعالِ
فأُبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعال كاتَّسر مِن اليُسْر ، إلاَّ أنَّ
هذا قليلٌ في باب الهمز نحو : اتَّكل من الأكْل واتَّزَرَ من الإِزارِ . وقال أبو
علي : هو افْتَعَلَ من تَخِذَ يَتْخِذُ ، وأنشد :
460 وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ
المُطَرِّقِ
وقال تعالى : { لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] وهذا أسهلُ
القَوْلَيْن .
والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما ، وابن كثير وعاصم
في رواية حَفْصٍ بالإِظهار ، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو : اتَّخَذْتُ ،
والجمع نحو : اتَّخَذْتُم ، وأتى في هذه الجملة ب « ثُمَّ » دلالةً على أنَّ
الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ .
قوله : « مِنْ بعدِه » متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ،
والضميرُ يعودُ على موسى ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ ، أي : مِنْ بعدِ انطلاقِه أو
مُضِيِّهِ ، وقال ابنُ عطية : « يعودُ على موسى [ وقيل : على انطلاقِه للتكليمِ ،
وقيل : على الوَعْد ، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ ، فإنَّ قولَه : » وقيل يعودُ على
انطلاقِه « يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى ] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ
مُتَصَوَّرٍ .
قوله : » وأنتم ظالمون « جملةٌ حاليةٌ من فاعل » اتَّخَذْتُمْ « .
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
قوله
تعالى : [ { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } ] . . والعَفْوُ : المَحْوُ ، ومنه « عَفَا
اللهُ عنكم » أي : مَحَا ذنوبَكم ، والعافيةُ لأنها تَمْحُو السُّقْمَ ، وَعَفَتِ
الريحُ الأثرَ ، قال :
461 فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها ... لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ
وشَمَأْلِ
وقيل : عَفا كذا أي : كَثُر ، ومنه « وَأَعْفُوا اللِّحى » فيكونُ من الأضداد .
وقال ابنُ عطية : « العَفْوُ تغطيهُ الأثرِ وإذهابُ الحالِ الأول من الذَّنْب أو
غيره ولا يُسْتَعْمَلُ العَفْوُ بمعنى الصَّفْح إلا في الذَّنْبِ » . وهذا الذي
قاله [ قريبٌ ] من تفسير الغُفْرانِ ، لأنَّ الغَفْرَ التغطيةُ والسَّتْر ، ومنه :
المِغْفَرُ ، ولكِنْ قد فُرِّقَ بينهما بأنَّ العفوَ يجوزُ أن يكونَ بعد
العُقوبَةِ فيجتمِعُ معها ، وأمَّا الغُفْران فلا يكونُ مع عقوبةٍ . وقال الراغب :
« العَفْوَ : القَصْدُ لِتَناوُلِ الشيء ، يُقال : عَفَاه واعْتَفَاه أي قَصَده
مُتَناولاً ما عندَه ، وعَفَتِ الريحُ الترابَ قَصَدَتْها متناولةً آثارَها ،
وعَفَتِ الديارُ كأنها قَصَدَتْ نحو البِلَى ، وعَفَا النبتُ والشَّعْرُ قَصَدَ
تناولَ الزيادةِ ، وعَفَوْتُ عنك كأنه قَصَدَ إزالَة ذَنْبِه صارِفاً عنه ،
وأَعْفَيْتُ كذا أي تركْتُه يَعْفُو ويكثُر ومنه » وأَعْفُوا اللحى « فَجَعَلَ
القصدَ قَدْراً مشتركاً في العَفْو ، وهذا ينفي كونَه من الأضداد ، وهو كلامٌ
حَسَنٌ ، وقال الشاعرٍ :
462 …… . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا ردَّ
عافي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُهَا
معناه : أنَّ العافِيَ هنا ما يَبْقَى في القِدْرِ مِنَ المَرَقِ ونحوِه ، فإذا
أرادَ أحدٌ [ أَنْ ] يستعيرَ القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبَها بالعافي الذي فيها ،
فالعافي فاعل ، ومَنْ يستعيرُها مفعولٌ ، وهو من الإِسنادِ المجازي لأنَّ الرادَّ
في الحقيقة صاحبُ القِدْرِ بسببِ العافي .
وقوله : { تَشْكُرُونَ } في محلِّ رفعٍ خبرُ » لعلَّ « ، وقد تقدَّم تفسيرُ الشكر
عند ذكر الحَمْدِ . وقال الراغب : » وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وأظهارُها ، وقيل :
هو مَقْلُوبٌ عن الكَشْرِ أي الكَشْف وهو ضدُّ الكفر ، فإنه تَغْطِيَةُ
النِّعْمَةِ . وقيل : أصلُه من عَيْن شَكْرى أي ممتلئةٌ ، فهو على هذا الامتلاءُ
مِنْ ذِكر المُنْعَمِ عليه « . وشَكَر من الأفعالِ المتعدِّيَة بِنفسِها تارةً
وبحرفِ الجرِّ أخرى وليسَ أحدُهما أصلاً للآخَر على الصحيحِ ، فَمِنَ المتعدِّي
بنفسِه قولُ عمرو ابن لُحَيّ :
463 همُ جَمَعُوا بؤسى ونعمى عليكُمُ ... فَهَلاَّ شكرْتَ القومَ إذ لم تُقاتِلِ
ومن المتعدَّي بحرفِ الجرِّ قولُه تعالى : { واشكروا لِي } [ البقرة : 152 ]
وسيأتي [ هناك ] تحقيقُه .
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قوله
تعالى : { الكتاب والفرقان } . . مفعولٌ ثانٍ لآتينا ، وهل المرادُ بالكتاب
والفرقانِ شيءٌ واحدٌ وهو التوراةُ؟ كأنه قيل : الجامعُ بينَ كونِه كتاباً
مُنَزَّلاً وفرقاناً يَفْرُق بين الحقِّ والباطلِ ، نحو : رأيت الغيثَ والليثَ ،
وهو من باب قولِه :
464 إلى المَلِك القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
أو لأنه لمَّا اختَلَفَ اللفظُ جازَ ذلك كقوله :
465 فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله :
466 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى
مِنْ دَوْنِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقولهِ :
467 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
أَقْوَى وأَفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ
قال النحاس : « هذا إنما يجوزُ في الشِّعْر ، فالأحسنُ أن يُرادَ بالفرقان ما
علَّمه اللهُ موسى من الفَرْق بين الحق والباطل » . وقيل : الواوُ زائدة ، و « الفرقان
» نعتٌ للكتاب أو « الكتابُ » التوراةُ ، و « الفرقانُ » ما فُرِّقَ به بين
الكُفْر والإِيمانِ ، كالآياتِ من نحو العَصا واليد ، أو ما فُرِّقَ به بين
الحلالِ والحَرام من الشرائعِ .
والفُرْقُانُ في الأصلِ مصدرٌ مثلُ الغُفْران . وقد تقدَّمَ معناهُ في { فَرَقْنَا
بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] . وقيل : الفرقانُ هنا اسمُ للقرآنِ ، قالوا :
والتقديرُ : ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتابَ ومحمداً الفرقانَ . قال النحاس : « هذا
خطأٌ في الإِعرابِ والمعنى ، أمَّا الإِعرابُ فلأنَّ المعطوفَ على الشيءِ مثلُه ،
وهذا يخالِفُه ، وأمَّا المعنى فلقولِه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ
الفرقان } [ الأنبياء : 48 ] .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قوله
تعالى : { يَاقَوْمِ } . . اعلم أنَّ في المنادى المضافِ إلى ياء المتكلم ستَّ
لغاتٍ أفصحُها : حَذْفُها مُجْتَزَأً منها بالكسرةِ وهي لغةُ القرآن ، الثانية :
ثبوتُ الياءِ ساكنةً ، الثالثة : ثبوتُها مفتوحةً ، الرابعةُ : قَلْبُهَا ألفاً ،
الخامسةُ : حَذْفُ هذهِ الألفِ والاجتزاءُ عنها بالفتحةِ كقولِه :
468 ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي
أي : بقولي يا لَهْفا ، السادسة : بناءُ المضاف إليها على الضمِّ تشبيهاً بالمفرد
، نحو قراءةِ مَنْ قَرَأ : { قَالَ رَبُّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] . قال
بعضُهم : « لأنَّ » يا قوم « في تقدير : يا أيُّهَا القومُ » وهذا ليس بشيءٍ .
والقومُ : اسمُ جمعٍ ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين ، وليس له واحدٌ من
لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ ، ومفردُه رَجُل ، واشتقاقُه من قام
بالأمرِ يَقُوم به ، قال تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } [ النساء :
34 ] ، والأصلُ في إطلاقِه على الرجال ، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ : { لاَ
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ . . . وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ } [ الحجرات : 11
] وفي قولِ زهير :
469 وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ
وأما قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] و { كَذَّبَتْ
قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] ، والمكذِّبون رجالٌ ونساء فإنما ذلك من باب
التغليب ، ولا يجوزُ أن يُطْلَقَ على النساءِ وَحْدَهُنَّ البتةَ ، وإن كانَتْ
عبارةُ بعضِهم تُوهِمُ [ ذلك ] .
قوله : { باتخاذكم العجل } الباءُ للسببيةِ ، متعلِّقَةٌ ب « ظَلَلْتُم » وقد
تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ : هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ . و « العجل » مفعولٌ
أولُ والثاني محذوفٌ أي : إلهاً كما تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو
أحسنُ الوجهينِ ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه
إلى الفاعل لأنَّ رُتْبَته التقديمُ ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ
الفاعل . فأمَّا : { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ]
فسيأتي [ القول فيها مُشْبعاً ] إن شاء الله تعالى .
والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة . قال الراغب : « العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ
لِتَصوُّرِ عَجَلَتِها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً » . وقيل : إنما
سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه قبل مجيء موسى ، ويُرْوى عن عليّ ،
وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك ، والجمع عَجاجِيل وعُجُول
.
قوله : « إلى بارِئِكم » متعلِّقٌ ب « تُوبوا » والمشهورُ كَسْرُ الهمزة ، لأنها
حركةُ إعرابٍ ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ : الاختلاسُ ، وهو
الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة ، والسكونُ المَحْضُ ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من
النحويين ، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو ، قال سيبويه : « إنما اختلسَ
أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط » ، وقال المبردُ : « لا يجوزُ
التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر ، وقراءةُ أبي عمروٍ
لَحْنٌ » وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب ، فإنَّ السكونَ في حركاتِ
الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً ، ومنه قولُ امرئِ القيس :
470
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ
فسكَّن « أَشْرَبْ » ، وقال جرير :
471 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونهرُ
تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال أخر :
472 رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما ... وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ
يريد : هَنُك ، وتَعْرِفُكم ، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ ، وقد أنشد ابنُ
عطية وغيرُه رَدَّاً عليه :
473 قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا ... وقول الآخر :
474 إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ ... وقول الآخر :
475 إنما شِعْريَ شَهْدٌ ... قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ
ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء ، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب ،
وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل ، ولذلك اجْتُرِئَ عليها
بجميع أنواعِ التخفيفِ ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت ، وهذه القراءة
تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السيىء وَلاَ }
فإنه سَكَّن هَمزة « السيء » وَصْلاً ، والكلامُ عليهما واحد ، والذي حسَّنه هنا
أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً ، والراءُ حرفُ تكريرٍ ، فكأنه توالى ثلاثُ
كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو
وفي عَدَم الجرأة عليه :
476 وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل
القَنَاعِيْسِ
وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن
والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران :
160 ] ، و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، و { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [
الأنعام : 53 ] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء . ورُوِيَ [ عنه ] إبدالُ هذه
الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ ، وبعضُهم يُنْكِرُ
ذلك [ عنه ] ، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ . وروى ابنُ عطية عن الزهري «
بارِيِِكم » بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ ، قال : « ورُوِيَتْ عن نافع » ، قلت : من
حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا ، ولا يجوزُ
ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب :
477 كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً ... ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ
العَوالِيِّ بالدَّمِ
وقرأ قتادة : « فاقْتالوا » وقال : هي من الاستقالةِ ، قال ابن جني : « اقتال :
افْتَعَل ، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [ كاقتادوا ] أو ياءً كاقتاس ،
والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة » ، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ
الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده .
والبارئ هو الخالقُ ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم ، وقد فَرَّق بعضُهم بين
الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدِعُ المُحْدِثُ ، والخالِقُ هو
المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال . وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ
والتميُّزِ ، ومنه : بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأْتُ أيضاً
من الدَّيْن بَراءةً ، والبَرِيَّةُ الخَلْق ، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى
الوجودِ ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ ، وقيل : أصلُه من البَرَى وهو التراب ، وسيأتي
تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى .
قوله
: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال بعضُهم : « ذلكم » مفردٌ واقعٌ موقعَ « ذانكم »
المثنَّى ، لأنه قد تقدَّم اثنان : التوبة والقتلُ . قال أبو البقاء : « وهذا ليس
بشيءٍ ، لأنَّ قولَه : { فاقتلوا } تفسيرُ التوبةِ فهو واحدٌ » و « خَيْر » أفعلُ
تفضيلٍ وأصلُه : أًَخْيَرُ ، وإنما حُذِفَتْ همزتُه تخفيفاً ولا تَرْجِعُ هذه
الهمزةُ إلا في ضرورةٍ ، قال :
478 بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... ومثلُه شَرّ ، لا يجوز أَشَرّ ، إلا
في ندور ، وقد قُرىء : { مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ } [ القمر : 26 ] وإذا بُني من
هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم :
« ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ ، وما شَرَّه للمبطونِ » فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن
نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب ، و « خَيْر » أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على
فَيْعِل ولا يكونُ من هذا البابِ ، ومنه : « فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ » قال بعضهم
: « مُخَفَّف من خَيِّرات » . والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به ، أي : خيرٌ لكم
من عدم التوبة . ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتملها
[ هذا ] الكتابُ ، وإنما نأتي منها بما نضطرُّ إليه .
قولُه تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } في الكلامِ حَذْفٌ ، وهو « فَفَعَلْتُم ما
أُمِرْتُمْ به من القتلِ فتابَ عليكم . والفاءُ الأولى في قوله : » فتوبوا «
للسببية ، لأن الظلمَ سَببُ التوبةِ ، والثانيةُ للتعقيبِ ، لأنَّ المعنى :
فاعْزِموا على التوبة ، فاقتلوا أنفسَكم ، والثالثةُ متعلقةٌ بمحذوفٍِ ، ولا يخلو
: إمَّا أن ينتظمَ في قول موسى لهم فيتعلَّقَ بشرطٍ محذوفٍ كأنه : وإنْ فَعَلْتُم
فقد تابَ عليكم ، وإمَّا أَنْ يكونَ خطاباً من الله لهم على طريقةِ الالتفاتِ ،
فيكونُ التقديرُ : فَفَعَلْتُم ما أَمركم به موسى فتابَ عليكُم ، قاله الزمخشري .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
قولُه
تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } : إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين
: إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ : لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ
مَعنى الإِقرارِ ، أي : [ لَنْ ] نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه ، وقرأ أبو عمرو
بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما .
قولُه تعالى : « جَهْرَةً » فيه قولان : أحدُهما : أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان
، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ ، وهو من لفظِها ، تقديرُه : جَهَرْتُمْ جَهْرةً
نقله أبو البقاء ، والثاني : أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْتَصِبُ انتصابَ
القُرْفُصاء من قولك : « قَعَدَ القُرْفُصاء » ، « واشتمل الصَمَّاء » ، فإنها
نوعٌ من الرؤيةِ ، وبه بدأ الزمخشري . والثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ،
وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُهما : أنه حالٌ من فاعل « نرى » أي : ذوي
جَهْرَةٍ ، قاله الزمخشري . والثاني : أنَّها حالٌ من فاعل « قُلْتم » ، أي : قلتم
ذلك مجاهِرين ، قاله أبو البقاء ، وقال بعضُهم : فيكونُ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ
، أي : قُلْتم جهرةً لن نؤمِنَ لك ، ومثلُ هذا لا يُقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، بل
أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه ، فهو نظيرُ : « ضَرَبْتُ هنداً قائماً
» . والثالثُ : أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى ، أي : نَرَاه ظاهراً غيرَ
مستورٍ . والرابعُ : أنَّها حالٌ من فاعلِ « نؤمن » نقله ابنُ عطية ، ولا معنى له
، والصحيحُ من هذه الأقوالِ الستةِ الثاني .
وقرأ ابنُ عباس « جَهَرَةً » بفتح الهاء وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لغةٌ في
جَهْرة ، قال ابن عطية : « وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ
ساكنٌ قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه » ،
وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك . والثاني : أنها جمعُ « جاهر » ، نحو : خادِم
وخَدَم والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تُؤَيِّدُ كونَ « جهرةً »
حالاً من فاعل « نَرى » .
والجَهْرُ : ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي :
أظهرَها : قال الزمخشري : « كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ ، والذي يَرَى
بالقلبِ مُخافِتٌ بها » .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
قوله
تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } : تقديرُه : وجَعَلْنا الغَمَامَ
يُظَلِّلُكُمْ ، قال أبو البقاء : « ولا يكونُ كقولِك : » ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ
« لأن ذلك يقتضي أن يكونَ الغمامُ مستوراً بظِلٍّ آخَرَ » وقيل : التقديرُ :
بالغَمامِ ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ لا ينقاسُ .
والغَمامُ : السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء ، أي يستُرُها ، وكلُّ مستورٍ
مغموم أي مُغَطَّى ، وقيل : الغمامُ : السحابُ الأبيضُ خاصةً ، ومثلُه الغَيْمُ
والغَيْن بالميم والنونِ ، وفي الحديثِ « إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي » ، وواحدتُه
غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ .
والمَنُّ قيل : هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنْجِيِِن بالتاء والطاء ، وقيل : هو
مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ ، وكذلك
قِيل في السَّلْوى ، إنها مصدرٌ أيضاً ، أي : إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ ، نقلَه
الراغبُ ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به ، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ
حرفَ علَّة ، فيقالُ : « مَنا » مثلَ عَصا ، وتثنيتُه مَنَوان ، وجمعُه أمْناء .
والسَّلْوى المشهورُ أنها السمانى بتخفيفِ الميمِ ، طائرٌ معروف . والمَنُّ لا
واحدَ له من لفظِه ، والسَّلْوى مفردُها سَلْواة ، وأنشدوا :
479- وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ ... كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ
القَطْرِ
فيكونُ عندَهم من باب : قمح وقمحة ، وقيل : « سَلْوى » مفردٌ وجمعُها سَلاوى ،
قاله الكسائي ، وقيل : سَلْوى يُستعمل للواحدِ والجمعِ ، كدَقَلى وشُكاعى وقيل :
السَّلْوى : العَسَلُ ، قال الهذلي :
480 وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ... أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها
وغَلَّطه ابنُ عطية ، وادَّعَى الإِجماعَ على أن السَّلْوى طائر ، وهذا غيرُ
مُرْضٍ من القاضي أبي محمد ، فإن أئمةَ اللغةِ نقلوا أن السلوى العَسَلُ ، ولم
يُغْلِّطوا هذا الشاعرَ ، بل يستشهدونَ بقولِه .
قوله : « كُلُوا » هذا على إضمار القَوْلِ ، أي : وقُلْنَا لهم : كُلوا : وإضمارُ
القولِ كثيرٌ في لسانِهم ، ومنه : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن
كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي : يقولونَ سلامٌ ، «
والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم إلا » أي : يقولون ذلك ، « وأمَّا
الذين اسْوَدَّتْ وجوهُهم أَكَفَرْتم أي : فيُقال لهم ذلك وقد تقدَّم القولُ في »
كل « وتصريفِه .
قوله : { مِن طَيِّبَاتِ } » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ ، وقال أبو
البقاء : » أو لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي : كُلوا شيئاً من طيبات « وهذا
غيرُ مُرْضٍ ، لأنه كيف يُبَيَّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ؟
قوله : { مَا رَزَقْنَاكُمْ } يجوزُ في » ما « أن تكونَ بمعنى الذي ، وما بعدها
صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً . فالجملةُ
لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّها الجرُّ على الثاني ، والكلامُ في العائدِ كما
تقدَّم ، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها ، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما
عُرِفَ قبلَ ذلك ، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ ، أي : مِنْ طيباتِ
مَرْزُوقِنا .
قوله تعالى : { أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } » أنفسَهم « مفعولٌ مقدَّمٌ ، و »
يَظْلِمُون « في محلِّ النصْبِ لكونِه خبرَ » كانوا « ، وقُدِّم المفعولُ إيذاناً
باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم . والاستدراكُ في » لكنْ « واضحٌ . ولا
بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله { وَمَا ظَلَمُونَا } ، فقدَّره ابنُ عطية :
فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ بالشكر . وقال الزمخشري : » تقديرُه : فَطَلمُونا
بأَنْ كفروا هذه النِّعَمَ وما ظلمونا ، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ { وَمَا
ظَلَمُونَا } عليه .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
قوله
تعالى : { هذه القرية } : هذه : منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على
المفعولِ به ، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا ب
« في » تقول : صَلَّيْتُ في البيتِ ، ولا تقولُ : صَلَّيْتُ البيتَ؛ إلا ما
اسْتُثْني . ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي « دَخَلَ » مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ ، نحو :
دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ ، وهذا مذهبُ سيبويهِ . وقال الأخفشُ : « الواقعُ بعد »
دَخَلْتُ « مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك : » هَدَمْتُ البيتَ « فلو
جاء » دَخَلَ « مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [ بفي ، نحو : دَخَلْتُ في الأمر ، ولا
تقولُ : دَخَلْتُ الأمرَ ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ » دَخَلَ «
تَعَدَّى ] ب » في « إلا ما شَذَّ كقولِه :
481 جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه ... رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ
مَعْبَدِ
و » القريةَ « نعتٌ ل » هذه « ، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم ، والقريةُ مشتقةٌ من
قَرَيْتُ أي : جَمَعْتُ : تقولُ : قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ ، أي : جَمَعْتُه ،
واسمُ ذلك الماء : قِرَىً بكسر القاف . والمِقْراةُ : الجَفْنَةُ العظيمةُ ،
وجمعُها مَقارٍ ، قال :
482 عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقَرْيان : اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي
يَجْتمع فيه القومُ ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً ، وقوله تعالى : » واسألِ القريةَ
« يَحْتَمِلُ الوَجْهين . وقال الراغبُ : » إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً ،
ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما « .
قولُه تعالى : { الباب سُجَّداً } » سُجَّدا « حالٌ من فاعلِ » ادْخُلوا « ، وهو
جمع ساجدِ . قال أبو البقاء : » وهو أَبْلَغُ من السجود « يعني أنَّ جَمْعَه على
فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول ، وفيه نَظَرٌ . وأصلُ »
باب « : بَوَب لقولهم أَبْواب ، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ ، قال
الشاعر :
483 هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ ... يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ
والِّلْينا
قوله : حِطَّة » قُرِئ بالرفع والنصب ، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي :
مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة ، قال الزمخشري : والأصلُ النصبُ ، بمعنى حُطَّ
عنا ذنوبَنا حِطَّةً ، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [ معنى ] الثباتِ ، كقوله :
484 شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
والأصلُ : صَبْراً عليَّ ، اصبرْ صبراً « ، فَجَعَلَه من بابِ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم
} [ الرعد : 24 ] ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقال ابنُ عطية : »
وقيل : أُمِروا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ « يعني على الحكايةِ ، فعلى هذا
تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول ، وإنما مَنَعَ
النصبَ حركةُ الحكايةِ . وقال أيضاً : » وقال عكرمة : أُمِروا أن يقولوا لا إله
إلا اللهُ ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم « وحكى قَوْلَيْن آخرين بمعناه ، ثم قال : »
فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به
لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ
فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو : قُلْ لزيد خيراً ، المعنى :
قل له ما هو من جنس الخُيور .
وقال
النحاس : « الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل ، قال أحمد بن يحيى :
» يقال : بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه ، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ
عينَه وشخصَه كقوله :
485 عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ... وقال تعالى : { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ
هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] ، ولحديث ابن مسعود « قالوا حِنْطة » تفسيرٌ
على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال : « فبدَّل » الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ
العَيْنِ ، وهذا المعنى يَقْتضي الرفعَ لا النصبَ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « حِطَّةً » بالنصب ، وفيها وجهان : أحدُهما : أنها مصدرٌ
نائبٌ عن الفعلِ ، نحو : ضَرْباً زيداً ، والثاني : أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي :
قولوا هذا اللفظَ بعينِه ، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ
بالفعلِ المقدِّرِ ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ ،
ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجهَ .
والحِطَّةُ : اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة ، وقيل : هي لفظةٌ
أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها ، وقيل : هي التوبةُ ، وأنشد :
486 فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ الل ... هُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا
قوله : « نَغْفِرْ » هو مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم الخلافُ : هل الجازمُ
نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ؟ أي : إنْ يقولوا نَغْفِرْ . وقُرئ « نَغْفِرْ »
بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه « وإذ قلنا » و « تُغْفَرْ » مبنياً للمفعول
بالتاءِ والياء . و « خَطاياكم » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه ، فالتاءُ لتأنيثِ
الخَطايا ، والياءُ لأن تأنيثَها غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ب « لكم » . وقُرئ «
يَغْفِرْ » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، وهي في معنى القراءةِ الأولى ، إلا
أنَّ فيه التفاتاً . و « لكم » متعلق ب « نَغْفِرْ » . وأدغم أبو عمرو الراءَ في
اللام ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها ، قالوا : لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى
من اللامِ ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ ، وليسَ
فيها ضَعْفٌ؛ لأنَّ انحرافَ اللامِ يقاوِمُ تكريرَ الراءِ . وقد طَوَّل أبو البقاء
وغيرُه في بيانِ ضَعْفِها وقد تقدَّم جوابُه .
قوله : « خَطَايَاكُمْ » : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه ، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم
من القراءاتِ ، وفيها أربعةُ أقوال ، أحدُها : وهو قولُ الخليل رحمه الله أن
أصلَها : خطايِئٌ ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ ، لأنها جمعُ خطيئة مثل : صحيفة
وصحايف ، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل
يُفْعَلُ بها كذا ، على ما تقرَّر في علمِ التصريف ، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع
همزتان [ بأنْ ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت : خَطائِي ،
فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ ثقيلٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ ، فَقَلبوا
الكسرةَ فتحةً ، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فصارتْ
: خطاءَا ، بهمزةٍ بين ألفين ، فاسْتُثْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ ، فكأنه
اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ ، فقلبوا الهمزةَ ياءً ، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ ،
فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى ، ففيها أربعةُ أعمالٍ ، قلبٌ ، وإبدالُ الكسرةِ
فتحةً ، وقلبُ الياءِ ألفاً ، وإبدالُ الهمزةِ ياءً ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو
مذهبُ الخليلِ .
الثاني
وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي
المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة ، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل
الجمعُ بين الهمزتين ، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه :
فعالِئ ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً ، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ ،
ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً ، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما
قالوا : يا لَهَفى ويا أسفى ، فصارت الهمزةُ بين ألفين ، فأُبْدل منها ياءٌ لأن
الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ . فعلى هذا فيها خمسةُ
تغييراتٍ : تقديمُ اللامِ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً
، ثم إبدالُها ألفاً ، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً . والقولُ الأولُ
أَوْلَى لقلةِ العملِ ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان .
الثالث : قولُ سيبويهِ ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم ، فَأَبْدَلَ
الياءَ الزائدةَ همزةً ، فاجتمع همزتان ، فَأَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً ،
ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم ، ووزنُها عنده فعائل ، مثل صحائِف ، وفيها على قوله
خمسةُ تغييراتٍ ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً ، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً ،
وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً ، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ
ياءً .
الرابع : قولُ الفرَّاء ، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما
هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا ، ورَكِيَّة ورَكايا ، قال الفراء : « ولو
جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا » ، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل
بَقَّوها على حالِها ، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ ، ولكنه لم يَقُله
العربُ ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز . وقال الكسائي : ولو جُمِعَت
مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل : دَوابّ . وقُرئ « يَغْفِرْ لكم
خطيئَاتكم » و « خطيئَتكم » بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم
يُسَمَّ فاعلُه ، و « خَطَأْيَاكم » بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ ، وبالعكسِ
. والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم .
والغَفْرُ : السِّتْرُ ، ومنه : المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس ، وغُفْرانُ الذنوب
لأنها تُغَطِّيها . وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو . والغِفار خِرْقَةٌ
تَسْتُر الخِمار [ أن ] يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ . والخطيئة من الخَطَأ ، وأصلُه
العُدولُ عن الجهةِ ، وهو أنواعٌ ، أحدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ إرادَته
فيفعلُه ، وهذا هو الخطأُ التامُّ يقال منه : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً وخَطْأَةً .
والثاني : أن يريدَ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه ، يُقال منه : أَخْطَأ
خَطَأً فهو مُخْطِئٌ ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً واتفق منه غيرُهُ
يُقال : أخْطَأَ ، وإن وقع كما أراد يُقال : أصاب ، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل
فِعْلاً لا يَحْسُنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ : إنه أَخْطأ ، ولهذا يقال أصابَ
الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ ، وسيأتي الفرقُ بينهما وبين
السيئة إنْ شاءَ اللهُ تعالى .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
قوله
تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } : لا
بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا
القولَ الذي قيل لهم ، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره ، فقيل : تقديرُه : فبدَّل
الذين ظلموا بالذي قيل لهم [ قولاً غيرَ الذي قِيل لهم ] ف « بَدَّلَ » يتعدَّى
لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخر بالباءِ ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو
الموجودُ كقولِ أبي النجم :
487 وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بالصَّيا والشَّمْأَلِ
فالمقطوعُ عنها الصَّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ ، قالَه أبو البقاء . وقال : « يجوز
أن يكونَ » بَدَّل مَحْمولاً على المعنى تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غيرَ
الذي قيلَ لهم ، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ « غير » عنده في هذين القولَيْن
على النعت ل « قولاً » وقيل : تقديرُه : فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي ،
فَحَذَفَ الحرفَ فانتصَبَ ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل : فغيَّروا قولاً
بغيره ، أي جاؤوا بقولٍ آخرَ مكانَ القولِ الذي أُمِروا به ، كما يُرْوى في القصة
أنَّهم قالوا بَدَلَ « حِطَّة » حِنْطة في شُعَيْرة .
والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ ، وقد يُقال التبديل
: التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ
، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن ، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة
العين ، إلا أنه قُرئ : { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [ القلم : 32 ] {
فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] بالوجهين ، وهذا
يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما ] ، والبديلُ ، والبدل بمعنى واحدٍ ،
وبَدَّله غيرُه . ويُقال : بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل
ونَكَل ، قال أبو عبيدة : « لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ » .
قوله : { مِّنَ السمآء } [ يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ متعلِّقاً
بأَنْزلنا ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، أيْ : من جهةِ السماء ، وهذا الوجهُ ]
هو الظاهرُ . والثاني أن يكونَ صفةً ل « رِجْزاً » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و « مِنْ »
أيضاً لابتداءِ الغايةِ . وقولُه : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } فأعادَهم بذِكْرِهم
أولاً ، ولم يَقُلْ « عليهم » تنبيهاً على أنَّ ظُلْمَهُم سببٌ في عقابِهم ، وهو
من إيقاعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المُضْمر لهذا الغرض . وإيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ
على ضَرْبَيْنِ : ضربٍ يقعُ بعد تمامِ الكلامِ كهذهِ الآيةِ ، وقول الخَنْساء :
488 تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً ... وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً
وغَمْزَا
أي : أصابَتْني نوائبُه جُمَعُ ، وضربٍ يقعُ في كلامٍ واحد نحو قوله : { الحاقة
مَا الحآقة } [ الحاقة : 1-2 ] وقوِل الآخر :
489 ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائِباً ... كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ
وقد جمع عديٌّ بنُ زيدٍ بين المعنيين فقال :
490 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا
وجاء في سورة الأعراف { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ] فجاء هنا
بلفظ الإِرسالِ ، وبالمضمرِ دونَ الظاهرِ ، وذلك أنه تعالى عَدَّد عليهم في هذه
السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها
أَبَلَغَ مِنْ ثَمَّ ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا ، ولفظُ
الإِنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإِرسالِ .
والرِّجْزُ
: العَذَابُ ، وفيه لغةٌ أخرى وهي ضَمُّ الراءِ ، وقُرِئ بهما وقيل : المضمومُ
اسمُ صَنَمٍ ، ومنه : { والرجز فاهجر } [ المدثر : 5 ] وذلك لأنَه سببُ العذابِ .
وقال الفراء : « الرِّجْزُ والرِّجْسُ بالزاي والسين بمعنَىً كالسُّدْغِ
والزُّدْغِ ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ : القَذَرُ وسيأتي بيانُه ، والرَّجَزُ داءٌ
يُصيبُ الإِبلِ فترتعشُ منه ، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر .
قوله : » بما كانوا يفسُقُون متعلِّق ب { أَنزَلْنَا } والباءُ للسببية و « ما »
يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وهو الظاهرُ أي : بسببِ فِسْقِهم ، وأن تكونَ موصولةً
اسميةً ، والعائدُ محذوفٌ على التدريجِ المذكور في غير موضعٍ ، والأصلُ
يَفْسُقُونَه ، ولا يَقْوى جَعْلُها نكرةً موصوفَةً ، وقال في سورة الإِعراف : {
يَظْلِمُونَ } [ الآية : 162 ] تنبيهاً [ على ] أنهم جامِعُون بين هذين الوصفينِ
القبيحين . وقد تقدَّم معنى الفِسْق . وقرأ ابن وثَّاب { يَفْسُقُونَ } بكسر السين
، وقد تقدَّم أنهما لغتان .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قوله
تعالى : { استسقى موسى لِقَوْمِهِ } السينُ للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي :
سَأَل لهم السُّقيا ، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السَّقْيِ ، وقد
تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفى في أولِ السورة . ويقال : سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه
بمعنى وأنشد :
491 سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل : سَقَيْتُه : أَعْطَيْتُه ، ما يَشْرَبُ ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له
يتناولُه كيف شاء ، والإِسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا ، وقيل : أَسْقَيْته
دَلَلْتُه على الماءِ ، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى عند قولِه : { نُّسْقِيكُمْ
مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] .
و « لقومِه » متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة ، أي : لأجلِ ، أو تكونُ للبيان
لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم « سُقْياً لك » فتتعلَّقُ
بمحذوفٍ كنظيرتِها « .
قوله : { اضرب بِّعَصَاكَ } الإِدغام [ هنا ] واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان في
كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ نحو : اضربْ بكرا . وألفُ »
عصاك « منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسب : عَصَوِيّ ، وفي التثنية عَصَوانِ ، قال
:
492 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على عَصَوَيْها
سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع : عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً ، وأَعْصٍ ، مثل :
زَمَن وأَزْمُن ، والأصل : عُصُوو ، وأَعْصُو ، فَأُعِلَّ . وعَصَوْتُه بالعَصا
وعَصَيْتُه بالسيفِ ، و » ألقى عصاه « يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ ، قال :
493 فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى ... كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ
المسافِرُ
وانشقَّت العصا بين القومِ أي : وقع الخلافُ ، قال الشاعر :
494 إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا ... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
قال الفراء : » أولُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي « يعني بالتاء ، و »
الحَجَرَ « مفعولٌ وأل فيه للعهدِ ، وقيل : للجنسِ .
قوله : { فانفجرت } » الفاءُ « عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه ، تقديرُه :
فَضَرَبَ فانفجَرَت ، وقال ابنُ عصفور : » [ إن ] هذه الفاءَ الموجودةَ هي
الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ ، والفاءُ الداخلةُ على « انفجَرتْ محذوفةٌ »
وكأنه يقولُ : حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَتِ الفاءُ
الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها . ولا حاجةَ تَدْعُو إلى ذلك ، بل يُقال : حُذِفَتْ
الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها . وجَعَلَها الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ ، قال : « أو
: فإن ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ ، قال : » وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في
كلامٍ بليغ « ، وكأنه يريدُ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ .
والانفجارُ : الانشقاقُ والتفتُّح ، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ ، وفي
الأعرافِ ، { فانبجست } [ الآية : 160 ] ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : الانبِجاس
أضيقُ ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً .
قوله : { اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل » انفجرت « ، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه
مَحْمولٌ على المثنَّى ، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه ، وكذلك
مذكَّرهُ » اثنان « ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى ، تقول :
رجلان وامرأتان ، ولا تقول : اثنا رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ ، إلا ما جاءَ نادراً فلا
يُقاسُ عليه : قال :
495
كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل
وثِنْتان مثل اثنتين ، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ
سائرِ أخواتهما ، قالوا : لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإِضافة
وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعْرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً
، وأمَّا « عَشْرة » فمبني لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ .
و « عَيْناً » تمييز .
وقُرئ : « عَشِرة » بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ ، قال النحاس : « وهذا عجيبٌ فإنَّ
لغةَ تميم عَشِرة بالكسر ، وسبيلُهم التخفيفُ ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون
وسبيلُهم التثقيلُ » . وقرأ الأعمش : عَشَرة بالفتح . والعينُ اسم مشتركٌ بين
عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ المِيزان ،
والعَيْنُ : المطر الدائم ستاً أو خمساً ، والعَيْنُ : الثُّقْب في المَزادَة ،
وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي : قليلُ الناس .
[ قوله : { كُلُّ أُنَاسٍ } قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس . وقال الزمخشري
في سورة الأعراف : إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير ، ثم قال : « ويجوز أن يكونَ الأصلُ
الكسرَ ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من
الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورة ] .
قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعولٌ ل » عَلِمَ « بمعنى عَرَف ، والمَشْرَبُ هنا
مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً
لا يَشْرَكُهُ فيها [ سِبْطُ ] غيرُه . وقيل : هو نفسُ المشروب . فيكون مصدراً
واقعاً موقعَ المفعولِ به .
قوله : { كُلُواْ واشربوا } هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ ،
تقديرُه : وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا ، وقد تقدَّم تصريفُ » كل « وما حُذِف
منه .
قولُه : { مِن رِّزْقِ الله } هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين
يَصِحُّ تسلُّطُه عليه ، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ ، والتقديرُ :
وكُلوا منه .
و » مِنْ « يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوزُ أن يكونَ
مفعولُ الأكلِ محذوفاً ، وكذلك مفعولُ الشُّرْب ، للدلالة عليهما ، والتقدير :
كُلوا المَنَّ والسَّلْوى ، لتقدُّمِهما في قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن
والسلوى } [ البقرة : 57 ] واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ ، وعلى هذا فالجارُّ
والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله ، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك
المفعولِ [ المحذوفِ ] ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . وقيل : المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه
، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ
يُؤْكل منه ويُشْرَبُ ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من
باب ذِبْح ورِعْي ، وأن يكونَ من باب » درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ « ، وقد تقدَّم بيانُ
ذلك .
قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } أصلُ » تَعْثَوا « :
تَعْثَيُوا ، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ
منهما وهو الياءُ ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً ،
فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى ،
فوزنُه تَفْعُون .
والعِثِيُّ
والعَيْثُ : أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان . وقال بعضُهم : « إلاَّ أنَّ العَيْثَ
أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً ، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً ، يقال :
عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ
عِثِيّاً ، وليس عاثَ مقلوباً من عثى كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ مَعنَيَيْهما كما
تقدَّم ، ويُحْتمل ذلك ، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ . ويُقال : عَثِيَ يعثى
عِثِيّاً ومَعَاثاً ، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ
ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان لثبوتِ العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك . وعَثَا
كما تقدَّم ، ويقال : عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فسد ، ومنه : العُثَّةُ سُوسةٌ
تُفْسِدُ الصوفَ ، وأمَّا » عَتَا « بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي
الكلامُ عليه .
و » مُفْسدين « حالٌ من فاعل » تَعْثَوْا « ، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنَّ معناها قد
فُهِم من عامِلها ، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا : ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً
، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم ، ولهذا قال الزمخشري : » فقيل
لهم : لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم ، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه ،
فغايَر بينهما كما ترى .
و { فِي الأرض } يَحْتمل أن يتعلَّق ب « تَعْثَوْا » وهو الظاهرُ ، وأن يَتَعلَّقَ
بمفسدين .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قوله
تعالى : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : ناصبٌ ومنصوبٌ ، والجملةُ في
محلَّ نصبٍ بالقولِ ، وقد تقدَّم الكلامُ على « لن » ، وقولُه « طعام واحد » وإنما
كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ
ولا يتبدَّل ، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما
من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف ، ونحن أهلُ زراعاتٍ ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه
من الأشياءِ المتفاوتةِ ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا
يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ ، وقيل : كَنَوْا بذلك عن الغِنَى ، فكأنهم قالوا : لن
نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك
كانوا ، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ .
والطعامُ : اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ ، ومنه { وَمَن لَّمْ
يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ
والتمر ، وفي حديث الصدقة : « أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير » ، والطَّعْمُ
بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ ، تقول
: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل
، قال أبو خراش :
496 أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه ... وأُوْثِرُ غيري من عيالِك
بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي ... إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه ، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ ،
قال عليه السلام : « إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه » أي : إذا استفتح
فافتحُوا عليه ، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً ، قال :
497 نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو ... دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما
قوله : { فادع } اللغةُ الفصيحةُ « ادعُ » بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو ، ولغة بني
عامر : فادْعِ بكسر العين ، قالَ أبو البقاء : « لالتقاءِ الساكنين ، يُجْرُون
المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ ، ولا يُراعونَ المحذوفَ » يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل
الأمرِ ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ ، فكُسِرت العينُ ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدةَ في
هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني ، فيجوزُ أن يكونَ [ مِنْ
لغتهم ] دَعَى يَدْعي مثل رَمى يَرْمي . والدعاءُ هنا السؤالُ ، ويكونُ بمعنى
التسمية كقوله :
498 دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم ، و « لنا » متعلِّق به ، واللام للعلَّة .
قوله « يُخْرِجْ » مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقال بعضُهم : « مجزومٌ بلام الأمرِ
مقدرةً ، أي : لِيُخْرِجْ ، وضَعَّفه الزجاج ، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ
الأمرِ إن شاء الله تعالى .
قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأرض } مفعولُ » يُخْرِجْ « محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه
: مأكولاً [ مِمَّا ] أو شيئاً مِمَّا تُنبت الأرضُ ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ
بالفعلِ قبلَه ، وتكونُ » مِنْ « لابتداءِ الغاية ، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ
المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي : مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و »
مِنْ « للتبعيضِ ، ومذهبُ الأخفش أنَّ » مِنْ « زائدةٌ في المفعول ، والتقديرُ :
يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً .
و
« ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ ، أي :
من الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته ، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ
المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإِنباتِ ، لأن الإِنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ ،
وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات .
قوله : { مِن بَقْلِهَا } يجوزُ فيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ بَدلاً من « ما »
بإعادةِ العامل ، و « مِنْ » معناها بيانُ الجنس ، والثاني : أن يكونَ في محلِّ
نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على « ما » أي : مما تُنْبته الأرضُ
في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و « مِنْ » أيضاً للبيان . والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ
من النَّجْم أي : مِمَّا لا ساقَ له ، وجمعُه : بُقول . والقِثَّاء معروف ،
الواحدُ : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقمحة ، وفيها لغتان : المشهورةُ كَسْرُ
القافِ ، وقُرئ بضمِّها ، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم : أَقْثَأَتِ الأرضُ أي
: كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّال ، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء
وعَلاَبي . قال بعضُهم : « إلاَّ أنَّ قِثَّاء من ذواتِ الواو ، تقول : أَقْثَأْتُ
القومَ ، : أي أطعمتهُم ذلك ، وفَثَأْتُ القِدْر سكَّنْتُ غَلَيَانَها بالماءِ ،
قال :
499 تفُورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمُها ... ونَفْثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا
وهذا من هذا [ القائل ] وَهْمٌ فاحش ، لأنه لمَّا جَعَلَها من ذوات الواو كيفَ
يَسْتَدِلُّ عليها بقولهم : » أَقْثَأْتُ القومَ « [ بالهمز ] ، بل كان ينبغي أن
يُقال : أَقْثَيْتُ والأصلُ : أَقْثَوْتُ ، لكنْ لمَّا وَقَعَتِ الواوُ في بناتِ
الأربعةِ قُلِبَتْ ياءً ، كأَغْزَيْتُ من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يُقالَ : »
فَثَوْتُ القِدْر « بالواو ، ولقال الشاعر : نَفْثَوُها بالواو ، والمَقْثَأَةُ
والمَقْثُؤَةُ بفتح التاءِ وضمِّها : مَوْضِعُ القِثَّاء . والفُوم : الثُّوم ،
والفاءُ تُبْدَلُ من الثاء ، قالوا : جَدَفٌ وجَدَثٌ ، وعاثُور وعافُور ، ومعاثِير
ومعافِير ، ولكنه [ على ] غيرِ قياس ، وقيل الحِنْطَة ، وأنشد ابن عباس :
500 قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً ... نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ
وقيل غيرُ ذلك .
قوله : » أَدْنى « فيه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها وهو الظاهرُ ، وهو قول أبي إسحاق
الزجاج أنَّ أصلَه : أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب ، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً
لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها ، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان : أحدُهما : أنه أقربُ
لقلةِ قيمته وخَساسته . والثاني : أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو
خيرٌ ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ ، والثاني قولُ علي بن
سليمان الخفش : أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة ، وهو
الشيء الخسيس ، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ كقوله :
501 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ زهير الفرقبي : » أَدْنَأُ « بالهمز .
الثالث
: أنَّ أصلَه أَدْوَنُ من الشيء الدُّوْن أي الرديء ، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ
العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ : أَدْنَوَ فأُعِلَّ كما تقدَّم ، ووزنُهُ أَفْلَع
، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ وأدْنَى خبرٌ عن « هو » والجملة صلةٌ وعائدٌ ، وكذلك
« هو خير » أيضاً صلةٌ وعائد .
قوله : « مِصْراً » قرأه الجمهورُ منوناً ، وهو خَطُّ المصحف ، فقيل : إنهم
أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف ، وقيل : أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما
صُرِف لخفَّته ، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد ، وأنشد :
502 لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فَجَمع بين الأمرين ، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان ، وقرأ الحسنُ وغيرُه : «
مصرَ » وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه
. وقال الزمخشري : « إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم ، فإن أصله مِصْرائيم ، فَعُرِّب
» ، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ
لانضمامِ العُجْمِة إليه ، فهو نظيرُ « ماه وجَوْر وحِمْص » ولذلك أجمعَ الجمهورُ
على منعِه في قولِه { ادخلوا مِصْرَ } [ يوسف : 99 ] . والمِصْرُ في أصل اللغةِ :
« الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين » وحُكِي عن أهلِ هَجَرَ أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ
دارٍ قالوا : اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها « أي : حدودِها ، وأنشد :
503 وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ ... بين النهارِ وبينَ الليلِ قد
فَصَلا
قوله { مَّا سَأَلْتُمْ } » ما « في محلِّ نصبٍ اسماً لإِنَّ ، والخبرُ في الجارِّ
قبله ، و » ما « بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي سألتموه . قال أبو البقاء
: » ويَضْعُفُ أن يكونُ نكرةًَ موصوفةً « يعني أنَّ الذي سألوه شيءٌ معينٌ فلا
يَحْسُنُ أن يُجابُوا بشيءٍ مُبْهَمٍ . وقُرئ : » سِلْتُم « مثل بِعْتُم ، وهي
مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف ، قالَ حسان رضي الله عنه :
504 سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم
تُصِبِ
وهل هذه الألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ أو واوٍ لقولهم : يتساوَلان ، أو عن همزةٍ؟ أقوالٌ
ثلاثةٌ سيأتي بيانُها إن شاء الله في سورة المعارج .
قولُه : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } » ضُرِبت « مبنيٌّ للمفعولِ ، »
الذِّلَّةُ « قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ ، ومعنى » ضُرِبَتْ « أي : أُلْزِموها وقُضِيَ
عليهم بها ، من ضَرْب القِباب ، قال الفرزدقُ لجرير :
505 ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها ... وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ
والذِّلَّةُ : الصِّغارُ ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر ، وبالكسر ما كانَ بعد
شِماس من غير قهر ، قاله الرغب . والمَسْكَنَةُ : مَفْعَلةٌ من السكون ، لأن
المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ ، لِما به من الفَقْر ، والمِسْكينُ مِفْعيل
منه إلا أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاق هذهِ الكلمةِ ، قالوا : تَمَسْكَنَ
يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من
النَّدْل والدَّرْع ، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها ، لأن الاشتقاق قَضَى عليها
بالزيادَةِ .
وقال
الراغب : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } فالميمُ في ذلك زائدةٌ في
أصحِّ القولين « وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ ، وأنه من
مَسَك » .
قوله : « وباؤُوا » ألفُ « باءَ بكذا » منقلبةٌ عن واو لقولهم : « باء يَبُوء »
مثل : قال يقول : ، قال عليه الصلاة والسلام « أبُوْءُ بنعمتِك عليّ » والمصدرُ
البَواء ، وباءَ معناه رَجَعَ ، وأنشد بعضهم :
506 فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا
وهذا وَهَمٌ ، لأنَّ هذا البيتَ من مادة آب يَؤُوب فمادتُه من همزةٍ وواو وباء ، و
« باء » مادتُه من باء وواو وهمزة ، وادِّعاءُ القلبِ فيه بعيدٌ [ أنه لم يُعْهَدْ
] تقدُّمُ العينِ واللام معاً على الفاء في مقلوبٍ وهذا من ذاك .
والبَواء : الرجوعُ بالقَوَدِ ، وهم في هذا الأمر بَواء أي : سَواء ، قال :
507 ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ
بالدَّمِ
أي : لا يرْجِعُ الدم بالدم في القَوَد ، وباءَ بكذا أَقَرَّ أيضاً ، ومنه الحديثُ
المتقدم ، أي أُقِرُّ بِها [ وأُلْزِمُها نفسي ] ، وقال :
508 أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الراغبُ : « أصلُ البَواءِ مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ خِلاَفَ النَّبْوَةِ
الذي هو منافاةُ الأجْزاء ، وقوله » وباؤُوا بغضبٍ « أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه
غضبٌ ، واستعمال » باء « تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ
فكيف بغيره من الأمكنَةِ ، وذلك نحو { فَبَشِّرْهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] . ثم
قال : » وقولُ مَنْ قَالَ « بُؤْتُ بحقِّها » أي أَقْرَرْتُ فليس تفسيرُه بحسب
مقتضى اللفظ ، وقولُهم : حَيّاك الله وبَيَّاك « أصلُه : بَوَّأَك وإنما غُيِّر
للمشاكَلَةِ ، قاله خلف الأحمر » .
قوله : بغضب « في موضعِ الحالِ من فاعِل » باؤوا « : أي : رَجَعوا مغضوباً عليهم ،
وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ . وقال الزمخشري : » هو من قولك : باء فلانٌ بفلان
إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته ، أي : صاروا
أحِقَّاءَ بغضبِه « وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال/ .
قوله » مِن الله « الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي
: بغضبٍ كائنٍ من اللهِ . و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وقيل : هو
متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي : رَجَعوا من الله بغضب ، وليس بقويٍّ .
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } » ذلك « مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من
ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب . و » بأنهم « الخبرُ . والباءُ
للسببية ، أي : ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم . وقال المهدوي : » الباءُ بمعنى اللام
أي : لأنهم « ولا حاجة إلى هذا ، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها . و
» يكفرون « في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ
خبراً لأنَّ ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء . والباءُ وما في
حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم .
قوله
« بآيات الله » متعلِّقٌ بيكفرون ، والباءُ للتعدية .
قوله « ويقتُلون » في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان ، وقرئ : « تَقْتُلون »
بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْبة ، و « يُقَتِّلونَ » بالتشديدِ
للتكثيرِ .
قوله : « الأنبياءَ » مفعولٌ به جمع نبيّ ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في
النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها ، ونافعٌ المدنيُّ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين
: في سورةِ الأحزابِ « للنبيِّ إن أراد » « [ لا تَدْخُلوا ] بيوتَ النبيِّ إلاَّ
» فإنَّ قالون حَكَى عنه في الوصلِ كالجماعةِ وسيأتي . فأمّا مَن هَمَز فإنه
جَعَله مشتقاً من النبأ وهو الخبر ، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل ، أي : مُنَبِّئٌ عن
الله برسالته ، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي : إنه مُنَبَّأ مِن الله
بأوامِره ونواهِيه ، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبَآء ، كظريف وظُرَفاء ،
قال العباس ابن مرداس :
509 يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ ... بالخيرِ ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا
فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ ، واستضعف بعضُ النحويين هذه
القراءةَ ، قال أبو علي : « قال سيبويه : » بلغنَا أنّ قوماً من أهل التحقيق
يحقِّقون نَبيَّاً وبَريَّة ، قال : وهو رديء « ، وإنما استردَأَه لأن الغالبَ
التخفيفُ » وقال أبو عبيد : « الجمهورُ الأعظمُ من القُرَّاء والعوام على إسقاط
الهمز من النبيّ والأنبياء ، وكذلك أكثرُ العرب مع حديث رويناه ، فذكر أنَّ رجلاً
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » يا نبيءَ الله « فهمز ، فقال : » لست
نبيءَ الله « فهمز ، » ولكن نبيُّ اللهِ « ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز ، قال : »
وقال لي أبو عبيدة : العربُ تُبْدِل الهمزَ في ثلاثةِ أحرف : النبي والبريَّة
والخابية وأصلهنَّ الهمزُ « ، قال أبو عبيدة : » ومنها حرف رابع : الذُّرِّيَّة من
ذرأ يذرأ ، ويدل على أن الأصلَ الهمزُ قولُ سيبويه : إنهم كلَّهم يقول : تنبَّأ
مسيلمة فيهمزون ، وبهذا لا ينبغي أن تُرَدَّ به قراءة هذا الإِمامِ الكبير . أمَّا
الحديثُ فقد ضَعَّفوه ، قال ابنُ عطية : « مِمَّا يُقَوِّيَ ضعفَه أنه لمَّا
أَنْشده العباس : » يا خاتم النُّبآء « لم يُنْكِرهْ ، ولا فرقَ بين الجمع والواحد
» ، ولكنَّ هذا الحديثَ قد ذكره الحاكم في المستدرك ، وقال : هو صحيحٌ على شرطِ
الشيخين ، ولم يُخْرجاه . قلت : فإذا كان ذلك كذلك فَلْيُلْتَمَسْ للحديثِ تخريجٌ
يكونُ جواباً عن قراءة نافع ، على أن القطعيَّ لا يُعارَضُ بالظني ، وإنما نذكرُه زيادةَ
فائدةِ والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى : « نَبَأْتُ من أرضِ كذا إلى أَرض كذا »
أي : خَرَجْتُ منها إليها ، فقوله : « يا نبيءَ الله » بالهمز يُوهم يا طريدَ الله
الذي أخرجه من بلدِه إلى غيره ، فنهاهُ عن ذلك لإِيهامِهِ ما ذكرنا ، لا لسبب
يتعلَّق بالقراءةِ .
ونظيرُ
ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم : « راعِنا » ، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك
طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم ، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي
أفصحِ اللغاتِ في القرآنِ وغيرِه .
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه من المهموزِ
ولكِنْ خُفِّفَ ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم :
تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ ، وقولِه : « يا خاتَم النُّبآء » . والثاني : أنه أصلٌ آخرُ
بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع ، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ
ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق ، والأصلُ : نَبِيْوٌ وأَنْبِواء ، فاجتمع
الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم ،
كميِّت في مَيْوِت ، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً ، فصار أنبِياء
. والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ وأصلٌ بنفسِها على الثاني ، فهو
فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي : ظاهرٌ مرتفعٌ ، أو بمعنى مفعول أي : رَفَعه الله على
خَلْقه ، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق ، وذلك أن النبيَّ طريقُ
اللهِ إلى خَلْقِه ، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم ، وقال الشاعر :
510 لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا ... مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ
النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
أي : طريقاً ، وقال :
511 لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى ... مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ
الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً : الكَسْر ، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ
جبلٍ ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ : نُبَيِّئَة . وقالوا : جمعُه على
أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو : وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ
وأَصْفِياء . وأمَّا قالون فإنما تَرَك الهمزَ في الموضعين المذكورين لَمَدْركٍ
آخرَ ، وهو أنه مِنْ أصلِه في اجتماعِ الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورَتَيْنِ
أَنْ تُسَهَّل الأولى ، إلا أنْ يَقَعَ قبلَها حَرفُ مدٍّ فتُبْدَلَ وتُدْغَمَ ،
فَلَزِمَه أن يفعل هنا ما فَعَل في « بالسوء إلاَّ » مِن الإِبدالِ والإِدغامِ ،
إلاَّ أنه رُوي عنه خلافٌ في « بالسوء إلاَّ » ولم يُرْوَ عنه هنا خلافٌ ، كأنه
التزم البدل لكثرةِ الاستعمال في هذه اللفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يَتْرُكْ
همزَ « النبيّ » بل هَمزَهْ وَلمَّا هَمَزَه أدَّاه قياسُ تخفيفِه إلى ذلك ،
وَيدُلَّ على هذا الاعتبارِ أنَّه إنما يَفْعَلُ ذلك حيث يَصِلُ ، أمَّا إذا
وَقَفَ فإنَّه يَهْمِزُه في الموضعين لزوالِ السببِ المذكورِ/ فهو تارِكٌ للهمزِ
لفظاً آتٍ به تقديراً .
قولُه تعالى : { بِغَيْرِ الحق } في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ « يَقْتُلون
» تقديرُه : يقتُلونهم مُبْطِلين ، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره :
قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . قال الزمخشري : « قتلُ الأنبياءِ
لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما فائدةُ ذِكْرِه؟ وأجابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم
بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا ، فلو
سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يَذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ
عندهم » وقيل : إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في
حقهم لاحقٌ ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم .
قوله
: { ذلك بِمَا عَصَواْ } مثلُ ما تقدَّم . وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان ، أحدهما
: أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد . والثاني ما قالَه
الزمخشري : وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أنَّ ذلك
بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما « . و » ما « مصدريةٌ والباءُ
للسببيَّة ، أي بسبب عِصْيانهم ، فلا محلَّ ل » عَصَوا « لوقوعِه صلةً ، وأصلُ
عَصَوْا عَصَيُوا ، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها ، قُلبت ألفاً ، فالتقى
ساكنان هي والواوُ ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين ، وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ
عليها فوزنه فَعَوْا . » وكانوا يعتدُون « في محلِّ نصبٍ خبراً ل » كان « ، وكانَ
وما بعدها عطفٌ على صلةِ » ما « المصدرية .
وأصلُ العِصيان : الشِّدَّةُ ، اعتصَتِ النَّواةُ ، اشتدَّت ، والاعتداءُ على
المجاوزُ من عدا يعدُو ، فهو افتعالٌ منه ، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان
والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويعتدى فيه .
وأصلُ » يَعْتَدُون « يَعْتَدِيُونَ ، ففُعِل به ما فُعِل ب { يتَّقون } [ البقرة
: 21 ] من الحَذْفِ والإِعلال وقد تقدَّم ، فوزنُه يَفْتَعُون . والواوُ من »
عَصَوْا « واجبةُ الإِدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها ، فليسَ فيها
مَدٌّ يمنعُ مِن الإِدغامِ ، ومثلُه : { فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل
عمران : 20 ] وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ ، فإنَّ المدَّ يقومُ
مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإِظهارُ ، نحو { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [
البقرة : 25 ] ومثلُه : { الذى يُوَسْوِسُ } [ البقرة : 126 ] .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قولُه
تعالى : { مَنْ آمَنَ بالله } . . « مَنْ » يجوز فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ
شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « آمَن » مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على
الصحيحِ حَسْبما تقدَّم الخلافُ فيه . وقوله : « فلهم » جواب الشرط ، وهذه الجملة
الشرطية في محل رفع خبراً ل « إنَّ » في قوله : إنَّ الذين آمنُوا ، والعائدُ
محذوفٌ تقديرُه : مَنْ آمن منهم ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر . والثاني : أن
تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ « إنَّ »
وهو « الذين » بدلِ بعضٍ من كلٍّ ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم ، و « آمن »
صلتُها ، فلا محلَّ له حينئذ .
وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبرُ « إنَّ الذين » ، ودخلتِ الفاءُ لأن
الموصولَ يُشْبه الشرطَ ، وهذا عند غيرِ الأخفش ، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا
نُسِخ المبتدأ ب « إنَّ » يمتنعُ ذلكَ فيه ، فمحلُّ قولِه { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ }
رفعٌ على هذا القولِ ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ ، و « لهمْ » خبرٌ مقدَّمٌ
متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، و « أجرُهُمْ » مبتدأ ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً
بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } « عند » ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً ،
والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه « لهم » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ
على الحالِ من « أجرُهم » فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : فلهم أجرُهم ثابتاً عند
ربهم . والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا
كانَ مظروفُها معنىً ، ومنه قولُه عليه السلام : « إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ
الأولى » والمشهورُ كسرُ عَيْنِها ، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ .
والذين هادُوا هم اليهودُ ، وهادُوا في أَلِفه قولان : أحدُهما أنه من واو ،
والأصلُ : هاد يهودُ أي تاب ، قال الشاعر :
512 إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ ... أي : تائبٌ ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم
تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ ، وقال تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف
: 156 ] أي تُبْنَا ، وقيل : هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار ، وأنشدوا
:
513 وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى ... قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ
المُهَوَّد
وقيل : هو من الهَوادة وهي الخضوعُ . الثاني : انها من ياء ، والأصلُ : هاد يَهِيد
، أي : تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم . وقيل : سُمُّوا يهودَ
نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام ، فغيَّرتْه العربُ من
الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية .
والنَّصارى جمعٌ ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة وندامى ، قاله
سيبويه وأنشد :
514 فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها ... كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم
تَحَنَّفِ
وأنشد الطبري على نَصْران قوله :
515
يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً ... ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ
قال سيبويه : « إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب » وقال
الخليل : « واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومهارى . وقال الزمخشري : : الياءُ
في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري » . ونصارى/ نكرةٌ ، ولذلك دَخَلَتْ عليه
أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر :
516 صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له ... ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ
صُوَّامِ
وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة ، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام
، أو لأنهم كانوا يتناصرون ، قال الشاعر :
517 لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا ... شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا
كُنْتُ لهم من النَّصارى جَارا ... والصابئُون : قومٌ عَبدوا الملائكةَ ، وقيل :
الكواكبَ . والجمهورُ على همزهِ ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز . فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه
من صَبَأَ نابُ البعير أي : خَرَجَ ، وصَبَأَتِ النجومُ : طَلَعت . وقال أبو عليّ
: « صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم ، فالصابِئُ : التارِكُ لدينِه
كالصابىءِ الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ لأرضِه ومنتقلُ عنها » . ومَنْ لم
يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَأَبْدَلَ
من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً ، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو
غازٍ ، والأصل : صابٍ ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي ، إلا أنَّ سيبويه
لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر ، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً .
الثاني : أنه من صَبَا يَصْبو إذا مال ، فالصابي كالغازي ، أصلُه ، صابِوٌ
فأُعِلَّ كإعلال غازٍ . وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس : « ما الصابُون إنما هي
الصابئون ، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون » . فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ
النبيين وتَرْكُ همز الصابئين ، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ . وقد
حَمَلَ الضميرَ في قوله { مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ } على لفظِ « مَنْ » فأَفْرد ، وعلى
المعنى في قولِه : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } على المعنى ، فَجَمَع
كقوله :
518 أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما ... وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا
فراعى المعنى ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ
آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] .
والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال : أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً ، وقد يُعَبَّر
به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين .
وقرأ أبو السَّمَّال : { والذين هَادَوْا } بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ
والأصلُ : « هادَيُوا » فأُعِلَّ كنظائره .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
قوله
تعالى : { فَوْقَكُمُ } : ظرفُ مكانٍ ناصبُه « رَفعْنا » وحكمُ « فوق » مثلُ حكم
تحت ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . قال أبو البقاء : « ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من »
الطور « ، لأن التقدير يصير : رَفَعْنا الطورَ عالياً ، وقد استُفيد [ هذا ] من »
رَفَعْنا « وفي هذا نظرٌ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا
مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره . قال : » ولأنَّ الجَبَلَ لم
يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع ، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ . ولقائلٍ أن يقولَ : لِمَ
لا يكونُ حالاً مقدرة ، وقد قالَ هو في قولِه « بقوة » إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما
سيأتي .
والطُّور : اسمٌ لكلَّ جبل ، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ ،
وهل هو عربي أو سُرْياني؟ قولان ، وقيل : سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام ،
وقال العجَّاج :
519 داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ ... تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ
قوله : « خُذُوا » في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر ، أي : وقُلْنا لهم خُذُوا ، وهذا
القولُ المضمر يجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل « رَفَعْنا »
والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خُذوا . وقد تقدَّم أنَّ « خُذْ » محذوفُ
الفاءِ وأن الأصلَ : أُؤْخُذْ ، عند قوله { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة :
35 ] .
قوله : { مَآ آتَيْنَاكُم } مفعولُ « خُذوا » ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي لا
نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما آتيناكموه .
قوله : « بقوةٍ » في محلِّ نَصْبٍ على الحال . وفي صاحِبها قولان ، أحدهما : أنه
فاعلُ « خُذوا » وتكونُ حالاً مقدرة ، والمعنى : خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم
عازمين على الجِدِّ بالعمل به . والثاني : أنه ذلك العائدُ المحذوف ، والتقدير :
خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي : في العمل به والاجتهادِ في
معرفته ، وقوله « ما فيه » الضميرُ يعود على « ما آتيناكم » . والتولِّي تَفَعُّل
من الوَلْي ، وأصلُه الإِعراضُ عن الشيء بالجسم ، ثم استُعْمِل في الإِعراض عن
الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً ، و « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ
الطور وإيتاء التوراة .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
قوله
تعالى : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } : « لولا » هذه حرفُ امتناعٍ لوجودٍ ، والظاهرُ
أنها بسيطةٌ ، وقال أبو البقاء : « هي مركبةٌ من » لَوْ « و » لا « ، و » لو « قبل
التركيبِ يمتنعُ بها الشيءُ لامتناع غيره ، و » لا « للنفي ، والامتناعُ نفيٌ في
المعنى ، وقد دَخَلَ النفيُ ب » لا « على أحد امتناعي لو ، والنفيُ إذا دخل على
النفي صار إيجاباً ، فمِنْ هنا صار معنى » لولا « هذه يمتنع بها الشيءُ لوجودِ
غيره ، وهذا تكلُّفُ ما لا فائدةَ فيه ، وتكونُ » لولا « أيضاً حرفَ تخضيضٍ
فتختصُّ بالأفعال وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى . و » لولا « هذه تختصُّ
بالمبتدأ ، ولا يجوزُ أَنْ يلَيها الأفعالُ ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك أُوِّلَ
كقولِه :
520 ولولا يَحْسِبون الحِلْم عَجْزاً ... لَمَا عَدِم المُسيئون احتمالي
وتأويلُه أن الأصلَ : ولولا أن يَحْسِبِوا ، فلمَّا حُذِفَتْ ارتفع الفعلُ كقوله :
521 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
أي : أَنْ أَحضرَ ، والمرفوعُ بعدها مبتدأٌ خلافاً للكسائي حيث رَفَعَهُ بفعلٍ
مضمر ، وللفراء حيث قال : » مرفوعٌ بنفس لولا « ، وخبرُه واجبُ الحذف/ للدلالةِ
عليه وسَدِّ شيءٍ مَسَدَّه وهو جوابُها ، والتقديرُ : ولولا فضلُ اللهِ كائنٌ أو
حاصل ، ولا يجوز أن يُثْبَتَ إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لُحِّن المعري في قوله :
522 يُذيبُ الرُّعْبُ منه كلَّ عَضْبٍ ... فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُه لَسالا
حيث أَثْبتَ خبرَها بعدها ، هكذا أطلقوا . وبعضُهم فصَّل فقال : » إنْ كان خبرُ ما
بعدها كوناً مطلقاً فالحذفُ واجبٌ ، وعليه جاء التنزيلُ وأكثرُ الكلام ، وإن كان
كوناً مقيداً فلا يَخْلو : إمّا أَنْ يَدُل عليه دليلُ أو لا ، فإنْ لم يَدُلَّ
عليه دليلٌ وجَبَ ذِكْرُه ، نحو قولِه عليه السلامُ : « لولا قومُكِ حديثو عهدٍ
بكفر » وقولِ الآخر :
523 فلولا بَنُوها حولَها لَخَبَطْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وإنْ دَلَّ عليه دليلٌ جاز الذكرُ والحذف ، نحو : لولا زيدٌ لغُلِبْنا ، أي شجاع ،
وعليه بيتُ المعري المتقدِّم ، وقال أبو البقاء : « ولَزِمَ حَذْفُ الخبر للعلمِ
به وطولِ الكلام ، فإن وَقَعَتْ » أَنْ « بعدها ظَهَر الخبرُ ، كقولِه : » فلولا
أنَّه كان من المُسَبِّحين « فالخبرُ في اللفظ ل » أنَّ « وهذا الذي قاله مُوْهمٌ
، ولا تعلُّق لخبرِ » أنَّ « بالخبر المحذوف ولا يُغْني عنه البتةَ فهو كغيرِه
سواء ، والتقدير : فلولا كونُه مُسَبِّحاً حاضرٌ أو موجود ، فأيُّ فائدةٍ في ذكره
لهذا؟ والخبرُ يجب حَذْفُه في صورٍ أخرى ، يطولُ الكتابُ بِذِكْرِها وتفصيلِها ،
وإنما تأتي إن شاء اللهُ مفصَّلةً في مواضعها . وقد تقدَّم معنى الفضلِ عند قوله {
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قوله : { لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين } اللامُ جوابُ لولا . واعلم أنَّ جوابَها إن
كان مُثْبَتَاً فالكثيرُ دخولُ اللامِ كهذه الآيةِ ونظائِرها ، ويَقِلُّ حَذْفُها
، قال :
524
لَوْلا الحياءُ وباقي الدينِ عِبْتُكُما ... ببعضِ ما فيكما إذْ عِبْتُما عَوَري
وإنْ كان منفيَّاً فلا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يكونَ حرفُ النفي « ما » أو غيرَها ،
إن كان غيرَها فتركُ اللام واجبٌ نحو : لولا زيدٌ لم أقم ، أو لن أقوم ، لئلاَّ
يتوالى لامان ، وإن كان ب « ما » فالكثيرُ الحَذْفُ ، ويَقِلُّ الإِتيانُ بها ،
وهكذا حكمُ جوابِ « لو » الامتناعية ، وقد تقدَّم عند قولِه : { وَلَوْ شَآءَ الله
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ولا محلَّ لجوابِها من الإِعرابِ . و {
مِّنَ الخاسرين } في محلِّ نصبٍ خبراً ل « كان » ، ومِنْ للتبعيض .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
قوله
تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لقد
، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها ، و « قد » حرف تحقيق وتوقع ، ويُفيد في المضارع
التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق ، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى
المُضيِّ كقوله :
525 قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ
وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ ، وتُحْدِثُ في الماضي
التقريبَ من الحالِ . وفي عبارة بعضِهم : « قد : حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ
ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال » ويكونُ اسماً
بمعنى حَسْب نحو : قدني درهمٌ أي : حسبي ، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم
غالباً ، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين ، قال :
526 قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه :
527 أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ
أي : قد زالت ، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً . و «
عَلِمْتُمِ » بمعنى عَرَفْتُم ، فيتعدَّى لواحدٍ فقط ، والفرقُ بين العلم والمعرفة
أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو : عَلمتُ زيداً
قائماً أو ضاحكاً ، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ ، وقيل : لأنَّ المعرفةَ
يسبقها جهلٌ ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ
عليه سبحانه . { الذين اعتدوا } الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به ، ولا
حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ ، كما قدَّره بعضُهم ، أي : أحكامُ الذين اعتدوا ، لأنَّ
المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم . وأصلُ اعتَدَوْا : اعتَدَيُوا ، فأُعِلَّ
بالحذف ووزنه افْتَعَوا ، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه .
قوله : « منكم » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في « اعتدَوا » ويجوز أن
يكونَ من « الذين » أي : المعتدين كائنين منكم ، و « مِنْ » للتبعيض .
قوله : { فِي السبت } متعلِّقٌ باعتَدَوا ، والمعنى : في حُكْم السبت ، وقال أبو
البقاء : وقد قالوا : اليومَ السبتُ ، فجعلوا « اليومَ » خبراً عن السبت ، كما
يقال ، اليومَ القتالُ ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم
السبت « . والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ ، أي : قَطَعَ العمل . وقال ابن عطية : »
والسَّبتُ : إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإمَّا من
السَّبْت وهو القطع ، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها ، ومنه قولُهم
: سَبَتَ رأسَه أي : حَلَقه . وقال الزمخشري : « والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ
إذا عَظَّمت يومَ السبتِ » وفيه نظرٌ ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ
في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك ، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ
المذكورَ في هذه الآيةِ . والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ ، ثم سُمِّي به هذا
اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ
وقُطِعَ ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً ، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما
أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه
نحو : اليوم الجمعةُ ، اليوم العيدُ ، كما يقال : اليوم الاجتماعُ والعَودُ ، فإنْ
ذُكِرَ مع « الأحد » وأخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ ، وتحقيقُها مذكورٌ في
كتبِ النحوِ .
قوله
: { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها أن يكونا خبرين ، قال
الزمخشري : « أي : كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء » وهذا التقديرُ بناءً
منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب :
هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، وقد تقدَّم القول فيه . الثاني : أن يكون « خاسئين » نعتاً
لقِردة ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ ، وهذا
جَمْعُ العقلاء . فإنْ قيل : المخاطبون عُقَلاء . فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد ،
لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ : كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء ، ولا
تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك ، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء ،
كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11
] . الثالث : أن يكون حالاً من اسم « كونوا » والعاملُ فيه « كونوا » وهذا عندَ
مَنْ يُجيز ل « كان » أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ . وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه
عند قولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] إن شاء الله تعالى
. الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في « قِرَدَةً » لأنه
في معنى المشتقِّ ، أي : كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ ، وجَمْعُ فِعْل على
فِعَلة قليلٌ لا ينقاس .
ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون ، تقول : « قَرَد بمكان كذا » أي : لَصِق به
وسكن ، ومنه الصوفُ القَرَد « أي المتداخلُ ، ومنه أيضاً : » القُراد « هذا
الحيوانُ المعروف . ويقال : خَسَأْتُه فَخَسَأَ ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد
وغاض ، وقيل : يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ
. وقال الكسائي : » خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً ، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين
المصدَرَيْن ، والخُسُوءُ : الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه
خَسَأْتُ الكلبَ .
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قوله
تعالى : { نَكَالاً } : مفعولٌ ثانٍ لجَعَلَ التي بمعنى صَيَّر والأولُ هو الضميرُ
وفيه أقوالٌ ، أحدُها : يعود على المَسْخَة . وقيل : على القريةِ لأنَّ الكلامَ
يقتضيها كقولِه : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } [ العاديات : 4 ] أي بالمكانِ .
وقيل على العقوبة ، وقيل على الأمَّة . والنَّكالُ : المَنْعُ ، ومنه النِّكْلُ
اسمٌ للقيد من الحديد واللِّجام لأنه يُمْنَعُ به ، وسُمِّي العِقابُ نكالاً لأنه
يُمْنَعُ به غيرُ المعاقب أن يفعلَ فِعْلَه ، ويَمْنَعُ المُعاقَبَ أن يعودَ إلى
فِعْلِه الأولِ . والتنكيلُ : إصابةُ الغيرِ بالنَّكالِ ليُرْدَعَ غيرُه ، ونَكَلَ
عن كَذا يَنْكُل نُكولاً امتنع ، وفي الحديثِ : « إنَّ الله يحبُ الرجلَ النَّكَل
» أي : القوي على الفرس . والمَنْكَلُ ما يُنَكَّل به الإِنسان قال :
528 فارمِ على أَقْفائِهم بِمَنْكَلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
والضميرُ في يديهَا وخلفها كالضميرِ في { جَعَلْنَاهَا } .
قوله : { وَمَوْعِظَةً } عطفٌ على { نَكَالاً } وهي مَفْعِلَة من الوعظ وهو
التخويف ، وقال الخليل : « التذكيرُ بالخيرِ فيما يَرِقُّ له القَلْبُ ، والاسمُ :
العِظَةُ كالعِدَة والزِنَة . و » للمتقين « متعلقٌ بِمَوْعِظة . واللامُ للعلة ،
وخُصَّ المتقين بالذِّكْرِ ، وإن كانَتْ موعظةً لجميعِ العالَم : البَرِّ
والفاجِرِ ، لأن المنتفعَ بها هم هؤلاء دونَ مَنْ عَدَاهم ، ويجوزُ أَنْ تكونَ
اللامُ مقويةً ، لأنَّ » موعظة « فَرْعٌ على الفِعْلِ في العملِ فهو نظيرٌ {
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، فلا تعلُّق لها لزيادتها ، ويجوز أَنْ
تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لموعظةً ، أي : موعظةً كائنةً للمتقين .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
قوله
تعالى : { يَأْمُرُكُمْ } . . الجمهور على ضمِّ الراء لأنه مضارعٌ مُعْرَبٌ
مجرَّدٌ من ناصبٍ وجازمٍ . ورُوِيَ عن أبي عمرو سكونُها سكوناً مَحْضاً واختلاسُ
الحركةِ ، وذلك لتوالي الحركات ، ولأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فكأنها حرفان ،
وحركتُها حركتان ، وقيل : شبَّهها بعَضْد ، فسُكِّن أَوْسَطُه إجراءً للمنفصلِ
مجرى المتصلِ ، وهذا كما تَقَدَّم في قراءة « بارِئْكم » ، وقد تقدَّم ذِكْرُ من
اسْتَضْعَفها من النحويين ، وتقدَّم ذكرُ الأجوبةِ عنه بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا
، ويجوز في همز « يَأْمركم » إبدالُه ألفاً وهذا مطَّرِدٌ . و « يَأْمركم » هذه
الجملةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وإنَّ وما في حَيِّزها في مَحلِّ نصب مفعولاً
بالقول ، والقولُ وما في حَيِّزِه في محلِّ جرٍّ بإضافة الظرف إليه ، والظرفُ
معمولٌ لفعل محذوفٍ أي : اذكُرْ .
قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } « أَنْ » وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ
ليَأْمركم ، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من
ذِكْرِ الخلافِ ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي : بأَنْ تَذْبَحوا ،
ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز
حذفُ الباءِ معه ، ولو لم تكنِ الباءُ في « أَنْ » نحو : أمرتُكَ الخيرَ .
والبقرةُ واحدة البَقَر ، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة ، والصفةُ
تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى ، تقول : بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى ، وقيل : بقرةٌ اسمٌ
للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور ، نحو : ناقةٌ وجَمَل ، وأَتان وحمار ،
وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يَِشُقُّها بالحرث ، ومنه : بَقَر
بطنَه ، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ ، والجمع : بَقَر وباقِر وبَيْقُور
وبَقِيرِ .
قوله : { هُزُواً } مفعول ثان ل « { أَتَتَّخِذُنَا } . وفي وقوعِ » هُزُوا «
مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ . أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء .
الثاني : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا . الثالث : أنهم
جُعِلوا نفس الهُزْءِ مبالغةً . وهذا أولى ، وقال الزمخشري وبدأ به : »
أَتَجْعَلُنا مكانَ هُزْءٍ « وهو قريبٌ من هذا .
وفي { هُزُواً } قراءاتٌ سِتٌّ ، المشهورُ منها ثلاثٌ : هُزُؤاً بضمتين مع الهمز ،
وهُزْءاً بسكونِ العين/ مع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وَقَفَ
أبدلَها واواً ، وليس قياسَ تخفيفها ، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ
قبلَها . وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً ، ولذلك لم يُبْدلها
في » جزءاً « واواً وقفاً ، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب ،
وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق :
عُنْق . وقيل : بل هي أصلٌ بنفسِها ، ليست مخففةً من ضم ، حَكَى مكي عن الأخفش عن
عيسى بن عمر : » كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان : التثقيل
والتخفيفُ « .
و
« هُزُواً » بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراءةُ حَفْص عن عاصم ، كأنه
أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً ، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ
ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن ، و { السفهآء ولا إِنَّهُمْ } [ البقرة : 13 ]
وحكمُ « كُفُواً » في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [
الإخلاص : 4 ] حكمُ « هُزُواً » في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً . و « هُزَاً »
بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها وهو أيضاً قياسٌ مطرد ، وهُزْواً بسكون العين
مع الواو ، وهُزَّاً بتشديد الزاي من غيرِ همزةٍ ، ويروى عن أبي جعفر ، وتقدَّم
معنى الهُزْء أول السورة .
قوله : { أَعُوذُ بالله } تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم
في المعنى كأنه قال : لا أَهْزَأُ مستعيذاً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ .
وقوله { أَنْ أَكُونَ } أي : مِن أَنْ أكونَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف . و «
مِن الجاهلين » خبرُها ، وهو أَبْلَغُ من قولِك : « أن أكونَ جاهِلاً ، فإنَّ
المعنى : أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قوله
تعالى : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا } . . كقوله : { فادع
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] وقد تقدَّم . قوله : « ما هي »؟
ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه : أيُّ شيءٍ هي ، و « ما »
الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو : « ما العنقاءُ؟ [ و ]
ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو : ما الحركةُ . وقال السكاكي : » يَسْأَلُ ب « ما »
عن الجنسِ ، تقولُ : ما عندك؟ أي : أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك ، وجوابُه : كتابٌ
ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيدٌ؟ وجوابه : كريمٌ « وهذا هو المرادُ في الآية
. و » هي « ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً ل » ما « ، والجملةُ في محلِّ
نصب بيبيِّن ، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده ، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ
القلوبِ .
قوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا نافيةٌ ، و » فارضٌ « صفةٌ لبقرة ،
واعترض ب » لا « بين الصفةِ والموصوفِ ، نحوٍ : مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ
. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : لا هي فارضٌ . وقولُه : {
وَلاَ بِكْرٌ } مثلُ ما تقدَّم ، وتكرَّرت » لا « لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ
أو حالٍ وَجَب تكريرُها ، تقول : زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ ، ومررت به لا ضاحكاً
ولا باكياً ، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا في ضرورةٍ خلافاً للمبرد وابن كيسان ،
فمن ذلك :
529 وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
وقولُه :
530 قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ ... ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ
والمَكْرِ
فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ .
والفارضُ : المُسِنَّةُ الهَرِمة ، قال الزمخشري : » كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها
فَرَضَتْ سِنَّها ، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها « قال الشاعر :
531 لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً ... تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ
ويقال لكلِّ ما قَدُم : فارضٌ ، قال :
532 شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ ... محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ
أي : كبارٌ قدماء ، وقال آخر :
533 يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
وقال الراغب : » سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ ، والفَرْضُ في الأصل :
القَطْع وقيل : لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ . وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ
ومُسِنَّة ، قال : فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً « ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ
بالفتح فُروضاً ، وقيل : فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً . والبِكْرُ ما لم تَحْمِل ، وقيل
: مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً ، قال :
534 يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ ... أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ
والبِكْرُ من الحيوان : مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل ، والبَكْر بالفتح : الفَتِيُّ من
الإِبل ، والبَكارة بالفتح : المصدر .
قوله : { عَوَانٌ } صفةٌ لبقرة ، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : هي
عوانٌ ، كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } والعَوانُ ، النَّصَفُ ، وهو التوسُّطُ
بين الشيئينِ ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه ، قال :
535
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نواعِمُ بين
أبكارٍ وعُونِ
وقيل : هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى ، ومنه الحَرْبُ العَوانُ ، أي : التي جاءت
بعدَ حربٍ أخرى ، قال زهير :
536 إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها
عُصْلُ
والعُون بسكونِ الواو : الجمعُ ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله :
537 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . في الأكُفِّ
اللامِعاتِ سُوُرْ
بضمِّ الواو . ونظيرُه في الصحيح : قَذَال وقُذُل ، وحِمار وحُمُر .
قوله : { بَيْنَ ذلك } صِفةٌ لعَوان ، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي :
كائنٌ بين ذلك ، و « بين » إنما تُضاف لشيئين فصاعداً ، وجاز أن تضافَ هنا إلى
مفرد ، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع ، كقوله :
538 إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك [ وَجْهٌ وقَبَلْ ]
كأنه قيل : بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر . قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف جازَ
أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإِشارةِ المذكر؟ قلت : لأنه في تأويلِ ما
ذُكر وما تقدَّم » ، وقال : « وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإِشارةِ في هذا/ قال
أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :
539 فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
إن أردْتَ الخطوطَ فقل : كأنها ، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال
: أردْتُ : كأنَّ ذاكَ . وَيْلَك » . والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإِشارةِ
تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة ، وكذلك الموصولاتُ ، ولذلك
جاء الذي بمعنى الجمع .
قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ تقديره :
تُؤْمَرون بِه ، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ .
وليس هو نظيرَ { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ ،
ويضعُف أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً . قال أبو البقاء : « لأنَّ المعنى على
العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ » ، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي : أَمَرَكم بمعنى
مأمورَكم ، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير ، قاله الزمخشري . و «
تُؤْمَرون » مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ
لوقوعِها صلةً .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قوله
تعالى : { مَا لَوْنُهَا } : كقولِه « هي »؟ وقال أبو البقاء : « ولو قُرئ »
لونَها « بالنصب لكان له وجهٌ ، وهو أن تكونَ » ما « زائدة كهي في قوله : {
أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقديرُ : يبين لنا لونَها ،
وأمَّا » ما هي « فابتداءٌ وخبرٌ لا غيرُ إذ لا يُمْكِنُ جَعْلُ » ما « زائدةً
لأنَّ » هي « لا يَصِحُّ أن تكونَ مفعولَ يبيِّن » يعني أنها بصيغةِ الرفع ، وهذا
ليس من مواضعِ زيادةِ « ما » فلا حاجةَ إلى هذا . واللونُ عبارةٌ عن الحمرةِ
والسوادِ ونحوِهما . واللونُ أيضاً النوعُ وهو الدَّقَل نوعٌ من النحل ، قال
الأخفش : « هو جَماعةٌ واحدها : لِينة » وسيأتي . وفلان يَتَلَوَّن أي : لا يثبُتُ
على حالٍ ، قال الشاعر :
540 كلَّ يومٍ تتلوَّنْ ... غيرُ هذا بك أَجْمَلْ
قوله : { صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } بجوز أن يكونَ « فاقعٌ » صفةً و « لونُها
» فاعلٌ به ، وأن يكونَ خبراً مقدماً ، و « لونُها » مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ ،
ذكرها أبو البقاء . وفي الوجهِ الأول نظرٌ ، وذلك أن بعضَهم نقلَ أن هذه التوابعَ
للألوانِ لا تعملُ عَمَلَ الأفعال . فإنْ قيل : يكونُ العملُ لصفراء لا لفاقع كما
تقول : مررتُ برجلٍ أبيضَ ناصعٍ لونُه ، فلونُه مرفوعٌ بأبيض لا بناصع ، فالجوابُ
: أنَّ ذلك ههنا ممنوعٌ من جهةٍ أخرى ، وهو أنَّ صفراء مؤنثٌ اللفظِ ، ولو كانَ
رافعاً ل « لونُها » لقيل : أصفرُ لونُها ، كما تقول : مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها
، ولا يجوز : صفراءَ لونُها ، لأنَّ الصفةَ كالفِعْل ، إلا أن يُقال : إنه لمَّا
أُضيف إلى مؤنثٍ اكتسَب منه التأنيثَ فعُومِل معاملتَه كما سيأتي ذِكْرُه . ويجوز
أن يكونَ « لونُها » مبتدأً ، و « تَسُرُّ » خبرَه ، وإنما أَنَّث الفعلَ
لاكتسابِه بالإِضافةِ معنى التأنيث : كقوله :
541 مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ ... أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ
وقول الآخر :
542 وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
أنَّث فعلَ المَرِّ والصدرِ لَمَّا أُضيفا لمؤنثٍ ، وقُرئ { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السيارة } [ يوسف : 10 ] وقيل : لأنَّ المرادَ باللونِ هنا الصفرةُ ، وهي مؤنثةٌ
فَحُمِل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفرُ فاقعٌ ، وأبيضُ ناصعٌ وَيَقِقٌ ولَهِقٌ
، ولِهاقٌ وأخضرُ ناصعٌ ، وأحمرُ قانئٌ وأسودُ حالِكٌ وحائِك وحَلَكُوك وحُلْكُوك
ودَجُوجيّ وغِرْبيب وبهيم ، وقيل : « البهيم الخالصُ من كل لون » . وبهذا يَظْهر
أن صفراء على بابها من اللون المعروفِ لا سوداء كما قاله بعضهم ، فإنَّ المفقوعَ
من صفةِ الأصفرِ خاصةً ، وأيضاً فإنه مجازٌ بعيدٌ ، ولا يُسْتَعمل ذلك إلا في
الإِبِلِ لقُرْب سوادها من الصفرةِ كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ }
[ المرسلات : 33 ] . وقال :
543 تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ
قوله : { تَسُرُّ الناظرين } جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل « بقرة » أيضاً ، وقد
تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ خبراً عن « لونها » بالتأويلين المذكورين . والسرورُ
لَذَّةٌ في القلب عند حصولِ نَفْعِ أو توقُّعِه ، ومنه « السريرُ » الذي يُجْلَسُ
عليه إذا كان لأولي النِّعمةِ ، وسريرُ الميِّت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً
بذلك .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قوله
تعالى : { مَا هِيَ } ؟ . . مرةً ثانيةً ، تكريرٌ للسؤال عن حالِها وصفتِها
واستكشافٌ زائدٌ ليزدادوا بياناً لوَصْفِها .
قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } « البقر » اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ
كما تقدَّم . وقرئ « الباقِرُ » وهو بمعناه كما تقدم . و « تَشَابه » جملةٌ فعلية
في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وقرئ : « تَشَّابَهُ » مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ
، فالأصلُ : تَتَشابهُ بتاءين ، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى ، وكِلا الوجهين مقيس
. وقُرئ أيضاً : يَشَّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً ، وتذكيرُ
الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال
تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحافة : 7 ] فَأَنَّث ، و { أَعْجَازُ
نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكَّر ، ولهذا موضعٌ نستقصي منه ، يأتي إن
شاء الله تعالى . وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل ، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين
والباء من غير ألف ، والأصلُ : تَتَشَبَّهُ . وتَشَّابَهَتْ ، ومُتَشَابِهَة ،
ومُتَشَابِه ، ومُتَشَبِّه على اسم الفاعل من تشابه وتَشَبَّه ، وقُرئ : تَشَبَّهَ
ماضياً . وفي مصحف أُبَيّ : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين . قال أبو حاتم : « هو
غلط لأن التاءَ في هذا الباب لا تُدْغَمُ إلا في المضارعِ » ، وهو معذورٌ في ذلك .
وقرئ : تَشَّابَهَ كذلك إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهُها على إشكالها أن يكونَ
الأصل : إن البقرة تشابَهَتْ فالتاء الأولى من البقرة والتاء الثانية من الفعل ،
فلمَّا اجتمع متقاربان أَدْغَم نحو : الشجرةُ . . . إلا أنه يُشْكِل أيضاً في
تَشَّابه من غير تاء ، لأنه كان يَجبُ ثبوتُ/ علامةِ التأنيثِ ، وجوابُه أنه مثلُ
:
544 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ
إبْقالَها
مع أن ابنَ كَيْسان لا يلتزم ذلك في السَّعَة .
قوله : { إِن شَآءَ الله } هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها
عليه ، والتقدير : إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا ، ولكنهم أَخرجُوه في
جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية ، واعترضوا بالشرطِ
تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى . و « لمهتدونَ » اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على
خبرِ « إنَّ » ، وقال أبو البقاء : « جوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه ،
وجاز ذلك لمَّا كان الشرطُ متوسطاً ، وخبرُ إنَّ هو جوابُ الشرط في المعنى ، وقد
وقع بعدَه ، فصار التقديرُ : إنْ شاء اللهُ اهتدينا . وهذا الذي قاله لا يَجُوز ،
فإنه متى وقعَ جواب الشرطِ ما لا يَصْلُح أنْ يكونَ شرطاً وجَبَ اقترانُه بالفاء ،
وهذه الجملةُ لا تَصْلح أن تقعَ شرطاً ، فلو كانَتْ جواباً لَزِمَتْها الفاءُ ،
ولا تُحْذَفُ إلا ضرورةً ، ولا جائزٌ أنْ يريدَ أبو البقاء أنه دالٌّ على الجواب
وسَمَّاه جواباً مجازاً ، لأنه جَعَلَ ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه ،
فقال : » وقالَ المبرد : الجوابُ محذوفٌ دَلَّتْ عليه الجملةُ ، لأنَّ الشرط
معترضٌ فالنيةُ به التأخيرُ ، فيصيرُ كقولِك : « أنت ظالم إنْ فَعَلْتَ » وهذا
الذي نقلَه عن المبرد هو المنقولُ عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما
نُقِل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوزُ تقديمُ جوابِ الشرطِ عليه ، وقد ردَّ
عليهم البصريون بقول العرب : « أنتَ ظالمٌ إنْ فعلْتَ » إذ لو كانَ جواباً لوَجَبَ
اقترانُه بالفاءِ لِما ذكرْتُ لك . وأصلُ « مُهْتَدُون » مُهْتَدِيُون ، فأُعِلَّ
بالحَذْفِ ، وهو واضحٌ مما تقدَّم .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قوله
تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } : المشهورُ « ذلولٌ » بالرفع على أنها صفةٌ لبقرة ،
وتوسَّطت « لا » للنفي كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } ، أو على أنها خبرُ مبتدأ
محذوفٍ ، أي : لا هي ذلولٌ . والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعٍ صفةً
لبقرة . وقرئ : « لا ذَلولَ » بفتح اللام على أنها « لا » التي للتبرئة والخبرُ
محذوف ، تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ ، أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءةِ ،
ولذلك قال الأخفشُ : « لا ذلولٌ نعت ولا يجوز نصبُه » . والذَّلولُ : التي
ذُلِّلَتْ بالعمل ، يقال : بَقَرةٌ ذَلول بَيَِّنَةُ الذِّل بكسر الذال ، ورجلٌ
ذَليل بيِّنُ الذُّل بضمها ، وقد تقدَّم عند قوله : { الذلة } [ البقرة : 61 ] .
قوله : { تُثِيرُ الأرض } في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ ، أظهرهُا أنها في محلِّ
نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في « ذلول » تقديرُه : لا تُذَلُّ حالَ
إثارتِها [ الأرضَ ] . وقال ابن عطية : « وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ
لبقرة ، [ أي ] : لا ذلولٌ مثيرةٌ ، وقالَ أيضاً : ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ
في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ » ، أمَّا قولُه : « في موضع الصفةِ » فإنه يلزم
منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض ، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور ، بل قال به
بعضُهم ، وسيأتي بيانُه قريباً . وأمَّا قولُه : « لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من
» بقرة « لأنها نكرةٌ . فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة ، بل من
الضميرِ في » ذلولٌ « كما تقدَّم شرحه ، أو نقولُ : بل هي حالٌ من النكرة قد
وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله { لاَّ ذَلُولٌ } وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ
الحالِ منها اتفاقاً . وقيل : إنها مستأنفةً ، واستئنافُها على وجهين ، أحدُهما :
أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : هي تثير ، والثاني : أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير
تقديرِ مبتدأ ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإِخبار بذلك .
وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ ، منهم الأخفش علي بن سليمان ، وعلَّل ذلك
بوجهين ، أحدُهما : أنَّ بعدَه : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } فلو كان مستأنفاً لما
صَحَّ دخولُ » لا « بينه وبين الواوِ . الثاني : أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانَتِ
الإِثارةُ قد ذَلَّلَتْها ، واللهُ تعالى نفى عنها ذلك بقولِه : لا ذلولٌ . انتهى
. وهذا المعنى هو الذي منعتُ به أن يكون » تثيرُ « صفةً لبقرة لأن اللازمَ مشتركٌ
، ولذلك قال أبو البقاء : » ويجوزُ على قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ هذا الوجهَ يعني
كونها تثيرُ ولا تَسْقي أن تكونَ تُثير في موضعِ رفعٍ صفةً لبقرة « . وقد أجابَ
بعضُهم عن الوجه الثاني بأن إثارةَ الأرض عبارةٌ عن مَرَحِها ونشاطِها كما قال
امرؤ القيس :
545
يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه ... إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثيرُ الأرضَ مَرَحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعَمَلاً ، وقال أبو البقاء : «
وقيل هو مستأنفٌ ، ثم قال : » وهو بعيدٌ عن الصحة ، لوجهينِ ، أحدُهما : أنه
عَطَفَ عليه قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } فنفى المعطوفَ ، فيجب أن يكونَ
المعطوفُ عليه كذلك لأنه في المعنى واحدٌ ، ألا ترى أنك لا تقول : مررتُ برجلٍ
قائمٍ ولا قاعدٍ ، بل تقول : لا قاعدٍ بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هنا ، وذَكر
الوجه الثاني كما تقدَّم ، وأجاز أيضاً أن يكون « تُثير » في محلِّ رفعٍ صفةً
لذَلول وقد تقدَّم لك خلافٌ : هل يُوصف الوصفُ أو لا؟ فهذه ستةُ أوجهٍ ، تلخيصها :
أنها حالٌ من الضميرِ في « ذَلولٌ » أو من « بقرة » أو صفةٌ لبقرة أو لذلولٌ أو
مستأنفةٌ بإِضمارِ مبتدأ أو دونَه .
قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام في هذه كما
تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . وقال الزمخشري :
ولا الأولى للنفي يعني الداخلةَ على « ذلولٌ » والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ الأولى ،
لأن المعنى : لا ذلولٌ تثيرُ وتَسْقي ، على أن الفعلينِ صفتانِ لذَلول ، كأنه قيل
: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ « .
وقُرئ » تُسْقي « بضم التاء من أَسْقى . وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها ، ومنه
{ وَأَثَارُواْ الأرض } [ الروم : 9 ] أي : بالحرثِ والزراعةِ ، وفي الحديث : »
أثيروا القرآن ، فإنه عِلْمُ الأولين والآخرِين « ، وفي روايةٍ ، » مَنْ أرادَ
العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن « ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي : خَلُص . و »
شية « مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً ، فحُذفت فاؤها لوقوعِها
بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع ، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه ، ووزنُها : عِلة ،
ومثلُها : صِلة وعِدة وزِنة ، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ ، ومنه
ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي :
أَبْلَقُها قال الشاعر :
546 من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه ... طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ
الفَرِدِ
ومنه : » الواشي « للنمَّام ، لأنه يَشي حديثَه أي : يُزَيِّنُه ويَخْلِطُه بالكذب
، وقال بعضهم : ولا يقال له واشٍ حتى يُغَيِّرَ كلامَه ويُزَيِّنَه . ويقال : ثورٌ
أَشْيَهُُ ، وفرس أَبْلَقُ وكبشٌ أَخْرَجُ وتيسٌ أَبْرَقُ وغرابٌ أَبْقَعُ ، كلُّ
ذلك بمعنى البُلْقَةِ ، و » شِيَةَ « اسم لا ، و » فيها « خبرها .
قوله : { الآن جِئْتَ } » الآن « منصوبٌ بجِئْتَ ، وهو ظرفُ زمانٍ يقتضي الحالَ
ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين ، وقال بعضُهم : هذا هو الغالبُ وقد جاء
حيثُ لا يُمْكِنُ أن يكونَ للحالِ كقولِه : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9
] { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي الحالَ لَما جاء مع فعل
الشرط والأمرِ اللذين هما نصٌّ في الاستقبالِ ، وعَبَّر عنه هذا القائلُ بعبارةٍ
توافقُ مذهبَه وهي : » الآن « لوقتٍ حُصِر جميعُه أو بعضُه » يريد بقولِه : « أو
بعضُه » نحوَ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ } وهو مبنيٌّ .
واختُلِفَ
في علَّة بِنائِه ، فقال الزجاج : « لأنَّه تضمَّن معنى الإِشارة ، لأنَّ معنى
أفعلُ الآن أي : هذا الوقتَ » . وقيل : لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ
، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ . وقيل : لأنَّ تضمَّن معنى
حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ
بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً ، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ
كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما ، ويُعْزى هذا للفارسي . وهو مردودٌ بأنَّ
التضمينَ اختصار ، فكيف يُخْتصر الشيءَ ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه . وهو لازمٌ
للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً ، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام : « فهو
يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى » فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم ،
و « حين » خبره ، بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ ، ومجروراً في قوله :
547 أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
وادَّعى بعضُهم إعرابَه مستدلاًّ بقوله :
548 كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا ... وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ
يريد : « من الآن » فجَرَّه بالكسرة ، وهذا يَحْتمل أن يكونَ بُني على الكسر .
وزعم الفراء أنه منقولٌ من فعلٍ ماضٍ ، وأن أصلَه آنَ بمعنى حانَ فَدَخَلَتْ عليه
أل زائدةً واسْتُصْحِبَ بناؤُه على الفتح ، وجَعَله مثلَ قولهم : « ما رأيته مذ
شَبَّ إلى دَبَّ » وقولِه عليه السلام : « وأَنْهاكم عن قيلَ وقال » ، ورُدَّ عليه
بأنَّ أل لا تدخُل على المنقولِ من فعلٍ ماضٍ ، وبأنه كان ينبغي أن يجوزَ إعرابُه
كنظائرِه ، وعنه قولٌ آخر أنَّ أصلَه « أوان » فحُذِفَتِ الألفُ ثم قًُلبت الواو
ألفاً ، فعلى هذا ألفُه عن واو ، وقد أدخله الراغبُ في باب « أين » فتكون ألفُه عن
ياء ، [ والصواب الأول ] .
وقُرئ « قالوا الآن » بتحقيق [ الهمزةِ ] من غير نَقْل ، وهي قراءةُ الجمهورِِ ، و
« قالُ لان » بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة ، وهو قياسٌ مطَّرد
، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه ، و « قالو لاَن » بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا
لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ
إليها ، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر : « لَحْمَر » . وسيأتي تحقيقُ هذا إن
شاء اللهُ تعالى في { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، وحُكي وجه رابع : « قالوا
ألآن » بقطعِ همزةِ الوصلِ وهو بعيدٌ .
قوله : « بالحقِّ » يجوزُ فيه وجهانِ ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة
كأنه قيل : أَجَأْتَ الحقَّ أي : ذَكَرْتَه . الثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على
الحالِ من فاعلِ « جِئْتَ » أي : جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ .
قوله { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كادَ واسمُها وخبرُها ، والكثيرُ في خبرها
تَجَرُّدُه من أَنْ ، وشَذَّ قولُه :
549 قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا ... عكسَ عسى ، ومعناها مقاربةُ الفعلِ
، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها ، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً ،
والجوابُ عن ذلك عند قوله : { يَكَادُ البرق } [ البقرة : 20 ] فَلْيُلْتَفتْ إليه
.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قوله
تعالى : { فادارأتم فِيهَا } : فعلٌ وفاعلٌ ، والفاءُ للسببية ، لأنَّ التدارُؤَ
كان مُسَبَّباً عن القتلِ ، ونسبَ القتلَ إلى الجميعِ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من
واحدٍ أو اثنين كما قيل ، لأنه وُجِدَ فيهم ، وهو مجازٌ شائعٌ . وأصل ادَّارأتم :
تَدارَأْتُم تفاعَلْتم من الدَّرْءِ وهو الدفعُ ، فاجتمعَتِ التاءُ مع الدال وهي
مقارِبتُها فأريدَ الإِدغامُ فَقُلبت التاءُ دالاً وسُكِّنتْ لأجلِ الإِدغامِ ،
ولا يمكنُ الابتداءُ بساكنٍ فاجتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ليُبتدأ بها فبقي ادَّارأتم
، والأصل : « ادْدَارَأْتم » فأدغم ، وهذا مطردٌ في كلِّ فعل على تَفَاعَل أو
تفعَّل فاؤُه دالٌ نحو : « تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّن وادَّيَّن ، أو ظاء
أو طاء أو ضاد أو صادٌ نحو : تَطَاير واطَّاير ، وتَطّيَّر واطَّيَّر ، وتَظَاهَرَ
واظَّاهر ، وتَطَهَّر واطَّهَّر ، والمصدرُ على التفاعُلِ أو التفعُّل نحو : تدارؤ
وتطهُّر نظراً إلى الأصلِ ، وهذا أصل نافعٌ في جميعِ الأبوابِ فليُتأمَّلْ .
قوله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } » الله « رفعٌ بالابتداء و »
مُخْرجٌ « خبرُه ، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلِّ باسمِ الفاعلِ ، فإنْ قيل : اسمُ
الفاعلِ لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام . فالجواب/ أنَّ هذه
حكايةُ حالٍ ماضيةٍ ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ ، وهذا كقوله تعالى : {
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] ، والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً
ويستدلُّ بهذا ونحوهِ . و » ما « يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ، فلا بد من
عائدٍ ، تقديره : مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ،
والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم ، وهذه الجملةُ لا محلَّ
لها من الإِعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه ، وهما : »
فادَّارَأْتم « » فقلنا اضرِبوه « قاله الزمخشري . والضميرُ في » اضربوه « يعودُ
على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإِنسان ، أو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله
: والله مُخْرِجٌ ما كنتم تكتمون » . والجملةُ من « اضربوه » محلِّ نصبٍ بالقولِ .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قوله
تعالى : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله } : « كذلك » في محلِّ نصب لأنه نعتٌ لمصدرٍ
محذوف تقديرُه : يُحْيي الله الموتى إحياءً مثلَ ذلك الإِحياءِ ، فيتعلَّقُ
بمحذوفٍ ، أي إحياءً كائناً كذلك الإِحياءِ ، أو لأنه حالٌ من المصدرِ المعرَّفِ ،
أي : ويريكم الإِراءةَ حالَ كونِها مُشْبِهةً ذلك الإِحياءَ ، وقد تقدَّم أنه
مذهبُ سيبويه ، والموتى جمع « مَيِّت » وقد تقدَّم .
قوله : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الرؤيةُ هنا بَصَريَّةٌ فالهمزةُ للتعديةِ
أَكْسَبَتِ الفعلَ مفعولاً ثانياً ، وهو « آياتِه ، والمعنى : يَجْعلكم مُبْصِرينَ
آياتِه . و » كم « هو المفعولُ الأولُ ، وأصلُ يُريكم : يُأَرْإيكم ، فَحُذِفَت
همزةَ أَفْعل في المضارعةِ لِما تقدَّم في » يُؤْمنون « وبابه ، فبقي يُرئيكم ،
فَنُقِلت حركةُ الهمزة على الراءِ ، وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، وهو نقل لازمٌ في
مادةِ » رأى « وبابِه دون غيره ممَّا عينُه همزةٌ نحو : نَأَى يَنْأَى ، ولا يجوز
عدمُ النقلِ في رأى وبابِه إلا ضرورةً كقوله :
550 أُري عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ ... كِلانا عالمٌ بالتُّرَّهاتِ
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قوله
تعالى : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } : « أو » هذه ك « أو » في قوله : { أَوْ
كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فكلُّ ما قيلَ فيه ثَمَّةَ يمكنُ القولُ به هنا ،
ولمَّا قال أبو الأسود :
551 أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً ... وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا
اعترضوا عليه في قوله « أو » التي تقتضي الشكَّ ، وقالوا له : أَشَكَكْتَ؟ فقال :
كَلاَّ ، واستدلَّ بقولِه تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي
ضَلاَلٍ } [ سبأ : 24 ] وقال : أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ وإنما قَصَد
رحمه الله الإِبهامَ على المخاطب . و « أشدُّ » مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ «
كالحجارة » أي : فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ . والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً
فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكونَ اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء ، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ
محذوفٍ أي : أو هي أشدُّ . و « قسوة » نصبٌ على التمييزِ؛ لأنَّ الإِبهامَ حَصَلَ
في نسبةِ التفضيلِ إليها ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي : أشدُّ قسوةً
من الحجارةِ .
وقُرئ « أشدَّ » بالفتح ، ووجهُها أنه عَطَفَها على « الحجارة » أي : فهي كالحجارة
أو كأشدَّ منها . قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ : « وأشدُّ معطوفٌ على الكاف :
إمَّا على معنى : أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ،
وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على الحجارة » . ويجوز على ما قاله أن
يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله ، كقراءة : { والله يُرِيدُ
الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بجرِّ الآخرةِ ، أي : ثوابَ الآخرةِ ، فيحصُلُ من هذا
أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ . وقال الزمخشري
أيضاً : « فإنْ قلت : لِمَ قيل » أشدُّ قسوةً « وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه
أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ؟ يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً
غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ ثم قال : » قلت : لكونِه
أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى ،
ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة ، كأنه قيل : اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم
أشدُّ قسوةً « وهذا كلامٌ حسنٌ جداً ، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ
منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ ، وكلاهما
ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ . وقُرئ : قَساوة .
قوله : { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ } اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم » إنَّ
« ، لتقدُّمِ الخبرِ وهو { مِنَ الحجارة } ، وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ
ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ
، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك ، والضميرُ في » منه « يعودُ على » ما « حَمْلاً على
اللفظ ، قال أبو البقاء : » ولو كان في غيرِ القرآنِ لجازَ « منها » على المعنى «
قلت : هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك .
وقرأ
مالك بن دينار : « يَنْفَجِرُ » من الانفجار . وقرأ قتادة : { وَإِنْ مِنَ الحجارة
} بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين « إنْ » النافية ، وكذلك {
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } وهذه القراءة
تحتمل أن تكونَ « ما » فيها في محل رفع وهو المشهورُ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ
لأنَّ « إنْ » المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ
كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة مَنْ قرأه . وقال في
موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] إلاَّ أنَّ المشهورَ
الإِهمالُ . و { يَشَّقَّقُ } أصلُه : يَتَشَقَّقُ ، فأُدْغم ، وبالأصلِ قرأ
الأعمشُ ، وقرأ طلحة بن مصرف : « لَمَّا » بتشديد الميم في الموضعين ، قال ابن
عطية : « وهي قراءة غير متجهة » وقرأ أيضاً : « يَنْشَقُّ » بالنون ، وفاعلُه ضمير
« ما » وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ » يَشَّقَّقُ
« يجوز أن يُجْعَلَ للماء على المعنى ، فيكونَ معك فعلان ، فيعملُ الثاني منهما في
الماء ، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ/ على شريطةِ التفسيرِ ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ
الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ » يعني أنه من باب التنازع ، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ
من « يَشَّقَّق » على « ما » الموصولة دلَّ عليه قوله « مِنْه » والتقديرُ : وإنَّ
من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ الماءُ منه . وقال أيضاً : « ولو
قُرئ » تتفجَّر « بالتاءِ جاز » قلتُ : قال أبو حاتم يجوز « لما تتفجَّر » بالتاء
لأنه أَنَّثه بتأنيثِ الأنهار ، وهذا لا يكون في تشَّقَّق يعني التأنيث . قال
النحاس : « يجوز ما أنكره على المعنى ، لأنَّ المعنى : وإنَّ منها لحجارةً
تَتَشَقَّقُ » يعني فيراعي به معنى « ما » فإنَّها واقعةٌ على الحجارة .
قوله : { مِنْ خَشْيَةِ الله } منصوبُ المحلِّ متعلقٌ ب « يَهْبِط » . و « مِنْ »
للتعليل ، وقال أبو البقاء : [ « مِنْ » ] في موضع نصب بيهبط ، كما تقول : يهبط
بخشيةِ الله ، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية ، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى .
وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه : مِنْ أن يَخْشَى اللهَ .
وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ ، كقوله :
552 لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجبالُ
الخُشَّعُ
ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك . وقيل :
الضميرُ في « منها » يعودُ على القلوبِ وفيه بُعْدٌ لتنافُرِ الضمائر .
قوله { وَمَا الله بِغَافِلٍ } قد تقدَّم في قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [
البقرة : 8 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه .
قوله : { عَمَّا تَعْمَلُونَ } بغافل ، و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، فلا بد من عائدٍ
أي : تعملونه ، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه ، أي عن عملِكم ، ويجوز أن يكونَ
واقعاً موقعَ المفعولِ به ، ويجوز ألاَّ يكون . وقُرِئ « يعملون » بالياءِ والتاءِ
.
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله
تعالى : { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } . . ناصبٌ ومنصوبٌ ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ
النونِ ، والأصلُ : في أَنْ ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ على ما عُرِفَ غيرَ مرةَ ،
وعَدَّى « يؤمنوا » باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإِيمان لأجلِ دعوتِكم
، قاله الزمخشري وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { وَقَدْ كَانَ } الواو للحالِ . قالَ بعضُهم : « وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ
موضعَها » إذ « والتقدير : أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون
لكلام الله تعالى . و » قد « مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً . و
» يَسْمَعُون « خبراً كان ، و » منهم « في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ ، أي : فريقٌ
كائنٌ منهم . وقال بعضُهم : { يَسْمَعُونَ } في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق ، و » منهم
« في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وهذا ضعيفٌ . والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن
لفظِه كرهط وقوم ، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم . وقُرئ {
كَلِمَ الله } وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة ، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم ،
بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ فصاعداً ،
لأنه جَمْعٌ في المعنى ، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من
وجهٍ ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِهم . وهل الكلامُ مصدرٌ أو اسمُ مصدر؟ خلافٌ .
والمادةُ تَدُلُّ على التأثير ، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ ، والكلامُ يؤثِّر في
المخاطب قال :
553 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجُرْحُ اللسانِ
كجُرْحِ اليَدِ
ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإِشارةِ كقوله :
554 إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ ... رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وعلى النفساني ، قال الأخطل :
555 إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا
قيل : ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل ، وأمَّا عند النحويين فلا
يُطْلَقُ إلا على اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع .
قوله : { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } متعلِّقٌ ب { يُحَرِّفُونَهُ } . والتحريفُ
: الإِمالة والتحويلُ ، و » ثم « للتراخي : إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ ، و » ما
« يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي : ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي
فَهِموه وعَرفوه . ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في » عَلَقوه « يعودُ حينئذٍ
على الكلامِ ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه . قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
جملةٌ حاليةٌ ، وفي العاملِ فيها قولان ، أحدهما : { عَقَلُوهُ } ، ولكنْ يلزَمُ
منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً ، لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه » عَلَقُوه «
والثاني : وهو الظاهرُ ، أنه يُحَرِّفونه ، أي يُحَرِّفونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
قوله
تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ } . . الآية ، قد تقدَّم نظيرُها أولَ السورةِ ، وقد
تقدَّم الكلامُ على مفرداتها وإعرابها ، فأغنى ذلك من الإِعادة .
وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن
أحوال اليهودِ والمنافقين . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً
على الجملة الحالية قبلها وهي : « وقد كان فريقٌ » والتقدير : كيف تطمعون في
إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع : لاقُوا ، وهو بمعنى
لَقوا ، فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : سافر وطارَقْتُ النعل .
قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه ، وما موصولةٌ بمعنى الذي
والعائدُ محذوفٌ أي : فَتَحَه الله . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو
مصدريةً ، أي : شيءٌ فَتَحه ، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً ، أو بفتحِ الله عليكم . وفي
جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك : { لِيُحَآجُّوكُم
بِهِ } عائدٌ على « ما » هذا هو الظاهرُ ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعودِ عليها
ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر بن السراج ، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ
فيُقال : الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } أو
من قوله فَتَح ، أي : لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه ، أو بالفتح الذي
فَتَحه الله عليكم . والجملةُ من قولِهِ : « أتُحَدِّثونهم في محلِّ نصبٍ بالقَوْل
، والفتحُ هنا معناه الحكمُ والقَضاءُ ، وقيل : الفَتَّاحُ : القاضي بلغةِ اليمن ،
وقيل الإِنزالُ . وقيل : الإِعلامُ/ أو التبيينُ بمعنى أنه بَيَّنَ لكم صفة محمدٍ
عليه السلام ، أو المَنُّ بمعنى ما مَنَّ عليكم به من نَصْرِكم على عَدُوِّكم ،
وكلُّ هذه أقوالٌ مذكورةٌ في التفسيرِ .
قوله : { لِيُحَآجُّوكُم } هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل ، كما
أنَّ » كي « كذلك ، لا بمعنى أنها تَنْصِبُ ما بعدَها بإضمار ب » كي « كما سيأتي ،
وهي حرفُ جرٍّ ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً
بعدها ، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه
غيرُ صريح . والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان
والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [
الحديد : 23 ] لأن » أَنْ « هي أُمُّ البابِ ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ
غيرِها . وقال الكوفيون : » النصبُ باللامِ نفسِها ، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي
وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد « ، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو .
ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع
بعدها » لا « نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، { لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] ، وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لاَميْن
فيثقُل اللفظُ . والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها
لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح .
وهذه
اللامُ متعلقةٌ بقوله : « أَتُحَدِّثُونهم » . وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ ب «
فَتَحَ » ، وليس بظاهرٍ ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست علة للفتح ، وإنما هي نَشَأَتْ
عن التحديث ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ : تَتَعَلَّقُ به على أنها لامُ العاقبة ، وهو
قولٌ قيل بهِ فصارَ المعنى أنَّ عاقبةَ الفتحِ ومَآلَة صارَ إلى أَنْ حاجُّوكم ،
أو تقول : إنَّ اللام لامُ العِلَّة على بابِها ، وإنَما تَعَلَّقَتْ بفَتْحِ لأنه
سببٌ للتحديث ، والسَّبَبُ والمُسَبَّبُ في هذا واحدٌ . قوله : « به » الضميرُ
يعودُ على « ما » من قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } وقد تقدَّم أنه يضعفُ القولُ
بكونِها مصدريةً ، وأنه يجوز أن يعود على أحدِ المصدَرَيْنِ المفهومين من «
أَتُحَدِّثُونهم » و « فتح » .
قوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ظرفٌ معمولٌ لقولِه : { لِيُحَآجُّوكُم } بمعنى
لِيحاجُّوكم يومَ القيامة ، فًَكَنَى عنه بقوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ، وقيل : «
عندَ » بمعنى في ، أي : ليحاجُّوكم في ربكم ، أي : فيكونون أَحَقَّ به منكم . وقيل
: ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي : عند ذِكْرِ ربِّكم ، وقيل : هو معمولٌ لقولِه : {
بِمَا فَتَحَ الله } أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم ، وهو نَعْتُه عليه
السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه . ورجَّحه بعضُهم وقال : « هو الصحيح ، لأنَّ
الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا » وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة ، وذلك
أنَّ { لِيُحَآجُّوكُم } متعلقٌ بقوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } على الأظهرِ كما
تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ به بين العاملِ وهو فَتَح وبين معمولِه وهو عند ربك وذلك
لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها . وفي هذه الجملةِ
قولان : أحدُهما [ أنها ] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ . والثاني أنها من خطابِ الله
تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني ،
ومفعولُ { تَعْقِلُونَ } يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ .
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
قوله تعالى : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله } . . تقدَّم أنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ النيةَ بالواوِ التقديمُ على الهمزةِ لأنَّها عاطفةٌ ، وإنما أُخِّرَتْ عنها لقوةِ همزةِ الاستفهام ، وأنَّ مذهبَ الزمخشري تقديرُ فِعْلٍ بعدَ الهمزةِ ، ولا للنفي . و { أَنَّ الله يَعْلَمُ } يجوزُ أن تكونَ في محلِّ نصبٍ ، وفيها حينئذٍ تقديران ، أحدُهما أنَّها سادَّةٌ مسَدَّ مفردٍ إن جَعَلْنَا عَلِمَ بمعنى عَرَف ، والثاني : أنها سادةٌ مَسَدَّ مفعولَيْن إنْ جَعَلْنَاها متعديةً لاثنين كظنَنْتُ ، وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهبُ سيبويهِ والجمهور ، وأنَّ الأخفشَ يَدَّعي أنها سَدَّتْ مَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ ، و « ما » يجوز أن تكونَ بمعنى الذي وعائدُها محذوف ، أي : ما يُسِرُّونه ويُعْلِنُونه ، وأن تكونَ مصدريةً أي : يعلم سِرَّهم وعَلَنَهم ، والسِرُّ والعلانِيَةُ متقابِلان .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
قوله
تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } . . « منهم » خبرٌ مقدَّمٌ ، فيتعلَّقُ
بمحذوفٍ . و « أمِّيُّون » مبتدأٌ مؤخر ، ويجوزُ على رأي الأخفشِ أن يكونَ فاعلاً
بالظرف قبلَه وإنْ لم يَعتمدْ ، وقد بَيَّنْتُ على ماذا يعتمد فيما تقدَّم . «
وأمِّيُّون جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ ، واختُلف في نسبته ، فقيل : إلى
الأُم وفيه معنيان : أحدُهما : أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ
الكتابة وليس مثلَ أبيه ، لأن النساءَ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ . والثاني :
أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمُّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ . وقيل
: نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا
ذلك . وقيل : نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم :
عامِّي أي : على عادة العامَّة . وعن ابن عباس : » قيل لهم أمِّيُّون لأنهم لم
يُصَدِّقوا بأم الكتاب « وقال أبو عبيدة : » قيل لهم أُمِّيُّون لإِنزالِ الكتابِ
عليهم كأنهم نُسبوا لأُمِّ الكتاب « .
وقرأ ابن أبي عبلة : » أُمِّيُون « بتخفيف الياء ، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ
تضعيفين .
قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ ، كأنه
قيل : أُمِّيُّون غيرُ عالمين .
قوله : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } هذا استثناءٌ منقطعُ ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ
الكتابِ ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه ، وهذا هو المنقطعُ ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ
دخولُه بوجهٍ ما كقولِه : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [
النساء : 157 ] / وقولِ النابغة :
556 حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
لأنَّ بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ ، ولهذا لا يَجُوز : صَهَلَت الخيلُ إلا
حماراً .
واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن : ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو :
» جاء القومُ إلا حماراً « وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون : » ما
زاد إلا ما نَقَصَ ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ « فالأول فيه لغتان : لغةُ الحجازِ
وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل ، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ
والإِتباعُ ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول ، فيَحْتملُ نصبُها وجهين ،
أَحَدُهُما : على الاستثناء المنقطع ، والثاني : أنه بدلٌ من الكتاب ، و » إلا «
في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين ب » لكن « وعند الكوفيين ب » بل « . وظاهرُ كلام
أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ ، فإنَّه قال : { إِلاَّ
أَمَانِيَّ } استثناء منقطع ، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم ، وتقديرُ »
إلاَّ « في مثلِ هذا ب » لكنْ « ، أي : لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ ، فيكونُ عندَه من
بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ ، فيصيرُ نظيرَ : » ما علمتُ إلا ظناً « وفيه
نظرٌ .
والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما .
وقال
أبو البقاء : « يجوز تخفيفُها فيهما » . وقرأ أبو جعفر بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى
الياءَين ، تخفيفاً ، قال الأخفش : « هذا كما يُقال في جمعِ مفتاح : مفاتح ومفاتيح
» ، قال النحاس : « الحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ » وأنشد قول النابغة :
557 وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العمى ... ثلاثُ الأَثافي والرسومُ
البلاقِعُ
وقال أبو حاتم : « كلُّ ما جاء واحدُه مشدَّداً من هذا النوع فلك في الجمعِ
الوجهان » وأصلُه يَرْجِعُ إلى ما قال الأخفش . ووزن أُمْنِيَّة : أُفْعُولة من
منَّى يُمَنِّي إذا تلا وقرأ ، قال :
558 تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلِهِ ... تَمَنِّىِ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
وقال كعب بن مالِك :
559 تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ ... وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال تعالى : « إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ » ، أيَ : قَرَأَ
وتَلا ، فالأصلُ على هذا : أُمْنُوية ، فاعتلَّت اعتلالَ ميِّت وسيِّد ، وقد
تقدَّم . وقيل : الأمنيَّةُ الكذبُ والاختلاقُ . وقيل ما يتمنَّاه الإِنسان
ويَشْتهيه . وقيل : ما يُقَدِّرُه وَيَحْزِرُه مِنْ مَنَّى إذا كَذَبَ أو تمنَّى
أو قدَّر ، كقوله :
560 لا تأْمَنَنَّ وأنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ ... حتى تُلاقِي ما يَمْني لكَ الماني
أي : يقدِّر لك المقدِّرُ . وقال الراغب : « والمَنْيُ القَدْرُ ، ومنه » المَنا «
الذي يُوزَنُ به ، ومنه : المَنِيَّة وهو الأجَل المقدَّرُ للحيوان ، والتمنِّي :
تقديرُ شيءٍ في النفسِ وتصويرُه فيها ، وذلك قد يكونُ عن ظَنٍّ وتخمين ، وقد يكونُ
بناءً على رَوِيَّةٍ وأصلٍ ، لكنْ لمَّا كان أكثرُه عن تَخْمينٍ كان الكذبُ
أَمْلَكَ له ، فأكثرُ التمنِّي تصوُّرُ ما لا حقيقةَ له ، والأُمْنِيَةُ : الصورةُ
الحاصلةُ في النفسِ مِنْ تمنِّي الشيءِ ، ولمَّا كان الكذبُ تَصَوُّرَ ما لا حقيقة
له وإيرادَه باللفظِ صار التَمنِّي كالمبدأ للكذبِ [ فعُبِّر به عنه ، ومنه قولُ
عثمانَ رضي اللهُ عنه : » ما تَغَنَّيْتُ ولا تَمَنَّيْتُ منذ أَسلمْتُ « ] . وقال
الزمخشري : » والاشتقاقُ من مَنَّى إذا قدَّر ، أن المتمنِّي يُقَدِّر في نفسِه
ويَحْزِرُ ما يتمنَّاه ، وكذلك المختلقُ ، والقارئُ يقدِّر أنَّ كلمةَ كذا بعد كذا
« فجَعَلَ بين هذه المعاني قَدْراً مشتركاً وهو واضحٌ .
قولُه : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } » إنْ « نافيةٌ بمعنى ما ، وإذا كانت
نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ » ما « الحجازيةِ ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه
لسيبويهِ وأَنْشدوا :
561 إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ ... إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين
و » هو « اسمُها و » مستولياً « خبرُها ، فقولُه » هم « في محلِّ رفعٍ بالابتداء ،
لا اسم » إنْ « لأنها لم تَعْمَل على المشهور ، و » إلاَّ « للاستثناء المفرغ ، و
» يَظُنُّونَ « في محلِّ الرفع خبراً لقولِه » هم « وحَذَفَ مفعوليَ الظنِّ للعلمِ
بهما ، أو اقتصاراً ، وهي مسألةُ خلافِ .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
قولُه
تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ } . . وَيْلٌ مبتدأ وجاز الابتداء به
وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم ، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له
نحو : « سلامٌ عليكم ، أو عليه كهذه الآية ، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ
بمحذوف . وقال أبو البقاء : » ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير : أَلْزَمَهم
الله ويلاً ، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر « يعني أنَّ
اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وقولُه : » لأنَّ الاسم « يعني
أنه لو ذُكِرَ قبلَ » ويلَ « فقلت : » ألزم الله زيداً ويلاً « لم يَحْتَجْ إلى
تبيين بخلاف ما لو تأخر ، وعبارةُ الجَرْميّ توهم وجوبَ الرفعِ في المقطوعِ عن
الإضافة ، ونَصَّ الأخفش على جوازِ النصبِ فإنه قال : » ويجوزُ النصبُ على إضمار
فعلٍ أي : أَلْزمهم الله ويلاً « .
واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي : وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ
بأفعالٍ من غير لفظِها ، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ ، لا يجوز إظهارُها البتة
أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ ، وإذا فُصِل عن الإِضافةِ فالأحسنُ فيه
الرفعُ ، نحوَ : » وَيْلٌ له « وإن أُضِيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم ، وإن كان
عِبارةُ الجرميّ توهُم وجوبَ الرفعِ عند قَطْعِه عن الإِضافة فإنه قال : » فإذا
أَدْخَلْتَ اللامَ رَفَعْتَ فقلت : ويلٌ له ، وَوَيْحٌ له « كأنه يُريد على الأكثر
، ولم يَسْتعمل العربُ منه فعلاً لاعتلالِ عينه وفائِه ، وقد حَكى ابن عرفة : » تَوَيَّلَ
الرجلُ « إذا دَعا بالوَيْل ، وهذا لا يَرُدُّ ، لأنه مثلُ قولهم : » سَوَّفْتَ
ولَوْلَيْتَ « إذا قلتَ : له سوفَ ولو .
ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل ، وقال الأصمعي : الوَيْلُ : التفجُّع ،
والوَيْل : الترحُّم . وقال سيبويه : » وَيْل ، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة ،
ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك « وقيل : الويلُ الحُزن ، وهل ويْل
ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ ، وقد تقدَّم ما فرَّق به
سيبويه في بعضِها . وقال قومٌ : وَيْلٌ في الدُّعاء عليه ، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ
عليه . وزعم الفرّاء أن أصلَ وَيْل : وَيْ أَي حُزْن ، كما تقول : وَيْ لفلان ، أي
حُزْن له ، فَوَصَلَتْه العربُ باللام ، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا
غريبٌ جداً . ويقال : وَيْل وويلَة بالتاء ، وقال امروء القيس :
562 له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ ... لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ
يَشْكُرا
وقال أيضاً :
563 ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ : لَكَ الوَيْلاتُ
إنَّك مُرْجِلي
فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية/ لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ
والتاءِ لا يَنقَاسُ .
قوله { بِأَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيكُتبون ، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من » الكتاب
« ، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب ، فنصبُه على المفعولِ به ، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ
مصدراً على بابِه ، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ ،
ونحوُه :
{
وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، { يَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . وقيل : فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك
بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم ، فإنَّ قولَك : فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه
أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه ، نحو : بنى الأميرُ المدينةَ ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا
المجازِ . وقيل : فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم ، فإنَّ المباشِرَ
للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه . وهذان القولان قريبان من التأكيد ،
فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز . وقال ابن السَّرَّاج : « ذِكْرُ
الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم » وهذا الذي
قاله لا يَلْزَمُ .
والأيدي جمعُ يَدٍ ، والأصلُ : أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة
فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو : بِيْض جمعَ أَبْيض
، والأصلُ : بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر ، وهذا رأيُ سيبويه ، أعني أنه
يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه ، وسيأتي تحقيقُ
مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ « معيشة » إنْ شاء الله تعالى .
وأصل يَد : يَدْي بسكونِ العَيْنِ ، وقيل : يَدَي بتحريكِها ، فتحرَّك حرفُ العلة
وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً ، وعليه التثنيةُ : يديان ،
وعليه أيضاً قوله :
564 يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا ... تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا
والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامِها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ]
، وقد شَذَّ الردُّ في قوله : « يَدَيانِ :
565 يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ ... قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ
وتُقْهَرا
وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو : كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب . ولا بدَّ في قوله : {
يَكْتُبُونَ الكتاب } مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى ، فقدَّره الزمخشري : »
يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ « وقدَّرَه غيرُه حالاً من الكتاب تقديرُه : يكتُبون
الكتابَ مُحَرَّفاً ، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإِضمارِ لأنَّ الإِنكارَ لاَ
يَتَوَجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره .
قوله : { لِيَشْتَرُواْ } اللامُ لامُ كي ، وقد تقدَّمت . والضميرُ في » به «
يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم : { هذا مِنْ عِنْدِ الله } و » ثمناً « مفعولُه
، وقد تقدَّم تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ
بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه ، واللامُ
متعلقةٌ بيقولون ، أي : يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ . وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَها
متعلقةً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه قولُه { مِنْ عِنْدِ الله } .
قوله : { مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر
، و » مِنْ « للتعليلِ ، و » ما « موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ ، ويجوزُ أن
تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي : كَتَبَتْهُ ،
ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : مِنْ كَتْبِهم ، و { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا
يَكْسِبُونَ } مثلُ ما تقدَّم قبلَه ، وإنما كرَّر » الوَيْل « ليُفيدَ أنَّ
الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ
، وإنَّما قَدَّم قولَه : » كَتَبَتْ « على » يَكْسبون « لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ
فنتيجتُها كسبُ المالِ ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ ، فجاء النَّظْمُ على
هذا .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
قوله
تعالى : { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } . . هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، فأيَّاماً
منصوبٌ على الظرفِ بالفعلِ قبلَه ، والتقديرُ : لَنْ تَمَسَّنا النارُ أبداً إلا
أياماً قلائلَ يَحْصُرُها العَدُّ ، لأن العَدَّ يَحْصُر القليلَ ، وأصلُ أَيَّام
: أَيْوام لأنه جمعُ يوم ، نحو : قَوْم وأَقْوامٍ ، فاجتمع الياءُ والواوُ
وَسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَوَجَبَ قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياءِ في
الياءِ ، مثل هيّن وميّت .
قوله : { أَتَّخَذْتُمْ } الهمزةُ للاستفهامِ ، ومعناهُ الإِنكارُ والتقريعُ ،
وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الوصل الداخلةِ على « اتَّخَذْتُم » كقوله : { أفترى
عَلَى الله } [ سبأ : 8 ] ، { أَصْطَفَى } [ الصافات : 153 ] وبابه . وقد تقدَّم
القولُ في تصريفِ { اتخذتم } [ البقرة : 67 ] وخلافُُ أبي علي فيها . ويُحْتَمَلُ
أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد . قال أبو البقاء : « وهو بمعنى جَعَلْتُم المتعدية
لواحد » ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها بمعنى « جَعَل » في تعدِّيها لواحد ، بل المعنى
: هل أَخَذْتُم مِنَ اللهَ عَهْداً ، ويُحتملُ أَنْ تتعدى لاثنين ، والأولُ « عهد »
، والثاني « عند الله » مقدَّماً عليه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ « عند الله »
باتَّخَذْتُمْ ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ . ويجوزُ نَقْلُ حركةِ همزةِ
الاستفهامِ إلى لام « قُلْ » قبلَها فَتُفْتَحُ وتُحْذَفُ الهمزةُ وهي لغةٌ
مطَّرِدَةٌ قرأَ بها نافع في روايةِ ورش عنه .
قوله : { فَلَنْ يُخْلِفَ الله } هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله : {
أَتَّخَذْتُمْ } وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ ، أو بطريقِ إضمار
الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ؟ قولان ، تقدَّم تحقيقُهما . واختار الزمخشري
القولَ الثاني ، فإنه قال : { فَلَنْ يُخْلِفَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه : إن
اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه « . وقال ابنُ عطية :
» فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه : اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ . كأنه يَعْني بذلك أنَّ
قولَه : « أم تَقُولون » مُعادِلٌ لقولِه : « أَتَّخَذتم » فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ
بين المتعادِلَيْنِ معترضةً ، والتقديرُ : أيُّ هذين واقعٌ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم
قولِكم بغيرِ علمٍ ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإِعراب ، وعلى الأول محلُّها
الجَزْمُ .
قوله : { أَمْ تَقُولُونَ } أمْ « هذه يجوزُ فيها وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ
متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين ، أي : أيُّ هذين واقعٌ ، وأَخْرَجَهَ
مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه ، وإنْ [ كان ] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما ، وهو قولُهم على
اللهِ ما لا يعلمون للتقرير ، ونظيرُه : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى
أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] وقد عُلِمَ أيُّهما على هدىً وأيُّهما
في ضلالِ ، وقد عَرَفْتَ شروطَ المتصلةِ أولَ السورة . ويجوزُ أن تكونَ منقطعةً ،
فتكونَ غيرَ عاطفةٍ ، وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ/ والتقديرُ : بل أتقولون ، ويكونُ
الاستفهامُ للإِنكارِ لأنه قد وقع القولُ منهم بذلك ، هذا هو المشهورُ في أمِ
المنقطعةِ . وزعم جماعةٌ أنها تُقَدَّر ب » بل « وجدَها دونَ همزةِ استفهامٍ ،
فَيُعْطَفُ ما بعدَها على ما قبلها في الإِعرابِ ، واستدَلَّ عليه بقولِهم : إنَّ
لنا إبلاً أَمْ شاءً ، بنصْبِ » شاء « وقول الآخر :
566
وَليْتَ سليمى في المَنَامِ ضَجيعتي ... هنالِكَ أَمْ في جنةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
تقديره : بل في جهنَّمَ ، ولو كانَتْ همزةُ الاستفهامِ مقدَّرةً بعدَها لَوَجَبَ
الرفعُ في « شاء » و « جهنم » على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وليس لقائلٍ أن يقولَ
: هي في هذين الموضعينِ متصلةٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أنَّ شرطَها أَنْ تتقدَّمَها
الهمزةُ لفظاً أوْ تقديراً ، ولا يَصْلُحُ ذلك هنا .
قوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } « ما » منصوبةٌ بتقولون ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي
أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ ، أي : ما لا تعلمونه ،
فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ
أن تكونَ هنا مصدريةً .
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
قوله
تعالى : { بلى } . . حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي ، إلاَّ أَنَّ « بلى
» جوابٌ لنفي متقدِّمٍ ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا ، فيكونُ إيجاباً له نحو قول
القائلِ : ما قام زيدٌ فتقولُ : بلى ، قد قام ، وتقول : أليس زيداً قائماً؟ فتقول
بلى ، أي : هو قائم ، قال تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [
الأعراف : 172 ] ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا : نَعَمْ لَكَفروا . فأمَّا
قولُه :
567 أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي
نَعَمْ وترى الهلالَ كما أَراه ... وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني
فقيل : ضرورةٌ ، وقيل : نَظَرَ إلى المعنى؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي
قَرَّره ، وبهذا يُقال : فكيفَ نُقِل عن ابنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا ،
مع أنَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل : قَوْلُه : « نعم » ليس جواباً ل « أليس » إنما
هو جوابٌ لقولِه : « فذاكَ بنا تَداني » فقوله تعالى : « بلى » رَدٌّ لقولِهم : {
لَن تَمَسَّنَا النار } أي : بلى تَمَسُّكم أبداً ، بدليلِ قولِه : { هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ } قاله الزمخشري ، يريد أن « أبداً » في مقابَلَةِ قولهم : { إِلاَّ
أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } وهو تقديرٌ حَسَنٌ . والبصريون يَقُولون : إنَّ « بلى »
حرفٌ بسيطٌ . وزعم الكوفيون أنَّ أصلها بل التي للإِضراب ، زِيْدَتْ عليها الياء
ليَحْسُنَ الوقف عليها ، وضُمِّنت الياء معنى الإِيجاب ، قيل : تَدُلُّ على رَدِّ
النفي والياءُ تَدُلُّ على الإِيجابِ ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ ، وإنما سَمَّوْها
ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ ، ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ غيرُ هذا ،
وسيأتي الكلامُ إن شاء الله في بقيةِ حروفِ الجواب .
قولُه : { مَن كَسَبَ } يجوزُ « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ موصولةً بمعنى
الذي . والخبرُ قولُه : « فأولئك » ، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ
الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم . ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً
وهو قولُه : { والذين كَفَرواْ } ، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً ، والجوابُ قولُه «
فأولئك » وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء ، لكنْ إذا قلنا إنها
موصولةٌ كان الخبر : « فأولئك » وما بعد بلا خلافٍ ، ولا يكونُ لقولِه { كَسَبَ
سَيِّئَةً } وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً ، وإذا قلنا إنها
شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ : إمَّا الشرطُ أو الجزاءُ أو هما ، حَسْبما
تقدَّم ، ويكونُ قولُه « كَسَب » وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط .
و « سَيِّئَةً » مفعولٌ به ، وأصلُها : سَيْوِئةَ ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء ،
فوزنُها فَيْعِلة ، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ،
فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت ، وقد تقدَّم . وراعى لفظ « مَنْ » مرةً فأفرَدَ في
قوله « كسب » ، و « به » و « خطيئته » ، والمعنى مرةًً أخرى ، فَجَمَع في قوله : {
فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وقرأ
نافعٌ وأهلُ المدينة : « خطيئاتُه » بجمعِ السلامة ، والجمهور : « خطيئتُه »
بالإِفراد . ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة . وفيهما أقوالٌ «
، أحدُهما : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين . الثاني : السيئةُ الكفرُ ،
والخطيئةُ الكبيرةُ . الثالث : عكسُ الثاني . فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ
والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ
المرادَ به جنسُ الكبيرةِ . ووجهُ قراءِة نافعٍ على الوجهِ الأول والثالثِ أَنَّ
المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ ، وعلى الوجه الثاني
أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ . وقيل : المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ
المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها ، كأنَّه قال : وأَحاطَتْ به
خطيئتُه تلك ، أي السيئة ، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ ، أو يُراد بهم العصاةُ
، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون .
وقوله : { فأولئك أَصْحَابُ } إلى آخره تقدَّمَ نظيرُه فلا حاجةَ إلى إعادَتِه .
وقُرئ » خطاياه « تكسيراً وهذه مخالِفةٌ لسَوادِ المصحفِ ، فإنه رُسِم » خطيئتُه «
بلفظِ التوحيدِ . وقد تقدَّم القول في تصريف خطايا .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قولُه
تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا } . . « إذ » معطوفٌ على الظروفِ التي قبله ، وقد
تقدَّم ما فيه من كونِه متصرفاً أو لا . و « أَخَذْنا » في محلِّ خفضٍ ، أي :
واذكر وقتَ أَخْذِنا ميثاقَهم أو نحو ذلك .
قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ } قُرئ بالياءِ والتاء ، وهو ظاهرٌ . فَمَنْ قَرَأَ
بالغَيْبة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة ، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو
التفاتٌ ، وحكمتُه أنَّه أدعى لقبولِ المخاطبِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه ،
وجَعَل أبو البقاء قراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ . قال : « يُقْرَأُ بالتاء
على تقدير : قُلْنا لهم : لا تَعْبُدون إلا الله » وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ ، وفي
هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإِعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : أنَّها
مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني
إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له ، ولا
محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من « بني
إسرائيل » وفيها حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا
مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا . والثاني : أنها حالٌ مقارِنةٌ
بمعنى : أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإِقامةَ على التوحيد ، قالَه أبو البقاء ،
وسَبَقَه إلى ذلك قطرب والمبرِّد ، وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحال من المضافِ إليه/
في غير المواضِع الجائز فيها ذلك على الصحيحِ ، خلافاً لمَنْ أجازَ مجيئَها من
المضافِ إليه مطلقاً ، لا يُقال المضافُ إليه معمولٌ في المعنى لميثاق ، لأنَّ
ميثاقاً إمَّا مصدرٌ أو في حكمه ، فيكونُ ما بعده إمَّا فاعلاً أو مفعولاً ، وهو [
غير ] جائز لأنَّ مِنْ شرطِ عملِ المصدرِ غير الواقِعِ موقعَ الفعلِ أَنْ ينحلَّ
لحرفٍ مصدريٍ وفعل هذا لاَ يَنْحَلُّ لهما ، لَو قَدَّرْتَ : وإذ أَخَذْنا أن
نواثِقَ بني إسرائيلَ أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يَصِحَّ ، ألا ترى أنَّك لو
قُلْتَ : أَخَذْتُ علمَ زيدٍ لم يتقدَّر بقول : أخذت أَنْ يعلَمَ زيدٌ ، ولذلك
مَنَع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه : « هذا بابُ علم ما الكِلمُ من العربية » أن
يُقَدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدري والفعل ، وَردَّ وأنكر على مَنْ أجازه . الثالث : أن
يكنَ جواباً لقسمٍ محذوفٍ دَلَّ عليه لفظُ الميثاق ، أي : استَحْلَفْناهم أو قلنا
لهم : باللهِ لا تعبدون . ونُسِب هذا الوجهُ لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء
والمبرِّدُ . الرابع : أن يكونَ على تقديرِ حَذْفِ حرفِ الجرّ ، وحَذْفِ أَنْ ،
والتقديرُ : أَخَذْنَا ميثاقَهم على أَنْ لا تعبدوا أَو بأَنْ لا تَعْبدوا ،
فَحُذِفَ حرفُ الجر لأنَّ حَذْفَه مطَّردٌ مع أَنَّ وأَنْ كما تقدَّم غيرَ مرة ،
ثم حُذِفَتْ « أَنْ » الناصبةُ فارتفع الفعلُ بعدَها ونظيرُه قولُ طرفة :
568 أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ
مُخْلِدي
وحَكَوا
عن العرب : « مُرْهُ يَحْفِرَها » أي : بِأَنْ يَحْفِرَها ، والتقديرُ : عن أَنْ
أَحْضُرَ ، وبأَنْ يَحْفِرَها ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ إضمارَ « أَنْ » لا ينقاسُ ،
إنَّما يجوزُ في مواضعَ عَدَّها النَّحْويون وجَعَلُوا ما سِواها شاذاً قليلاً ،
وهو الصحيحُ خلافاً للكوفيين . وإذا حُذِفَتْ « أَنْ » فالصحيحُ جوازُ النصبِ
والرفعِ ، ورُوي : « مُرْه يَحْفِرها » ، وأَحْضُر الوغى « بالوجهين ، وهذا رأيُ المبرد
والكوفيين خلافاً لأبي الحسن حيث التزم رفعَه . وللبحثِ موضعٌ غيرُ هذا هو
أَلْيَقُ به . وأيَّد الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ بقراءةِ عبد الله : » لاَ
تَعْبُدوا « على النهي . الخامس : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ المحذوفِ ،
وذلك القولُ حالٌ تقديره : قائلين لهم لا تعبدون إلا اللهَ ، ويكونُ خبراً في معنى
النهي ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ المتقدمة ، وبهذا يَتَّضح عطفُ » وقولوا « عليه ،
وبه قال الفراء . السادس : أَنَّ » أَنْ « الناصبة مضمرةٌ كما تقدَّم ، ولكنها هي
وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلٌ من » ميثاق « ، وهذا قريبٌ من القولِ
الأول من حيثُ إنَّ هذه الجملة مفسِّرةٌ للميثاق ، وفيه النظرُ المتقدم ، أعني
حَذْفَ » أَنْ « في غيرِ المواضِع المَقِيسة . السابعُ : أَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ
محذوفٍ ، وذلك القولُ ليس حالاً ، بل مجرَّدُ إخبارٍ ، والتقديرُ : وقُلْنا لهم
ذلك ، ويكونُ خبراً في معنى النهي . قاله الزمخشري : » كما تقولُ : تذهَبُ إلى
فلانٍ تقولُ له كذا ، تريدُ الأمر ، وهو أَبْلَغُ من صريحِ الأمر والنهي ، لأنَّه
كأنه سُورع إلى الامتثالِ والانتهاءِ فهو يُخْبِرُ عنه ، وتَنْصُره قراءة أُبَي
وعبد الله : « لا تعبدوا » ولا بدَّ من إرادة القول « . انتهى ، وهو كلامٌ حسنٌ
جداً .
الثامن : أن يكونَ التقديرُ : أَنْ لا تعبدون ، وهي » أَنْ « المفسِّرة ، لأنَّ في
قوله : { أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ } إيهاماً كما تقدَّم ، وفيه معنى
القول ، ثم حُذِفَتْ » أَنْ « المفسِّرة ، ذكره الزمخشري . وفي ادِّعاء حَذْفِ
حرفِ التفسيرِ نَظَرٌ لا يخفى .
وقوله : { إِلاَّ الله } استثناءٌ مفرغ ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم
تحقيقُه أولاً . وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، إذ لو جرى الكلامُ على
نَسقَه لقيل : لا تَعْبدون إلا إيانا ، لقوله » أَخَذْنَا « . وفي هذا الالتفاتِ
من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر ، وأيضاً
الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ .
قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تتعلَّقَ الباء
ب » إحساناً « ، على أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر ، والتقديرُ : وأَحْسِنوا
بالوالدَيْنِ ، والباءُ ترادِفُ » إلى « في هذا المعنى ، تقول : أَحْسَنْتُ به
وإليه ، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ ، أي : وأَحْسنوا بِرَّ
الوالدَيْن بمعنى : أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما .
قال
ابن عطية : « يَعْتَرِضُ هذا القولَ أَنْ يتقدَّمَ على المصدرِ معمولُه » وهذا
الذي جَعَله ابنُ عطية اعتراضاً على هذا القولِ لا يتِمُّ على مذهب الجمهور ،
فإنَّ مذهبَهَم جوازُ تقديم معمولِ المصدرِ النائبِ عن فِعْل الأمر عليه ، تقول :
ضرباً زيداً ، وإنْ شئْتَ : زيداً ضرباً ، وسواءً عندهم إنْ جَعَلْنَا العملَ
للفعلِ المقدَّرِ أم للمصدرِ النائبِ عن فِعْلِه فإنَّ التقديمَ عندَهم جائزٌ ،
وإنما يمتنعُ تقديمُ معمولِ المصدرِ المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعلِ ، كما تقدَّم بيانه
آنِفاً ، وإنما يَتِمُّ على مذهبِ أبي الحسن ، فإنه يمنَعُ تقديمَ معمولِ المصدرِ
النائبِ عن الفعلِ ، وخالَفَ الجمهورَ في ذلك . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ ،
وذلك المحذوفُ يجوزُ أَنْ يُقَدَّر فعلَ أمرٍ مراعاةً لقولِه : { لاَ تَعْبُدُونَ
} فإنه في معنى النهي كما تقدَّم ، كأنه قال : لا تَعْبدوا إلا اللهَ وأَحْسِنوا
بالوالدين . ويجوز أن يُقَدَّر خبراً مراعاةً لِلَفْظِ « لا تعبدون » والتقديرُ :
وتُحْسِنُون . وبهذين الاحتمالين قَدَّر الزمخشري ، وَيَنْتَصِبُ « إحساناً »
حينئذٍ على المصدرِ المؤكِّد لذلك الفعلِ المحذوفِ . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ حَذْفَ
عاملِ المؤكِّد منصوصٌ على عدمِ جوازِه ، وفيه بَحْثٌ ليس هذا موضعَه . الثالث : /
أن يكونَ التقديرُ : واستوصُوا بالوالدَيْن فالباءُ تتعلَّقُ بهذا الفعل المقدَّرِ
، وينتصبُ « إحساناً » حينئذٍ على أنه مفعولٌ به . الرابعُ : تقديرُه :
ووصَّيْناهم بالوالدَيْنِ ، فالباءُ متعلِّقةٌ بالمحذوفِ أيضاً ، وينتصبُ «
إحساناً » حينئذٍ على أنه مفعولٌ من أجلهِ ، أي لأجل إحساننا إلى المُوصَى بهم من
حيث إن الإِحسانَ مُتَسَبِّبٌ عن وصيتِنا بهم أو الموصى لِما يترتَّبُ الثوابِ
منَّا لهم إذا أَحْسَنوا إليهم . الخامس : أن تكونَ الباءُ وما عَمِلَتْ فيه عطفاً
على قولِه : { لاَ تَعْبُدُونَ } إذا قيلَ بأنَّ « أَنْ » المصدريةَ مقدرةٌ ،
فينسِبُكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ يُعْطَفُ عليه هذا المجرورُ ، والتقديرُ :
أََخَذْنا ميثاقَهم بإفرادِ الله بالعبادَةِ وبالوالدَيْن ، أي : وبِبِرِّ
الوالدَيْن ، أو بإحسانٍ إلى الوَالدَيْن ، فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بالميثاقِ
لِما فيه من معنى الفعلِ ، فإن الظرفَ وشِبْهَهُ تعملُ فيه روائحُ الأفعالِ ،
وينتصبُ « إحساناً » حينئذٍ على المصدر من ذلك المضافِ المحذوفِ وهو البِرُّ لأنه
بمعناه أو الإِحسانُ الذي قَدَّرناه . والظاهرُ من هذه الأوجهِ إنما هو الثاني
لِعَدَمِ الإِضمارِ اللازم في غَيْره ، ولأنَّ ورودَ المصدرِ نائباً عن فعلِ الأمر
مطَّرد شائِعٌ ، وإنَّما قٌدِّم المعمولُ اهتماماً به وتنبيهاً على أَنَّه أَوْلَى
بالإِحسان إليه مِمَّن ذُكِرَ معه .
والوالدان : الأبُ والأمُ ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد ، قال :
569 ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ لَهُ أبٌ ... وذي وَلَدْ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ
وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قِيل فيها وفى الأب : والدان
تغليباً للمذكَّر . والإِحسانُ : الإِنعامُ على الغير ، وقيل : بل هو أَعَمُّ من
الإِنعام ، وقيل هو النافِعُ لكل شيء .
قوله : { وَذِي القربى } وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ ، وعلامةُ الجرِّ
فيها الياءُ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف
وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون ، وهل إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها .
عشرةُ
مذاهبِ للنحْويين فيها ، ليس هذا موضعَ ذِكْرِها ، وهي من الأسماء اللازمةِ
للإِضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة
باسمِ الجنسِ ، نحو : مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا
في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله :
570 صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ ... أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها
وأنشد الكسائي :
571 إنما يَعْرِفُ المَعْ ... روفَ في الناس ذَوُوه
وعلى هذا قولُهم : اللهم صَلِّ على محمدٍ وذَويه ، وإضافتُه إلى العَلَمِ قليلةٌ
جداً ، وهي على ضَرْبين : واجبةٌ وذلك إذا اقْتَرَنا وَضْعاً نحو : ذي يزن وذي
رَعين ، وجائزةٌ وذلك [ إذا ] لم يقترنا وَضْعاً نحو : ذي قَطَري وذي عمرو ، أي :
صاحبُ هذا الاسمِ ، وأقلُّ من ذلك إضافتُها إلى ضميرِ المخاطب كقوله :
572 وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ مثلَ ما ... رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك
الأفاضلِ
وتَجيء « ذو » موصولةً بمعنى الذي وفروعِه ، والمشهورُ حينئذٍ بناؤها وتذكيرها ،
ولها أحكامٌ كثيرة مذكورةٌ في كتب النحو .
و « القُرْبى » مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى ،
ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم ، قال طَرَفة :
573 وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً ... على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ
المُهَنَّدِ
وقال أيضاً :
574 وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدِّك إنه ... متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادةُ تدل على الدُّنِّو ضد البُعْد .
قوله : { واليتامى } وزنُه فَعالى ، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم
ونَدامى ولا يَنْقاسُ هذا الجمعُ ، واليُتْمُ : الانفراد ، ومنه « اليَتيم »
لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما ، ودُرَّةٌ يتيمةٌ : إذا لم يكنْ لها نظيرٌ . وقيل
: اليُتْم الإِبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ . وقيل : هو
التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه . قال الأصمعي : « اليُتْمُ في
الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات » . وقال
الماوردي : « إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات » والأولُ هو
المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال : يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل : كرُم يكرُم وعَظُم
يَعْظُم عُظْماً ، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ : سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً ،
فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء ، ويقال : أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به
ذلك . وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ ، وإن كانَتْ
للتأنيثِ ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أُضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة ، وهل
يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن
يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو : « يَعْمُرُكمْ » أو لا
فيُسَمَّى منجرَّا نحو : بالأحمر ، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير .
قوله : « والمساكين » جمعُ مِسْكين ، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد
وجَمْعاً على صيغةِ منتهى الجموع ، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عِلَّتين ،
وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ .
وقد
تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه : هل هو بمعنى
الفقيرِ أو أسوأُ حالاً منه كقوله : { مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ]
أي لَصِق جِلْدُه بالتراب بخلافِ الفقير فإنَّ له شيئاً ما ، قال :
575 أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له
سَبَدُ
أو أكملُ حالاً لأنَّ اللهَ جَعَلَ لهم مِلْكاً ما ، قال : { أَمَّا السفينة
فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] خلافٌ مشهور بين العلماء من الفقهاءِ
واللغويين .
قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه { لاَ
تَعْبُدُونَ } في المعنى ، كأنه قال : لا تَعْبدوا إلا الله وأَحْسِنوا بالوالدين
وقُولوا ، أو على « أَحْسِنوا » المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله : {
وبالوالدين إِحْسَاناً } ، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه
: « وقلنا لهم قولوا . وقرئ : حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين ، وحُسْنى من غير
تنوين كحُبْلى ، وإحساناً من الرباعي .
فامَّا قراءة » حُسْناً « بالضم والإِسكان فيَحْتمل أوجهاً ، أحدُها وهو الظاهرُ :
أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه : وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي : ذا
حُسْن . الثاني : أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه جُعِلَ القولُ نفسُه حَسَناً .
الثالث : أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ ، بل هو كالحُلْو والمُرّ ،
فيكون بمعنى » حَسَن « بفتحتين ، فيكونُ فيه لغتان : حُسْن وحَسَن كالبُخْل
والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والعَرَب . الرابع : أنه منصوبٌ على
المصدرِ من المعنى ، فإنَّ المعنى : وَلْيَحْسُن قولُكم حُسْناً .
وأمَّا قراءةُ » حَسَناً « بفتحتين وهي قراءةُ حمزة والكسائي فصفةٌ لمحذوف ،
تقديرُه : قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه » حُسْنا « .
وأمَّا » حُسُناً « بضمَّتين فضمةُ السينِ للإِتباعِ للحاءِ فهو بمعنى » حُسْناً «
بالسكون وفيه الأوجهُ المتقدمةُ .
وأمَّا مَنْ [ قَرَأَ ] » حُسْنى « بغير تنوين ، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى
والرُّجْعى . وقال النحاس في هذه القراءةِ : » ولا يجوزُ هذا في العربية ، لا
يُقال من هذا شيءٌ إلا بالألفِ واللامِ نحو : الكُبْرى والفُضْلَى ، هذا قول
سيبويه ، وتابعه ابنُ عطية على هذا ، فإنه قال : « وردَّه سيبويه لأن أَفْعَل
وفُعْلى لا يجيء إلا معرفةً ، إلا أن يُزال عنها معنى التفضيل ، ويَبْقى مصدراً
كالعُقْبى فذلك جائزٌ وهو وجهُ القراءةِ بها . انتهى وقد ناقشهَ الشيخ ، وقال : »
في كلامِه ارتباكٌ لأنه قال : لأنَّ أفْعَل وفُعْلى لا يَجِيءُ إلا معرفةً ، وهذا
ليس بصحيح . أمَّا « أَفْعَل » فله ثلاثةُ استعمالاتٍ ، أحدُها : أن يكونَ معه «
مِنْ » ظاهرةً أو مقدرةً ، أو مضافاً إلى نكرةً ، ولا يَتَعرَّفُ في هذين بحالٍ .
الثاني : أن يَدْخُلَ عليه أَلْ فيتعرفَ بها ، الثالث : أن يُضَاف إلى معرفةٍ
فيتعرَّفَ على الصحيح . وأمَّا « فُعْلى » فلها استعمالان ، أحدُهما بالألفِ
واللام ، والثاني : الإِضافةُ لمعرفةٍ وفيها الخلافٌُ السابقُ . وقولُه : « إلا
أَنْ يُزال عنها معنى التفضيلِ ويبقى مصدراً » ظاهرُ هذا أنَّ فُعْلى أنثى أَفْعَل
إذا زال عنها معنى التفضيلِ تَبْقى مصدراً وليس كذلك ، بل إذا زَال عن فُعْلى أنثى
أَفْعَل معنى التفضيلِ صارَتْ بمنزلةِ الصفةِ التي لا تفضيلَ فيها ، ألا ترى إلى
تأويلِهم كُبْرى بمعنى كبيرة ، وصُغْرى بمعْنى صغيرة ، وأيضاً فإنَّ فُعْلى مصدراً
لا ينقاسُ ، إنما جاءَتْ منها ألَيْفاظٌ كالعُقْبَى والبُشْرى « .