Translate

الخميس، 13 يوليو 2023

ج2. الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

ج2. الدر المصون في علم الكتاب المكنون


المؤلف : السمين الحلبي

ثم أجابَ الشيخُ عن هذا الثاني بما معناه أنَّ الضميرَ في قولِه « عنها » عائدٌ إلى « حُسْنى » لا إلى فُعْلى أنثى أَفْعل ، ويكون استثناءً منقطعاً كأنه قال : إلا أَنْ يُزال عن حُسْنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل ، ويَصير المعنى : إلا أَنْ يُعْتقد أنَّ « حُسْنى » مصدرٌ لا أنثى أَفْعَل ، وقولُه : « وهو وجهُ القراءة بها » أي : والمصدرُ وَجْهُ القراءة بها . وتخريجُ هذه القراءةِ على وجهين ، أحدُهما : المصدرُ كالبشرى وفيه الأوجهُ المتقدمة في « حُسْناً » مصدراً إلا أنه يَحْتاج إلى إثباتُ حُسْنى مصدراً من قولِ العرب : حَسُنَ حُسْنَى ، كقولهم : رَجَع رُجْعى ، إذ مجيء فُعْلى مصدراً لا يَنْقَاس . والوجهُ الثاني أن تكونَ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي : وقولوا للناس كلمةً حُسْنى أو مقالةً حُسْنى . وفي الوصف بها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للتفضيلِ ، ويكونُ قد شَذَّ استعمالُها غيرَ معرَّفةٍ بال ولا مضافةٍ إلى معرفةِ كما شَذَّ قولٌه :
576 وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا
وقولُه :
577 في سَعْي دُنْيا طالما قَدْ مُدَّتِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والوجه الثاني : أن تكونَ لغيرِ التفضيل ، بل بمعنى حَسَنة نحو كُبْرى في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناسِ مقالَةً حَسَنة ، كما قالوا : « يوسفُ أَحْسَنُ إخوتِه » في معنى حَسَن إخوتِه « انتهى . وقد عُلِم بهذا فسادُ قولِ النحاس .
وأمَّا مَنْ قرأ » إحساناً « فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً ، وفيه التأويلُ المشهورُ ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ ، كما تقولُ : » أَعْشَبَتِ الأرضُ « أي : صارت ذا عشبٍ . وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } [ البقرة : 43 ] تقدَّم نظيره .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } قال الزمخشري : » على طريقةِ الالتفات « وهذا الذي قاله إنما يَجيءُ على قراءةِ » لا يَعْبدون « بالغيبة ، وأمَّا على قراءةِ الخطابِ فلا التفاتَ البتةَ ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل بذلك ، ويؤيِّده قولُه تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } قيل : يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه السلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه ، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين . والمشهورُ نَصْبُ » قليلاً « على الاستثناء لأنه مِنْ/ موجب . ورُوِي عن أبي عمرو وغيره : » إلا قليلٌ « بالرفع .

وفيه ستةُ أقوال ، أصحُّها : أنَّ رفعه على الصفة بتأويل « إلا » وما بعدها بمعنى غَيْر . وقد عَقَد سيبويه رحمه الله في ذلك باباً في كتابه فقال : « هذا بابٌ ما يكونُ فيه » إلاَّ « وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل » ، وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا إلا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنا « و { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، و :
578 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
وسَوَّى بين هذا وبينَ قراءةِ : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } برفع » غير « ، وجَوَّز في نحو : » ما قامَ القومُ إلا زيدٌ « بالرفع البدلَ والصفةَ ، وخَرَّج على ذلك قولَه :
579 وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ
كأنه قال : وكل أخٍ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه ، كما قال الشماخ :
580 وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ
وأنشدَ غيرُه :
581 لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه ... أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ
وقولَه :
582 وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ ... عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرقُ بين الوصفِ بإلاَّ والوصفِ بغيرها أنَّ » إلا « تُوصف بها المعارفُ والنكراتُ والظاهرُ والمضمرُ ، وقال بعضُهم : » لا توصَف بها إلا النكرةُ أو المعرَّفةُ بلام الجنس فإنه في قوة النكرة « . وقال المبرد : » شَرْطُه صلاحيةُ البَدَلِ في موضعه « ، ولهذا موضعٌ نتكلَّم فيه . الثاني : أنه عطفُ بيان . قال ابن عصفور : » إنما يعني النحويون بالوصفِ بإلا عطفَ البيان « وفيه نظرٌ . الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قال : امتنع قليل . الرابع : أن يكونَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ أي : إلا قليلٌ منكم لم يَتَوَلُّوا ، كما قالوا : ما مررْتُ بأحدٍ إلا رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه . الخامس : أنه توكيدٌ للمضمرِ المرفوع ، ذكرَ هذه الثلاثة الأوجهَ أبو البقاء . قال : » وسيبويه وأصحابُه يُسَمُّونه نعتاً ووَصْفاً « يعني التوكيد . وفي هذه الأوجه التي ذَكَرها ما لا يَخْفى ولكنها قد قِيلت . السادس : أنه بدلٌ من الضميرِ في » تَوَلَّيْتُم « قال ابن عطية : » وجاز ذلك مع أنَّ الكلامَ لم يتقدَّمْ فيه نفيٌ ، لأن « تَوَلَّيْتم » معناه النفيُ كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاقِ إلا قليلٌ « وهذا الذي ذكره مِنْ جوازِ البدل منعه النحويون ، لا يُجيزون : » قام القَومُ إلا زيدٌ « على البدل ، قالوا : لأنَّ البدل يَحُلُّ مَحَلَّ المبدَلِ منه فَيَؤُولُ إلى قولِك : قامَ إلا زيدٌ ، وهو ممتنعٌ ، وأمَّا قولُه : إنه في تأويل النفي » فما مِنْ موجَبٍ إلا يمكن فيه ذلك ، ألا تَرى أنَّ قولَك : « قام القومُ إلا زيدٌ » في قوة « لم يَجْلِسُوا إلا زيدٌ » فكلُّ موجَبٍ إذا أخَذْتَ نَفْيَ نقيضِه أو ضدِّه كانَ كذلك ، ولم تعتبر العربُ في كلامِها ، وإنما أجاز النحويون « قام القومُ إلا زيدٌ » بالرفع على الصفة كما تقدَّم تقريرُه .

و « منكم » صفةٌ لقليلاً ، فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين . والظاهرُ أن القليلَ مرادٌ بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله « منكم » . وقال ابن عطية : « ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإِيمان ، أي : لم يَبْقَ حينَ عَصَوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم ، والأولُ أقوى » انتهى . وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ .
قوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « تَوَلَّيْتُم » . وفيها قولان ، أحدُهما : أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإِعراضَ مترادفان . وقيل : مبيِّنةٌ ، فإن التولِّيَ بالبدنِ والإِعراضَ بالقلبِ ، قاله أبو البقاء : وقال بعدَه : « وقيل : تَوَلَّيْتم يعني آباءهم ، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم ، كما قال : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ } [ الأعراف : 141 ] أي : آباءَهم » انتهى . وهذا يُؤَدِّي إلى [ أنّ ] جُمْلَةَ قوله { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } لا تكون حالاً ، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم . وكذلك تكون مبيِّنةً إذا اختَلَفَ متعلَّقُ التولِّي والإِعراضِ كما قال بعضُهم : ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : التولِّي والإِعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً ، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً ب « أنتم » لأنه آكد . وجيء بخبرِ المبتدأ اسماً لأنه أدلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل : وأنتم عادَتُكم التولِّي عن الحقِّ والإِعراضُ عنه .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ } : كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ : لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .
قوله : { مِّن دِيَارِكُمْ } متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ . ودِيار جمع دَار والأصل : دَوَر ، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً ، وأصلُ دِيار : دِوار ، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها ، واعتلالِها في الواحدِ . وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ : دار ودِيار وثِياب ، ولذلك صَحًّ « رِواء » لاعتلال لامه ، و « طِوال » لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ ، فأمَّا « طِيال » في طِوال فشاذٌّ . وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو : قامَ قِياماً وصامَ صِياماً ، ولذلك صَحَّ « لِواذ » لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم : لاوَذ ، وأمَّا « دَيَّار » فهو من لفظة الدَّار ، وأصلُه دَيْوار ، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه : فَيْعال لا فَعَّال ، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل : دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام . والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية . وقال الخليل : « كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنيةً » .
وقرئ : « تَسْفُكُون » بضم الفاء ، و « تُسَفِّكون » من سَفَّك مضعفاً ، « وتُسْفِكون » من أَسْفك الرباعي .
وقوله : { دِمَآءَكُمْ } يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه ، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه ، أحدها : إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب ، أي : إذا سَفَكْتُمْ دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم ، وهو قريبٌ/ من قولهم : « القتلُ أنفى للقتل » . قال :
583 سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها ... ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا
وقيل : « المعنى : لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض » واختاره الزمخشري . وقيل : « لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه » .
قوله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } قال أبو البقاء : « فيه وجهان ، أحدُهما أنَّ » ثُمَّ « على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي . والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه : فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم . والثاني : أن تكونَ » ثُمَّ « جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] .

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

قوله تعالى : { أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } : فيه سبعة أقوال ، أحدها : وهو الظاهرُ أنَّ « أنتم » في محلِّ رفع بالابتداء ، و « هؤلاء » خبرُه . و « تَقْتُلون » حالٌ العاملُ فيها اسمُ الإِشارةِ لِما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في غيرِ هذا [ المكانِ ] وقد قالتِ العربُ : « ها أنت ذا قائماً » ، و « ها أنا ذا قائماً » ، و « ها هو ذا قائماً » ، فأخبروا باسمِ الإِشارةِ عن الضميرِ في اللفظِ ، والمعنى على الإِخبارِ بالحال ، فكأنه قال : أنت الحاضرُ وأنا الحاضرُ وهو الحاضرُ في هذه الحالِ . ويَدُلُّ على أنَّ الجملةَ من قوله « تَقْتُلون » حالٌ وقوعُ الحالِ الصريحةِ موقعَها ، كما تقدَّم في : ها أنا ذا قائماً ونحوِه ، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال : « ثم أنتم هؤلاء » استبعادٌ لِما أُسْنِد إليهم من القَتْل والإِجلاءِ بعد أَخْذِ الميثاق منهم ، وإقرارِهم وشهادتِهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون « ، يعني أنكم قومٌ آخرون غيرُ أولئك المُقِرِّين ، تنزيلاً لتغيُّر الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ ، كما تقول : رَجَعْتُ بغير الوجه الذي خَرَجْتُ به . وقوله : » تَقْتُلون « بيانٌ لقوله : ثم أنتم هؤلاء . قال الشيخ كالمعترضِ عليه كلامَه : » والظاهرُ أنَّ المشارَ إليه بقوله : « أنتم هؤلاء » المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أنَّ التقديرَ الذي قدَّره الزمخشري مِنْ تقديرِ تغيُّرِ الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المخاطَبُ هو المُشارُ إليه مِنْ غيرِ تغيُّرٍ « ولم يتضحْ لي صحةُ الإِيرادِ عليه وما أبعدَه عنه .
الثاني : أن » أنتم « أيضاً مبتدأٌ ، و » هؤلاء « خبرُه ، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه : ثم أنتم مثلُ هؤلاء ، و » تقتلونَ « حالٌ أيضاً ، العاملُ فيها معنى التشبيه ، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين ، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا ، وقد يُقال : إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ .
الثالث : وَنَقَله ابنُ عطية عن شيخِه ابن الباذش أن » أنتم « خبرٌ مقدمٌ ، و » هؤلاء « مبتدأٌ مؤخرٌ ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ ، وإنْ وَرَد [ منه ] ما يُوهِم فمتأوَّلٌ .
الرابع : أنَّ » أنتم « مبتدأٌ ، و » هؤلاء « منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ ، و » تقتلون « خبرُ المبتدأ ، وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه . وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين ، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا :
584 إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا

أي : يا هذا ، وهذا لا يَجُوز عند البصريين ، ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله :
585 هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا ... ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا
وفي البيتِ كلامٌ طويل .
الخامس : أنَّ « هؤلاء » موصولٌ بمعنى الذي . و « تَقْتُلون » صلتُه ، وهو خبرٌ عن « أنتم » أي : أنتم الذين تقتلونَ . وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين ، وإنما قالَ به الكوفيون ، وأنشدوا :
586 عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ ... أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
أي : والذي تحملينَ ، ومثلُه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [ طه : 17 ] أي : وما التي؟ .
السادسُ : أن « هؤلاء » منصوبٌ على الاختصاصِ ، بإضمارِ « أعني » و « أنتم » مبتدأٌ ، وتقتلونَ خبرُه ، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ ، وإليه ذهب ابن كيسان . وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكون بالنكراتِ ولا أسماءِ الإِشارةِ ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ : إمَّا « أيُّ » نحو : « اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ » ، أو معرَّفٌ بأل [ نحو ] : نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ ، أو بالإِضافةِ نحو : « نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ » وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه :
587 بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ... وأكثرُ ما يجيء بعد ضمير متكلِّم كما تقدَّم ، وقد يَجيء بعدَ ضميرٍ مخاطَبٍ ، كقولِهم « بكَ اللهَ نرجو الفضلَ » وهذا تحريرُ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .
السابع : أن يكونَ { أَنْتُمْ هؤلاء } [ على ] ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً ، والجملةُ من « تقتلون » مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى ، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم ، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله : { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ } [ آل عمران : 66 ] ولم يَذْكُرَه هنا ، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى .
قوله : { تَظَاهَرُونَ } هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل { تُخْرِجُونَ } وفيها خمسُ قراءات : « تظَّاهرون » بتشديد الظاء ، والأصل : تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء ، و « تَظَاهرون » مخفَّفاً ، والأصل كما تقدَّم ، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف . وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلى لحصول الثقل بها ولعَدَم دَلالِتها على معنى المضارعة أو الأُولى كما زعم هشام؟ قال الشاعر :
588 تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ ... فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ
أراد : تتعاطَسون فحَذَف . و « تَظَهَّرُون » بتشديد الظاء والهاء ، و « تُظَاهِرون » من تَظاهَرَ . و « تتظاهَرون » على الأصل مِنْ غيرِ حذفٍ ولا إدغامٍ ، وكلُّهم يَرْجِعُ إلى معنى المُعاوَنة والتناصُرِ من المُظاهَرة ، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُسْنِدُ ظهرَه للآخر ليتقوَّى به فيكونَ له كالظهر ، قال :
589 تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ ... على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ
والإِثْمُ في الأصل : الذَّنْبُ وجمعُه آثام ، ويُطْلَقُ على الفعلِ الذي يَسْتَحِقُّ به صاحبه الذمِّ واللومَ . وقيل هو : ما تَنْفِرُ منه النفسُ ولا يَطْمئنُّ إليه القلبُ ، فالإِثمُ في الآيةِ يَحْتمل أن يكونَ مراداً به ما ذَكَرْتُ من هذه المعاني .

ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الاثمَ إقامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيَّب كقول الشاعر :
590 شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي ... كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ
فَعَبَّر عن الخمرِ بالإِثمِ لمَّا كان مُسَبَّباً عنها .
والعُدْوانُ : التجاوُزُ في الظلمِ ، وقد تقدَّم في { يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] وهو مصدرٌ كالكُفْران والغُفْران ، والمشهورُ ضَمُّ فائِه ، ضَمُّ فائِه ، وفيه لغةٌ بالكسرِ .
قوله : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ } إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ ، و « أُسارى » حالٌ من الفاعل في « يأتوكم » . وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة « أُسارى » ، وقرأ هو أَسْرَى ، وقُرئ « أَسارى » بفتح الهمزة . فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه ، أحدُها : أنه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَهما مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف ، فقالوا : أَسير وأُسارى [ بصم الهمزة ] كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْران وسُكارى ، كما أنه قد شُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعا جَمْعَه الأصليَّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا : كَسْلان وكَسْلى ، وسَكْران وسَكْرى كقولهم : أَسير وأَسْرى . قال سيبويه : « فقالوا في جمع كَسْلان كَسْلَى شبَّهوه بأَسْرى كما قالوا أُسارى شبَّهوه بكُسالى » ، ووجهُ الشبه أن الأَسْر يَدْخُل على المَرْءِ كَرْهاً ، كما يَدْخُل الكسل ، قال بعضهم : « والدليلُ على اعتبارِ هذا المعنى أنَّهم جَمَعوا مريضاً ومَيِّتاً وهالِكاً على فَعْلَى فقالوا : مَرْضَى ومَوْتَى وهَلْكَى لَمَّا جَمَعَها المعنى الذي في جَرْحَى وقَتْلَى » .
الثاني : أن أُسارى جمعُ أَسير ، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا : شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى ، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه .
الثالث : أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى [ كما ضُمَّتِ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى ] وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو : عَطْشَان وعَطَاشى .
الرابع : أنه جَمْعُ أَسْرى الذي [ هو ] جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ .
وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو : جَريح وجَرْحى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى .
وأما « أَسارَى » بالفتح فلغةٌ ليست بالشاذة ، وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم [ عند بعضهم ] ، ولم يَعْرف أهلُ اللغة فَرْقاً بين أُسارى وأَسْرى إلا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : « ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى . ونَقَلَ عنه بعضُهم الفرقَ بمعنى آخر فقال : » ما جاء مُسْتأسِرا فهم الأَسْرى ، وما صار في أيديهم فهم الأُسارى ، وحكى النقاش عن ثعلب أنَّه لما سَمع هذا الفرقَ قال : « هذا كلامُ المجانين » ، وهي جرأةٌ منه على أبي عمرو ، وحُكي عن المبردِ أنه يُقال : « أَسير وأُسَراء كشهيد وشُهَداء » .

والأسيرُ مشتق من الإِسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط [ به المَحْمَلُ ، فسُمِّي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه ، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط ] . والأسْر : الخَلْق في قوله تعالى { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } [ الإنسان : 28 ] ، وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم ، والأُسْرُ احتباسُ البولِ ، رجلٌ مَأْسورٌ [ أذا ] أصابَه ذلك : وقالت العرب : « أَسَرَ قَتَبه » أي : شَدَّه . قال الأعشى :
591 وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه ... كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا
يريد أنه بَلَغ في الشعر النهايةَ حتى صارَ له كالبيتِ لا يَبْرَح عنه .
قوله : { تُفَادُوهُمْ } قرأ نافع وعاصم والكسائي : « تُفادُوهم » ، وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو : عاقَبْت وسافَرْت ، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهورٌ ، ثم اختلف الناسُ في ذلك الفرقِ ما هو؟ فقيل : مَعْنَى فَداه أَعْطى فيه فِداءٍ من مالٍ وفاداه أعطى فيه أسيراً مثلَه وأنشد :
592 ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما ... عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما ... لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ
وهذا القول يَرُدُّه قولُ العباس رضي الله عنه : « فادَيْت نفسي وفادَيْتَ عَقيلا » ومعلومٌ أنه لم يُعْطِ أسيرَه في مقابلة نفسِه ولا وَلَدِه ، وقيل : « تَفْدُوهم بالصلح وتُفادُوهم بالعِتْقِ » . وقيل : « تَفْدُوهم تُعْطوا » فِدْيَتَهم ، وتُفادوهم تَطْلبون من أعدائِكم فِدْيةَ الأسيرِ الذي في أيديكم ، ومنه قول الشاعر :
593 قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي ... وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا
والظاهرُ أن « تُفادهم » على أصله من اثنين ، وذلك أن الأسيرَ يعطي المالَ والآسِرَ يعطي الإِطلاقَ ، وتَفْدُوهم على بابِه من غيرِ مشاركةٍ ، وذلك أنَّ أَحدَ الفريقين يَفْدي صاحبه من الآخر بمالٍ أو غيره ، فالفعلُ على الحقيقة من واحدٍ ، والفداءُ ما يُفْتَدَى به ، وإذا كُسِر أولُه جازَ فيه وجهان : المَدُّ والقَصْرُ فمِن المدِّ قولُ النابغة :
594 مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
ومن القَصْرِ قولُه :
595 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي
/ وإذا فُتِحَ فالقصرُ فقط ، ومن العربِ مَنْ يكسِرُ « فِدى » مع لام الجر خاصةً ، نحو : فِدَىً لكَ أبي وأمي يريدون الدعاءَ له بذلك ، وفَدى وفادى يتعدَّيان لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ جر تقول : فَدَيْتُ أو فادَيْتُ الأسير بمال ، وهو محذوفٌ في الآية الكريمة . قال ابن عطية : « وحَسُنَ لفظ الإِتيانِ من حيثُ هو في مقابلةِ الإِخراج فيظهرُ التضادُّ المُقْبِحُ لفِعْلِهم في الإِخراج » يعني أنه لا يناسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إليه بالإِخراجِ مِنْ دارِه أَنْ تُحْسِنُوا إليه بالفِداء .
قوله : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ } هذا موضعٌ يَحْتاجُ لفضلِ نَظَرٍ ، والظاهرُ من الوجوهِ المنقولةِ فيه أن يكونَ « هو » ضميرَ الشأنِ والقصةِ فيكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « مُحَرَّمٌ » خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ ، و « إخراجُهم » مبتدأ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن ، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه .

وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير ، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسَّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه ، وقد تقدَّمَتْ وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسَّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير ، ومِنْ شَرْطِه أن يؤتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط ، وأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزئيها ، ولا يُتْبَعَ بتابعٍ من التوابعِ الخمسةِ ، ويجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه مطلقاً خلافاً لمَنْ فصَّل : فتذكيرُه باعتبارِ الأمر والشأن ، وتأنيثُه باعتبار القصةِ فتقولُ : هي زيدٌ قائمٌ ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُحْذَفُ إلا في مواضع تُذْكر إنْ شاء الله تعالى . والكوفيون يُسَمُّونه ضميرَ المَجْهول وله أحكامٌ كثيرةٌ .
الوجهُ الثاني : أن يكونَ « هو » ضميرَ الشأنِ أيضاً ، و « مُحَرَّمٌ » خبرُه ، [ و « إخراجُهم » مرفوعٌ ] على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه . وهذا مذهبُ الكوفيين وتابَعهم المهدوي ، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول ، لأنَّ عندهم [ أنَّ الخبرَ المحتمِّل ضميراً ] مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال : « قائمٌ زيدٌ » على أن يكونَ « قائمٌ » خبراً مقدَّماً ، وهذا عند البصريين [ ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ ] الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ .
الثالث : أن يكونَ « هو » كنايةً عن الإِخراجِ ، وهو مبتدأ ، و « مُحَرَّمٌ » خبرُه ، و « إخراجُهم » بدلٌ منه ، وهذا على أحدِ القولين وهو [ جوازُ إبدالِ الظاهرِ من ] المضمرِ قبله ليفسِّرَه ، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله :
596 على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً ... على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
فحاتم بدلٌ من الضميرِ في « جودِه » .
الرابع : أن يكونَ « هو » ضميرَ الإِخراجِ المدلولَ عليه بقوله « وتُخْرِجون » ، و « مُحَرَّمٌ » خبره و « إخراجُهم » بدلٌ من الضميرِ المستترِ في « مُحَرَّمٌ » .
الخامس : كذلك ، إلاَّ أنَّ « إخراجُهم » بدلٌ من « هو » . نقل هذينِ الوجهين أبو البقاء . وفي هذا الأخيرِ نظرٌ ، وذلك أنَّك إذا جَعَلْتَ « هو » ضمير الإِخراج المدلولِ عليه بالفعل كانَ الضميرُ مفسَّراً به نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] فإذا أَبْدَلْتَ منه « إخراجُهم » الملفوظَ به كانَ مفسَّراً به أيضاً ، فيلزَمُ تفسيرُه بشيئين ، إلا أَنْ يقالَ : هذان الشيئان في الحقيقة شيءٌ واحدٌ فيُحتملَ ذلك .
السادس : أجاز الكوفيون أن يكونَ « هو » عماداً وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم ، والأصلُ : وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم ، فإخراجُهم مبتدأ ، ومُحَرَّم خبره ، وهو عِمادٌ ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه .

قال الفراء : « لأن الواوَ هنا تَطْلبُ الاسمَ ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جائزٌ » وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجهين : أحدُهما : أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ ، ومثلٍ وأخواتها . والثاني : أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به . ولهذه الأقوالِ مواضعُ يُبْحث فيها عنها .
السابع : قال ابن عطية : « وقيل في » هو « إنه ضميرُ الأمرِ ، والتقديرُ : والأمرُ مُحَرَّم عليكُم ، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من » هو « انتهى . قال الشيخ : » وهذا خطأٌ من وجهين ، أحدُهما : تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك لا يُجيزه بَصْريٌّ ولا كوفيٌّ ، أمّا البصريُّ فلاشتراطه جملةً ، وأمَّا الكوفيُّ فلا بد أن يكونَ المفردُ قد انتظمَ منه ومِمَّا بعده مُسْنَدٌ إليه في المعنى نحو : ظَنَنْتُه قائماً الزيدان . والثاني : أنه جَعَلَ « إخراجُهم » بدلاً من ضميرِ الأمر ، وقد تقدَّم أنه لا يُتْبَعُ بتابعٍ .
الثامن : قال ابنُ عطية أيضاً : « وقيل » هو « فاصلةٌ ، وهذا مذهبٌ الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و » مُحَرَّم « على هذا ابتداءٌ ، و » اخراجُهم « خبرٌ » . قال الشيخ : « والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإِعرابُ ، أي : يكونُ » إخراجُهم « مبتدأ مؤخراً ، و » مُحَرَّم « خبرٌ مقدمٌ ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ ، وهو الموافِقُ للقواعدِ ، وألاَّ يَلزَم منه الإِخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك .
التاسع : نَقَله ابنُ عطية أيضاً عن بعضِهم أن » هو « الضميرَ المقدَّرَ في » مُحَرَّم « قُدِّمَ وأُظْهِر ، قال الشيخ : » وهذا ضعيفٌ جداً ، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ ، إذ على هذا القولِ يكونُ « مُحَرَّم » خبراً مقدَّماً و « إخراجُهم » مبتدأ ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً « وفي قول الشيخ : » يَلْزَمُ خُلُوُّه من ضميرٍ « نظرٌ ، إذ هو ضميرٌ مرفوعٌ به فلم يَخْلُ منه ، غايةُ ما فيه أنه/ انفصلَ للتقديم ، وقوله : » لا ندري ما إعرابهُ « قد درى ، وهو الرفعُ بالفاعليةِ . قوله : » والفاعلُ لا يُقَدَّم « ممنوعٌ فإنَّ الكوفيَّ يُجيزُ تقديمَ الفاعلِ ، فيحُتمل أن يكونَ هذا القائلُ يَرى ذلك ، ولا شك أنَّ هذا قولٌ رديءٌ مُنْكَرٌ لا ينبغي أن يجوزَ مثلُه في الكلامِ ، فكيف في القرآن!! فالشيخُ معذورٌ ، وعَجِبْتُ من القاضي أبي محمد كيف يُورد هذه الأشياءَ حاكياً لها ، ولم يُعَقِّبْها بنكيرٍ .

وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها ، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ ، وهي قولُه : « تَقْتُلون أنفسَكم ، وتُخْرِجُون ، وتُظاهرون ، وتُفادون ، فيكونُ التقدير : تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها ، وكذلك مع البواقي . ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإِخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً ، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ ، فالإِخراجُ من الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار .
والمُحَرَّمُ : الممنوعُ ، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا . والحَرامُ : الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ : حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك ، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء .
قوله : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ } : » ما « يجوز فيها وجهان ، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و » جزاء « مبتدأ ، و » إلاَّ خِزْيٌ « » خبرُه « وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وبَطَلَ عَمَلُ » ما « عند الحجازيين لانتقاضِ النفي ب إلاَّ ، وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد » إلاَّ « : جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً ، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزَّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ ، ويتأوَّلون قوله :
597- وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه ... وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا
على أنَّ الناصبَ لمَنْجَنوناً ومُعَذَّباً محذوفٌ ، أي : يدورُ دَوَرَانَ مَنْجَنونٍ ، ويُعَذَّبُ مُعَذَّباً تَعْذيباً . وأجاز يونس النصبَ مطلقاً ، وإن كان النحاسُ نَقَلَ عدمَ الخلافِ في رفع » ما زيدٌ إلا أخوك « ، فإن كان الثاني مُنَزَّلاً منزلةَ الأولِ نحو : » ما أنت إلا عِمامَتك تحسيناً وإلاَّ رِداءَك ترتيباً « فأجاز الكوفيون نصبَه ، وإن كان صفةً نحو : ما زيدٌ إلا قائمٌ فأجاز الفراء نصبَه أيضاً . والثاني أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء ، و » جزاء « خبرُه ، و { إِلاَّ خِزْيٌ } بدلٌ من » جَزَآءُ « ، نقله أبو البقاء و » مَنْ « موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، و » يفعلُ « لا محلَّ لها على الأول ، ومحلُّها الجَرُّ على الثاني .
قوله : : منكم » في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ « يفعل » فيتعلَّقُ بمحذوف أي : يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم .
قوله : { فِي الحياة } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل « خزي » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : خِزْيٌ كائنٌ في الحياة ، والثاني : أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً .
والجَزاءُ : المقابَلَةُ ، خيراً كان أو شراً ، والخِزْيُ : الهَوانُ ، يُقال : خَزِيَ بالكسر يخزى خِزْياً فهو خَزْيانُ ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا ، وقال ابن السكيت : « الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة ، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا » .

والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ ، وهو القُرْب ، وألِفُها للتأنيثِ ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله :
598 يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ ... في سَعْي دُنْيَا طالمَا قد مُدَّتِ
وياؤُها عن واو ، وهذه قاعدةٌ مطَّردةٌ ، وهي كلُّ فُعْلَى صفةً لامُها واوٌ تُبْدَلُ ياءَ نحو : العُلْيَا والدُّنْيا ، فأمَّا قولُهم : القُصْوى عند غير تميم ، والحُلْوى عند الجميع فشاذ ، فلو كانت فُعْلى اسماً صَحَّتِ الواو كقوله :
599 أداراً بحزوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وقد استُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ ، فلم يُذْكَرْ موصوفُها ، قال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } [ الأنفال : 67 ] ، وقال ابنُ السراج في « المقصور والممدود » : « والدُّنْيا مؤنثةٌ مقصورةٌ ، تُكْتَبُ بالألفِ ، هذه لغةُ نجدٍ وتميمٍ ، إلا أنَّ الحجازِ وبني أسد يُلْحِقُونها ونظائرهَا بالمصادرِ ذوات الواو فيقولون : دَنْوَى مثلَ شَرْوى ، وكذلك يَفْعَلون بكلِ فُعْلى موضعُ لامِها واوٌ يفتحونَ أوَّلها ويَقْلِبُون ياءَها واواً ، وأمَّا أهلُ اللغةِ الأولى فَيَضُمُّون الدالَ ويَقْلِبُون الواءَ ياءً لاستثقالِهم الواوَ مع الضمةِ .
وقُرئ : » يُرَدُّون « بالغَيْبَةِ على المشهورِ . وفيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله : » أفتؤمنون « فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، والثاني : أنَّه لا التفاتَ فيه ، بل هو راجِعٌ إلى قولِه : » مَنْ يفعَل « ، وقرأ الحسن » تُرَدُّون « بالخطابِ ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان ، فالالتفاتُ نظراً لقولِه : » مَنْ يفعل « وعدمُ الالتفات نظراً لقوله : » أفتؤمنون « .
وكذلك { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قُرِئَ في المشهورِ بالغَيْبَةِ والخطابِ ، والكلامُ فيهما كما تقدَّم .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

وتقدَّم نظائرُ { أولئك الذين اشتروا } . . وما بعدَه . إلا أنَّ بعضَ المُعْرِبين ذَكَر وجوهاً مردودةً لا بدَّ من التنبيهِ عليها ، فأجاز أن يكونَ « أولئك » مبتدأ ، و { الذين اشتروا } خبرَه ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } خبراً ثانياً لأولئك ، قال : « ودخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأجلِ الموصولِ المُشْبِهِ للشرطِ وهذا خطأٌ ، فإن قوله : { فَلاَ يُخَفَّفُ } لم يَجْعَلْهُ خبراً للموصول حتى تَدْخُلَ الفاءُ في خبره ، وإنما جَعَلَه خبراً عن » أولئك « وأينَ هذا مِنْ ذاك؟ وأجاز أيضاً أن يكونَ » الذين « مبتدأ ثانياً ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ } خبرَهُ ، دخَلْت لكونِه خبراً للموصولِ ، والجملةُ خبراً عن » أولئك « قال : » ولم يُحْتَجْ هنا إلى عائدٍ لأنَّ « الذين » هم « أولئك » كما تقولُ : « هذا زيدٌ منطلقٌ » ، وهذا أيضاً خَطَأٌ لثلاثةِ أوجهٍ أحدُها : خُلُوُّ الجملةِ مِن رابطٍ/ ، قوله : « لأن الذين هم أولئك » لا يفيدُ لأنَّ الجملةَ المستغنِيَةَ لا بُدَّ وأنْ تكونَ نفسَ المبتدأ ، وأمَّا تنظيرُه ب « هذا زيدٌ منطلقٌ » فليس بصحيحٍ ، فإنَّ « هذا » مبتدأٌ ، و « زيدٌ » خبرٌ ، و « منطلقٌ » خبرٌ ثانٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « زيدٌ » مبتدأً ثانياً ، و « منطلقٌ » خبرَه والجملةُ خبرٌ عن الأول للخلوِّ من الرابط . الثاني : أن الموصولَ هنا لقومٍ معيَّنين وليس عاماً ، فلم يُشْبِه الشرط فلا تَدْخُلُ الفاءُ في خبره . الثالث : أن صلته ماضيةٌ لفظاً ومعنىً ، فلم يُشْبِهْ فعلَ الشرطِ في الاستقبال فلا يجوزُ دخولُ الفاءِ في الخبرِ . فتعيَّن أن يكون « أولئك » مبتدأً والموصولُ بصلتِه خبرَه ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ } معطوفٌ على الصلةِ ، ولا يَضُرُّ تخالُفُ الفِعْلَيْنِ في الزمانِ ، فإنَّ الصلاتِ من قَبيل الجملِ ، وعَطْفٌ الجملِ لا يُشْتَرَطُ فيه اتحادُ الزمانِ ، يجوزُ أن تقولَ : « جاء الذي قَتَلَ زيداً أمسٍ وسيقتُل عمراً غداً » ، وإنما الذي يُشْتَرَطُ فيه ذلك حيث كانت الأفعالُ مُنَزَّلَةً منزلةَ المفرداتِ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يجوز في « هم » وجهانِ ، أحدُهما : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وما بعده خبرُه ، ويكون قد عَطَفَ جملةً اسميةً على جملةٍ فعليةٍ وهي : { فلا يُخَفَّفَ } . والثاني : أن يكونَ مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرهُ هذا الظاهرُ ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ، ويكونُ كقولِه :
600 وإنْ هُو لم يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَها ... فليسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
وله مُرَجِّحٌ على الأولِ وذلك أنَّه يكونُ قد عَطَفْتَ جملةً فعليةً على مثلِها ، وهو من المواضعِ المرجَّحِ فيها الحَمْلُ على الفعلِ في بابِ الاشتغالِ . وليس المرجِّحُ كونَه تقدَّمه لا النافية ، فإنَّها ليسَتْ من الأدواتِ المختصَّةِ بالفِعْلِ ولا الأولى به ، خلافاً لابن السِّيدِ حيث زَعَمَ أنَّ « لا » النافيةَ من المرجِّحاتِ لإِضمارِ الفعل ، وهو قولٌ مرغوبٌ عنه ، ولكنه قَويٌ من حيث البحث . فقوله : « يُنْصَرون » لا محلَّ له على هذا لأنه مفسِّرٌ ، ومحلُّه الرفعُ على الأولِ لوقوعه موقعَ الخبرِ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } . . التضعيفُ في « قَفَّيْنا » ليس للتعديةِ ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ ، نحو : قَفَوْت زيداً ، ولكنه ضُمِّن معنى « جِئْنا » كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرسلِ . فإنْ قيل : يجوزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني « بالرسل » والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } .
فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن كذلك يُبْعِدُ هذا التقديرَ ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى .
وقَفَّينا أصله : قَفَّوْنا ، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً ، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه ، ثم اتُّسع فيه ، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع ، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع ، وقال أمية :
601 قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ ... وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ
والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق ، ويقال له : القافية أيضاً ، ومنه قافيةُ الشِّعْر ، لأنها تَتلُو بناءَ الكلام وآخرَه ، ومعنى قَفَّيْنا أي : أَتْبَعْنا كقولِه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] .
و { مِن بَعْدِهِ } متعلِّقٌ به ، وكذلك « بالرُسل » ، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل ، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول ، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن ، والضمُّ لغةُ تميم ، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى « ن » أو « كم » أو « هم » فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ .
قوله : « عيسى » عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع ، فقال سيبويه : « وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى » يَعْني بالياءِ الألفَ ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ . وقال الفارسي : « أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى ، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ » . وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي : « وزنه فِعْلَل » فالألفُ عنده أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل . ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ ، فمَنْ قال إنَّ « عِيسى » مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ . وقال الزمخشري : « وقيل : عيسى بالسُّريانية : أَيْسوع » .
قوله : « ابنَ مريم » عطفُ بيان أو بدلٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ « ابن مريم » جرى مَجْرَى العلم له . وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى ، وتقدَّم اشتقاقُ « ابن » وأصلُه .
ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ ، قال رؤبة :

602 قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وياءُ « الزير » عن واو لأنه من زار يَزُور فَقُلِبَتِ للكسرة قبلَها كالرِّيح ، فصار لفظُ مريم مشتركاً بين اللسانينِ ، ووزنُه عند النحويين مَفْعَل لا فَعْيَل ، قال الزمخشري : « لأن فَعْيَلاً بفتح الفاء لم يَثْبُتْ في الأبينة كما ثَبَتَ في نحو : عِثْيَر وعِلْيَب » وقد أثبت بعضهم فَعْيَلاً وجَعَلَ منه نحو : « ضَمْيَد » اسمَ مكان و « مَدْيَن » على القولِ بأصالة ميمهِ و « ضَهْيَا » بالقصر وهي المرأةُ التي لا تَحِيضُ ، أو لا ثَدْيَ لها ، لأنها مشتقةٌ من ضاهَأَتْ أي شابَهَتْ ، لأنها شابَهَتِ الرجال في ذلك ، ويجوزُ مَدُّها قاله الزجاج . وقال ابن جني : « وأما ضَمْيدَ وعَثْيَر فمصنوعان » فلا دَلالة فيهما على ثبوت فَعْيَل ، وصحةُ الياءِ في مريم على خلافِ القياس ، إذ كان من حقِّها الإِعلالُ بنَقْلِ حركةِ الياء إلى الراءِ ثم قَلْبِ الياءِ ألفاً نحو : مَباع من البَيْع ، ولكنه شَذَّ مَزْيَد ومَدْيَن ، وقال أبو البقاء : « ومَرْيَم عَلَمٌ أعجمي ولو كان مشتقاً من رامَ يريم لكان مَرِيماً بسكونِ الياء ، وقد جاءَ في الأعلامِ بفتح الياء نحوَ مَزْيَد وهو على خلافِ القياس » .
قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ } معطوفٌ على قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى } . وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه على فَعَّلْناه ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروي عن أبي عمرو « آيَدْنَاه » على : أَفْعَلْناه ، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين ، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو : أَأْمَنَ وبابِه ، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في « أَغْيَلَت » و « أَغْيَمَت » ، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فِعْل التعجب نحو : ما أَبْيَنَ وأَطْوَل . وحُكي عن أبي زيد أن تصحيحَ « أَغْيَلَت » مقيسٌ . فإنْ قيل : لِم لا أُعِلَّ آيَدْناه كما أُعِلَّ نحو : أَبَعْناه حتى لا يَلْزَم حَمْلُه على الشاذ؟ فالجواب أنه لو أُعِلَّ بأنْ أُلْقِيَتْ حركةُ العينِ على الفاءِ فيلتقي ساكنانِ العينُ واللامُ فتُحْذَفُ العَيْنُ لالتقاء الساكنين ، فتجتمعُ همزتان مفتوحتان فيجبُ قَلْبُ الثانيةِ واواً نحو « أَوادِم » ، فتتحرَّكُ الواوُ بعدَ فتحةٍ فتقلبُ أَلفاً فيصيرُ اللفظُ : أَادْناه ، لأدَّى ذلك إلى إعلالِ الفاءِ والعينِ ، فلمَّا كانَ إعلالُه يؤدِّي إلى ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْناه وأَقَمْناه ، فإنه ليسَ فيه إلا إعلالُ العينِ فقط . قال أبو البقاء : « فإنْ قلتَ : فَلِمَ لَمْ تُحْذَفِ الياءُ التي هي عينٌ كما حُذِفَتْ من نحو : أَسَلْناه منْ سالَ يَسالُ؟ قيل : لو فَعَلوا ذلك لتوالى إعلالان : أحدُهما قَلْبُ الهمزةِ الثانيةِ ألفاً ثم حَذْفُ الألفِ المبدلة من الياءِ لسكونِها وسكونِ الألفِ قبلَها ، فكان يصيرُ اللفظُ آدْناه فكانَتْ تُحْذَفُ الفاءُ والعينُ وليس » أسلناه « كذلك ، لأنَّ هناك حَذْفَ العينِ وحدَها .

وقال الزمخشري في المائدة : « آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك » وقال ابن عطية : « على فاعَلْتُك » ثم قال : « ويَظْهَرُ أن الأصلَ في القراءتين : أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإِعلالُ » . انتهى .
والذي يظهر أن « أيَّد » فَعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ ، وأمَّا آيَدَ يعني بالمَدِّ فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل ، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل ، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في المائدة . ثم قال : « إنه لم يَظْهر كلامُ ابن عطية في قوله : » اختلف الإِعلالُ « وهو صحيحٌ ، إلاَّ أنَّ قوله : الذي يظهر أن أيَّد في قراءةِ الجمهورِ فَعَّل لا أَفْعَل إلى أخرِه » فيه نظرٌ لأنه يُشْعِرُ بجوازِ شيءٍ آخَر وذلك متعذَّرٌ ، كيف يُتَوَهَّمُ أن أيَّدَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ بزنة أَفْعَل ، هذا ما لا يَقَعْ .
والأَيْدُ : القوَّةُ ، قال عبد المطلب :
603 الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ ... أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ
والصحيحُ أن فَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى واحد وهو قَوَّيْناه . وقد فَرَّق بعضُهم بينهما فقال : « أمَّا المدُّ فمعناه القوةُ ، وأمَّا القصرُ فمعناه التأييدُ والنَّصْرُ » ، وهذا في الحقيقةِ ليس بفرقٍ ، وقد أبدلتِ العربُ في آيَدَ على أَفْعَل الياءَ جيماً فقالت : آجَدَهُ أي قوَّاه ، قال الزمخشري : « يقال : » الحمدُ لله الذي آجَدَني بعد ضَعْفٍ وأَوْجَدني بعد فَقْر « ، وهذا كما أَبْدلوا من يائِه جيماً فقالوا : لا أَفْعَل ذلك جَدَ الدهرِ أي : يدَ الدهر ، وهو إبدالٌ لا يَطَّرِدُ .
قوله : { بِرُوحِ القدس } متعلِّق بأيَّدْناه . وقرأ ابن كثير : » القُدْس « بإسكانِ الدال ، والباقون بضمِّها ، وهما لغتان : الضمُّ للحجاز ، والإِسكانُ لتميم ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ أبو حَيْوة : » القُدُوس « بواوٍ ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه : » ونقدِّسُ لك « . والروح في الأصل : اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب ، والمرادُ به جبريلُ عليه السلام لقولِ حَسَّان :
604 وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ
سُمِّي بذلك لأنَّ بسببه حياةَ القلوب .
قوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ } الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها ، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك ، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها . وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء ، كأنه قال : ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءَكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ . ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي : فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ . وقد تقدَّم الكلام في » كلما « عند قولِه :

{ كُلَّمَا أَضَآءَ } [ البقرة : 20 ] . والناصبُ لها هنا « استكبرتم » ، و « رسول » فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل ، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي : المَرْكُوب والمَحْلُوب ، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري . وأنشد :
605 لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول
أي : برسالة ، ومنه عنده : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] .
قوله : { بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ } متعلِّق بقوله « جاءكم » ، و « جاء » يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية ، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو : جِئْتُ إليه ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروط ، والتقديرُ : بما لا تهواه ، و « تهوى » مضارعُ هَوِي بكسر العين ولامُه من ياءٍ لأنَّ عينَه واوٌ ، وباب طَوَيْتُ وشَوَيْتُ أكثرُ من بابُ قوَّة وحُوَّة . ولا دليلَ في « هَوِيَ » لانكسار العين وهو مثل « شَقِي » من الشَّقاوة ، وقولُهم في تثنيةِ مصدرِه هَوَيان أدلُّ دليلٍ على ذلك ، ومعنى تَهْوَى : تُحِبُّ وتختار . وأصل الهَوَى : المَيْلُ ، سُمِّي بذلك لأنه يَهْوي بصاحبِه في النار ولذلك لا يُسْتعمل غالباً إلا فيما لا خَيْرَ فيه ، وقد يُستعمل فيما هو خيرٌ ، ففي الحديث الصحيح قولُ عمرَ في أُسارى بدر : « فَهَوِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت . وعن عائشة رضي الله عنها : » واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك « وجمعُه أَهْواء ، قال تعالى : { بِأَهْوَائِهِم } [ الأنعام : 119 ] ولا تُجْمع على أَهْوِية وإنْ كان قد جاء : نَدَى وأَنْدِية قال الشاعر :
606 في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ ... لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائها الطُّنُبا
وأمَّا » هوى يَهْوي « بفتحها في الماضي وكسرِها في المضارع فمعناهُ السقوطُ ، والهَوِيُّ بفتح الهاءُ ذهابٌ في انحدارِ ، والهُوِيُّ ذهابٌ في صعود ، وسيأتي تحقيقُ كلِّ ذلك ، وأسندَ الفعلَ إلى الأنفس دونَ المخاطبِ فلم يَقُلْ : » بما لا تَهْوون « تنبيهاً أنَّ النفسَ يُسْنَدُ إليها الفعلُ السَّيِّء غالباً نحو : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } [ يوسف : 53 ] { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [ يوسف : 18 ] { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } [ المائدة : 30 ] واستكبر بمعنى تَكَبَّرَ .
قوله : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } الفاءُ عاطفةٌ جملةَ » كَذَّبْتم « على » استكبرتم « و » فريقاً « مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي ، وكذا { وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } ، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي : فريقاً منهم ، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةُ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره ، فإنَّ المقتولِين قد كذَّبوهم أيضاً ، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ . وجيء ب » تقتلون « مضارعاً : إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل ، وإمَّا أن يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب . وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } معطوفاً على قوله » وأَيَّدْناه « ويكونُ » أفكلما « مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإِنكار ، والأظهرُ هو الأولُ ، وإنْ كان ما قاله محتملاً .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

قوله تعالى : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } . . مبتدأٌ وخبر ، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه ، وقرأ الجمهورُ : « غُلْفٌ » بسكون اللام ، وفيها وجهان ، أحدهما وهو الأظهرُ : أن يكونَ جمع « أَغْلَف » كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر ، والمعنى على هذا : أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ . والثاني : أن يكونَ جمعَ « غِلاف » ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو : حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب ، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق ، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية : « لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ » ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقد نصّ غيرُه على جوازه ، وقرأ ابن عباس ويُروى عن أبي عمرو بضمِّ اللامِ وهو جمع « غِلاف » ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ « أَغْلف » لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر ، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر ، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى .
قوله : { بَل لَّعَنَهُمُ الله } « بل » حرفُ إضرابٍ ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف ، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق . والإِضرابُ على قسمين : إبطالٍ وانتقالٍ ، فالأول نحو : ما قام زيدٌ بل عمروٌ ، ولا تَعْطِفُ « بل » إلا المفردات ، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي ، ويُزاد قبلها « لا » تأكيداً . واللَّعْنُ : الطَّرْدُ والبُعْدُ ، ومنه : شَأْوٌ لعين أي بعيد : قال الشمَّاخ .
607 ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه ... مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي : البعيد ، وكان وجهُ الكلام أن يقول : « مقام الذئب اللعين كالرجل » . والباءُ في « بكفرهم » للسببِ ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ . وقال الفارسي : « النية به التقديمُ أي : وقالوا : قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم ، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ » بل لعنهم « جملةً معترضةً » ، وفيه بُعْدٌ ، ويجوز أن تكونَ حالاً من المفعولِ في « لَعَنهم » أي لعَنهم كافرين أي : مُلتبسين بالكفرِ كقوله : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } [ المائدة : 61 ] .
قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } في نصبِ « قليلاً » ستةُ أوجهٍ ، أحدُها وهو الأظهرُ : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : فإيماناً قليلاً يُؤمنون . الثاني : أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي : فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته ، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره . الثالث : أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ ، أي : فزماناً قليلاً يؤمنون ، وهو كقوله : { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ } [ آل عمران : 72 ] . الرابع : أنه على إسقاطِ الخافض والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب ، ويُعْزَى لأبي عبيدة .

الخامس : أن يكونَ حالاً من فاعل « يؤمنون » ، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة . إلا أن المهدوي قال : « ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى : فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ » قليل « . قلت : لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى : و » ما « على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد . السادس : أن تكونَ » ما « نافيةً أي : فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً ، ومثلُه : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] ، وهذا قويٌ من جهة المعنى ، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيِّزها عليها ، قاله أبو البقاء ، وإليه ذهب ابن الأنباري ، إلا أنَّ تقديمَ ما في حَيِّزها عليها لم يُجْزِه البصريون ، وأجازه الكوفيون . قال أبو البقاء : » ولا يَجُوز أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، لأن « قليلاً » يبقى بلا ناصبٍ « . يعني أنَّك إذا جَعَلْتَها مصدريةً كان ما بعدَها صلتَها ، ويكون المصدرُ مرفوعاً ب » قليلاً « على أنه فاعلٌ به فأين الناصبُ له؟ وهذا بخلافِ قولِه { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] فإنَّ » ما « هناك يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لأنَّ » قليلاً « منصوبٌ ب كان . وقال الزمخشري : » ويجوز أن تكونَ القِلَّةُ بمعنى العَدَم « . قال الشيخ : » وما ذهبَ إليه من أنَّ « قليلاً » يُراد به النفيُ فصحيحٌ ، لكنْ في غيرِ هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } لأنَّ « قليلاً » انتصبَ بالفعلِ المثبتِ فصار نظيرَ « قُمْتُ قليلاً » أي : قمتُ قياماً قليلاً ، ولا يَذْهَبُ ذاهبٌ إلى أنَّك إذا أَتَيْتَ بفعلٍ مُثْبَتٍ وجَعَلْتَ « قليلاً » منصوباً نعتاً لمصدرِ ذلك الفعلِ يكونُ المعنى في المُثْبَتِ الواقعِ على صفةٍ أو هيئةٍ انتفاءَ ذلك المُثْبَتِ رأساً وعدَمَ قوعِه بالكلِّية ، وإنما الذي نَقَل النحويون : أنَّه قد يُراد بالقلة النفيُ المَحْضُ في قولهم : « أقَلُّ رجلٍ يقول ذلك ، وقَلَّما يقوم زيد » ، وإذا تقرَّر هذا فَحَمْلُ القلةِ على النفي المَحْضِ هنا ليس بصحيحٍ « . انتهى . / قلت : ما قاله أبو القاسم الزمخشري رحمه الله من أنَّ معنى التقليلِ هنا النفيُ قد قال به الواحديُّ قبلَه ، فإنه قال : » أَيْ : لا قليلاُ ولا كثيراً ، كما تقول : قَلَّما يفعلُ كذا ، أي : ما يفعله أصلاً « .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

قوله تعالى : { مِّنْ عِندِ الله } . . فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه في محلِّ رفع صفةً لكتاب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي كتابٌ كائنٌ من عندِ الله .
والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ لابتداءِ غايةِ المجيء قالَه أبو البقاء . وقد ردَّ الشيخ هذا الوجهَ فقال : « لا يُقال إنه يُحْتمل أن يكونَ { مِّنْ عِندِ الله } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكونُ صفةً ، للفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بما هو معمولٌ لغير أحدهِما » يعني أنه ليس معمولاً للموصوفِ ولا للصفةِ فَلا يُغْتَفَرُ الفصلُ به بينهما .
والجمهورُ على رفع « مُصَدِّقٌ » على أنه صفةٌ ثانيةٌ ، وعلى هذا يُقال : قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والأخرى مؤولةٌ ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً . والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشىءٌ عن كونه من عندِ الله . وقرأ ابن أبي عبلة « مُصَدِّقاً » نصباً ، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ ، ونصبُه على الحال ، وفي صاحِبها قولان ، أحدُهما أنه « كتاب » . فإنْ قيل : كيفَ جاءت الحالُ مِن النكرة؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي { مِّنْ عِندِ الله } كما تقدَّم . على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري . والثاني : أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً ، والعاملُ فيها إمَّا : الظرفُ أو ما يتعلَّق به على الخلاف لمشهور ، ولهذا اعترَضَ بعضُهم على سيبويه في قوله :
608 لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ ... يَلُوح كأنَّه خِلَلُ
إنَّ « موحشاً » حالٌ من « طَلَل » ، وساغَ ذلك لتقدُّمِهِ ، فقال : لا حاجةَ إل ذلك ، إذ يمكنُ أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في قوله : « لميَّةَ » الواقعَ خبراً لطلل ، وللجوابِ ، عن ذلك موضعٌ آخرُ . واللام في { لِّمَا مَعَهُمْ } مقويةٌ لتعدية « مُصَدِّق » لكونِه فَرْعاً ، و « ما » موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها .
قوله : { وَكَانُواْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على « جاءهم » فيكونُ جوابُ « لَمَّا » مرتَّباً على المجيءِ والكونِ . والثاني : أن يكونَ حالاً أي : وقد كانُوا ، فيكونُ جوابُ « لَمَّا » مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون . قال الشيخ : « وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن » وكانوا « ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد » لَمَّا « ولا حالاً ، لأنه قدَّر جوابَ » لَمَّا « محذوفاً قبل تفسيره » يستفتحون « ، فَدلَّ على أنَّ قوله » وكانوا « جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه : ولَمَّا ، وهذا هو الثالثُ .
و { مِن قَبْلُ } متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون ، والأصل ، من قبلِ ذلك ، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ .

و « يَسْتَفْتحون » في محلِّ النصبِ على خبر « كان » . واختلف النحويون في جوابِ « لَمَّا » الأولى والثانية . فَذَهَبَ الأخفش والزجاج إلى أنَّ جوابَ الأولى محذوفٌ تقديرُه : ولَمَّا جاءهم كتابٌ كفروا به . وقَدَّره الزمخشري : « كَذَّبوا به واستهانوا بمجيئه » وهو حَسَنٌ . وذهب الفراء إلى أنَّ جوابَها الفاءُ الداخلةُ على لَمَّا ، وهو عندَه نظير { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] قال : « ولا يجوزُ أن تكونَ الفاءُ ناسقةً إذ لا يَصْلُح موضِعَهَا الواوُ » و « كفروا » جوابُ لَمَّا الثانية على القولَيِْن . وقال أبو البقاء : « في جواب لَمَّا الأولى وجهانِ ، أحدُهما : جوابُها » لَمَّا « الثانية وجوابُها . وهذا ضعيفٌ لأنَّ الفاءَ مع » لمَّا « الثانيةِ ، و » لمَّا « لا تُجَابُ بالفاءِ إلا أَنْ يُعْتقدَ زيادةُ الفاءِ على ما يُجيزه الأخفش » قلت : ولو قيل برأي الأخفش في زيادةِ الفاءِ من حيث الجملةُ فإنه لا يمكنُ ههنا لأنَّ « لَمَّا » لا يُجابُ بمثلِها ، لا يُقال : « لَمَّا جاء زيدٌ لَمَّا قَعَد أكرمتُك » على أن يكونَ « لَمَّا قعد » جوابَ « لمَّا جاء » . والله أعلم .
وذهب المبردُ إلى أنَّ « كفروا » جوابُ « لَمَّا » الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام ، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه ، وهو حسنٌ ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك . وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ : « والثاني : أنَّ » كفروا « جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاهما واحدٌ . وقيل : الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب » قلت : « قولُه : » وقيل الثانية تكريرٌ « هو ما حَكَيْتُ عن المبرد ، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون » كفروا « جواباً لهما بل هو هو .
قوله : { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل ، وأتى ب » على « تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد استعْلَتْ عليهم وشَمِلَتْهم . وقال : { عَلَى الكافرين } ولم يقُلْ » عليهم « إقامةً للظاهر مُقامَ المضمرِ لينبِّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفرُ .

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

قولُه تعالى : { بِئْسَمَا اشتروا } . . بئسَ : فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ ، معناه الذمُّ ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بأل ، أو فيما أُضيف إلى ما هما فيه ، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ ، أو في « ما » على قول سيبويه . وفيه لغاتٍ : بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ ، هذا الأصلُ ، وبِئِس بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ ، هذا الإِتباعُ ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ ، ومثلُها « نِعْمَ » في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات . وزعم الكوفيون أنهما اسمان ، مستدلِّين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم : « ما هي بِنِعْمَ الولد نصرُها بكاءٌ وبِرُّها سَرِقة » ، « ونِعْمَ السيرُ على بِئس العَيْر » وقولِه :
609 صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ ... بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ
وقد خَرَّجه البصريون على حَذْفِ موصوف ، قامَتْ صفتُه مَقَامَه تقديرُه : ما هي بولدٍ مقولٍ فيه نِعْم الولد ، ولها أحكامٌ كثيرة ، ولا بُدَّ بعدَها من مخصوصٍ بالمدحِ أو الذمِّ ، وقد يُحْذَفُ لقرينةٍ ، هذا حكمُ بِئْسَ .
أمَّا ، « ما » الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ : فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً ، واضطربت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً ، فاختلفوا : هَلْ لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع « بِئْسَ » شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ « حَبَّذا » نَقَلَه ابنُ عطية ، ونَقَلَ عنه المهدوي أنه يُجَوِّز أن تكونَ « ما » مع بئسَ بمنزلة كُلَّما ، فظاهرُ هذين النقلين أنها لا محلَّ لها . وذهب الجمهورُ إلى أنَّ لها مَحَلاً ، ثم اختلفوا : / محَلُّها رفعٌ أو نصبٌ؟ فذهب الأخفشُ إلى أنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها ، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه « ما » ، والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه : { أَن يَكْفُرُواْ } لأنه في تأويلِ مصدرٍ ، والتقدير : بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كفرُهم ، وبه قال الفارسي في أحدِ قوليه ، واختاره الزمخشري ، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ ، و « اشتَرَوا » صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه : بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به ، كقولِه .
610 لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : فتىً أَضْحى ، و { أَن يَكْفُرُواْ } بدلٌ من ذلك المحذوفِ ، أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أَنْ يكفروا . وذهبَ الكسائي إلى أنَّ « ما » منصوبةُ المحلِّ أيضاً ، لكنه قَدَّر بعدها « ما » أخرى موصولةً بمعنى الذي ، وجعل الجملةَ مِنْ قولِه « اشتَرَوا » صلتها ، و « ما » هذه الموصولةُ هي المخصوصُ بالذمِّ ، والتقديرُ : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلَّ ل « اشتروا » على هذا ، ويكونُ { أَن يَكْفُرُواْ } على هذا القولِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ كما تقدَّم ، فتلخَّص في الجملة الواقعةِ بعد « ما » على القولِ بنصبِها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها صفةٌ لها فتكونُ في محلِّ نصبٍ أو صلةٌ ل « ما » المحذوفةِ فلا محلَّ لها أو صفةٌ للمخصوصِ بالذم فتكونُ في محلِّ رفعٍ .

وذهب سيبويه إلى أَنَّ موضعَها رفعٌ على أنَّها فاعلُ بئس ، فقال سيبويه : هي معرفةٌ تامةٌ ، التقديرُ : بئس الشيء ، ُ والمخصوصُ بالذمِّ على هذا محذوفٌ أي شيءٌ اشتَرَوا به أنفَسَهم ، وعُزي هذا القولُ أيضاً للكسائي . وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي والجملةُ بعْدَها صلتُها ، ونقلَه ابن عطية عن سيبويه ، وهو أحدُ قَوْلَيْ الفارسي ، والتقدير : بئسَ الذي اشتروا به أنفسَهم أَنْ يكفُروا ، فأَنْ يكفروا هو المخصوصُ بالذمِّ . قال الشيخ : « وما نَقَلَه ابنُ عطية عن سيبويه وَهْمٌ عليه » . ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضاً أن « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، والتقديرُ : بئسَ اشتراؤُهم ، فتكونُ « ما » وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ . قال ابنُ عطية : « وهذا معترضٌ بأنَّ » بِئْسَ « لا تَدْخُل على اسمٍ معيَّنٍ يتعرَّفُ بالإِضافةِ للضمير » . قال الشيخ : « وهذا لا يَلْزَم إلا إذا نَصَّ أنه مرفوعُ بئس ، أمَّا إذا جعله المخصوصَ بالذمِّ وجعل فاعلَ » بئس « مضمراً والتمييزُ محذوفٌ لفهم المعنى ، والتقدير : بئسَ اشتراءً اشتراؤُهم فلا يَلْزَمُ الاعتراضُ » قلت : وبهذا أَعْني بجَعْلِ فاعلِ بئسَ مضمراً فيها جَوَّز أبو البقاء في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً ، فإنه قال : « والرابعُ أن تكونَ مصدريةً أي : بئسَ شِراؤُهم ، وفاعلُ بئسَ على هذا مضمرٌ لأنَّ المصدر ههنا مخصوصٌ ليس بجنسٍ » يعني فلا يكونُ فاعلاً ، لكن يُبْطِلُ هذا القولَ عَوْدُ الضمير في « به » على « ما » والمصدريةُ لا يعودُ عليها ، لأنها حرفٌ عند الجمهور ، وتقديرُ أَدِلَّةِ كلِّ فريق مذكورٍ في المُطَوَّلات . فهذه نهايةُ القولِ في « بئسما » و « نِعِمَّا » واللهُ أعلم .
قوله : { أَن يَكْفُرُواْ } قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة : إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه ، ولا حاجةَ إلى الرابطِ ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف ، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقرَّر وتحرَّر . وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرِّ بدلاً من الضميرِ في « به » إذا جَعَلْتَ « ما » تامَّة .
قوله : { بِمَآ أنَزَلَ الله } متعلِّق بيكفُروا ، وقد تقدَّم أنَّ « كفر » يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْزله ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل .

قوله : { بَغْيَاً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ ، وفي الناصبِ له قولان ، أحدُهما وهو الظاهر أنه « يكفروا » أي علةُ كفرِهم البغيُ . والثاني أنه { اشتروا } ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري ، فإنه قال : « وهو علةُ { اشتروا } . والثاني من الأوجهِ الثلاثة : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً . والثالث : أنه في موضعِ حالٍ ، وفي صاحِبها القولان المتقدَّمان : إمَّا فاعلُ { اشتروا } وإمَّا فاعلُ { يَكْفُرُواْ } ، تقديرُه : اشْتَرَوا باغِين ، أو يَكْفُروا باغِين .
والبَغْيُ : أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم : بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ قاله الأصمعيْ وقيل : هو شِدَّةُ الطلبِ ، ومنه قولُه تعالى : { مَا نَبْغِي } [ يوسف : 65 ] ، وقال الراجز :
611 أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ ... قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ
ومنه » البَغِيُّ « لشدة طلبها له .
قوله { أَن يُنَزِّلُ الله } فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له » بَغْياً « أي : عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه السلامُ . والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ : بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ ، أي : حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ : أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ؟ والثالثُ : أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من » ما « في قوله : { بِمَآ أنَزَلَ الله } بدلَ اشتمال ، أي : بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس :
612 أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من » أَنْزَل « مخففاً إلا ما وقع الإِجماع على تشديدِه في الحجرِ { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ } [ الحجر : 21 ] ، وقد خالفا هذا الأصلَ : أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد { على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [ الآية : 37 ] / في الأنعام ، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّد في الإِسراء ، { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن } [ الإسراء : 82 ] { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } [ الإسراء : 93 ] والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا : { وَيُنَزِّلُ الغيث } [ الآية : 34 ] آخر لقمان ، { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث } [ الآية : 28 ] في الشورى . والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ ، وقد تقدَّم : هل بينهما فرقٌ؟ وتحقيقُ كلٍّ من القولين ، وقد ذَكَر القُرَّاءُ مناسباتٍ للإِجماعِ على التشديد في ذلك الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا؟ بما يطول ذكره ، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } : » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ » يُنَزِّل « أي : أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب . والثاني : أنَّ » مِنْ « زائدةٌ ، وهو رأيُ الأخفش ، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له ، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي : أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله .
قوله { على مَن يَشَآءُ } متعلقٌ بيُنَزِّلَ . و » مَنْ « يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ ، والتقديرُ : على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجويزِه في » مَنْ « أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً » ومفعولُ « يشاء » محذوفٌ أي : يَشَاءُ نزولَه عليه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي « انتهى .

وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ .
قوله : { مِنْ عِبَادِهِ } فيه قولان : أحدُهما : أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ الذي هو عائدٌ على الموصولِ أو الموصوفِ ، والإِضافةُ تقتضي التشريفَ . والثاني : أَنْ يكونَ صفةً ل « مَنْ » بعدَ صفةٍ على القولِ بكونِها نكرةً ، قاله أبو البقاء . وهو ضعيفٌ لأنَّ البداءة بالجارِّ والمجرورِ على الجملةِ في باب النعتِ عند اجتماعهما أَوْلَى لكونِه أقربَ إلى المفردِ ، فهو في محلِّ نصبٍ على الأولِ وجَرٍّ على الثاني ، وفي كِلا القولين يتعلَّق بمحذوفٍ وجوباً لِما عَرَفْتَ .
قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } الباءُ للحال ، أي : رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك . قوله { على غَضَبٍ } في محل جر لأنه صفة لقوله « بغضب » أي : كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ . وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما ، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام ، أو الأولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما ، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً؟ خلافٌ مشهور .
قوله : { مُّهِينٌ } صفة لعذاب ، وأصلُه : « مُهْوِن » لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً ، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً ، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها ، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً . والإِهانةُ : الإِذلالُ والخِزْيُ ، وقال : « وللكافرين » ولم يَقُلْ : « ولهم » تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

قوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } : يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإِخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإِعراب . والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يكفرون ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها « قالوا » أي قالوا : نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيها « نؤمن » ، قال أبو البقاء : « إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر » يعني فكان يجبُ المطابَقةُ . ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله :
613 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ } وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به ، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } .
قوله : { بِمَا وَرَآءَهُ } متعلَّق بيَكْفرون ، وما موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها ، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا . والهاءُ في « وراءه » تعودُ على « ما » في قوله : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ } . ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ ، وهو ظرفُ مكانٍ ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام ، فهو من الأَضْداد ، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى « سِوَى » التي بمعنى « غَيْر » ، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى « بعد » . وفي همزه قولان ، أحدُهما : أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم : وُرَيْئَة . والثاني : أنها من ياء لقولهم : تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ . ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو « واو » اسمِ حَرْفِ الهجاء ، وحكمُه حكمُ قبلُ وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعْرِبَ ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر :
614 إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ ... لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ
وفي الحديثِ عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : « كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ » ، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما : وُرَيْئَة وقُدَيْدِيمة : تصغير : وراء وقُدَّام . قال ابن عصفور : « لأنَّهما لم يتصرَّفا فلو لم يُؤَنَّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما » .
قوله : { وَهُوَ الحق } مبتدأٌ وخبر ، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه : « ويَكفرون » وصاحبُها فاعلُ يكفرون . وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه { بِمَا وَرَآءَهُ } أي : بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ .
قوله : { مُصَدِّقاً } حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه { وَهُوَ الحق } قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ : إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو :

{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] ، وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ . فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة ، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه :
615 أنا ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي ... وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ
والتقديرُ : وهو الحقُّ أَحُقُّه مصدقاً ، وابنُ دارَة أُعْرَفُ معروفاً ، هذا تقديرُ كلامِ النحويين . وأمّا أبو البقاء فإنه قال : « مصدقاً حالٌ مركِّدةٌ ، والعاملُ فيها ما في » الحقّ « من معنى الفعل إذ المعنى : وهو ثابِتٌ مصدِّقاً ، وصاحب الحالِ الضميرُ المستترُ في » الحقّ « عند قومٍ ، وعند آخرين صاحبُ الحالِ ضميرٌ دَلَّ عليه الكلامُ ، و » الحقّ « مصدرٌ لا يتحَمَّلُ الضميرَ على حَسَبِ تحمُّلِ اسمِ الفاعلِ له عندهم ، فقولُه » عند آخرين « هذا هو الذي قَدَّمْتُه أوَّلاً وهو الصواب .
قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ؟ وهذا تكذيبٌ لهم ، لأن الإِيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه . و » لِمَ « جارٌّ ومجرورٌ ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي : لأي شيء؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين » ما « الخبريةِ . وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها ، قالَ الشاعر :
616 على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ
وهذا ينبغي أَنْ يُخَصَّ بالضرورةِ كما نصَّ عليه بعضُهم ، والزمخشري يُجيز ذلك ، ويُخَرِّج عليه بعضَ آي القرآن ، كما قد تُحْمَلُ الخبريةُ على الاستفهاميةِ في الحذفِ في قولِهم : اصنعْ بِمَ شِئْتَ ، وهذا لمجردِ الشَّبَهِ اللفظيِّ . وإذا وُقف على » ما « الاستفهاميةِ المجرورة : فإنْ كانَتْ مجرورةً باسمٍ وَجَبَ لَحاقُ هاءِ السكتِ نحو : مَجيء مَهْ ، وإن كانَتْ مجرورةً بحرْفٍ فالاختيارُ اللَّحاقُ . والفرقُ أنَّ الحرفَ يمتزجُ بما يَدْخُلُ عليه فَتَقْوَى به الاستفهاميةُ بخِلافِ الاسمِ المضافِ إليها فإنه في نيةِ الانفصالِ ، وهذا الوقفُ إنما يجوز ابتلاءً أو لقَطْعِ نفسٍ ، ولا جَرمَ أنَّ بعضَهم مَنَع الوقفَ على هذا النحوِ ، قال : » لأنه إنْ وُقف بغيرِ هاءٍ كان خطأً لنقصانِ الحَرْفِ ، وإنْ وُقِفَ بهاءٍ خالفَ السوادَ « ، لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثلُ ذلك لا يُعَدُّ مخالفةً للسواد ، ألا ترى إلى إثباتِهم بعضَ ياءاتِ الزوائدِ . والجارُّ متعلقٌ بقولِهِ : » تقتلون « ، ولكنه قُدِّمَ عليه وجوباً لأنَّ مجرورَه له صدُر الكلامِ ، والفاءُ وما بعدها من » تَقْتُلون « في محلِّ جزم ، وتَقتلون وإن كان بصيغةِ المضارعِ فهو في معنى الماضي لفَهْمِ المعنى ، وأيضاً فمعه قولُه » من قبل « ، وجاز إسنادُ القتلِ إليهم وإنْ لم يَتَعاطَوْه لأنهم لَمَّا كانوا راضِينَ بفعلِ أسلافِهم جُعِلوا كأنَّهم فَعَلوا هم أنفسهم .
قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } في » إنْ « قولان أحدهما : أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك ، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين ، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو : فَلِمَ تقتلون ، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه ، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى . وقال ابن عطية : » جوابُها متقدِّمٌ ، وهو قوله : فَلِمَ « وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد . والثاني : أَنَّ » إنْ « نافيةٌ بمعنى ما ، أي : ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإِيمانَ .

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

قوله تعالى : { بالبينات } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما أن يكونَ حالاً من « موسى » ، أي : جاءكم ذا بيناتٍ وحُجَجٍ أو ومعه البيناتُ . والثاني : أن يكونَ مفعولاً أي : بسبب إقامةِ البيناتِ ، وما بعدَه من الجملِ قد تقدَّم مِثْلُه فلا حاجةَ إلى تكريرِه .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

قوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه : « قالوا سَمِعْنا » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل « قالوا » ، أي : قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار « قد » لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين ، حيثُ قالوا : لا يُحْتاجُ إليها . ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك ، واستضعَفَه أبو البقاء ، قال : « لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ } ، فهو جوابُ قولِهم : » سَمِعْنا وعَصَيْنا « ، فالأَوْلَى ألاَّ يكونَ بينهما أجنبيٌ » . والواوُ في « أُشْرِبوا » هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو « العِجْلَ » لأنَّ « شَرِبَ » يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ « العِجْل » والتقديرُ : وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ . وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك ، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل . والإِشرابُ : مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو : أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً . والمعنى : أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه ، كما داخَل الصبغُ الثوبَ . ومنه :
617 إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ ... فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا
وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل ، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف الأكل ، فإنه مجاوزٌ ، ومنه في المعنى :
618 جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال بعضُهم :
619 تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي ... فبادِيه مع الخافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ ... ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها ... أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ
وقيل : الإشرابُ هنا حقيقةٌ ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه ، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه ، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه : « في قُلوبهم » .
قوله : « بكُفْرهم » فيه وجهان ، أظهرُهما : / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [ 41 / ب ] ب « أُشْرِبوا » ، أي : أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق . والثاني : أنها بمعنى « مع » ، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي : أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم . والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ ، أي : بأَنْ كفروا . { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ } كقولِه : { بِئْسَمَا اشتروا } [ البقرة : 90 ] فَلْيُلْتفت إليه .
قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : « فبِئْسَما يَأْمرُكم » . وقيلَ : تقديرُه : فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي : إيمانُكم الباطلُ ، أو حَذْفِ مضافٍ أي : صاحبُ إيمانكم . وقرأ الحسن : « بِهُو إيمانُكُمْ » بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل .

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

قوله تعالى : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً } : شَرْطٌ جوابُه : « فَتَمَنَّوُا » و « الدارُ » اسمُ كان وهي الجنةُ . والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ ، أي : نَعيمُ الدارِ ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن . واختلفوا في خبر « كان » على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها : أنه « خالصةً » فتكون « عند » ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في « لكم » ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن « الدار » والعاملُ فيه « كان » أو الاستقرارُ . وأمَّا « لكم » فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه . قال أبو البقاء « ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد » خالصةً « أي خالصةً لكم فَتَتَعَلَّقَ بنفسِ » خالصةً « . وهذا فيه نظرٌ ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه : أعني لكم نحو : سُقْياً لك ، تقديرُه : أعني بهذا الدعاءِ لك . وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حينئذٍ بمحذوف كما ذكرت . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل » خالصةً « في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ .
الثاني : أنَّ الخبر » لكم « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ » خالصةً « حينئذٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها : إمَّا » كان « أو الاستقرارُ في » لكم « و » عند « منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً .
الثالث : أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ ، و » خالصةً « حالٌ أيضاً ، والعاملُ فيها : إمَّا » كانَ « أو الاسقرارُ ، وكذلك » لكم « . وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا : » لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به « . وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء . واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال : » وسَوَّغَ أن يكونَ « عند » خبرَ كان « لكم » ، يعني لفظَ « لكم » سَوَّغَ وقوعَ « عند » خبراً ، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ ، ونظيرُه قولُه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، لولا « له » لم يَصِحَّ أن يكونَ « كفواً » خبراً . و { مِّن دُونِ الناس } في محلِّ النصبِ ب « خالصةً » لأنَّك تقولُ : « خَلُصَ كذا مِنْ كذا » .
وقرأ الجمهورُ : « َتَمَنَّوُا الموتَ » بضمِّ الواو ، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً ، واختلاسُ الضمة . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو « لَوِ استطعنا » . و « إنْ كنتم » كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } وقد تقدَّمَ .

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

قولُه تعالى : { أَبَداً } . . منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه ، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً ، تقول : ما فَعَلْتُه أبداً ، وقال الراغب : « هو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ ، وذلك أنه يقال : زمانَ كذا ولا يُقال : أبدَ كذا ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألاَّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ ، وقد قالوا : آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه ، وقيل : آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ ، ومجيئُه بعد » لَنْ « يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ ، وقد تقدَّم ذلك ، ودَعْوى التأكيدِ فيه بعيدةٌ » . وقال هنا : « ولن يَتَمَنَّوْه » فنَفى بلن وفي الجمعة ب « لا » قال صاحب المنتخب : « لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى ، والنفيُ ب » لن « أَبْلَغُ مِن النفي بِ » لا « .
قوله : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيتمنَّوْه ، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ . و » ما « يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : كونُها موصولةً بمعنى الذي . والثاني : نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي : بما قَدَّمَتْه ، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني . والثالث : أنَّها مصدريَّةٌ أي : بتَقْدِمَةِ أيديهِم . ومفعولُ » قَدَّمَتْ « محذوفٌ أي : بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه .

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

قولُه تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } . . هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه : واللهِ لَتَجِدَنَّهُم . و « وجَدَ » هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ ، والثاني « أَحْرَصَ » ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ ك « عَلِمَ » في المعنى نحو : { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ الأعراف : 10 ] . ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ ، وينتصِبُ « أَحْرَصَ » على الحالِ : إمَّا على رَأْي مَنْ لا يشترطُ التنكيرَ في الحال ، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ « أَفْعَل » إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن ، أعني عَدَمَ المطابقةِ ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ « مِنْ » جازَ فيها وجهان : المطابقةُ لِما قبلَها نحو : الزيدان أَفْضَلا الرجالِ ، والزيدون أفاضل الرجال ، وهند فُضْلى النساء . والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ ، ومنه قولُه : « أكابِرَ مجرميها » ، وعدمُها نحو : الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ ، وعليه هذه الآيةُ ، وكلا الوجهين فصيحٌ ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيُّنَ الإفرادِ ، ولأبي منصور الجواليقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ . وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها ، ولذلك مَنَع النحْويون : « يوسُف أَحْسَنُ إخوته » على معنى التفضيلِ ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو : « الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان » بمعنى العادِلان فيهم ، وأمَّا :
620 يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ « أَظْلَمَ » الثاني مقحماً كأنه قال : « أَظْلَمُنا » . وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه : « أوَّل كافر » .
قوله : { على حَيَاةٍ } متعلِّق ب « أَحْرَصَ » ، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى ب « على » ، تقول : حَرَصْتُ عليه . والتنكيرُ في « حياة » تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ « على الحياة » بالتعريفِ . وقيل : إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : على طُولِ حياةٍ ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ ، بل يكونُ المعنى : أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ . وإنْ قُلْتَ : فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك . وأصلُ حياة : حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً .
قولُه : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه ، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه حُمِل على المعنى ، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس : أَحْرَصَ من الناسِ ، فكأنه قيل : أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا . الثاني : أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه ، والتقديرُ : وأحرصَ من الذين أشركوا ، وعلى ما تقرَّر من كونِ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر « مِنْ » لأنَّ « أَحرصَ » جَرى على اليهودِ ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ « مِنْ » لكانَ معطوفاً على الناس ، فيكونُ في المعنى : ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه ، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون الأصنامَ ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً .

الثالث : أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً ، والتقديرُ : ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ ، فيكونُ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } صفةً لمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في « لتجدنَّهم » ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى ، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ . وعلى القولِ بانقطاعهِ من « أَفْعل » يكونُ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } خبراً مقدَّماً . ، و « يَوَدُّ أحدُهم » صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه : ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم ، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه ، كقولِه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، وقوله : « مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام » . والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ كما تقدم . وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ ، إذا التقديرُ : ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم . وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } تحت أَفْعَل ، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ .
قوله : « يَوَدُّ أحدُهم » هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم ، فإنْ قيل بأنَّ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } داخلٌ تحتَ « أَفْعَلَ » كان في « يَوَدُّ » خمسةُ أوجهٍ أحدُها : أنه حالٌ من الضمير في « لَتَجِدَنَّهم » أي : لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم . الثاني : أنه حالٌ من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه « أَحْرَصَ » المحذوف . الثالث : أنه حالٌ من فاعلِ « أشْركوا » . الرابع : أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في ازديادِ حِرْصِهِم على الحياةِ . الخامسُ وهو قولُ الكوفيين : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ ، ذلك الموصولُ صفةٌ للذين أشركوا ، والتقدير : ومن الذين أشركوا الذين يودُّ أحدُهم . وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ ، لأنه صفةٌ لمبتدأٍ محذوفٍ كما تقدَّم . و « أحدٌ » هنا بمعنى واحد ، وهمزتُه بدلٌ من واو ، وليس هو « أحد » المستعملَ في النفي فإنَّ ذاك همزتُه أصلٌ بنفسِها ، ولا يُستعملُ في الإِيجابِ المَحْض .

و « يودُّ » مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي ، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ « يَعِد » وبابه ، وحكى الكسائي في « ودَدْت » بالفتحِ . قال بعضُهم : « فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو » . والوَدادة التمني .
قوله : « لو يُعَمَّر » في « لو » هذه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة - : أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره ، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ « يَوَدُّ » عليه ، وحُذِفَ مفعولُ « يَوَدُّ » لدلالةِ « لو يُعَمَّرَ » عليه ، والتقديرُ : يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك ، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب . والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء - : أنها مصدرية بمنزلة أَنْ الناصبةِ ، فلا يكونُ لها جوابٌ ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ ، والتقدير : يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ . واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي ، وهذه يَلْزَمُها المستقبل ك « أَنْ » ، وبأنَّ « يودُّ » / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق ، وبأنَّ « أَن » قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } [ البقرة : 266 ] وهو كثيرٌ ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ . الثالث - وإليه نحا الزمخشري - : أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في قوة : يا ليتني أُعَمَّر ، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ ، إجراءً له مُجْرى القول . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف اتصل لو يُعَمَّر بَيَودُّ أحدُهم؟ قُلْتُ : هي حكايةٌ لوَدَادَتِهم ، و » لو « في معنى التمني ، وكان القياسُ : » لو أُعَمَّر « إلا أنَّه جرى على لفظِ الغَيْبَة لقوله : » يَوَدُّ أحدُهم « ، كقولِك : حَلَفَ بالله ليَفْعَلَنَّ انتهى » . وقد تقدَّم شرحُه ، إلا قولَه : « وكان القياسُ لو أُعَمَّر ، يعني بذلك أنه كانَ مِنْ حَقِّه أَنْ يأتيَ بالفعلِ مُسْنَداً للمتكلم وحدَه وإنما أَجْرَى » يَوَدُّ « مُجْرى القولِ لأنَّ » يَوَدُّ « فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ » .
و « ألفَ سَنَةٍ » منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر ، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ . وفي « سَنَة » قولان « أحدُهما : أنَّ أصلَها : سَنَوة لقولهم : سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ . والثاني : أنها من سَنَهَة لقولِهم : سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك .
قوله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب } في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ ، أحدُها : أنه عائدٌ على » أحد « وفيه حينئذٍ وَجْهان ، أحدُهما : أنه اسمُ » ما « الحجازيةِ ، و » بمُزَحْزِحِه « خبرُ » ما « ، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة .

و « أَنْ يُعَمَّر » فاعلٌ بقولِه « بمُزَحْزِحِه » ، والتقديرُ : وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه . الثاني من الوجهين في « هو » : أن يكونَ مبتدأ ، و « بمُزَحْزِحِهِ » خبرُه ، و « أَنْ يُعَمَّر » فاعلٌ به كما تقدَّم ، وهذا على كَوْنِ « ما » تميميَّةً ، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] .
الثاني من الأقوال : أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من « يُعَمَّر » ، أي : وما تعميره ، ويكون قولُه : « أن يُعَمَّر » بدلاً منه ، ويكون ارتفاعُ « هو » على الوَجْهَيْن المتقدِّمَين ، أعني كونَه اسمَ « ما » او مبتدأ .
الثالثُ : أن يكونَ كناية عن التعميرِ ، ولا يعودُ على شيء قبلَه ، ويكونُ « أن يُعَمَّر » بدلاً منه مفسِّراً له ، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده ، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً ، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله : « ويجوزُ أن يكونَ » هو « مبهماً ، و » أَنْ يُعَمَّر « موضِّحَه » .
الرابع : أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في « الحلبيَّات » موافقةً للكوفيين ، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ ، نحو : ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ ، وما هو بقائمٍ زيدٌ ، لأنه في قوة : ظننتُه يقومُ الزيدان ، وما هو يقومُ زيدٌ ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين .
الخامسُ : أنَّه عِمادٌ ، نعني به الفصلَ عند البصريين ، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح : وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم ، يقولون في : زيدٌ هو القائمُ : هو القائمُ زيدٌ ، وكذلك هنا ، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ « بمُزَحزِحِه » خبراً مقدَّماً و « أَنْ يُعَمَّر » مبتدأً مؤخراً ، و « هو » عَمادٌ ، والتقديرُ : وما تعميرُه هو بمزحزحِه ، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ . والبصريُّون لا يُجِيزون شيئاً من ذلك .
و « من العذابِ » متعلِّقٌ بقوله : « بمُزَحْزِحِه » و « مِنْ » لابتداءِ الغاية .
والزَّحْزَحَةُ : التنحِيَةُ ، تقولُ : زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً ، فمِنْ مجيئِه متعدِّياً قولُه :
621 يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ ... وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ
وأنشدَه ذو الرمة :
622 يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن مجيِئه قاصراً قولُ الآخر :
623 خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ ... وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ

قولُه : « أَنْ يُعَمَّر » : إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من « هو » أو مبتدأً حَسْبَ ما تقدَّم من الإِعرابِ في « هو » .
{ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } مبتدأٌ وخبرُه ، و « بما » متعلِّقٌ ببصير . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي : يَعْمَلُونه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي : بِعَمَلِهم . والجمهورُ « يعملون » بالياء ، نَسَقَاً على ما تقدَّم ، والحسنُ وغيرُه « تَعْمَلُون » بالتاء للخطاب على الالتفات ، وأتى بصيغةِ المضارعِ ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي ، وخَتْمِ الفواصلِ .

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ } . . . « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « كان » خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم ، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه ، أو فَلْيَمُتْ غَيْظاً ونحوُه . ولا جائز أن يكونَ « فإنه نزَّله » جواباً للشرطِ لوجهين ، أحدُهما من جهةِ المعنى ، والثاني من جهةِ الصناعةِ ، أما الأول : فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ ، والجزاءُ لا يكون إلاَّ مستقبلاً ولقائلٍ أن يقولَ : هذا محمولٌ على التبيين ، والمعنى : فقد تبيَّن أنه نَزَّله ، كما قالوا في قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 26 ] ونحوِه . وأمَّا الثاني : فلأنه ] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ ، فلا يجوزُ : مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ ، ولا ضميرَ في قولِه : « فإنَّه نَزَّله » يَعُودَ على « مَنْ » فلا يكونُ جواباً للشرط ، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك ، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه :
624 فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني
وقولُه :
625 فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط . فإنْ قيل : إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير / ، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] ، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ ، وفيه النظرُ المذكورُ ، وجوابُه ما تقدَّم .
و « عَدُوَّاً » خبرُ كانَ ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه ، قال : « هم العدُوُّ » : والعَدَاوَةُ : التجاوُزُ . قالَ الراغب : « فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ ، وبالمشِي يقال : العَدْوُ ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال : العُدْوان ، وبالمكان أو النسب يقال : قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء » . و « لِجبريلَ » يجوزُ أنْ يكونَ صفةً ل « عَدُوّاً » فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ « عَدُوَّاً » إليه . وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقولُ مَنْ قالَ : « إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله » بعيدٌ ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [ الأسماءِ ] الأعجميةِ ، وكذا قولُ مَنْ قالَ : « إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ ، وأنَّ » جَبْر « معناه عَبْد ، و » إيل « اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله » لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني ، وكذا قولُ المهدوي : إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو : حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلاَّ .

وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك .
وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً ، أشهرُها وأفصحُها : جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل ، وهي قراءةُ أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم . وهي لغةُ الحجازِ ، قال ورقةُ بنُ نوفل :
626 وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ
وقال حسان :
627 وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا ... وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ
وقال عمران بن حطان :
628 والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له ... وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً
الثانيةُ : كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم ، وهي قراءة ابن كثير والحسن ، وقال الفراء : « لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل » . وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين : قسمٍ ألحقُوه بأبنيتِهم كلِجام ، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم ، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر ، وعن ابن كثير أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : جَبْريلَ وميكائيل ، قال : فلا أزال أقرؤهُما كذلك . الثالث : جَبْرَئيل كعَنْتَريس ، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي ، وقال حسان :
629 شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ ... َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وقال جرير :
630 عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ ... وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا
الرابعةُ : كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر . الخامسة : كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا : و « إلَّ » بالتشديد اسمُ الله تعالى ، وفي بعض التفاسير : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : معناهُ الله . ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة : « هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ » . السادسة : جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ ، وبها قرأ عكرمةُ . السابعةُ : مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ . الثامنة : جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً . التاسعةُ : جِبْرال . العاشرة : جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف . الحاديةَ عشرةَ ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم . الثالثةَ عشرةَ : جَبْرايين . والجملةُ مِنْ قولِه : « مَنْ كان » في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والضميرُ في قوله : « فإنَّه » يعودُ على جبريل ، وفي قوله « نَزَّلَه » يعودُ على القرآنِ ، وهذا موافقٌ لقولِه : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين }

[ الشعراء : 193 ] في قراءةِ مَنْ رَفَع « الروح » ، ولقولِه « مصدِّقاً » ، وقيل : الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل ، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ { نَزَلَ به الروحُ } بالتشديدِ والنَّصْبِ ، وأتى ب « على » التي تقتضي الاستعلاء دونَ « إلى » التي تقتضي الانتهاء ، وخَصَّ القلبَ بالذكر لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون « على قلبي » - لأحدِ أمرَيْنِ : إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك : قل لقومِك لا يُهينوك ، ولو قلت : لا تُهينوني لجازَ ، ومنه قولُ الفرزدق :
631 ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ : ما ليا
فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب « مالك »؟ ، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد « قُلْ » ، والتقديرُ : قُلْ يا محمد : قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه : « جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى ، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي : مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ » فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ « قُلْ » ، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ « قُلْ » بالتأويل المذكورِ أولاً ، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ .
قوله : { بِإِذْنِ الله } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل : « نَزَّله » إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل ، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في « نَزِّلَ » يعودُ على الله ، والتقديرُ : فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله . [ والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ ، والإِيذانُ : الإِعلامُ ] ، أَذِنَ به : عَلِمَ به . وأذَنْتُه بكذا : أَعْلَمْتُه به ، ثم يُطْلَقُ على التمكينِ ، أَذِن لي في كذا : أَمْكَنني منه ، وعلى الاختيارِ : فَعَلْتُه بإذنك : أي باختيارِك ، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي : بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك .
قولُه : « مُصَدِّقاً » حالٌ من الهاءِ في « نَزَّلَه » إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى ، والتقديرُ : فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً ، والثاني : أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، والهاءُ في « بين يديه » يجوزُ أن تعودَ على « القرآنِ » أو على « جِبْريل » .
و « هُدَىً وبُشْرَى » حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما ، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هُدَىً ، و « بُشْرى » ألفُها للتأنيثِ ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ ، والثاني : أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه . والثالث : أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه .

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)

قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً } : الكلامُ في « مَنْ » كما تقدَّم ، إلاَّ أَنَّ الجوابَ هنا يَجُوز أن يكونَ { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } ، فإنْ قيل : وأين الرابطُ؟ فالجوابُ مِنْ وَجْهين أحدُهما : أنَّ الاسم الظاهرَ قامَ مَقام المضمرِ ، وكان الأصلُ : فإنَّ الله عَدُوٌّ لهم ، فأتى بالظاهرِ تنبيهاً على العلةِ . والثاني : أن يُرادَ بالكافرين العموم ، والعموم من الروابط ، لاندراجِ الأولِ . تحتَه . ويجوزَ أن يكونَ محذوفاً تقديرُه : مَنْ كانَ عَدُوَّاً لله فقد كَفَر ونحوُه . وقال بعضهم : الواوُ في قوله : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } بمعنى أو ، قال : لأنَّ مَنْ عادى واحداً من هؤلاء المذكورين فالحكمُ فيه كذلك . وقال بعضُهم : هي للتفصيلِ ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، فإنَّ هذا الحكمَ معلومٌ ، وَذَكر جبريلَ وميكالَ بعد اندراجهما أولاً تنبيهاً على فَضْلِهما على غيرِهما من الملائكةِ ، وهكذا كلُّ ما ذُكِرَ : خاصٌ بعد عامٍ ، وبعضهم يُسَمِّي هذا النوعَ بالتجريدِ ، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصاً له بمزيَّةٍ ، وهذا الحكمُ - أعني ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ - مختصٌّ بالواوِ ، لا يَجُوز في غيرِها من حروف العَطْف .
وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] وهذا فيه نظر؛ فإن « فاكهةٌ » من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات ، وليست من العمومِ في شيءٍ ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ . وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ } لأنه لو أُضْمِر فقيل : « فإنَّه » لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى ، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ . وميكائيل اسمٌ أعجمي ، والكلامُ فيه كالكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله أو أن « مِيك » بمعنى عبد ، و « إيل » اسمُ الله ، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك .
وفيه سبعُ لغاتٍ : مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ، قال :
632 ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ ... فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ
وقوله :
633 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . وكَذَّبوا مِيْكالا
الثانيةُ : كذلك ، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع . الثالثة : كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين . الرابعة : مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن . الخامسة : كذلك إلاَّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ : مِيكَعِل وقُرىء بها . السادسةُ : ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش . السابعة : ميكاءَل بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال : إسراءَل . وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن « جَبْر » بمعنى عَبْد بالتكبير ، و « مِيكا » بمعنى عُبَيْد بالتصغير ، فمعنى جِبْريل : عبد الله ، ومعنى مِيكائيل : عُبَيْد الله قال : « ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ » . قوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ .

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)

قوله تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } : الجمهورُ على تحريك واو « أَوَ كلما » واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال ، فقال الأخفش : إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها . وقال الكسائي : هي « أَوْ » العاطفةُ التي بمعنى بل ، وإنما حُرّكَتِ الواوُ ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً . وقال البصريون : هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده ، لذلك قَدَّره هنا : أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا .
وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي : « أَوْ كلَّما » ساكنةَ الواو ، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال ، فقالَ الزمخشري : « إنها عاطفةٌ على » الفاسقين « ، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] أي : الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا . وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى ، وقال المهدوي : » أَوْ « لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ ، يعني أنَّها بمعنى بل ، وهذا رأيُ الكوفيين وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله :
634 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ
في أولِ السورةِ ، وقالَ بعضُهم : هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان ، وقد ثَبَتَ ورودُ » أو « بمنزلةِ الواوِ كقوله :
635 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
{ خطيائة أَوْ إِثْماً } [ النساء : 112 ] { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك ، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم . والناصبُ لكُلَّما بعدَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها . وانتصابُ » عَهْداً « على أحدِ وَجْهين : إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ : » معاهدةً « ، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا معنى أَعْطَوا ، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقديرُ : عاهدوا الله عَهْدَاً .
وقُرِىءَ : » عَهِدُوا « فيكونُ » عهْداً « مصدراً/ جارياً على صَدْرِه ، وقُرىء أيضاً : » عُوْهِدُوا « مبنياً للمفعولِ »
قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هذا فيه قولان ، أحدُهما : أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ ، وتكونُ « بل » لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ « بل » لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ . والثاني : أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ « أكثرُهم » معطوفاً على « فريقٍ » ، و « لا يؤمنون » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من « أكثرُهم » . وقال ابن عطية « من الضمير في » أكثرُهم « ، وهذا الذي قاله جائزٌ ، لا يُقال : إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ : وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه ، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ ، والنَّبْذُ : الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قوله تعالى : { الكتاب كِتَابَ الله } : « الكتابَ » مفعولٌ ثانٍ ل « أُوْتُوا » لأنه يتعدَّى في الأصلِ إلى اثنين . فأُقيم الأولُ مُقام الفاعلِ وهو الواوُ ، وبقي الثاني منصوباً ، وقد تَقَدَّم أنه عند السهيلي مفعولٌ أوَّلُ ، و « كتابَ الله » مفعولُ نَبَذَ ، و « وراءَ » منصوبٌ على الظرفِ وناصبُه « نَبَذَ » ، وهذا مَثَلٌ لإِهمالِهم التوراةَ ، تقولُ العرب : « جَعَلَ هذا الأمرَ وراءَ ظهره ودَبْرَ أذنِه » أي : أهمله ، قال الفرزدق :
636 تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي ... بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها
والنَّبْذُ : الطَّرْحُ - كما تقدَّم - . وقال بعضُهم : « النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة ، إلا أن النبذَ أكثرُ ما يقال في المبسوط والجاري مَجْراه ، والإِلقاء فيما يُعْتبر فيه ملاقاةٌ بين شيئين » ومن مجيء النَّبْذ بمعنى الطرح قوله :
637 إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما
وقال أبو الأسود :
638 وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما ... أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا
نظْرتَ إلى عنوانِه فنبذْتَه ... كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
قوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وصاحبُها ، فريقٌ ، وإنْ كان نكرةً لتخصيص بالوصفِ ، والعاملُ فيها : نَبَذَ ، والتقدير : مُشْبهين للجُهَّال . ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه : أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ ، والمعنى : أنهم كفروا عِناداً .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه : « ولمَّا جاءَهم » إلى آخرها .
وقال أبو البقاء : « إنها معطوفةٌ على » أُشْرِبوا « أو على » نَبَذَ فريقٌ « ، وهذا ليس بظاهر ، لأنَّ عطفَها على » نَبَذَ « يقتضي كونَها جواباً لقولِه : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله ، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم . و » ما « موصولةٌ ، وعائدُها محذوفٌ ، والتقديرُ : تَتْلوه . وقيل : » ما « نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ ، نقل ذلك ابنُ العربي . و » يَتْلو « في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله :
639 وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه ... كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها ... فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ
أي : فلقَدْ كان ، وقال الكوفيون : الأصلُ : ما كانت تَتْلو الشياطينُ ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ » ما « محذوفةٌ ، وهي » كانَتْ « ، و » تتلو « في موضعِ الخبرِ ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى ، وهو نظيرُ : » كانَ زيدٌ يقوم « المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي
وقرأ الحسن والضحاك : » الشياطُون « إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ ، قالوا : وهو غَلَطٌ . وقال بعضُهم : لَحْنٌ فاحِشٌ . وحكى الأصمعي : » بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون « وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن .
قوله : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فيه قولان : أحدُهما : أنه على معنى في ، أي : في زمنِ ملكِه ، والمُلْكُ هنا شَرْعُه . والثاني : أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى : تتقوَّل أي : تتقوَّل على مُلْكِ سليمان ، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى ، قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] . وهذا الثاني أَوْلَى ، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف ، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة . وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى ب » على « كان المجرورُ ب » على « شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو : تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ ، والمُلْكُ ليس كذلك .
والتلاوةُ : الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه . وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ . وقال أبو البقاء : » وفيه ثلاثةُ أسبابٍ : العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ « وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما ، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية ، وكَرَّر قولَه { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله :
640 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
قوله : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها .

وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ « لكنْ » ورَفْعِ ما بَعْدها ، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ . وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ « لكنْ » مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك ، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ . وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ ، وكانَ ما بعدَها مفرداً ، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً ، وهو قويٌّ ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم : ما قام زيدٌ لكن عمروٌ ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم ، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ . وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ ، قال زهير :
641 - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ ... لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء : « الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ » وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ . وأبعدَ مَنْ زَعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ : لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً .
قوله : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } « الناسَ » مفعولٌ أولُ ، و « السحرَ » مفعولٌ ثانٍ . واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال ، أحدُها : أنها حالٌ من فاعل « كفروا » ، أي : كفروا مُعَلِّمينَ . الثاني : أنها حالٌ من الشياطين ، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ « لكنّ » لا تعملُ في الحال . وليس بشيء فإن « لكنَّ » فيها رائحةُ الفعل . الثالث : أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين . الرابعُ : أنها بدلٌ من « كَفروا » أبدلَ الفعلَ من الفعلِ . الخامسُ : أنَّه استئنافيةٌ ، أخبرَ عنهم بذلك ، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من « يُعَلِّمون » على الشياطين ، أمَّا إذا أَعَدْناه على « الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ » فتكونُ حالاً من فاعلِ « اتَّبعوا » ، أو استئنافيةً فقط . والسِّحْرُ : كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ . سَحَرَهُ . إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى . قال :
642 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال : سَحَره : أي خَدَعَه وعَلَّله ، قال امرؤ القيس :
643 أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي : نُعَلَّلُ ، وهو في الأصلِ : مصدرٌ يُقال : سَحَرَه سِحْراً ، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً .
قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ } فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على « السِّحْر » ، والتقديرُ : يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن . الثاني : أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على { مَا تَتْلُواْ الشياطين } والتقديرُ : واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً .

الثالث : أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على « مُلْكِ سليمان » والتقديرُ : افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين . وقال أبو البقاء : « تقديرُه : وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل » . الرابع : « أنَّ » ما « حرفُ نفيٍ ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها ، وهي { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، والمعنى : وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ .
والجمهورُ على فَتْح لام » المَلَكَيْن « على أنَّهما من الملائكة ، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ ، وسيأتي تقريرُ ذلك .
قوله { بِبَابِلَ } متعلِّقٌ بأُنِزِلَ ، والباءُ بمعنى » في « أي : في بابل : ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في » أُنْزل « فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء .
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية ، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية ، وسُمِّيَتْ بذلك قال : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر ، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ . والبَلْبَلَةُ : التفرقةُ ، وقيل : لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها » ثمانينَ « ، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً . وقيل : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود .
قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } الجمهورُ على فَتْح تائِهما ، واختلف النحويون في إعرابهما ، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في » المَلَكَيْنِ « : فَمَنْ فَتَحَ لامَ » المَلَكَيْنِ « وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها بَدَلٌ من » الملَكَيْنِ « ، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ . الثاني : أنهما عطفُ بيانٍ لهما . الثالث : أنهما بدلٌ من » الناس « في قوله : { يُعَلِّمُونَ الناس } وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان . الرابع : أنهما بدلٌ من » الشياطين « في قوِه : » ولكنَّ الشياطينَ « في قراءةِ مَنْ نَصَبَ ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم . وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ . وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ » الشياطين « فلا يكونُ » هاروت وماروت « بدلاً منهم ، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ ، أي : أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها ، كقولِه :
644 أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
أي : أذمُّ وجوهَ قرودٍ ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه ، أو يكونان بدلاً من » الناس « كما تقدَّم .

وقرأ الحسن : هاروتُ وماروتُ برفعهما ، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : هما هاروتُ وماروتُ ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من « الشياطين » الأولِ ، وهو قولُه : { مَا تَتْلُواْ الشياطين } أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه . ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة ، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما ، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا .
قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها . والجمهور على « يُعَلِّمان » مُضَعَّفاً ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين : أحدُهما : أنه على بابِه من التعليم . والثاني : أنه بمعنى يُعْلِمان من « أَعْلم » ، فالتضعيفُ والهمزةُ متعاقبان ، قالوا : لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه ، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف ، وكان يقرأ : « يُعْلِمان » من الإِعلام . وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير :
645 تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً ... فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
وقولَ القطامي
646 تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً ... وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
وقول كعب بن مالكِ :
647 تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي ... وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
وقول الآخر :
648 تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ
والضميرُ في « يُعَلِّمان » فيه قولان ، أحدُهما : أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت ، والثاني : أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ : « وما يُعَلَّمُ المَلَكان » ، والأولُ هو الأصحُّ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول : « هندٌ حُسْنُها فاتِنٌ » ولا تقول : « فاتنةٌ » مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله :
649 إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
وقول الآخر :
650 فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : تَرَكَتْ ، وفي قوله : مُعَيَّن ، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال : تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر :
651 فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة . وأجاب الشيخ عن البيتين بأن « رَواحَهَا وغدوَّها » منصوبٌ على الظرفِ ، وأن قوله « مُعَيَّنٌ » خبرٌ عن « حاجِبَيْه » وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك ، قال :
652 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ
وقال :
653 لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه ، قال :
654 إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى ... بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و « مِنْ » زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق ، لأنَّ « أحداً » يفيدُه بخلافِ : « ما جاءَني من رجلٍ » فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ ، و « أحد » هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها .

وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو .
قوله : { حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } حتى : حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ « أَنْ » ولا يجوزُ إظهارها ، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ ، والتقديرُ : إلى أَنْ يقولا ، وهي متعلقةٌ بقولِه : « وما يُعَلِّمانِ » والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ « وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد :
655 ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً ... حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ
قال : » تقديرُه : إلا أَنْ تجودَ « .
واعلم أنَّ » حتى « تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية ، وكقولِه : { حتى مَطْلَعِ [ الفجر ] } [ القدر : 5 ] ، وتكونُ حرفَ عطفٍ ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [ الجملُ كقوله ] :
656 فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها ... بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [ فلذلك لا يكون ما بعدها ] إلا غايةً لِما قبلها : إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما ، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى . و » إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَها ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وكذلك : « فَلا تَكْفُرْ » .
قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ } في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ ، أظهرُها ، أنَّها معطوفةٌ على قولِه : « وما يُعَلِّمان » والضميرُ في « فيتعلَّمون » عائدٌ على « أحد » .
وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى ، نحو قولِه : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] ، فإن قيل : المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ « فيتعلَّمون » منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى . فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ } وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى : يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما : إنما نحنُ فتنةٌ ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه .
الثاني : أنه معطوفٌ على { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } قاله الفراء . وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في « يُعَلِّمون » مع إتيانِه بضميرِ التثنية في « منهما » ، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ : « منهم » لأجلِ « يَعَلِّمون » ، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه ، وقالوا : لا يمتنع عَطْفُ « فيتعلَّمون » على « يُعَلِّمون » وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً ، والضميرُ في « منهما » راجعٌ إليهما ، فإنَّ قوله « منهما » إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ .

وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ ، وذلك أَنَّ الضميرَ في « مِنهما » عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ « فيتعلَّمون منهما » عَطْفٌ على « يُعَلِّمون » فيكونُ التقديرُ : « يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما » فيلزم الإِضمارُ في « منهما » قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً ، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ .
الثالث : - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على « كفروا » ، و « كفروا » فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ ، قال سيبويه : « وارْتفَعَتْ » فيتعلَّمون « لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا : لا تَكْفُرْ فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه ، ولكنه على : كفروا فيتعلَّمون » ، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس « فيتعلَّمون » جواباً لقولِه : « فلا تَكْفُرْ » فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ : « فَيُسْحِتَكم » بعدَ قولِه : « لا تَفْتَرُوا » لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم . وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه .
الرابع : وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : « فهم يتعلَّمون » ، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ .
الخامس : قال الزجاج أيضاً : « والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على » يُعَلِّمان فيتعلَّمون « فاستغنى عِنْ ذكرِ » يَعَلِّمان « على ما في الكلام من الدليل عليهِ » . واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال : « لا وجهَ لقولِه : » استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان « لأنه موجودٌ في النص » . وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما ، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ « فيتعلَّمون » عطفٌ على « يُعَلِّمان » المنفيِّ ب « ما » في قوله « وما يُعَلِّمان » حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو : يَعَلِّمان فيتعلَّمون .
السادس : انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام ، والتقديرُ : فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً .
السابع : قال أبو البقاء : « وقِيل هو مستأنَفٌ » وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه ، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه . هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ - رحمه الله - فيها فأمتعَ .
قوله : « مِنْهُمَا » متعلِّقٌ بيُعَلِّمون . و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها .

والثاني : أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ ، والثالث : أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه « فَلا تَكْفُرْ » وهو قولُ أبي مسلم .
قوله : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } الظاهرُ في « ما » أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في « به » عليها ، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة .
و « بين المرءِ » ظَرْفٌ ل « يُفَرِّقون » . والجمهورُ على فَتْحِ ميم « المَرْء » مهموزاً وهي اللغة العالية . وقرأ ابنُ أبي إسحاق : « المُرْء » بضمِّ الميمِ مهموزاً ، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ : « المِرْء » بكسر الميم مهموزاً . فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع ، وذلك أنَّ في « المَرْء » لغةً ، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ . تقول : « ما قام المُرْءُ » بضم الميم ، و « رأيت المَرْءَ » بفتحها ، و « مررت بالمِرْءِ » بكسرِها . وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه : « أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن » أي : أخلاقكم . وقرأ الحسن والزهري : « المِرِ » بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً ، وهو قياسٌ مُطَّرد . / وقرأ الزهري أيضاً : « المَرِّ » بتشديد الراء من غير همز ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً ، كما رُوي عن عاصم « مُسْتَطرٌّ » بتشديد الراء ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
قوله : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } يجوز في « ما » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ الحجازيةَ فيكون « هم » اسمَها ، و « بضارِّين » خبرَها ، والباءُ زائدةٌ ، فهو في محلِّ نصبٍ ، والثاني : أن تكونَ التميميةَ ، فيكونَ « هم » مبتدأ ، و « بضارِّين » خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ . والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ « فيتعلَّمون » . الثاني : يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ « واتَّبَعوا » . الثالث : يعودُ على الشياطين . والضميرُ في « به » يعودُ على « ما » في قولِه : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } .
والجمهورُ على « بضارِّين » بإثباتِ النونِ و « من أحدٍ » مفعولٌ به ، وقرأ الأعمشُ : « بضارِّي » من غيرِ نونٍ ، وفي توجيهِ ذلك قولان ، أظهرُهما : أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر :
657 ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني ... لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم

أي : بمُذْعنين ، ونظيرُه في التثنية : « قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا . يريدون : ثِنْتان ومِئَتان . والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ عطية - : أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى » أحد « وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو » به « كما فُصِل به في قول الآخر :
658 هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله ... إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
وفي قوله :
659 كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال : » فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن؟ قلت : جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور « ، قال الشيخ : » وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ ، وأقبحُ من ذلك ألاَّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه ، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه « وفي قولِ الشيخ نظرٌ ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام .
وأمَّا قولُه : » لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه « فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي ، وهذا إنما قال : نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين : الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه .
و » مِنْ « في » مِنْ أَحَد « زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } . وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء : إنَّ » أَحَداً « يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ ، والمعهودُ زيادةُ » مِنْ « في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو : » ما ضَربْتُ من أحدٍ « إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى : وما يَضُرُّون من أحدٍ ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية .
قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ . فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه الفاعلُ المستكِنُّ في » بضارِّين « . الثاني : أنه المفعولُ وهو » أَحَدٍ « وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ . والثالثُ : أنَّه الهاءُ في » به « أي بالسحرِ ، والتقديرُ : وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك . والرابعُ : أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه .

قوله : { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على « يَضُرُّهم » فتكونُ صلةً ل « ما » أيضاً ، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب . والثاني - وأجازه أبو البقاء - : أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه : وهو لا ينفعُهم ، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه : « ما يَضُرُّهم » ، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع ، قال أبو البقاء : « ولا يَصِحُ عَطْفُه على » ما « لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم » وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها ، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه . وأتى هنا ب « لا » لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ . والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان ، يقال : ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد ، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي ، والمصدرُ : الضُّر والضَّر بالضم والفتح ، والضَّرر بالفك أيضاً ، ويقال : ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً ، قال الشاعر :
660 تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها ... بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها
وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ ، ونَقَلَ بعضُهم : أنَّه لا يُبْنَى من « نفع » اسمُ مفعول فَيُقال : مَنْفُوع ، والقياسُ لا يَأْباه .
قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ . و « عَلِمَ » يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ : إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم ، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها ، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً ، ونظيرُه في الكلامِ : عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً ، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ . والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد « عَلِم » في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ :
661 وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى ... ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ « مُوجعات » على أنه عَطْفٌ على محلِّ « ما الهوى » ، وفي البيت كلامٌ ، إذ يُحتمل أن تكونَ « ما » زائدةً ، و « والهوى » مفعولٌ به ، فَعَطَفَ « موجعات » ِ « عليه ، ويُحتمل أن تكونَ » لا « نافيةً للجنس و » موجعاتِ « اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال : ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت .
والضميرُ في » عَلِموا « فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام ، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين ، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ .

قوله : { لَمَنِ اشتراه } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل « عَلِم » عن العملِ كما تقدّم ، و « مَنْ » موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « اشتراهُ » صلتُها وعائدُها . و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ : ما له خلاقٌ في الآخرةِ . وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل « مَنْ » الموصولةِ فالجملةُ من قوله : « ولقد عَلِموا » مقسمٌ عليها كما تقدَّم ، و « لَمَن اشتراه » غيرُ مقسمٍ عليها ، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور . الثاني - وهو قول الفراء ، وتَبِعه أبو البقاء - : أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ ، و « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جوابُ القسمِ ، ف « اشتراه » على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ . ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً ، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله :
662 لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً ... أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا
ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلاَّ وفعلُه ماضٍ ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله :
663 لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } مُقْسَماً عليهما ، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال : « هذا ليس موضعَ شرط » ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك . والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ ، أنَّ الفعل بعد « مَنْ » وهو « اشتراه » ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً .
والخَلاقُ : النَّصِيبُ ، قال الزجاج : « أكثرُ استعمالِه في الخيرِ » فأمَّا قولُه :
664 يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ ... إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ
فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله :
665 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ
والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، أي : لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا ، والثالث : أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة . والخَلاقُ : القَدْر قال :
666 فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ ... وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ
أي : من قَدْرٍ ورتبةٍ ، وهو قريبٌ من الأولِ . والضميرُ المنصوبُ في « اشتراه » فيه أربعةُ أقوالٍ : يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه . وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه : « ولَبِئْس ما » وما ذَكَر الناسُ فيها . واللامُ في « لَبِئْسَما » جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لَبِئْسَما ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : السحرُ أو الكفرُ .

قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه : لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم ، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء : « لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ » لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى . والضميرُ في « به » يعودُ على السحرِ أو الكفرِ ، وفي « يَعْلَمُون » يعودُ على اليهود باتفاق ، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري وغيرُه ، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في « عَلِمُوا » و « يَعْلَمُون » ، وذلك أنَّ الزمخشري قال : « فإنْ قلتَ : كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولاَّ في » ولقد عَلِمُوا « على سبيلِ التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قولِه : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه : لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم ، جَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه » وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في « عَلِموا » و « يَعْلَمون » لشيءٍ واحدٍ . وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه ، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه ، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي : عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا ، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في « عَلِموا » على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد إليه العلمُ حينئذ .

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } : « لو » هنا فيها قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كوِنها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وسيأتي الكلامُ في جوابها . وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي : ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له ، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ .
و « أنهم آمنوا » مؤولٌ بمصدرٍ ، وهو في محلِّ رفعٍ ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن ، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ، تقديرُه : ولو إيمانُهم ثابتٌ ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو ، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال ، كما شَذَّ نصبُ « غُدْوَةً » بعد « لَدُنْ » . وقيل : لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ « أَنَّ » ، وصَحَّح الشيخ هذا في سورة النساء ، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في « أنَّ » الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها ، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم . والثاني : - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه : ولو ثَبَتَ إيمانُهم ، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه ، وهذا يُحْمَلُ على المبرد ، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها . والضميرُ في « أنهم » فيه قولان ، أحدُهما : عائدٌ على اليهودِ ، والثاني : على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ .
قوله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك ، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه ، وعلى هذا فجوابُ « لو » محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره : لأُثيبوا . والثاني : أنها جوابُ لو ، فإنَّ « لو » تجابُ بالجملةِ الاسميةِ . قال الزمخشري : « أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في » سلامٌ عليكم « وفي قوع جوابِ » لو « جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع . قال الشيخ : » لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه ، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ .
ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما : أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة ، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل : مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب ، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول ، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي .

والثاني : أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين ، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء ، ويقال : « مَثْوَبة » بسكون الثاءِ وفتحِ الواو ، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال : « مَثُابة » كمَقامَة ، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة ، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة . ومعنى « لَمَثُوبة » أي : ثوابٌ وجزاءٌ في من الله . وقيل : لَرَجْعَةٌ إلى الله .
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله . والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره . قال الشيخ : « وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ » قلت : ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ ، حتى لو قيل في الكلام : « لَمَثُوبة خيرٌ » من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ . والتنكيرُ في « لَمَثُوبَةٌ » يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ ، ونظيرُه : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله « خيرٌ » خبرٌ لِمَثُوبَةٌ ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ ، كقوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ } [ فصلت : 40 ] .
قوله : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُها محذوفٌ تقديرُه : لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً ، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى ، وكذلك قَدَّرَه ، بعضُهم : لآمنوا . وفي مفعولِ « يَعْلَمُون » وجهان : أحدُهما : أنه محذوفٌ اقتصاراً أي : لو كانوا من ذوي العلمِ ، والثاني : أنه محذوفٌ اختصاراً ، تقديرُه : لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك ، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

قوله تعالى : { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } : الجمهورُ على « راعِنا » أمرٌ من المُراعاة ، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه ، و « راعِنا » يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه : ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك ، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه السلام . وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة : « راعِناً » بالتنوين ، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : قولاً راعناً ، وهو على طَريقِ النَسَب كلابن وتامر ، والمعنى : لا تقولوا قولاً ذا رُعونة . والرُّعونة : الجَهْل والحُمْق والهَوَج ، وأصلُ الرُّعونة : التفرُّقُ ، ومنه : « جَيْشٌ أَرْعَنُ » أي : متفرِّقٌ في كل ناحية ، ورجلٌ أَرْعَنُ : أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ ، وقيل للبَصْرةِ : الرَّعْناء ، قال :
766 لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا
قيل : سُمِّيت بذلك لأنها أَشْبَهت « رَعْنَ الجبلِ » وهو الناتِيءُ منه ، وقال ابن فارس : « يقال : رَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً » . وقرأ أُبَيّ : راعُونا ، وفي مصحف عبد الله كذلك ، خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً ، وفي مصحفِ عبدِ الله أيضاً ، « ارْعَوْنا » لِما تقدَّم . والجملةُ في محل نصبٍ بالقول ، وقَدَّم النهيَ على الأمرِ لأنه من باب التروك فهو أَسْهَلُ .
قوله : « انظُرْنا » الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، والجمهورُ على « انظُرْنا » بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراً من الثلاثي ، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخير ، أي : أَخِّرْنا وتأنَّ علينا ، قال امرؤ القيس :
668 فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً ... من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ
وقيل : هو من نَظَر أي : أبْصَرَ ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى ب « إلى » ، ومنه :
669 ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ
أي : إلى الأراك ، وقيل : مِنْ نَظَر أي : تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي : انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش : « أَنْظِرْنَا » بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى : أَمْهِلْنا وأخِّرْنا ، قال الشاعر :
670 أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ... وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا
أي : أَمْهِلْ علينا ، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في الحديد : : انظُرونا نقتبسْ « فإنها قُرِئَتْ بالوَجْهَيْنِ .

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

قوله تعالى : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : في « مِنْ » قولان : أحدهُما : أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي : ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ . الثاني : أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري .
قوله : { وَلاَ المشركين } عطفٌ على « أَهْلِ » المجرورِ بمِنْ و « لا » زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى : ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] بغيرِ زيادة « لا » . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ : ولا المشركون ، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة ، نحو : « برؤوسكم وأرجلكِم » في قراءة الجر ، وليس بواضح . وقال النحاس : « ويجوزُ : ولا المشركونَ بعطفِه على » الذين « وقال أبو البقاء : » وإنْ كان قد قرىء « ولا المشركون » بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل ، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك « وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار .
قوله : { أَن يُنَزَّلَ } ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب » يَوَدُّ « أي : ما يودُّ إنزالَ خيرٍ ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه : » من ربكم « ، وأتى ب » ما « في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك .
قولُه : { مِّنْ خَيْرٍ } / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ ، و » مِنْ « زائدةٌ ، أي : أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم . وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان » يُنَزَّل « لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها .
وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو : » ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ « برفع » زيدٌ « بدلاً من فاعِل » يقول « وإنْ لم يباشر النفيَ ، لكنه في قوةِ : » ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني « وقولِه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] زيدت الباءُ لأنه في معنى : أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه . وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا . وقيل : » مِنْ « للتبعيض أي : ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل : » عليكم « والمعنى : أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } في » مِنْ « أيضاً قولان ، أحدُهما : أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل . والثاني : أنها للتبعيضِ ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه : مِنْ خُيورِ ربِّكم ، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه : » مِنْ خيرٍ « أي : مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم ، ويكونُ في محلِّها وجهان : الجرُّ على اللفظِ ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ » مِنْ « زائدةٌ في » خير « فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم .

وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ « مِنْ » قولين ، الأولى : قيل إنها للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس ، وفي الثانيةِ قولان : زائدةٌ أو للتبعيضِ ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ .
قوله : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك . و « يختصُّ » يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً ، فإنْ كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى ، وتكون « مَنْ » مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه ، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو : كَسَب مالاً واكتسَبه ، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه « مَنْ » أي : واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ . و « مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً ، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ ، أي : يشاءُ اختصاصَه ، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ » يشاء « معنى يَخْتار ، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي : يَشاؤه ، و » يشاءُ « على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً ، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ } . . في « ما » قولان : أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له ، والتقدير : أيَّ شيءٍ نَنْسَخ ، مثلَ قوله { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] . والثاني : أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ ، و « مِنْ آيةٍ » هو المفعولُ به ، والتقديرُ : أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً ، قاله أبو البقاء وغيرُه ، وقالوا : مجيءُ « ما » مصدراً جائز وأنشدوا :
671 نَعَبَ الغرابُ فقلتُ : بَيْنٌ عاجِلُ ... ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين ، أحدُهما : أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ ، وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في ذلك عند قولِه : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . والثاني : أنَّ « مِنْ » لا تُزَادُ في الموجَبِ ، والشرطُ موجَبٌ ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ .
وقرأ ابنُ عامر : « نُنْسِخْ » بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ ، قال أبو حاتم : « هو غلطٌ » وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه ، وقال أبو عليّ : ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال : نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً ، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى : ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال : أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه ، أي : وَجَدْتُه كذلك ثم قال : « وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه ، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ » ، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ . وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام ، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها ، أي : الإِعلامُ به ، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام ، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه ، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها ، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً .
وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له ، قال : « ويكونُ المعنى : ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه ، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في » منها « و » بمثلها « عائِدَيْنِ على الضمير في » نَنْسَأْها « قال الشيخ : » وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ ، و « ما » في قوله : « ما نَنْسَخْ » شرطيةٌ ، وقولُه « أو نَنْسَأْها » عائدٌ على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى ، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو : عندي درهمٌ ونصفُه ، فهو في الحقيقة على إضمار « ما » الشرطيةِ ، التقدير : أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء ، ولكن يبقى قولُه : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله « .

قوله : { مِنْ آيَةٍ } « مِنْ » للتبعيضِ ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً ، والمعنى : أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف « آية » مفرد وقع موقِعَ الجمعِ ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } ، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : « مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ » تناوَلَ النساءَ والرجالَ ، فإذا قلت : « مِن الرجالِ » بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط .
وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين ، أحدهما : أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز ، والممَّيز « ما » والتقدير : أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ ، قال : « ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ » آية « وبين المميَّز بآية ، لا تقول : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز . والثاني : أنها زائدةٌ وآية حال / ، والمعنى : أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً ، وقد جاءت » آية « حالاً في قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } [ الأعراف : 73 ] أي : » علامة « وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ ب » مِنْ « ، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها ، و » مِنْ « زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل » ما « واقعةً موقع المصدر ، فهذه أربعةُ أوجه .
قولِه : { أَوْ نُنسِهَا } » أو « هنا للتقسيم ، و » نُنْسِها « مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه . وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً : » نَنْسَأها « بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير . الثانية : كذلك إلا أنه بغير همزٍ ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال ابن عطية : » وأراه وَهِمَ « . الثالثة : » تَنْسَها « بفتح التاء التي للخطاب ، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ ، وهي قراءةُ الحسن ، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص : » إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال : إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ « وتلا : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه .

الرابعةُ : كذلك إلا أنه بالهمز : الخامسةُ : كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة : السادسةُ : كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ . السابعة : « نُنْسِها » بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ . الثامنةُ : كذلك إلا أنه بالهمز . التاسعةُ : نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء . العاشرةُ : « نُنْسِكَ . بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب . الحاديةَ عشرة : كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً ، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف : » نُنَسِّكَها « وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه . الثالثةَ عشرةَ : » ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها « وهي قراءةُ الأعمش ، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله .
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم : نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي : أَخَّرَه ، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً ، وتقولُ العرب : نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً ، وأنْسَأَ الإِبلَ : إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء . الثاني : نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن زيد . الثالث : نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد ، وهو ضعيفٌ لقوله : نَأْتِ بخيرٍ منها ، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه : نَأْتِ بخير منه .
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان : أظهرُهما : أنها من النسيانِ ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ ، وفي بعضِها التركَ . والثاني : أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان . ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء : » نَنْسَاها « من الثلاثي فواضحٌ . وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم : نُنْسِكَها ، أي : نجعلُك ناسياً لها ، أو يكونُ المعنى : نَأْمُرُ بتركها ، يقال : أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه ، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه ، وأنشدوا :
672 إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها ... لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها
أي : لا تاركها ولا آمراً بتركها ، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءةِ فقال : » هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك ، لا يُقال : أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه : « ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها » وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ ، وقال : « إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً » ، واحتجَّ بقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }

[ الإسراء : 86 ] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك . وأجابَ الفارسي عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع . وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس .
قوله : « نَأْت » هو جوابُ الشرط ، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ ، أعني : مجيئهما مضارِعَيْن . وقوله : « بخيرٍ منها » متعلِّقٌ بِنَأْتِ ، وفي « خير » هنا قولان ، الظاهرُ منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف ، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ ، وقولُه : « أو مثلِها » أي في التكليف والثواب ، وهذا واضحٌ . والثاني : أن « خيراً » هنا مصدرٌ ، وليس من التفضيلِ في شيء ، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ ، كخير في قوله : { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] و « مِنْ » لابتداء الغاية ، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه « خير » أي : خيرٌ صادِرٌ من جهتِها ، والمعنى عند هؤلاء : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء . وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك : « أو مثلِها » فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على « بخير » على هذا المعنى ، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ ، فيكونَ المعنى : نَأْتِ بخيرِ من الخُيور ، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء . وأمَّا عَطْفُ « مثلِها » على الضمير في « منها » ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين ، لعدمِ إعادةِ الخافضِ ، وقوله « ما نَنْسَخْ » فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم ، ألا ترى أنَّ قبله « واللهُ يَخْتَصُّ » { والله ذُو الفضل } .
والنَّسْخُ لغةً : الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه ، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [ نحو : ] نَسَخْتُ الكتابَ ، وقال بعضهُم :
« والنسخُ : الإِزالةُ ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن : ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو : » نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ « فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه ، ومنه { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ، والثاني : أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو : نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه : فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ ، النسيئة : التأخيرُ كما تقدَّم ، والإمضاءُ أيضاً قال :
673 أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ } : هذا استفهامٌ معناهُ التقريرُ ، فلذلك لم يَحَتَجْ إلى معادِلٍ يُعْطَفُ عليه ب « أم » ، وأَمْ في قولِه : « أم تُريدون » :
قوله تعالى : { لَهُ مُلْكُ } . . . يجوزُ في « مُلْك » وجهان ، أحدُهما أنَّه مبتدأٌ وخبرُه مُقَدَّمِ عليه ، والجملةُ في محلَّ رفعٍ خبرٌ ل « أنَّ » . والثاني : أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ ، رَفَعَه الجارُّ قبله عند الأخفش ، لا يقال : إنَّ الجارَّ هنا قد اعتمد لوقوعِه خبراً ل « أَنَّ » ، فيرفعُ الفاعلَ / عند الجميع ، لأنَّ الفائدة لم تتمَّ به فلا يُجْعَلُ خبراً . والمُلْكُ بالضمِّ الشيءُ المَمْلوك ، وكذلك هو بالكسرِ ، إلا أنَّ المضمومَ لا يُسْتَعْمَل إلا في مواضِع السَّعَةِ وبَسْطِ السُّلْطانِ .
قوله : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ } يجوزُ في « ما » وجهان ، أحدُهما : كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ « لكم » خبراً مقدماً ، و « مِنْ وليّ » مبتدأً مؤخراً زيدت فيه « مِنْ » فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ . والثاني : أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمَ خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ ، فيكونُ « لكم » في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً ، و « مِنْ وليّ » اسمها مؤخراً ، و « مِنْ » فيه زائدةٌ أيضاً ، و { مِّن دُونِ الله } فيه وجهان ، أحدُهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به « لكم » من الاستقرارِ المقدَّرِ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية . والثاني : أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله : { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً ، قاله أبو البقاء . فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به « لكم » . ولا نصير « عطفٌ على لفظِ » ولي « ولو قُرِىءَ برفعِهِ على الموضِع لكان جائزاً . وأتى بصيغة فَعيل في » وليَّ « و » نَصير « لأنها أَبْلَغُ من فاعل ، ولأنَّ » وليَّاً « أكثرُ استعمالاً من » والٍ « ولهذا لم يَجِيءْ في القرآن إلا في سورةِ الرعدِ ، وأيضاً لتواخي الفواصلِ وأواخرِ الآي . وفي قولِه » لكم « انتقالٌ من خطابِ الواحدِ لخطابِ الجماعةِ ، وفيه مناسَبَةٌ ، وهو أنَّ المنفيَّ صار نَصَّاً في العمومِ بزيادةِ » مِنْ « فناسَبَ كونَ المَنْفِيِّ عنه كذلكَ فجُمِعَ لذلك .

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

منقطعةٌ هذا هو الصحيحُ في الآيةِ . قال ابنُ عطية « ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ : أَمْ تريدون ، وقال قومٌ : أَمْ منقطعةٌ ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه : أَمْ عَلِمْتُم ، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام ، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ » انتهى . وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ ، فهو كقولِه : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك .
وفي قولِه : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله } التفاتان ، أحدُهما : خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو { خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ، والثاني : خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم . { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : أَنَّ وما في حَيِّزِها : إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ .
قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ } . . قد تَقَدَّم أنَّ « أَمْ » هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه : « ألم تَعْلَمْ » ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء : أَمْ هنا منقطعةٌ ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم : أيُّهما ، والهمزةُ من قولِه : « ألم تعلمْ » ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى : بل أتريدون « فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام . وأصلُ تُريدون : تُرْودُون ، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ ، وقد تقدَّم ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً . وقيل » أم « للاستفهامِ ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل : هي بمعنى بل وحدَها ، وهذان قولان ضعيفان .
قوله : { أَن تَسْأَلُواْ } ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله » تُريدون « ، أي : أتريدون سؤالَ رسولِكم .
قولُه : » كما سُئِلَ « متعلِّقٌ بتَسْأَلوا ، والكافُ في محلِّ نصبٍ ، وفيها التقديران المشهوران : فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي : أَنْ تَسْأَلوه أي : السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له ، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا . و » ما « مصدرية ، أي : كسؤال موسى ، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد ، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى . و » موسى « مفعول لم يُسمَّ فاعله ، حُذِف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قوم موسى .
والمشهور : » سُئِل « بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسن : » سِيل « بكسر السين وياء بعدها ، مِنْ : سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف ، وهل هذه الألفُ في » سال « أصلُها الهمزُ أولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في » سَأَلَ « ، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ .

و « من قبلُ » متعلق بسُئل ، و « قبلُ » مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي : من قبلِ سؤالِكم . وهذا توكيدٌ ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم .
قوله : { بالإيمان } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها باء العِوَضيَّة ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك . والثاني : أنها للسببية ، قال أبو البقاء : « يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل ، وتكون الباءُ للسبب كقولك : اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ » وفي مثالِه هذا نظرٌ .
{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها ، و « سواءَ » قال أبو البقاء : « سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله » وهذا صحيحٌ فإنَّ « سَواء » جاء بمعنى وَسَط ، قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] وقال عيسى بن عمر : « ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي » وقال حسان
674 يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه ... بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير :
675 أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ
والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] . والجملةُ من قولِه : « فَقَدْ ضَلَّ » في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً .

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } : الكلامُ في « لو » كالكلامِ فيها عندَ قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [ البقرة : 96 ] ، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعولُ « يَوَدُّ » ، أي : وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم . ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه : لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك ، وقال بعضُهم : تقديرُه : لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك ، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ « لو » لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط . وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ « لو » حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه فَيَلْزَمُ مِنْ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً ، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاقٍ ، فتقديرُ : لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ . و « يَرُدُّ » هنا فيه قولان ، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر ، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ ، و « كفاراً » مفعولٌ ثانٍ ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله :
676 رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ ... بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً ... وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا
وجَعَلَ أبو البقاء « كفاراً » حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً ، وهذا لا بُدَّ منه .
و « مِنْ بعدِ » متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية .
قوله : { حَسَداً } نصبٌ على المفعولِ له ، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه ، والعاملُ فيه « وَدَّ » أي : الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم . وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين ، أحدُهما : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً ، أي : حاسِدِين ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ . الثاني : أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً ، والأولُ أظهرُ الثلاثة .
قوله : { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها ، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ ، أي : وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . الثاني : أنه صفةٌ ل « حَسَدا » ، فهو في محلِّ نصبٍ ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم ، ومعناه قريبٌ من الأول . الثالث : انه متعلِّقُ بيردُّونكم ، و « مِنْ » للسببية ، أي : يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم .
قوله : « مِّن بَعْدِ مَا » متعلِّقٌ ب « وَدَّ » ، و « مِنْ » للابتداءِ ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم ، فكفرُهم عنادٌ ، و « ما » مصدريةٌ أي : مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ . والحَسَدُ : تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ ، المصدرُ : حَسَدٌ وحَسَادَة .

والصَّفْحُ قريبُ من العفو ، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق ، وقيل : معناهُ التجاوزُ ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي : جاوزت / ورقَه ، والصَّفوح : من أسماء الله ، والصَّفُوح أيضاً : المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً ، قال :
677 صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلاَّ بِحِيلةٍ ... فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ
قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] فيجوز في « ما » أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ ، ويجوز في « مِنْ خيرٍ » الأربعةُ الأوجهِ التي في « من آية » . من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ . و « مِنْ » تبعيضيةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُها فَلْيُراجَع ثَمَّةَ . و « لأنفسِكم » متعلِّق بتقدِّموا ، أي : لحياةِ أنفسِكم ، فَحُذِفَ ، و « تَجِدُوه » جوابُ الشرطِ ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأنها بمعنى الإِصابةِ ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : تَجدوا ثوابَه ، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على « ما » وهو يريد ذلك ، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ مُنْقَضٍ لا يوجد ، إنما يوجد ثوابُه . قوله : « عند الله » يجوزُ فيه وجهان . أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « تجدوه » . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي : تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله ، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو : « لك عندَ فلانٍ يدُ » .

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

قوله تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً } : « مَنْ » فاعلٌ بقوله « يَدْخُلَ » وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنَّ ما قبل « إلاَّ » مفتقرٌ لِما بعدَها ، والتقديرُ : لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في « مَنْ » وجهان آخران ، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من « أحد » المحذوفِ ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين .
والجملةُ من قولِه : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن } في محل نصبٍ بالقول ، وحُمِلَ أولاً على لفظِ « مَنْ » فَأُفْرِدَ الضمير في قوله : « كان » ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو « هوداً » ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل ، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه ، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه ، منهم أبو العباس ، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين ، نحو : بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و « هائد » من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ ، وقال الشاعر :
678 وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « نيام » جمعُ نائمٍ وهو كالأول ، وفي « هُود » ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم . والثاني : أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب ، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو : عَدْل وصَوْم . والثالث : - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه « يَهود » فحُذِفَتِ الياء من أوله ، وهذا بعيدٌ جداً .
و « أو » هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله : « وقالوا » فَصَّل القائلين ، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس ، والتقديرُ : وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً ، وقال النصارى : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى ، ونظيرُه : { قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 135 ] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول : كونوا نصارى ، ولا النصارى تقول : كونوا هوداً ، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب « لن » لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ . وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً .
قوله : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } « تلك » مبتدأ ، و « أمانِيُّهم » خبرُه ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه : « وقالوا » وبين : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها . والمشارُ إليه ب « تلك » فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها : أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ : « َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ » ، أي : تلك المقالةُ أمانيُّهم ، فإنْ قيل : فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ ، فالمرادُ ب « تلك » الجمعُ من حيث المعنى .

والثاني : - قاله الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألاَّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم ، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً ، وأُمْنِيَّتُهم ألاَّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم . قال الشيخ : « وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها » . والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم ، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه . انتهى ما قاله ، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ . قال الشيخُ في هذا الوجهِ ، « وفيه قَلْبُ الوَضْعِ ، إذ الأصلُ أن يكونَ » تلك « مبتدأ ، و » أمانيُّهم « خبرٌ ، فَقَلبَ هذا الوضعِ ، إذ قال : إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه ، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو : زيدٌ زهيرٌ ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك : الأسدُ زيدٌ شجاعةً » .
قوله : { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ . واختُلِفَ في « هاتِ » على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أنه فعلٌ ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو : هاتُوا ، هاتي ، هاتِيا ، هاتِين . الثاني : أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ . والثالث - وبه قال الزمخشري - : أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ .
وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً ، أصحُّها : أن هاءَه أصلٌ بنفسها ، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل : رامَى يُرامي مُراماة ، فوزنه فاعَلَ فنقول : هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات ، كما تقولُ : رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ . وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ ، وليس كذلك .
الثاني : أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ : أَأْتى وزنُه : أَفْعَل مثل أَكْرم . وهذا ليس بجيدٍ لوجهين ، أحدهما : أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط . والثاني من الوجهين : أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث : أن هذه « ها » التي للتنبيه دَخَلَتْ على « أتى » ولَزِمَتْها ، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ : احضَرْ أنت ، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة . فتحصَّل في « هاتُوا » سبعةُ أقوالٍ ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا : هاتِيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا .

قوله : { بُرْهَانَكُمْ } مفعولٌ به ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن ، أحدُهما : أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ ، ومنه : بُرْهَةُ الزمان أي : القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان . والثاني : أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البيانُ ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال ، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ « بُرهان » وعدمِه مُسَمَّى به .

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

قوله تعالى : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } : جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها « أَسْلم » ، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ ، ولذلك يقال : وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى :
679 أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ ... ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ
ومعنى أَسْلَمَ : خَضَع ، ومنه :
680 وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا
وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ ، وقال الزمخشري : « وهو مُحْسِنٌ له في عمله » فتكونُ على رأيه مبيِّنة ، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان : مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ . قال الشيخ : « وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال » .
قوله { فَلَهُ أَجْرُهُ } الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ « مَنْ » شرطية ، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها . وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ « مَنْ » فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم ، و « فله أجرُه » كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها . هذا نصُّه . و « له أجره » مبتدأٌ وخبرُه ، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في « مَنْ » ، وحُمِل على لفظِ « مَنْ » فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وعلى معناها فجُمع في قولِه : { عليهم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وهذا أحسنُ التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى . والعاملُ في « عند » ما تعلَّق به « له » من الاستقرارِ ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول : فله أجرهُ عنده أو عندَ الله ، لما ذكرْتُ لك ، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى : « ولا خَوْفٌ » وما فيه من القرآءت .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

قوله تعالى : { اليهود } : اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله : { هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ « هوداً » أصلُه : يَهود فَحُذِفت ياؤُه ، وتقدَّم أيضاً عند قولِه : « والذين هادوا » أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب . وقال الشلوبين : « يَهُود فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً . والثاني : أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف . انتهى ، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ ، وعلى الثاني قولُه :
681 أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ ... إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ
وقال :
682 فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو قيل بأنَّ » يهود « منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو : يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً . ويؤيِّدُه قولُهم : سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك .
قوله : { لَيْسَتِ النصارى } » ليس « فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين ، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل : شِئْتُ ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقيت الفاءُ على حالِها ، وقال بعضُهم : لُسْتُ بضم الفاء ، ووزنُه على هذه اللغة : فَعُل بضم العين ، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر ، لم يَجيء منه إلا » هَيُؤَ الرجلُ « إذا حَسُنَتْ هيئتُه . وكونُ » ليس « فعلاً هو الصحيحُ خلافاً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً ك » ما « ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ . و » النصارى « اسمُها ، و » على شيء « خبرُها ، وهذا يَحْتمِل أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه : » إنه ليس من أهلِك « أي : أهلِك الناجين ، [ وقوله : ]
683 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ
أي : لحمٍ عظيمٍ وأَنْ يكونَ نفياً على سبيلِ المبالَغَةِ ، فإذا نُفِي إطلاقُ الشيء على ما هُمْ عليه مع أنَّ الشيء يُطْلق على المعدومِ عند بعضهم كان ذلك مبالغةً في عدمِ الاعتدادِ به ، وصارَ كقولهم : » أقَلُّ من لا شيء « .
قوله : { وَهُمْ يَتْلُونَ } جملةٌ حالية . وأصل يَتْلُون : يَتْلُوُوْنَ فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } في هذا الكافِ قولان ، أحدُهما : أنها في محلِّ نصبٍ وفيها حينئذ تقديران ، أحدُهما : أنَّها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ قُدِّم على عامِله تقديرُه : قولاً مثلَ ذلك القولِ قالَ الذين لا يعلمون . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المصدرِ المعرفةِ المضمرِ الدالِّ عليه » قال « تقديرُه : مثلَ ذلك القولِ قاله أي : قال القولَ الذين لا يعلمون حالَ كونِه مثلَ ذلك القولِ ، وهذا رأيُ سيبويه والأول رأيُ النحويين كما تقدَّم غيرَ مرة .

وعلى هذين القولَيْن ففي « مثلَ قولهم » وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف . الثاني من الوجهين : أنه مفعولٌ به العاملُ فيه « يَعْلمون » ، أي : الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم ، أي : إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى .
الثاني من القولين : أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والجملةُ بعدها خبرٌ ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون ، وانتصابُ « مثلَ قولهم » حينئذٍ إمَّا : على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى . ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظرٌ من وجهين : أحدُهما : أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً . والثاني : حَذْفُ العائدِ المنصوبِ ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه :
684 وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ
ضرورةً ، وللكوفيين في هذه المسألةِ تفصيلٌ .
قوله : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } منصوبان بيحكُمُ ، و « فيه » متعلق بيختلفون .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } : « مَنْ » استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و « أظلمُ » أفعلُ تفضيلٍ خبرُه ، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ ، أي : لا أحدَ أظلمُ منه ، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً : وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى } [ الأنعام : 21 ] { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } [ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } [ الزمر : 32 ] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه ، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ ، أحدُها : - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال : لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله ، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله ، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله ، وكذلك ما جاءَ منه . الثاني : أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك ، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما . الثالث : أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة ، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم / متساوون في ذلك وصار المعنى : ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة ، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم ، كما أنَّك إذا قلتَ : « لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ » لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر ، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم ، لا يُقال : إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً .
و « مَنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها ، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها ، و « مساجد » مفعولٌ أولُ لمَنَع ، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها ، وقد سُمع « مَسْجَد » بالفتح على الأصل ، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه : المَسْيِد في لغة .

قوله : { أَن يُذْكَرَ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع ، تقولُ : مَنَعْتُه كذا . والثاني : أنه مفعولٌ من أجلِه أي : كراهةَ أن يُذْكَرَ . وقال الشيخ : « فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله ، وما أَشْبهه » . والثالثُ : أنه بدلُ اشتمالٍ من « مساجد » ، أي : مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها . والرابع : أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ ، والأصلُ : مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ ، و « في خَرابِها » متعلِّقٌ بسَعَى . واختُلِف في « خراب » : فقال أبو البقاء : « هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم ، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ . وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ هل يَعْمَلُ أو لا؟ وأنشدوا على إعماله :
685 أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقال غيرُه : هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً ، فالمعنى : سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة ، ويقال : منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله :
686 ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [ به ] ... غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب
فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل .
قوله : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } : » لهم « خبرُ » كان « مقدَّمٌ على اسمِها ، واسمُها » أَنْ يدخُلوها « لأنه في تأويل المصدرِ ، أي : ما كان لهم الدخولُ ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن » أولئك « .
قوله : { إِلاَّ خَآئِفِينَ } حالٌ من فاعل » يَدْخُلوها « ، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ ، لأن التقديرَ : ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف . وقرأ أُبَيّ » خُيَّفاً « وهو جمعُ خائف ، كضارب وضُرَّب ، والأصل : خُوَّف كصُوَّم ، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ ، قالوا : صُوَّم وصُيَّم ، وحَمَل أولاً على لفظ » مَنْ « ، فَأَفْرَد في قوله : » مَنَع ، وسعى « وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله : » أولئك « وما بعده .
قوله : { لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها لاستئنافِها عَمَّا قبلَها ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً .

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

قوله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب } : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه : « مَنَعَ مساجدِ الله ، وسعى في خَرابِها » يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى ، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين ، أحدُهما : لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى . والثاني : أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي : لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله : « تَقِيكم الحَرَّ » أي والبردَ ، وكقولِ الشاعر :
687 تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ
أي : يَداها ورجلاها ، ومثله :
688 كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا
أي : رجلُها ويدُها . وفي المشرق والمغرب قَوْلان ، أحدُهما : أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ ، والثاني : أنهما اسما مصدرٍ أي : الإِشراق والإِغرابُ ، والمعنى : لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها ، وهذا يُبْعِدُه قولُه : « فأينما تُوَلُّوا » ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما ، أو لأنَّهما مصدران ، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في كلِّ يومٍ ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما . وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً .
قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } « أين » هنا اسمُ شرطٍ بمعنى « إنْ » ، و « ما » مزيدةٌ عليها و « تُوَلُّوا » مجزومٌ بها . وزيادةُ « ما » ليست لازمةً لها بدليلِ قوله :
689 أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهي ظرفُ مكان ، والناصبُ لها ما بعدَها ، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك « مَنْ » و « ما » . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ . وأصلُ تُوَلُّوا : تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ . وقرأ الجمهور : تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا ، فإنَّ « وَلَّى » وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما . تقول : وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا . وقرأ الحسن : « تَوَلَّوا » بفتحِهما ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مضارعاً والأصل : تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] . والثاني : أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله : « لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة » فتتناسَقُ الضمائرُ ، وقال أبو البقاء : « والثاني : أنه ماضٍ والضمير للغائبين ، والتقديرُ : أَيْنما يَتَوَلَّوا » يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، ثم قال : « وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع ، ولا يكونُ » أَيْنَ « شرطاً في اللفظِ بل في المعنى ، كما تقولُ : » ما صَنَعْتَ صنعتُ « إذا أَرَدْتَ الماضي ، وهذا ضعيفٌ لأنَّ » أين « إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ » .

انتهى وهو غيرُ واضحٍ .
قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ الله } الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ ، فالجملةُ في محلِّ جزم ، و « ثَمَّ » خبرٌ مقدم ، و « وجهُ الله » رفعٌ بالابتداء و « ثَمَّ » اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل : هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب . قال أبو البقاء : « لأنك تقولُ في الحاضر : هُنا ، وفي الغائب هُناك ، وثَمَّ ناب عن هناك » / وهذا ليس بشيءٍ . وقيل : بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه ، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب « مِنْ » ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [ رَأَيْتَ ] } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعولُ « رأيت » محذوف . ومعنى « وَجْهُ الله » جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها ، أو ذاتُه نحو : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، أو المرادُ به الجاهُ ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم : هو وجهُ القوم ، أو يكونُ صلةً زائداً ، وليس بشيءٍ ، وقيل : المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله :
690 أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه ... ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

قوله تعالى : { اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ } : الجمهورُ : « وقالوا » بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط . وقيل : هي معطوفةً على قوله : « وسعى » فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة ، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله . وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - « قالوا » من غير واوٍ ، وذلك يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : الاستئنافُ . الثاني : حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ . و « اتَّخَذَ » بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع ، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه : « وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً » إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] ، { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] . والوَلَدُ : فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص ، وهو غيرُ مقيسٍ ، والمصدرُ : الوِلادة والوَليديَّة ، وهذا الثاني غريبٌ جداً .
قوله : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } « بَلْ » إضرابٌ وانتقالٌ ، و « له » خبرٌ مقدَّمٌ و « ما » مبتدأ مؤخرٌ ، وأتى هنا ب « ما » لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في « ما و » مَنْ « ، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله » قانتون « فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء . قال الزمخشري » فإن قلت : كيف جاءَ ب « ما » التي لغير أولي العلمِ مع قوله « قانتون »؟ قلت : هو كقولِه :
« سبحانَ ما سَخَّركُنَّ » وكأنه جاء ب « ما » دون « مَنْ » تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ « ما » قد تقع على أولي العلمِ ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه . وأمَّا قولُه « سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا » فسبحانُ غَيرُ مضافٍ ، بل هو كقوله :
691 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سبحان مِنْ علقمةَ . . . . . . . . . . . . . .
و « ما » مصدرية ظرفية .
قوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأٌ وخبرٌ ، و « كلٌّ » مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً ، أي : كلُّ مَنْ في السموات والأرض ، وقال الزمخشري : « ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً » قال الشيخ : « وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ ولداً ] وغيرُه » قوله : « لم يَجْرِ له ذِكْر » بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه .
وجَمَعَ « قانِتون » حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ « كُلاًّ » إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] . ومِنْ مراعاةِ اللفظِ : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ] { فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه } [ العنكبوت : 40 ] ، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي . والقُنُوت : الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

قوله تعالى : { بَدِيعُ السماوات } : المشهورُ رَفْعُه على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو بديعُ . وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في « له » وفيه الخلافُ المشهورُ . وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ ، والأصل : بديعٌ سماواتُه ، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً ، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه ، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلاَّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ . وقال الزمخشري : « وبديعُ السماواتِ » من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها « . وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم ، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه . وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكونَ » بديع « بمعنى مُبْدِع ، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو :
692 أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ
إلا أنه قال : » وفيه نظرٌ « . وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه ، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ مَقيسٍ ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً . والمُبْدِعُ : المخترِعُ المُنْشِىءُ ، والبديع : الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً .
قوله : { وَإِذَا قضى أَمْراً } العاملُ في » إذا « محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه : » فإنما يقول « ، والتقديرُ : إذا قضى أمراً يكونُ ، فيكونُ هو الناصبُ له . و » قضى « له معانٍ كثيرةٌ ، قال الأزهري : » قضى « على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب :
693 - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما ... داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
وقال الشماخ :
694 - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها ... بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ
فيكونُ بمعنى خَلَق نحو : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] ، وبمعنى أَعْلَمَ : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، وبمعنى أَمَر : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإِسراء : 23 ] ، وبمعنى وفَّى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا ، وبمعنى أراد : { وَإِذَا قضى أَمْراً } [ البقرة : 117 ] [ وبمعنى ] أَنْهى ، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى ، تقول : قَضَى يقضي قَضاءً قال :
695 سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً ... عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا
قوله : { فَيَكُونُ } الجمهورُ على رفعه ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي : فهو يكونُ ، ويُعزْى لسيبويه ، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه .

والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على « يقولُ » وهو قول الزجاج والطبري . وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ « انتهى . يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا ، ومثلُه قولُ أبي النجم :
696 إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي ... الثالث : أن يكونَ معطوفاً على » كُنْ « من حيثُ المعنى ، وهو قولُ الفارسي ، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على » يقولُ « ، لأنَّ من المواضعِ ما ليس فيه » يقولُ « كالموضع الثاني في آل عمران ، وهو : { ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، ولم يَرَ عطفَه على » قال « من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه :
697 ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
فقال : » أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت . قال بعضُهم : « ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على » قال « .
وقَرأَ ابن عامر/ » فيكونَ « نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران ، وهي : { لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ } [ آل عمران : 47 ] ، تحرُّزاً من قوله : { كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ } [ آل عمران : 59 ] وفي مريم : { كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي } [ مريم : 35 ] ، وفي غافر : { كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ } [ غافر : 68 ] ، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي .
وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ ، فقال ابن مجاهد : » قرأ ابن عامر « فيكونَ » نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل ، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ « ، وقال في آل عمران : » قرأ ابن عامر وحدَه : « كن فيكونَ » بالنصب وهو وهمٌ « قال : » وقال هشام : كان أيوبُ بن تميم يقرأُ : فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ : فيكونُ رفعاً « ، وقال الزجاج : » كن فيكونُ : رفعٌ لا غيرُ « .
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء ، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين ، أحدهما : أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو :

{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن } [ مريم : 75 ] أي : فَيَمُدُّ ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله :
698 سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ ... وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا
وقول الآخر :
699 لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها ... ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما
والثاني : أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منهما شرطٌ وجزاءٌ نحو : « ائتني فأكرمك » تقديرُه : إنْ أتيتني أكرمتُك ، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ : إنْ تَكُنْ تَكُنْ ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً ، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلاَّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال . قالوا : والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } [ الجاثية : 14 ] وقال عمر ابن أبي ربيعة :
700 فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ ... عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ
وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري ... ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي
فجعل « تَغْرُبِ » جواباً « ارقب » وهو غير مترتِّب عليه ، وكذلك لا يلزمُ من قوله [ تعالى ] أَنْ يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ .
أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [ عليه ] ، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ ، ولذلك أضافهم إليه ، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه . وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك : « إنَّ » أَنْ « الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين ، قال : » وحَكَوْا عن العرب : « إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه » بنصبِ « تَحْطِمَ » فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك ، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ ، تقديرُه : إنما هي ضربةٌ فَحَطْم ، كقوله :
701 لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
وهذا نهايةُ القول في هذه الآية .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

قوله تعالى : { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله } : « لولا » و « لَوْما » يكونانِ حَرْفي ابتداءٍ ، وقد تقدم ذلك عند قوله { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } [ البقرة : 64 ] ، ويكونان حَرْفَيْ تحضيضٍ بمنزلة : « هَلاَّ » فيختصَّان بالأفعالِ ظاهرةً أو مضمرةً كقوله :
702 تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم ... بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
أي : لولا تَعُدُّون الكميَّ ، فإنْ وَرَدَ ما يُوهم وقوعَ الاسمِ بعدَ حرفِ التحضيض يُؤَوَّل كقوله :
703 ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهلاَّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها
ف « نفسُ ليلى » مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّره « شفيعُها » أي : فَهَلاَّ شَفَعَتْ نفسُ ليلى . وقال أبو البقاء : « إذا وَقَعَ بعدَها المستقبلُ كانَتْ للتحضيضِ وإنْ وَقَعَ [ بعدها ] الماضي كانَتْ للتوبيخ » وهذا شيءٌ يقولُه علماءُ البيانِ ، وهذه الجملةُ التحضيضيةُ في محلِّ نصبٍ بالقول .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين } قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك . وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين ، قال الداني : « وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض » يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم ، أمَّا الماضي فلا .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

قولُه تعالى : { بالحق } : يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مفعولاً به أي : بسببِ إقامةِ الحقِّ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في ، « أَرْسلناك » أي : أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الفاعل أي : ملتبسين في الحقِّ ، قوله : « بَشيراً ونذيراً » يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : ان يكونَ حالاً من المفعول ، وهو الظاهرُ . الثاني : أن يكونَ حالاً مِن « الحقِّ » لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة ، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل ، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه ، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي ، وأمَّا « نذير » فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل ، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً .
قوله : { وَلاَ تُسْأَلُ } قرأ الجمهور : « تُسْأَلُ » مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي . وقُرىء شاذاً : « تَسْأَلُ » مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملةِ وجهان : أحدُهما : أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول . والثاني : أن تكونَ مستأنفةً . وقرأ نافع « تُسْأَلْ » على النهي وهذا مستأنفٌ فقط ، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً . والجحيمُ : شدَّةُ تَوَقُّدِ النار ، ومنه قيل لعين الأسد : « جَحْمة » لشدَّة توقُّدِها ، يُقال : جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ ، ويقال لشدة الحر : « جاحم » ، قال :
704 والحربُ لا يَبْقى لِجَا ... حمِها التخيُّلُ والمِراحُ
والرِّضا : ضدُّ الغضَبِ ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم : الرُّضْوانِ ، والمصدر : رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها ، وقد يَتَضَمَّن معنى « عَطَفَ » فيتعدَّى ب « على » ، قال :
705 إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمِلَّةُ في الأصلِ : الطريقةُ ، يقال : طريقٌ مُمِلٌّ : أي : أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ ، وقيل : بل اشْتُقَّت من « أَمْلَلْتُ » لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه .

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

قوله تعالى : { هُوَ الهدى } : يجوزُ في « هو » أَنْ يكونَ فَصْلاً أو مبتدأً وما بعدَه خبرُه ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « هدى الله » لمجيئِه بصيغةِ الرفعِ ، وأجازَ أبو البقاء فيه أن يكونَ توكيداً لاسم إنَّ ، وهذا لا يجوزُ فإن المضمَر لا يؤكِّدُ المُظْهَرَ .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت } هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم ، وعلامتُها أَنْ تقعَ قبلَ أدواتِ الشرطِ ، وأكثرُ مجيئِها مع « إنْ » وقد تأتي مع غيرِها نحو : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ } [ آل عمران : 81 ] ، { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 18 ] وسيأتي بيانُه ، ولكنها مُؤذِنةٌ بالقسم اعتُبر سَبْقُها فَأُجيبَ القَسَمُ دونَ الشرطِ بقوله : { مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ } وحُذِفَ جوابُ الشرط . ولو أُجيب الشرطُ لَوَجَبَتِ الفاءُ ، وقد تُحْذَفُ هذه اللامُ ويُعْمَلُ بمقتضاها/ فيجابُ القَسَمُ نحو قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] . قوله : « من العِلْم » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جاءك » و « مِنْ » للتبعيض ، أي جاءَكَ حالَ كونِه بعضَ العلم .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

قولُه تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ } : رفعٌ بالابتداء ، وفي خبرهِ قولان ، أحدُهما : « يَتْلُونه » ، وتكونُ الجملةُ من قولِه « أولئكَ يؤمنون » : إمَّا مستأنفةً وهو الصحيحُ ، وإمَّا حالاً على قولٍ ضعيفٍ تقدَّم مثلُه أولَ السورة . والثاني : أنَّ الخبرَ هو الجملةُ من قوله : « أولئك يؤمنون » ويكونُ « يتلونه » في محلِّ نصبٍ على الحالِ : إمّا من المفعولِ في « آتَيْناهم » وإمَّا من الكتاب ، وعلى كِلا القَوْلَيْن فهي حالٌ مقدَّرة ، لأنَّ وقتَ الإِيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كانَ الكتابُ مَتْلُوّاً . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ « يَتْلونه » خبراً ، و « أولئك يؤمنون » خبراً بعد خبر ، قال : « مثلُ قولهم : » هذا حلوٌ حامِضٌ « كأنه يريدُ جَعْلَ الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ ، هذا إنْ أُريد ب » الذين « قومٌ مخصوصونَ ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ » أولئكَ يُؤمِنونُ « الخبرَ . قال جماعة - منهم ابنُ عطية وغيرُه - » ويَتْلُونه « حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها وفيها الفائدةُ » . وقال أيضاً أبو البقاء : « ولا يجوزُ أن يكونَ » يَتْلُونه « خبراً لئلا يلزَمَ منه أنَّ كلَّ مؤمِنٍ يتلو الكتاب حقَّ تلاوتِه بأيِّ تفسيرٍ فُسِّرَت التلاوةُ » . قال الشيخ : « ونقول ما لَزِمَ من الامتناع مِنْ جَعْلِها خبراً يلزمُ في جَعْلِها حالاً لأنَّه ليس كل مؤمنٍ على حالِ التلاوة بِأيّ تفسير فُسِّرت التلاوة » .
قوله : { حَقَّ تِلاَوَتِهِ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه : « تلاوةً حقاً » ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ ، وصار نظير : « ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ » أي : ضَرْباً شديداً . فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه . الثاني : أنه حالٌ من فاعل « يَتْلونه » أي : يَتْلُونه مُحِقِّينِ ، الثالث : أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ . وقال ابن عطية : « و » حَقَّ « مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل ، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم : رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه » يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه .
والضميرُ في « به » فيه أربعةُ أقوالٍ ، أحدُها - وهو الظاهرُ - : عَوْدُه على الكتاب . الثاني : عَوْدُه على الرسولِ ، قالوا : « ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ » ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه : « أَرْسلناك » ، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة .

الثالثُ : أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى ، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه : « أَرْسلناك » إلى الغَيْبة . الرابعُ : قال ابن عطية : « إنه يعودُ على » الهدى « وقَرَّره بكلامٍ حَسَنٍ .
قوله : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } العاملُ في » إذا « قال . . . العامِلُ فيه » اذكر « مقدراً ، وهو مفعولٌ ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ . فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً ، وقَدَّره . . . كان كَيْتَ وكَيْتَ ، فَجَعَلَه ظرفاً ، ولكنَّ عاملَه مقدرٌ . و » ابتلى « وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . وأصلُ ابتلى : ابتلَوَ ، فألفُه عن واوٍ ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي : اختبرَ . و » إبراهيمَ « مفعولٌ مقدمٌ ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً . هذا هو المشهورُ ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً . وخالَفَ أبو الفتح وقال : » إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ « وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ ، منها :
706 لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً ... أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ
ومنها :
707 جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ ... وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابنُ عطية : » وقَدَّم المفعولَ للاهتمامِ بمَنْ وَقَع الابتلاءُ [ به ] ، إذ معلومٌ أنَّ اللهَ هو المبتلي ، واتصالُ ضميرِ المفعولِ بالفاعلِ موجِبٌ للتقديم « يعني أنَّ الموجِبَ للتقديمِ سببان : سببٌ معنويٌّ وسببٌ صناعي .
و » إبراهيم « عَلَمٌ أَعْجَمي ، قيل : معناه قبل النقلِ : أبٌ رحيمٌ ، وفيه لغاتٌ تسعٌ ، أشهرُها : إبراهيم بألف وياء ، وإبراهام بألِفَيْن ، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت ، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة ، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور . ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك . ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس : إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً : إبراهام بالألف ، فقال : أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة . فقيل : إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ ، فقال : هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له . الثالثة : إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ ، وبها قرأ أبو بكر ، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل :
708 عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ ... إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة : كذلك ، إلا أنه بفتحِ الهاءِ . الخامسة : كذلك إلا أنه بضمِّها .

السادسة : إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء ، قال عبد المطلب :
709 نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته ... لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ
السابعة : إبراهوم بالواو . قال أبو البقاء : « ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم . وقيل : أبارِهَة وبَراهِمَة ، ويجوز أَبَارهة » وقال المبرِّد : « لا يقال : بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها » . وحكى ثعلب في جمعِه : بَراه ، كما يُقال في تصغيره : « بُرَيْه » بحذفِ الزوائدِ .
والجمهورُ على نصبِ « إبراهيم » ورفعِ « ربُّه » كما تقدَّم ، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس . قالوا : وتأويلُها دَعَا ربَّه ، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ . والضميرُ المرفوعُ في « فَأَتَّمَّهُنَّ » فيه قولان : أحدُهما أنه عائدٌ على « ربه » أي : فأكملهنَّ . والثاني : أنه عائدٌ على إبراهيم أي : عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ .
قوله : { قَالَ إِنِّي } هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها ، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في « إذ » لأن التقديرَ : وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى ، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قلنا : إنَّ العاملَ في « إذ » مضمرٌ ، كأنه قيل : فماذا قال له ربُّه حين أتَمَّ الكلماتِ؟ فقيل : قال : إني جاعِلُك . ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله : « ابتلى » وتفسيراً له ، فيُرادُ بالكلماتِ ما ذَكَره من الإِمامةِ وتَطْهِيرِ البيتِ ورَفْعِ القواعدِ وما بعدَها ، نَقَل ذلك الزمخشري .
قوله : { جَاعِلُكَ } هو اسمُ فاعلٍ من « جَعَلَ » بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما : الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ : هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال ، أحدُها : أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ ، قالوا : ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله :
710 فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُني إلى قومي شُراحي
وقال آخر :
711 هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا على تسليمِ كونِ نون « مُسْلِمُني » تنويناً ، وإلاَّ فالصحيحُ أنها نونُ وقايةٍ . الثالث - وهو مذهبُ سيبويه -/ أنَّ حكمَ الضميرِ حكمُ مُظْهره فما جاز في المُظْهَرِ يجوزُ في مضمرِه . والمفعولُ الثاني إماماً .
قوله : { لِلنَّاسِ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ بجاعل أي لأجلِ الناس . والثاني : انه حالٌ من « إماماً » فإنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها . فيكونُ حالاً منها ، إذ الأصلُ : إماماً للناسِ ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ . والإِمامُ :
اسمُ ما يُؤْتَمُّ به أي يُقْصَدُ ويُتَّبَعُ كالإِزار اسمُ ما يُؤْتَزَرُ به ، ومنه قيل لخيط البَنَّاء : « إمام » ، ويكون في غيرِ هذا جَمْعاً لآمّ اسمِ فاعلٍ من أَمَّ يَؤُمُّ نحو : قائم وقِيام : ونائِم ونِيام وجائِع وجِياع .

قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها ، أَنَّ « مِنْ ذريتي » صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه : « قال واجْعَلْ فريقاً من ذريتي إماماً » قاله أبو البقاء . الثاني : أنَّ « ومِنْ ذُرِّيَّتي » عطفٌ على الكافِ ، كأنَّه قال : « وجاعلُ بعضِ ذريتي » كما يُقال لك : سَأُكْرمك ، فتقول : وزيداً . قال الشيخ : « لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ ، ولم يُعَدْ ، ولأنَّ » مِنْ « لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً ، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ » مِنْ « في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في » سأكرمك « في موضعِ نصبٍ . الثالث : قال الشيخ : » والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ « مِنْ ذرّيَّتي » متعلقاً بمحذوفٍ ، التقديرُ : واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ « إبراهيم » فَهِمَ من قولِه : « إني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً » فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى « جاعل » لواحدٍ ، فهذا ليسَ بظاهرٍ ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ « مِنْ ذرِّيَّتي » مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ .
لو قلتَ : « مِنْ ذُرِّيَّتي إمامٌ » لصَحَّ . وقال ابن عطية : « وقيل هذا منه على جهةِ الاستفهامِ عنهم أي : ومِنْ ذريتي يا ربِّ ماذا يكون؟ فيتعلَّقُ على هذا بمحذوفٍ ، ولو قَدَّره قبل » مِنْ ذريتي « لكانَ أَوْلى لأنَّ ما في حَيِّز الاستفهامِ لا يتقدَّم عليه .
وفي اشتقاق » ذُرِّيَّة « وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل . اعلم أنَّ في » ذرية « ثلاثَ لغاتٍ : ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها ، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني ، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت . فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ ، أحدُها : أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ ، الثاني : مِنْ ذَرَيْتُ ، الثالث : من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ ، الرابع : من الذرّ . وأَمَّا تصريفُها : فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة ، والأصلُ : ذُرُّوْوَة فاجتمع واوان : الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراءُ للتجانُسِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة ، والأصلُ : ذُرِّيْوَة ، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والواوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ .

وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم ، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ : ذُرِّيْيَة ، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [ هي ] لامٌ . وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ مهموزاً فوزنُها فُعِّيْلة والأصلُ : ذُرِّيْئَة فَخُفَّفتِ الهمزةُ بأَنْ أُبْدِلَتْ ياءً كهمزةِ خطيئة والنسيء ، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياء المُبْدَلَةِ من الهمزةِ .
وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه ، أحدُها : فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى الضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر : دُهْري وإلى السَّهْل : سُهْلي بضمِّ الدال والسين ، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة . الثاني : أن يكونَ : فُعِّيْلَة كمُرِّيقَة ، والأصلُ : ذُرِّيْرةً ، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال ، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ . الثالث : أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح ، والأصلُ : ذُرُّْوَرة ، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم ، فصارَ ذُرُّوْيَة ، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم . الرابع : أن تكونَ فُعْلُولة والأصل : ذُرُّوْرَة ، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله .
وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة ، والأصل : ذِرِّيْوَة ، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها ، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً ، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة ، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ . الثاني : أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة ، الثالث : أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها : ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها .
وأمَّا « ذَرِّيَّة » بفتحِ الذال : فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها : فَعِّيْلَة كسَكِّينة ، والأصلُ : ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة ، أو فَعُّولة والأصلُ : ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة ، فَعُعِل به ما تقدَّم في نَظيرهِ ، وإنْ كانَتْ مِنْ ذَرَأَ فوزنُها : إمّا فَعِّيْلَة كسَكِّينة والأصلُ : ذَرِّيْئَة ، وإمّا فَعُّولة كخَرُّوبة والأصلُ : ذَرَّوْءةَ ففُعِل به ما تقدَّم في نظيره . وإنْ كانَتْ من الذرّ ففي وَزْنِها أيضاً أربعة أوجهٍ أحدُها فَعْلِيَّة ، والياءُ أيضاً تَحْتَمِلُ أَنْ تكونَ للنسَبِ ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شّذُّوا في الضم والكسرِ وأَنْ لا يكون نحو : بَرْنِيَّة ، الثاني : فَعُّولة كَخرُّوبة والأصلُّ ذَرُّوْرَة ، الثالث : فَعِّلية كسَكِّينة والأصلُ : ذَرِّيْرَة ، الرابع : فَعْلُولة كبَكُّولَة والأصلُ : ذَرُّوْرَة أيضاً فَفُعِل به ما تقدَّم في نظيره ، من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ وإدغامِ ما قبلَها فيها وكُسِرَتِ الذالُ اتباعاً . وبهذا الضبطِ الذي فعلتُه اتَّضح القولُ في هذه اللفظةِ لغةً واشتقاقاً وتصريفاً ، فإنَّ الناس قد استشكلوا هذه اللفظةَ بالنسبةِ لما ذكرْتُ ، وغلِط أكثرهُم في تصريفِها بالنسبةِ إلى الأعمال التي قَدَّمْتُها والحمد لله .

وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ . والذُّرِّيَّةُ : النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري ، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه .
قوله : { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } الجمهورُ على نصبِ « الظالمين » مفعولاً و « عَهْدي » فاعلٌ ، أي : لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم . وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء/ : « والظالمون » بالفاعلية ، و « عهدي » مفعولٌ به ، والقراءتان ظاهرتان ، إذ الفعلُ يَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍّ منهما فإنَّ مَنْ نالَكَ فقد نِلْتَه . والنَّيْلُ : الإدراك وهو العَطاءُ أيضاً ، نال ينال نَيْلاً فهو نائل .

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } : « إذ » عَطْفٌ على « إذْ » قبلَها ، وقد تقدَّم الكلامُ فيها ، و « جَعَلْنا » يحتمل أن يكونَ بمعنى « خَلَقَ » و « وَضَعَ » فيتعدَّى لواحدٍ وهو « البَيْت » ، ويكون « مَثَابةً » نصباً على الحالِ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين ، فيكون « مثابةً » هو المفعولُ الثاني .
والأصلُ في « مَثَابة » مَثْوَبة ، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال ، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل :
712 مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها ... تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقال :
713 جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ ... ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ
وهل معناه من ثابَ يَثُوب أي : رَجَع ، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما . وقرأ الأعمش وطلحة : « مَثَابَاتٍ » جَمْعاً ، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس .
قوله : { لِّلنَّاسِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ . والثاني : أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي : لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم .
قوله : { وَأَمْناً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عَطْفٌ على « مَثَابة » وفيه التأويلاتُ المشهورةُ : إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا أَمْن ، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي : آمِنَاً ، على سبيل المجاز كقوله : « حَرَماً آمِناً » . والثاني : أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد . والمعنى : أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه ، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ : « اتَّخِذُوا » على الأمرِ فعلى هذا يكونُ « وأَمْناً » وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات .
قوله : { واتخذوا } قرأ نافعٌ وابنُ عامر : « واتَّخذوا » فعلاً ماضياً على لفظ الخبر ، والباقون على لفظِ الأمرِ . فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه معطوفٌ على « جَعَلْنا » المخفوض ب « إذ » تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً . الثاني : أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه : « وإذ جَعَلْنا » فيحتاجُ إلى تقديرِ « إذ » أي : وإذ اتخذوا ، ويكون الكلامُ جملتين . الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه : فثابوا واتخذوا .
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها عَطفٌ على « اذكروا » إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا . والثاني : أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه : « مثابةً » كأنه قال : ثُوبوا واتَّخِذوا ، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي .

الثالث : أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي : وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه . الرابع : أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء .
قوله : { مِن مَّقَامِ } في « مِنْ » ثلاثة أوجه : أحدُها : أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ . الثاني : أنها بمعنى في . الثالث : أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش . وليسا بشيء . والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه : « مَقْوَم » فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً ، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير :
714 وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
قوله : { مُصَلًّى } مفعولُ « اتَّخِذُوا » ، وهو هنا اسمُ مكانٍ أيضاً ، وجاءَ في التفسير بمعنى قِبْلة . وقيل : هو مصدرٌ : فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : مكانَ صلاة ، وألفهُ منقلبةٌ عن واوٍ ، والأصلُ : « مُصَّلَّوَ » لأنَّ الصلاةَ من ذواتِ الواوِ كما تقدَّم أولَ الكتابِ .
قوله : { وَإِسْمَاعِيلَ } إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان : اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر :
715 قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسماعينا
ويجمع على : سَماعِلة وسَماعيل وأساميع . ومن أَغْرَبِ ما نُقِلَ في التسمية به أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دعا الله أَنْ يرزقَه ولداً كان يقول : اسْمَعْ إيل اسْمَعْ إيل ، وإيل هو الله تعالى فَسَمَّى ولدُه بذلك .
قوله : { أَن طَهِّرَا } يَجوزُ في « أَنْ » وَجْهان ، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه : « عِهِدْنا » فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ « أي » التي للتفسيرِ ، وشرطُ « أَنْ » التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه . وقال أبو البقاء : « والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه . وقد غَلِطَ في ذلك ، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ . والثاني : أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا : » كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ « وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه ، والأصلُ : بأَنْ طَهِّرا ، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِها في محل نصبِ أو خفضٍ . و » بيتي « مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً . والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف ، ويقال : أَطَاف رباعياً ، قال :
716 - أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من باب فَعَل وأَفْعَل بمعنىً . والعُكوفُ لغةً : اللزومُ والَّلْبثُ ، قال :
717 - . . . . . . . . . . . . . . . . ... عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا
وقال :
718 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا ... ويقال : عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف ، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع ، وقد قُرِىء بهما . و » السجودُ « يجوز فيه وجهان ، أحدُهُما : أنه جمع ساجِد نحو : قاعِد وقُعود ، وراقِد ورُقُود ، وهو مناسبٌ لِما قبله . والثاني : أنه مصدرٌ نحو : الدُّخول والقُعُود ، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء .
وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله : الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما ، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله : الرُّكَّعِ السجودِ ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها ، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

قوله تعالى : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } : الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين ف « هذا » مفعولٌ أولُ و « بلداً » مفعولٌ ثانٍ ، والمعنى : اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ . و « آمناً » صفةٌ أي ذا أَمْن نحو : « عيشةٌ راضيةٌ » أو آمِناً مَنْ فِيه نحو : ليلةٌ نائمٌ . / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان ، أحدُهما : أنه مأخوذُ من البَلْدِ . والبَلْدُ في الأصل : الصَّدْر يقال : وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا بَرَكَتْ أي : صدرَها ، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك . والثاني : أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه : رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه ، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ « بَلْدَة » لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال :
719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
قوله : { مَنْ آمَنَ } بدلُ بعضٍ من كل وهو « أهلَه » ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه ، و « مِنْ » في « مِن الثمرات » للتبعيضِ . وقيل : للبيانِ ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها .
قولُه : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } يجوزُ في « مَنْ » ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكونَ موصولةً ، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه ، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ ، ويكونُ « فأمتِّعُه » معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ . والثاني من الوجهين : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و « فأمتِّعُه » الخبرَ ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه . الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء ، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع . الثالث : أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط ، و « فأمتِّعُه » جوابُ الشرط .
ولا يجوزُ في « مَنْ » في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال ، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه ، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ الخبرَ الذي هو « فأمتِّعه » شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك ، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ . وقال أبو البقاء : « لا يجوزُ أن تكونَ » مَنْ « مبتدأ و » فأمتِّعُه « الخبرَ ، لأنَّ » الذي « لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو : الذي يأتيني فله درهمٌ ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ ، أو [ جعلت ] الخبرَ محذوفاً و » فأمتِّعُه « دليلاً عليه جاز ، تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه .

ويجوز أَنْ تكونَ « مَنْ » شرطيةً والفاءُ جوابَها . وقيل : الجوابُ محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ ، و « مَنْ » على هذا رفعٌ بالابتداءِ ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ « . انتهى .
أمَّا قولُه : » لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ « فليس بِمُسَلَّم ، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر ، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً ، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً ، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به . وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها . وقرىء : أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر ، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان : أحدُهما : أنه تخفيفٌ كقولِه :
720 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني : أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } على صيغةِ الأمر فيهما ، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في » قال « لإِبراهيم ، يعني سألَ ربَّه ذلكَ ، و » مَنْ « على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً ، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ .
وقال الزمخشري : { وَمَن كَفَرَ } عَطْفٌ على » مَنْ آمَنَ « كما عَطَفَ » ومِنْ ذريتي « على الكافِ في » جاعِلُك « . قال الشيخ : أمَّا عطفُ » مَنْ كَفَر « على » من آمَنَ « فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ ، لأنه يصيرُ المعنى : قال إبراهيم : وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل ، و » من آمن « العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في » ومَنْ كفر « ، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله » فَأُمَتِّعه « لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً ، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي : قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر ، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه ، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على » مَنْ « كما عَطَفَ » ومِنْ ذرِّيتي « على الكاف في » جاعِلك « فقال : » فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت : قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم ، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً ، والمعنى : قال وأرزقُ مَنْ كفر فأمتِّعه « فظاهرُ قولِه » والمعنى قال « أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي » قال « لله تعالى ، وأنَّ » مَنْ كَفَرَ « منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم »
و « قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه .

وقرأ الجمهور : « أضطَرُّه » خبراً . وقرأ يحيى بن وثاب : « إضطرُّه » بكسر الهمزة ، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال : إخالُ . وقرأ ابن مُحَيْصِن : « أطَّرُّه » بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو : اطّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع [ قاله الزمخشري ، وفيه نظرٌ ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الداني اللام في { يَغْفِرْ لَكُمْ } [ نوح : 4 ] ، والضاد في الشين : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [ النور : 62 ] ، والشين في السين : { العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء : { نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض } [ سبأ : 9 ] ، وحكى سيبويه أن « مُضَّجعاً » أكثر فدل على أن « مُطَّجعاً كثير . وقرأ يزيد بن أبي حبيب : » أضطُّرُّه « بضم الطاء كأنه للإِتباع . وقرأ أُبَيّ : » فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه « بالنون .
واضْطَرَّ افتعَل من الضُرِّ ، وأصلُه : اضْتَرَّ فأُبدلت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تُبْدل طاءً بعد حروفِ الإِطباق وهو متعدٍّ ، وعليه جاء التنزيل ، وقال :
721 اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاضطرارُ : الإِلجاءُ والإِلزازُ إلى الأمرِ المكروهِ .
قوله : » وبئس المصيرُ « » المصير « فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : النارُ . ومصير : مَفْعِل من صار يصير ، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/ . ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى ، فإنْ كان » المصيرُ « في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً ، والتقدير : وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم ، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير : وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ } : « إذ » عطفٌ على « إذ » قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ ، و « يرفعُ » في معنى رفَعَ ماضياً ، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ . وقال الزمخشري : « هي حكايةُ حالٍ ماضية » قال الشيخ : « وفيه نظرٌ » . والقواعدُ : جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة ، ومنه « قَعَّدك الله » أي : أسأل الله تَثْبيتك ، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها ، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع . وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها « قاعِد » من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من : قَعَدَتْ عن الزوج . ولم يقل « قواعد البيت » بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن .
قوله : { مِنَ البيت } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ ب « يرفع » ومعناها ابتداءُ الغايةِ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « القواعدِ » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : كائنةً من البيت ، ويكون معنى « مِنْ » التبعيضَ .
قوله : { وَإِسْمَاعِيلُ } فيه قولان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على « إبراهيم » فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ ، ويكونُ قولُه : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي : يَرْفَعان يقولان : ربَّنَا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : « يقولان ربَّنا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : » يقولان ربَّنا تقبَّلْ « أي : قائِلين ذلك ، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها ، ويكونُ هو العاملَ في » إذ « قبله ، والتقديرُ : يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي : وقتَ رَفْعِهما .
والثاني : الواوُ واو الحالِ ، و » إسماعيلُ « مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه : » ربَّنا تَقبَّلْ « فيكونُ » إبراهيم « هو الرافعَ ، و » إسماعيلُ « هو الداعيَ فقط ، قالوا : لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً ، وَرَوْوه عن علي عليه السلام . والتقديرُ : وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول : ربَّنا تقبَّلْ منا . وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح . وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد . وتقدَّم الكلام على نحوِ { إِنَّكَ أَنتَ السميع } من كون » أنت « يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ والفصلُ ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ ، كقولِه : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت } [ آل عمران : 106 ] وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها .

قوله : { مُسْلِمَيْنِ } مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير ، والمفعولُ الأولُ هو « ن » وقرأ ابن عباس « مسلمِين » بصيغةِ الجمع ، وفي ذلك تأويلان أحدُهما : أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً . والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر .
قوله { لَّكَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن ، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى . والثاني : أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن ، أي : مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي : مستسلمَيْن ، والأولُ أقوى معنىً .
قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } فيه قولان ، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ « مِنْ ذريتنا » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ ، و « أمة مسلمة » مفعولٌ ثان تقديرُه : واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً . وفي « من » حينئذ ثلاثة أقوالٍ ، أحدُها : أنها للتبعيض ، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين ، قال : كقولِه : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] . الثالث : أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل ، قاله أبو البقاء .
الثاني من القولَيْن : أن يكونَ « أمَّةً » هو المفعولَ الأولَ ، و « مِنْ ذريتنا » حالٌ منها؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً ، و « مُسْلِمَةً » هو المفعولُ الثاني ، والأصل : « واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً » ، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على « أمة » وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه : « مِنْ ذرِّيَّتنا » وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ ، وجَعَلوا قولَه :
722 يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال ... عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً
ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك : « ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ » وهذا غيرُ فصيحٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « اجعَلْ » المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ « من ذريتنا » به ، ويكونُ « أمةً » مفعولاً به؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه « اخلُقْ » إنما معناه صيِّر ، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] أن يكونَ التقديرُ : وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين ، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما ، وقوله « لكَ » فيه الوجهان المتقدمان بعد « مسلِمَيْنِ » .
قوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة ، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً ، ف « ن » مفعولٌ أولُ ، و « مناسِكَنا » مفعولٌ ثانٍ .

وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من « رأى » بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم ، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين ، كقوله :
723 وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ
وقال الكميت :
724 بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ
وقال ابن عطية : « ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ : وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمزةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر :
725 أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني ... أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا
يعني : أنه قد تَعدَّت » عَلِم « القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمزةِ أم لا ، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ ، ألا ترى أن قولَه » جواداً ماتَ « من متعلِّقات البصر ، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي » أعلَم « القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ . وقال بعضهم : » هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر « ، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً .
وقرأ الجمهور : » أَرِنَا « بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ . » أَرِني أنظرْ « ، وفي فُصّلت : { أَرِنَا الذين } [ فصلت : 29 ] ، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/ ، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع ، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها . أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور ، وأما الإِسكان فللتخفيفِ ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره ، كما قالوا في فَخِذ : فَخْذ وكتِف : كتْف .
وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا : صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه : » أَرْءِنا « ثم نُقِل ، قاله الزمخشري تابعاً لغيره . قال الفارسي : » التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ « وقال أيضاً : » ألا تراهم أَدْغموا في { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] ، والأصل : « لكنْ أنا » « نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا ، فذهابُ الحركةَ في » أَرِنا « ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال :
726 أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها ... من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا
وأصل أَرِنَا : أَرْءِنا ، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي ، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه : { حتى نَرَى الله } [ البقرة : 55 ] .
والمناسِكُ واحدُها : مَنْسَك بفتح العين وكسرِها ، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه . والمنسَكُ : موضعُ النسُك وهو العبادة .
قوله : { فِيهِمْ } في هذا الضميرِ قولان : أحدُهما : أنه عائدٌ على معنى الأمة ، إذ لو عادَ على لفظِها لقال : » فيها « قاله أبو البقاء ، والثاني : أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ . المتقدِّم . وقيل : يعودُ على أهل مكة ، ويؤيده : { الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً } [ الجمعة : 2 ] .

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

قوله تعالى : { مِّنْهُمْ } : في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لرسولاً فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : رسولاً كائناً منهم .
قوله : { يَتْلُواْ } في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً ، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذ تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ . والثاني : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من « رسولا » لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ . الثالث : أنها حالٌ من الضميرِ في « مِنْهم » والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « منهم » لوقوعِه صفةً .
وتقدَّم قولُه « العزيزُ » لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر « الحكيمُ » لأنها صفةُ فِعْل .
ويقال : عَزَّ يَعُزَّ ، وَيَعَزُّ ، ويَعِزُّ ، ولكنْ باختلافِ معنىً ، فالمضمومُ بمعنى غَلَب ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] والمفتوحُ بمعنى الشدةِ ، ومنه : عَزَّ لحمُ الناقة أي : اشتدَّ ، وعَزَّ عليَّ هذا الأمرُ ، والمكسورُ بمعنى النَّفاسةِ وقلةِ النظري .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ } : « مَنْ » اسمُ استفهامٍ بمعنى الإِنكار فهو نفيٌ في المعنى ، ولذلك جاءَتْ بعده « إلاَّ » التي للإِيجابِ ، ومحلُّه رفعٌ بالابتداءِ ، و « يَرْغَبُ » خبرُه ، وفيه ضميرٌ يعودُ عليه ، والرغبةُ أصلُها الطلبُ ، فإنْ تَعَدَّت ب « في » كانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو : رَغِبْت في كذا ، وإن تَعَدَّت ب « عن » كانت بمعنى الزَّهادة نحو : رَغِبْت عنك .
قوله : { إِلاَّ مَن سَفِهَ } في « مَنْ » وجهان : أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من الضمير في « يَرْغَبُ » وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ ، فإذا قلتَ : ما قام القومُ إلا زيدٌ ، ف « إلاَّ » عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و « مَنْ » يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً ، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني .
قوله : { نَفْسَهُ } في نصبِه سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [ الفاء ] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد ، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال : « سَفِه نفسَه : امتَهَنَها واستخَفَّ بها » ، ثم ذَكَر أوجهاً أُخَرَ ، ثم قال : « والوجهُ الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : » الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحقَّ وتَغْمَصَ الناسَ « الثاني : أنه مفعولٌ به ولكن على تضمين » سَفِه « . معنى فِعْلٍ يتعدَّى ، فقدَّره الزجاج وابنُ جني بمعنى جَهِل ، وقدَّره أبو عبيدة . بمعنى أهلك . الثالث : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ تقديره : سَفِه في نفسه . الرابع : توكيدٌ لمؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره : سَفِه قولَه نفسَه ، فحذَفَ المؤكَّد ، قياساً على النعت والمنعوت ، حكاه مكي . الخامس : أنه تمييزٌ وهو قولُ بعضِ الكوفيين ، قال الزمخشري : » ويجوز أَنْ يكونَ في شذوذِ تعريفِ المُمَيِّز نحو قوله :
727 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِّقَابا
728 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
فجعل الرِّقابَ والظهرَ تمييزَيْن ، وليسَ كذلك ، بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به لأنهما معمولاً صفةٍ مشبهةٍ ، وهي الشُّعْر جمع أَشْعر ، وأجَبّ وهو اسمٌ . السادس : أنه مشبّهٌ بالمفعولِ به وهو قولُ بعض الكوفيين . السابع : أنه توكيدٌ لِمَنْ سَفِه ، لأنه في محلِّ نصبٍ على الاستثناء في أحد القولين ، وهو تخريجٌ غريبٌ نقله صاحب « العجائب والغرائب » ، والمختارُ الأولُ لأنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ وكذلك حرفِ الجرِّ ، وأمّا حَذْفُ المؤكَّد وإبقاءُ التوكيدِ فالصحيحُ لا يجوزُ ، وأمَّا التمييزُ فلا يقع معرفةً ، وما وَرَدَ نادرٌ أو مُتَأَوَّل ، وأمّا النصبُ على التشبيهِ بالمفعولِ فلا يكونُ في الأفعالِ إنما يكون في الصفاتِ المشبَّهةِ خاصةً .

قوله : { فِي الآخرة } فيه خمسةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً . الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي : وإنه لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين . الرابع : أن يتعلَّقَ بقولِه « الصالحين » وإنْ كانت أل موصولةً : لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً ، ونظيرُه قوله :
729 رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا ... كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا
الخامس : أن يتعلَّق ب « اصَطَفْيناه » قال الحسين بن الفضل : « في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، مجازُه : ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة » وهذا ينبغي ألاَّ يجوزُ مثلُه في القرآنِ لنُبُوِّ السَّمْعِ عنه .
والاصطفاءُ : الاختيارُ ، افتعال من صَفْوةِ الشيء وهي خِيارُه ، وأصلُه : اصْتَفى ، وإنما قُلِبت تاءُ الافتعال طاءً مناسبةً للصادِ لكونِها حرفَ إطباقٍ وتقدَّم ذلك عند قولِه : { أَضْطَرُّهُ } [ البقرة : 126 ] . وأكَّد جملةَ الاصطفاءِ باللام ، والثانية بإنَّ واللام ، لأنَّ الثانية محتاجةٌ لمزيدِ تأكيدٍ ، وذلك أنَّ كونَه في الآخرةِ من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ ، فاحتاجَ الإِخبارُ به إلى فَضْلِ توكيدٍ ، وأمَّا اصطفاءُ الله له/ فقد شاهَدُوه منه ونَقَله جيلٌ بعد جيلٍ .

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ } : في « إذ » خمسةُ أوجهٍ أصَحُّها أنه منصوبٌ ب « قال أَسْلَمْتُ » ، أي : قال أسلمتُ وقتَ قولِ الله له أَسْلَمْ . الثاني : أنه بَدَلٌ من قوله « في الدنيا » . الثالث : أنه منصوبٌ باصطفيناه . الرابع : أنه منصوبٌ ب « اذكر » مقدَّراً ، ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري . وعلى تقدير كونِه معمولاً لاصطفيناه أو ل « اذكر » مقدرّاً يبقى قولُه « قال أسلمْتُ » غيرَ منتظم مع ما قبله ، إلا أنْ يُقدَّرَ حذفُ حرفِ عطفٍ أي : فقال ، أو يُجْعَلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّرٍ أي : ما كان جوابُه؟ فقيل : قال أسلَمْتُ ، الخامس : أبْعَدَ بعضُهم فجعله مع ما بعدَه في محلِّ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيه « اصطَفَيْناه » .
وفي قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ } التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل : إذ قلنا ، لأنَّه بعدَ « ولقَدِ اصْطَفَيْناه » وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه :
730 باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً ... وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا
وقوله { لِرَبِّ العالمين } فيه من الفخامة ما ليس في قوله « لك » أو « لربّي » ، لأنه إذا اعترف بأنَّه ربُ جميعِ العالمينِ اعتَرَف بأنه ربُّه وزيادةٌ بخلافِ الأول فلذلك عَدَلَ عن العبارَتَيْنِ . وفيه قوله : « أَسْلْمِ » حَذْفُ مفعولٍ تقديرُه : أَسْلِمْ لربِّك .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

قوله تعالى : { ووصى } : قُرِىء مِنْ وصَّى ، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى ، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر ، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام ، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً .
والضميرُ في « بها » فيه ستةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه يعودُ على المِلَّة في قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ، قال الشيخ : « وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكُرِ [ المهدوي ] وغيرَه » والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا ، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله « أَسَلَمْتُ » لتأويله بالكلمةِ ، قال الزمخشري : « والضميرُ في » بها « لقولِه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 28 ] وقولُه » كلمةً باقيةً « دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة . انتهى . الثاني : أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه » أَسْلَمْتُ « كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري : قال ابن عطية : » وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور « . الثالثُ : أنه يَعودُ على متأخر ، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } . الرابع : أنه يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ ذِكْرٌ ] . الخامسُ : أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً . السادسُ : أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله : » ووصَّى « ، و » بها « يتعلَّق لوصَّى . و » بنِيه « مفعولٌ به .
قوله : { وَيَعْقُوبُ } الجمهورُ على رفعه وفيه قولان ، أظهرهُما : أنه عطفٌ على » إبراهيم « ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي : ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً ، والثاني : أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال : يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى . وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على » بَنيه « ، أي : ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً .
قوله : { يَا بَنِيَّ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه من مقولِ إبراهيمِ ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً . والثاني : أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه : » ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله : « يا بَنِيَّ » وما بعدها [ منصوبةٌ ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين ، أي : فقال يا بَنِيَّ ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين ، وقال الراجز :
731 رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا ... إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا
بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ ، ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود : « أَنْ يا بَنِيَّ » ب « أَنْ » المفسرة ، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً .

ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق . ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل ، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب .
و « اصطفى » ألفُه عن ياء ، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة ، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً ، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً . و « لكم » أي لأجلكم ، والالفُ واللامُ في « الذين » للعهدِ .
قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إلا } هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك : « لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع » ، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة ، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه ، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة ، كأنه قال : أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه ، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم .
وأصل تموتُنَّ : تموتُونَنَّ : النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان : الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين ، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره . { إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة ، و « أنتم مسلمون » مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى « لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ » ، والعاملُ فيها ما قبلَ إلاَّ .

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

قوله : { أَمْ } : في أم هذه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُهما - وهو المشهورُ - : أنها منقطعةٌ ، والمنقطعةُ تُقُدَّر ب « بل » وهمزةِ الاستفهامِ وبعضُهم يقدَّرُها ببل وحدَها . ومعنى الإِضرابِ انتقالٌ من شيءٍ إلى شيءٍ لا إبطالٌ له ، ومعنى الاستفهامِ الإِنكارُ والتوبيخُ فيؤُول معناه إلى النفي أي : بل أكنتم شهداءَ يعني لم تكونوا . الثاني : أنها بمعنى/ همزةِ الاستفهامِ وهو قولُ ابن عطية والطبري ، إلا أنهما اختلفا في محلِّها : فإنَّ ابن عطية قال : « وأم تكون بمعنى ألفِ الاستفهامِ في صدرِ الكلامِ ، لغةٌ يمانيَّة » وقال الطبري : « إنَّ أم يُستفهم بها وسْطَ كلامٍ قد تقدَّم صدرُه » ، قال الشيخ في قول ابن عطية : « ولم أقفْ لأحدٍ من النحويين على ما قال » ، وقال في قول الطبري : « وهذا أيضاً قولٌ غريبٌ » . الثالث : أنها متصلةٌ وهو قولُ الزمخشري ، قال الزمخشري بعد أن جَعَلَها منقطعةً وجَعَلَ الخطابَ للمؤمنين قال بعد ذلك : « وقيل الخطابُ لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبيٌّ إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شَهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه لظَهَر لهم حِرْصُه على مِلَّة الإِسلامِ ولَمَا ادَّعَوا عليه اليهوديةَ ، فالآيةُ منافيةٌ لقولهم ، فكيف يُقال لهم : أم كنتم شهداءَ؟ ولكن الوجهَ أن تكونَ » أم « متصلةً على أَنْ يُقَدَّرَ قبلَها محذوفٌ كأنه قيل : أَتَدَّعُون على الأنبياءِ اليهوديةَ أم كنتُمْ شهداءَ ، يعني أنَّ أوائلكم من بني إسرائيلَ كانوا مشاهِدين له إذا أراد بَنيه على التوحيد وملَّةِ الإِسلامِ . فما لكم تَدَّعُون على الأنبياءِ ما هم منه بَراءٌ؟ » .
قال الشيخ : « ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه ، لو قلت : » أم زيدٌ « تريد : » أقام عمروٌ أم زيدٌ « لم يَجُزْ ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك : » بلى وعمراً « لمَنْ قال : لم يَضرِبْ زيداً ، وقوله تعالى : { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي فضربَ فانفجَرَتْ ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله :
732 فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : من أخٍ أو والدٍ ، ومع حتى كقوله :
733 فواعَجَباً حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ
أي : يَسُبُّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ ، على نظرٍ فيه ، وإنما الجائزُ حَذْفُ » أم « مع ما عَطَفَتْ كقوله :
734 دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ ، وإنما جاز ذلك لأنَّ المستفْهَمَ عن الإِثبات يتضمَّن نقيضَه ، ويجوز حَذْفُ الثواني المقابلاتِ إذا دَلَّ عليها المعنى ، ألا ترى إلى قولِه : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] كيف حَذَف » والبردَ « .

انتهى . و « شهداء » خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد ، وقد تقدَّم أول السورة .
قوله : { إِذْ حَضَرَ } « إذ » منصوبٌ بشهداءَ على أنَّه ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي : شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه ، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته ، قال الشاعر :
735 - وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا ... قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتُ
أي : أنا سببُه ، والمشهورُ نصبُ « يعقوب » ورفع « الموت » ، قَدَّم المفعولَ اهتماماً . وقرأ بعضُهم بالعكس . وقُرىء « حَضِر » بكسر الضاد قالوا : والمضارعُ يَحْضُر بالضم شاذ ، وكأنه من التداخُلِ وقد تقدَّم .
قوله : { إِذْ قَالَ } « إذ » هذه فيها قولان أحدُهما : بدلٌ من الأولى ، والعاملُ فيها : إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك . الثاني : أنها ظرفٌ لحَضَر .
قوله : { مَا تَعْبُدُونَ } ؟ « ما » اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون ، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى ب « ما » دون « مَنْ » لأحدِ أربعةِ معانٍ ، أحدُهما : أنَّ « ما » للمُبْهَمِ أمرُه ، فإذا عُلِمَ فُرِّق ب « ما » و « مَنْ . قال الزمخشري : » وكفاك دليلاً قولُ العلماء « مَنْ لما يَعْقِل » . الثاني : أنها سؤالٌ عن صفةِ المعبود ، قال الزمخشري : « كما تقول : ما زيدٌ؟ تريد : أفقيهٌ أم طبيبٌ أم غيرُ ذلك من الصفات » . الثالث : أن المعبودات ذلك الوقتَ كانت غيرَ عقلاء كالأوثان والأصنام والشمسِ . والقمرِ ، فاسْتَفْهم ب « ما » التي لغير العاقل فَعَرَف بنوه ما أراد فأجابوه بالحقِّ . الرابع : أنه اختَبَرهم وامتحَنَهم فسألهم ب « ما » دون « مَنْ » لئلا يَطْرُقَ لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصودُه الاختبارُ . وقولُه « مِنْ بعدي » أي بعد موتي .
قوله : { وإله آبَائِكَ } أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ ، والجمهور على « آبائِك » وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء « أبيك » ، وقرأ أُبَيّ : « وإلَه إبراهيم » فأسقط « آبائك » . فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ . وفي « إبراهيم » وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ ، أوحدُها : أنه بدلٌ . والثاني : أنه عطفُ بيانٍ ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ . الثالثُ : أنه منصوبٌ بإضمار « أعني » ، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً ، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه ، كما يُطْلَقُ على الخالة أب ، ومنه : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } [ يوسف : 100 ] في أحد القولين . قال بعضهم : « وهذا من باب التغليب ، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما ، قال عليه السلام :

« رُدُّوا عليَّ أبي » يعني العباس .
وأمَّا قراءة « أَبيك » فتحتملُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ مفرداً غيرَ جمعٍ ، وحينئذٍ : فإمّا أَنْ يكونَ واقعاً موقعَ الجمعِ أولا ، فإن كان واقعاً موقع الجمعِ فالكلامُ في « إبراهيم » وما بعدَه كالكلامِ فيه على القراءة المشهورةِ ، وإنْ لم يكنْ واقعاً موقعه بل أُريد به الإِفرادُ لفظاً ومعنىً فيكون « إبراهيم » وحدَه على الأوجه الثلاثة المتقدمة ، ويكونُ إسماعيلُ وما بعدَه عطفاً على « أبيك » أي : وإله إسماعيل . الثاني : يكونَ جَمْعَ سلامةٍ بالياء والنون ، وإنما حُذِفَت النون للإِضافة ، وقد جاء جمعُ أب على « أَبُون » رفعاً ، و « أبِين » جَرَّاً ونَصْباً حكاها سيبويه ، قال الشاعر :
736 فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا
ومثله :
737 فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكلامُ في إبراهيمِ وما بعده كالكلامِ فيه بعد جمعِ التكسير . وإسحاق علم أعجمي ويكونُ مصدرَ أًسْحق ، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرَف ، والجمعُ أساحِقة وأساحيق .
قولُه : { إلها وَاحِداً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ « إلهك » بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه : { بالناصية نَاصِيَةٍ [ كَاذِبَةٍ ] } [ العلق : 15 ] . والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه :
738 فلا وأبيك خيرٍ منك ... إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
ف « خيرٍ » بدل من « أبيك » ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ . والثاني أنه حالٌ من « إلهك » / والعاملُ فيه « نعبدُ » ، وفائدةُ البدلِ والحالِ التنصيصُ على أن معبودَهم فَرْدٌ إذ إضافةُ الشيءِ إلى كثير تُوهم تعدادَ المضافِ ، فنصَّ بها على نَفْي ذلك الإِبهامِ . وهذه الحالُ تسمّى « حالاً موطئةً » وهي أَنْ تذكرها ذاتاً موصوفةً نحو : جاء زيد رجلاً صالحاً . الثالث : - وإليه نحا الزمخشري - أن يكونَ منصوباً على الاختصاص أي : نريد بإلهك إلهاً واحداً . قال الشيخ : « وقد نَصَّ النحويون على أنَّ المنصوبَ على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً » .
قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنها معطوفةٌ على قوله : « نعبد » يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة . والثاني : أنها حالٌ من فاعلِ « نَعْبُدُ » والعاملُ « نَعْبُد » . والثالث : - وإليه نحا الزمخشري - ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ ، أي : ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ . قال الشيخ : « ونصَّ النحويون على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ : إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله :
739 ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما ... يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل
وقوله :
740 ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً ... والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ

أو بين مسندٍ ومسند إليه كقوله :
741 - وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ
أو بينَ شرطٍ وجزاءٍ أو قَسَمٍ وجوابِه ، ممَّا بينهما تلازُمٌ ما ، وهذه الجملةُ قبلَها كلامٌ مستقلَّ عمَّا بعدَها ، لاَ يُقال : إنَّ بينَ المُشار إليه وبينَ الإِخبارِ عنه تلازماً لأنَّ ما قبلها مِنْ مقول بني يعقوبَ وما بعدَها من كلام الله تعالى ، أَخْبر بها عنهم ، والجملةُ الاعتراضيةُ إنما تكونُ من الناطقِ بالمتلازِمَيْنِ لتوكيدِ كلامِه « . انتهى ملخصاً . وقال ابن عطية : » ونحنُ لَه مسلمون ابتداءٌ وخبرٌ أي : كذلك كنَّا ونحن نكون « . قال الشيخ : » يَظْهَرُ منه أنه جَعَلَ هذه الجملةُ عطفاً على جملةٍ محذوفةٍ ولا حاجةَ إليه « .

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

قولُه تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ } : « تلكَ » مبتدأٌ ، و « أمةٌ » خبرُه ، ويجوزُ أن تكونَ « أمةٌ » بدلاً من « تلك » و « قد خَلَتْ » خبرٌ للمبتدأ . : وأصل تلك : تي فلمَّا جِيء باللامِ للبعدِ حُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنَيْنِ ، فإنْ قيلَ : لِمَ لَمْ تُكْسَرُ اللامُ حتى لا تُحْذَفَ الياءُ؟ فالجوابُ أَنَّه يَثْقُل اللفظُ بوقوع الياءِ بين كسرتين . وزعم الكوفيون أن التاءَ وحدَها هي الاسمُ ، وليس ثَمَّ شيءٌ محذوفٌ . وقوله « قد خَلَتْ » جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « أمَّة » ، إنْ قيل إنَّها خبرُ « تلك » ، أو خبرُ « تلك » إنْ قيل إنَّ « أُمَّة » بدلٌ من « تلك » ، كما تقدَّم ، و « خَلَتْ » أي صَارتْ إلى الخلاءِ وهي الأرْضُ التي لا أنيسَ بها ، والمرادُ به ماتَتْ ، والمشارُ إليه هو إبراهيم ويعقوبُ وأبناؤُهم .
قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً ، فيكونُ محلُّها رفعاً . والثاني : أن تكونَ حالاً من الضمير في « خَلَتْ » فمحلُّها نصبٌ ، أي : خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها . الثالث : أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها . وفي « ما » مِنْ قولِه : « ما كَسَبَتْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها بمعنى الذي . والثاني : أنها نكرةٌ موصوفة ، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي : كَسَبَتْه ، إلاَّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول . والثالث : أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي : له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي : لها جزاءُ كَسْبِها .
قوله : { وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } إنْ قيل : إنَّ قولَه { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه ، وإنْ قيل إنَّه صفةٌ أو حالٌ فلا ، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها ، وأمَّا الحالُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين ، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و « ما » مِنْ قولِه « ما كسبتم » ك « ما » المتقدمةِ .
قوله : { وَلاَ تُسْأَلُونَ } هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلاَّ ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها ، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره ، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك . و « ما » يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ أو حرفية أو نكرةً ، وفي الكلامِ حَذْفٌ أي : ولا يُسْأَلون عمّا كنتم تَعملون . قال أبو البقاء : « ودلَّ عليه : لَهَا ما كَسَبَتْ ولكم ما كَسَبْتُم انتهى . ولو جُعِلَ الدالُّ قولَه { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } كان أَوْلى لأنه مقابلَةٌ .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

قوله تعالى : { هُوداً أَوْ نصارى } : الكلامُ في « أو » كالكلامِ فيها عندَ قولِه : « وقالوا : لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى » وقد تقدَّم ، و « تهتدوا » جزمٌ على جوابِ الأمرِ ، وقد عُرِفَ ما فيه من الخلافِ : أعني هل جَزْمُه بالجملةِ قبلَه أو ب « إنْ » مقَدَّرَةً؟
قوله : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } قرأ الجمهور : « مِلَّةَ » نصباً ، وفيها أربعة أوجه ، أحدها : أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ ، أي : بل نتبعُ مِلّةَ ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً : اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية . الثاني : أنه منصوبٌ على خبر كان ، أي : بل نكونُ مِلَّة أي : أهلَ ملة ، كقول عدي بن حاتم : « إني من دين » أي من أهل دين ، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري . الثالث : أنه منصوبُ على الإِغراء أي : الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ . الرابع : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ ، والأصلُ : نَقْتَدي بملةِ إبراهيم ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ ، وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ : بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما تقدَّم ، وأن يكونُ خطاباً للكفارِ فيكونُ التقديرُ : كونوا أو اتَّبعوا او اقتدوا . وقرأ ابن هرمز وابن أبي عبلة « مِلَّةُ » رفعاً . وفيها وجهان : أحدُهما : خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ ، أي : بل ملتُنا ملةُ إبراهيمَ أو نحن ملةُ ، أي أهلُ ملة .
والثاني : أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه ، تقديرُه : مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا .
قوله : { حَنِيفاً } في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه حالٌ من « إبراهيم » لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم ، أحدها : أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ . الثاني : أنْ يكون جزءاً نحو : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الثالث : أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ . والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً ، قالوا : لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها ، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل . ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ ، وهما عاملان في صاحِبها عند هذا القائل . ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ ، وشبَّهه بقولك : « رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً » وهو قولُ الزجَّاج .
الثاني : نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي : نتبعُ حنيفاً ، وقدَّره أبو البقاء بأعني ، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ .
الثالث : أنه منصوبٌ على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين ، وكان الأصلُ عندهم : إبراهيمَ الحنيفَ ، فلمَّا نكَّره لم يُمْكِن إتْباعه ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك .

الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من « ملَّة » فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها ، وقد تقدَّم ، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من « إبراهيم » لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها ، فإنْ قيل : صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال : حنيفةً ، فالجوابُ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث . والثاني : أن الملَّة بمعنى الدِّين ، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] ذكر ذلك ابنُ الشجري في « أماليه » .
والحَنَفُ : المَيْلُ ومنه/ سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه :
742 واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه ... ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ
ويقال : رَجُلٌ أَحْنَفُ وامرأة حَنْفَاءُ ، وقيل : هو الاستقامةُ ، وسُمِّي المائلُ الرجلِ بذلك تفاؤلاً كقولِهم لِلديغ : « سليمٌ » ، وللمَهْلَكَة : « مفازة » قاله ابن قتيبة ، وقيل : الحَنيفُ لَقَبٌ لمن تَدّيَّن بالإِسلام ، قال عمرو :
743 حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي ... إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ
قاله القفال ، وقيل : الحَنيف : المائلُ عَمّا عليه العامَّةُ إلى ما لزِمه ، قاله الزجاج وأنشد :
744 ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا ... حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

قوله تعالى : { قولوا } : في هذا الضمير قولان ، أحدُهما : أنَّه للمؤمنينِ والمرادُ بالمُنَزَّلِ إليهم القرآنُ على هذا . والثاني : أنه يعودُ على القائلين كونوا هوداً أو نصارى ، والمرادُ بالمُنَزَّل إليهم : إمّا القرآنُ وإمَّا التوراةُ والإِنجيلُ ، وجملةُ « آمنَّا » في محلِّ نَصْبِ بقولوا ، وكرَّر الموصول في قولِه : { وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } لاختلافِ المنزَّلِ إلينا والمُنزَّلِ إليه ، فلو لم يكرِّر لأوْهَمَ أن المنزَّلَ إلينا هو المنزَّلُ إليه ، ولم يكرِّر في « عيسى » لأنه لم يخالِفْ شريعةَ موسى إلا في نَزْر يَسير ، فالذي أوتيه عيسى هو عينُ ما أُوتيه موسى إلاَّ يسيراً ، وقُدِّم المنزَّلُ إلينا في الذِّكرْ وإِنْ كان متأخراً في الإِنزال تشريفاً له .
والأسْباط : جمعُ « سِبْط » وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً . واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون . وقيل : هو مَقْلُوبٌ من البَسْط ، وقيل : مِنْ « السَّبَط : بالتحريك جمع » سَبَطة « وهو الشجرُ الملتفُّ . وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لانتشارِ ذرِّيَّتهم ، ثم قيل لكل ابن بنت : » سِبْط « .
قوله : { وَمَآ أُوتِيَ موسى } يجوزُ في » ما « وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ . والثاني : أنَّها في محلِّ رفعِ بالابتداءِ ، ويكونُ { وَمَا أُوتِيَ النبيون } عطفاً عليها ، وفي الخبرِ وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ » مِنْ ربهم « . والثاني : أن يكون » لا نفرِّقُ « هكذا ذَكِرَ الشيخ ، إلا أنَّ في جَعْلِه » لا نفرِّقُ « خبراً عن » ما « نظراً لا يَخْفى من حيثُ عدمُ عودِ الضميرِ عليها . ويجوزُ أن تكونَ » ما « الأولى عطفاً على المجرورِ ، وما الثانيةُ مبتدأةً وفي خبرها الوجهانِ ، وللشيخ أن ينفصِلَ عن عدمِ عَوْدِ الضميرِ بأنَّه محذوفٌ تقديرُه : لا نفرِّق فيه ، وحَذْفُ العائدِ المجرورِ ب » في « مطَّردٌ كَما ذَكَر بعضُهم ، وأنشد :
745 فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
أي : نُساء فيه ونُسَرُّ فيه .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ ، و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، ويتعلَّقُ ب » أُوتِيَ « الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو ب » أوْتِيَ « الأولى ، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين ، الثاني : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث : انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا » ما « مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه .

قوله : { بَيْنَ أَحَدٍ } متعلِّقُ ب « لا نُفَرِّقُ » ، وفي « أحد » قولان أظهرُهما : أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ ، فلذلك صَحَّ دخولُ « بين » عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو : « المالُ بين الناس » . والثاني : أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد ، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ ليَصِحَّ دخولُ « بَيْنَ » على متعددٍ ، ولكنه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى ، والتقدير : بين أحدٍ منهم ، ونظيرُه ومثلُه قولُ النابغة :
746 فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي : بين الخير وبيني . و « له » متعلِّقٌ بمسلمون ، قُدِّم للاهتمامِ به لعَوْدِ الضميرِ على الله تعالى أو لتناسُبِ الفواصل .

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } : في الباءِ أقوالٌ ، أحدُها : أنها زائدةٌ كهي في قولِه { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } [ مريم : 25 ] وقوله :
747 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
والثاني : أنها بمعنى « على ، أي : فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله » . والثالث : أنَّها للاستعانةِ كهي في « نَجَرْتُ بالقَدُوم » و « كَتَبْتُ بالقلم » والمعنى : فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم ، وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً ، و « ما » مصدريةً والضميرُ في « به » عائداً على الله تعالى ، والتقديرُ : فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به ، و « مثل » هنا فيها قولان ، أحدُهما : أنَّها زائدةٌ والتقديرُ : بما آمنْتُم به ، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن عباس ، وذكر البيهقي عن ابن عباس : « لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم [ به ] فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به } وهذه تُرْوَى قراءةً [ عن ] أُبَيّ ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ :
748 فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم : هذا من مجازِ الكلام تقولُ : هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك ، أي لا تَفْعَلُه أنت ، والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، نَقَلَه ابنُ عطية ، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ » مثل « وزيادتِها ، والثاني : أنها ليست بزائدةٍ ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ ، أي : فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم ، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي : فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به ، والمعنى : فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء .
و » ما « قولِه : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ : إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ » ما « على أولي العلمِ نحو : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ . والثاني : أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك . والضميرُ في » به « فيه أيضاً وجهان ، أحدُهما : أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم . والثاني : أن يعودَ على » ما « إذا قيل : إنَّها بمعنى الذي .
قوله : { فَقَدِ اهتدوا } جوابُ الشرط في قوله : » فإنْ آمنوا « ، وليس الجوابُ محذوفاً ، كهو في قوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ } [ فاطر : 4 ] لأنَّ تكذيبَ الرسلِ ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ .
قوله : { فِي شِقَاقٍ } خبرٌ لقوله : » هم « وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم ، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون ، ومثلُه : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] ونحوُه : والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو : ضاربه ضِراباً ، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ .

وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه/ أي : جانبِه ، قال امرؤ القيس :
749 إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له ... بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ
أي : بجانبٍ . الثاني : أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه . الثالث : أنَّه من قولهم : « شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك » وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم ، والفاءُ في قولهِ : « فَسَيَكْفِيكَهُم » تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم . وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها ، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي : بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم .

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

قوله تعالى : { صِبْغَةَ الله } : قرأ الجمهورُ « صبغةَ » بالنصبِ ، وقال الطبري : « مَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع » وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة . فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها : أنَّ انتصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد وهذا اختاره الزمخشري ، وقال : « هو الذي ذَكَر سيبويه والقولُ ما قالَتْ حَذامِ » انتهى قولُه . اختُلَفِ حينئذٍ عن ماذا انتصَبَ هذا المصدرُ؟ فقيل عن قولِه : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وقيل : عَنْ قولِه : { فَقَدِ اهتدوا } . الثاني : أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي : الزَمُوا صبغةَ الله ، قال الشيخ : « وهذا ينافِرُه آخرُ الآيةِ وهو قولُه : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } إلا أَنْ يُقَدَّر هنا قولٌ ، وهو تقديرٌ لا حاجةَ إليه ولا دليلَ من الكلامِ عليه » . الثالث : أنها بدلٌ من « مِلَّةَ » وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة . الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي : اتِّبِعوا صبغةَ الله ، ذكره أبو البقاء مع وجهِ الإِغراءِ ، وهو في الحقيقةِ ليس زائداً فإنَّ الإِغراءَ أيضاً هو نصبٌ بإضمارِ فعلٍ .
قال الزمخشري : « وهي - أي الصبغةُ - مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ ، والمعنى تطهيرُ الله ، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم ، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا : آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم ، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار : اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ » .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما : أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله . والثاني : أن تكونَ بدلاً مِنْ « مِلَّة » لأنَّ مَنْ رَفَعَ « صِبْغَة » رفع « مِلَّة » كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ .
قولِه : { وَمَنْ أَحْسَنُ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي : لا أحدَ ، و « أَحْسَنُ » هنا فيها احتمالان ، أحدُهما : أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ . والثاني : أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ . و « مِنَ الله » ، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ . و « صبغةً » نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ : ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله ، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين . وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ .
قولُه : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ { قولوا آمَنَّا بالله } فهي في محلِّ نصبٍ بالقول ، قال الزمخشري : « وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ » صبغة الله « بدلٌ مِنْ » مِلَّةَ « أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه » . قال الشيخ : « وتقديرُه في الإِغراءِ : عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله . انتهى » . كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها .

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

قوله تعالى : { أَتُحَآجُّونَنَا } : الاستفهامُ هنا للإِنكار والتوبيخِ . والجمهورُ : « أتحاجُّوننا » بنونين الأولى للرفعِ والثانيةُ نونُ « ن » وقرأ زيدٌ والحسنُ والأعمشُ بالإدغام ، وأجاز بعضُهم حَذْفَ النونِ الأولى ، فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ ، وأمّا قراءةُ الإِدغامِ فلاجتماعِ مِثْلَيْن ، وسَوَّغَ الإِدغام وجودُ حرفِ المَدِّ واللين قبلَه القائمِ مقام الحركةِ ، وأما من حَذَفَ فبالحَمْلِ على نونِ الوقايةِ كقراءة : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وقولِه :
750 تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
يريد : فلينني ، وهذه الآيةُ مثلُ قولِه : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] فإنه قُرِئَتْ بالأوجهِ الثلاثةِ : الفَكِّ والإِدغامِ والحَذْفِ ، ولكن في المتواتِر ، وهنا لم يُقْرَأْ في المشهورِ كما تقدَّم إلا بالفك . ومَحَلُّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ قَبْلها . والضميرُ في « قل » يَحْتَمِلُ أن يكونَ للنبي عليه السلام أو لكلِّ مَنْ يَصْلُح للخطابِ ، والضميرُ المرفوعُ في « أتحاجُّوننا » لليهودِ والنصارى أو لمشركي العَرَبِ . والمُحَاجَّةُ مُفَاعَلة من حَجَّه يَحُجُّه . وقولُه « في الله » لا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : في شأنِ الله أو دينِ الله .
قوله : { وَهُوَ رَبُّنَا } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه : « ولنا أعمالُنا » ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم .

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ } : قرأ حمزة والكسائي وحفص وابن عامر بتاءِ الخطابِ والباقون بالياء ، فأمّا قراءةُ الخطابِ فتحتمل « أم » فيها وَجْهين « ، أحدُهما : أن تكونَ المتصلةَ ، والتعادلُ بين هذه الجملةِ وبين قوله : » أتحاجُّوننا ، فالاستفهامُ عن وقوعِ أحدِ هذين الأمْرَيْن : المُحاجَّةِ في اللهِ او ادِّعاءٍ على إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه اليهوديَة والنصرانيةَ ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتويبخٍ كما تقدَّم فإنَّ كِلا الأمرين باطلٌ . والثاني : أن تكونَ المنقطعةَ فتتقدَّرَ ب « بل » والهمزةِ ، على ما تقرَّر في المنقطعة على أصحِّ المذاهبِ ، والتقدير : بل أتقولون : والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أيضاً فيكونُ قد انتقل عن قولِه : أتحاجُّوننا وأَخَذَ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى ، والمعنى على إنكارِ نسبةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ إلى إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه .
وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ « أم » فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم . وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت : أتقومُ أم يقولم عمروٌ : أيكونُ هذا أم هذا . وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال : « هذا المثالُ غيرُ جيدٍ ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والمخاطَبُ اثنان غَيْرانِ ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ » أم « للألفِ على الحكم المعنوي ، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا : أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون » انتهى . وقال الزمخشري : « وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً » قال الشيخ : « ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [ خروجٌ ] من خطابٍ إلى غَيْبةِ ، والضميرُ لناسٍ مخصوصين » . وقال أبو البقاء : « أم يقولونَ يُقْرأ بالياء ردَّاً على قوله : » فَسَيَكْفيكُهُم الله « فجَعَلَ هذه الجملةَ متعلقةً بقولِه : » فسيكفيكَهم « وحينئذٍ لا تكونُ إلا منقطعةً لِمَا عَرَفْتَ أنَّ من شرط المتصلةِ تقدُّمَ همزةِ استفهامٍ أو تسويةٍ مع أن المعنى ليس/ على أنَّ الانتقالَ مِن قولِه : » فَسَيَكْفيكهم « إلى قولِه » أم يقولون « حتى يَجْعَلَه ردَّاً عليه وهو بعيدٌ عنه لفظاً ومعنىً .
وقال الشيخ : » الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ « أم » منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية ، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم ، ألا ترى إلى قولِه : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 65 ] الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين ، بل إحداهما ، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما ، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً . وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً . و « أو » في قولِه : « هوداً أو نصارى » كهي في قولِه : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى }

[ البقرة : 111 ] وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { أَمِ الله } أم متصلةٌ ، والجلاَلةُ عَطْفٌ على « أنتم » ، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه ، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ : وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ : تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو : أأعلم أنتم أم اللهُ ، وتوسُّطُه نحو : أأنتم أعلمُ أم اللهُ ، وتأخيرُه نحو : أأنتم أم الله أعلمُ : وقال أبو البقاء : « أم الله » مبتدأ والخبرُ محذوفٌ ، أي : أم الله أعلمُ ، و « أم » هنا المتصلةُ أي : أيُّكم أعلم « وهذا الذي قاله فيه نظرٌ ، لأنَّه إذا قَدَّر له خبراً صناعياً صار جملةً ، وأم المتصلةُ لا تَعْطِفُ الجملةَ بل المفردَ وما في معناه . وليس قولُ أبي البقاء بتفسيرِ معنىً فيُغْتفَرَ له ذلك بل تفسيرُ إعرابٍ ، والتفضيلُ في قوله » أعلمُ « على سبيلِ الاستهزاءِ وعلى تقديرِ أن يُظَنَّ بهم عِلْمٌ من الجَهَلَةِ وإلاّ فلا مشاركةَ ، ونظيرُه قولُ حسان :
751 أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ... فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ
وقد عُلِم أنَّ الرسولَ خيرٌ كلُّه .
قوله : { مِنَ الله } في » مِنْ « أربعة أوجه ، أحدها : أنها متعلِّقةٌ ب » كَتَم « ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي : كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه . الثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ ، لأنَّ » عنده « صفةٌ لشهادة » وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال : و « مِنْ » في قولِه : { شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } مثلُها في قولِك : « هذه شهادةٌ مني لفلان » إذا شَهِدْتَ له ، ومثلُه : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ براءة : 1 ] الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في « عنده » ، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً ، ذَكَره أبو البقاء . الرابع : أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو « عنده » لوقوعِه صفةً ، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف .
قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ » مِنْ « بشهادةٍ ، لئلا يُفْصَلَ بين الصلةِ والموصولِ بالصفةِ يعني أنَّ » شهادة « مصدرٌ مؤولٌ بحرفٍ مصدري وفعلٍ فلو عَلَّقْتَ » مِنْ « بها لكنْتَ قد فَصَلْتَ بين ما هو في معنى الموصولِ وبين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي وهو الظرفُ الواقعُ صفةً لشهادة . وفيه نظرٌ من وجهين : أحدُهما : لأ نُسَلِّمُ أنَّ » شهادة « يَنْحَلُّ لموصولٍ وصلتِه ، فإنَّ كلَّ مصدرٍ لا يَنْحَلُّ لهما . والثاني : سَلَّمْنا ذلك ولكن لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنَّ الظرفَ صفةٌ بل هو معمولٌ لها ، فيكونُ بعضُ الصلةِ لا أجنبياً حتى يَلْزم الفصلُ به بين الموصول وصلِته ، وإنَّما كان طريقُ مَنْع هذا بَغَيْرِ ما ذَكَر ، وهو أنَّ المعنى يأبى ذلك .
وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه : كَتَمَ الناسُ شهادةً ، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ » من الله « صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم ، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله .

وقال في « ريّ الظمآن » : « في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ ، والتقديرُ : ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك : » ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة « والمعنى : لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى ، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه ، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك » . قال الشيخ : « وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ : أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور ، وأيضاً فيبقى قوله : » مِمَّن كتم « متعلِّقاً إمَّا بأظلم ، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ ، ويكون إذ ذاك بدلَ عامٍ من خاص وليس بثابتٍ ، وإنْ كان بعضُهم زَعَمَ ورودَه ، لكنَّ الجمهور تأوَّلوه بوضعِ العامِّ موضعَ الخاص ، أو تكونُ » مِنْ « متعلقةً بمحذوف فتكونُ في موضعِ الحال أي : كائناً من الكاتمين . وأمَّا من حيث المدلولُ فإنَّ ثبوتَ الأظلميَّة لمن جُرَّ ب » مِنْ « يكونُ على تقدير ، أي : إنْ كَتَمها فلا أحدَ أظلمُ منه ، وهذا كلُّه معنىً لا يَليقُ به تعالى ويُنَزَّه كتابُه عنه » .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

قوله تعالى : { مِنَ الناس } : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من « السفهاء » والعاملُ فيها « سيقولُ » وهي حالٌ مبيِّنة فإنَّ السَّفَه كما يوصف به الناسُ يُوْصَفُ به غيرُهم من الجمادِ والحيوانِ ، وكما يُنْسَبُ القولُ إليهم حقيقةً يُنْسَبُ لغيرهم مجازاً فَرَفَع المجازَ بقولِه : « مِن الناسِ » ذكره ابن عطية وغيرُه .
قوله : { مَا وَلاَّهُمْ } « ما » مبتدأٌ وهي استفهاميةٌ ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها ، و « عن قِبْلَتِهم » متعلقٌ ب « وَلاَّهم » ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه « عليها » أي : على توجُّهِهَا أو اعتقادِها ، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والاستعلاءُ في قولِه « عليها » مجازٌ ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ ، وهما : إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه ب « ذلك » غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم ، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في « ذلك » على خمسةِ أوجهٍ : أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ : { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم الثاني : أنه الجعلُ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ . الثالث : قيل : المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الخامس : - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } أي : مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و « جَعَل » بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، فالضميرُ مفعولٌ أولُ ، و « أمةً » مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه . والوسَطُ بالتحريكِ : اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن ، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب :
752 كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ ... بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا
ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه ، قالَ زهير :
753 هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ ... إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ
وقوله :
754 وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا ... وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين ، فقال : كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ « بَيْنَ » يقال بالسكون وإلا فبالتحريك . فتقول : جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون . وقال الراغب : « وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر ، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسَطُه صُلْبٌ ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو : » وسْط القوم « كذا ، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر ، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره ، المؤنث والمذكرُ ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق :
755 أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه ... صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا
رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة ، وبفتحِها والضميرُ للجائية .
قوله : » لتكونوا « يجوز في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أن تكونَ لام » كي « فتفيدَ العلة . والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر ، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر ، وأتى ب » شهداء « جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد .
وفي » على « قولان أحدُهما : أنَّها على بابِها ، وهو الظاهرُ . والثاني أنها بمعنى اللام ، بمعنى : أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسولُ عليه السلام ، وكذلك القولان في » على « الأخيرة ، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم .

وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين ، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم ، والثاني : أن « شهيداً » أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من « عليكم » فكان قولُه « شهيداً » تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون « عليكم » . وهذا الوجهُ قاله الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك .
قوله : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها : أنَّ « القِبلْة » مفعولٌ أولُ ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } مفعولٌ ثانٍ ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفةٍ للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ ، يريد : وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها ، وهي الكعبةُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ « .
الثاني : أنَّ » القِبلةَ « هي المفعولُ الثاني ، وإنما قُدِّم ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } هو الأول ، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [ هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً ، والمعنى هنا على هذا التقديرِ ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه » القبلةَ « مفعولاً أولَ إلى الوهم . وفيه نظر .
الثالث : أنَّ » القبلة « مفعولٌ أول ، و » التي كنتَ « صفتَهَا ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه : وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً . ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره : وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .
الرابع : أن » القبلةَ « مفعولٌ أولُ ، و » إلا لِنَعْلَمَ « هو المفعولُ الثاني ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ ، نحو قولِك : ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ ، أي : كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ .
الخامس : أنَّ » القبلةَ « مفعولٌ أولُ ، والثاني محذوفٌ ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفةٌ لذلك المحذوفِ ، والتقديرُ : وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ . وفي قوله » كنت « وجهان أحدهما : أنها زائدةُ ، ويُروَى عن ابن عباس أي : أنتَ عليها ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب .
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو : الجلْسة ، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة .

وقال قطرب : « يقولون : » ليس له قِبْلَةٌ « أي جهةٌ يتوجه إليها » . وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ .
قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً ، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ ، أي : ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا . وقوله « لنعلم » ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ ، أحدُها : لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ . وقيل : على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه .
قوله : { مَن يَتَّبِعُ } في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةٌ ، و « يتَّبع » صلتُها ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ ل « نعلم » لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ . والثاني : أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و « يتَّبعُ » خبرهُ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم ، والعلم على بابِه ، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه . وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال : « لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق » نعلم « عن العملِ ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ ل » مِنْ « ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله ، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ ، وليس المعنى : أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب » انتهى . وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو : عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ . وقرأ الزهري : « إلا ليُعْلَمَ » على البناءِ للمفعولِ ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ ، فإنَّا [ لا ] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى .
قوله : { على عَقِبَيْهِ } في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أي : يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه ، وهذا مجازٌ ، وقُرىء « على عَقْبَيْه » بسكون القاف وهي لغةُ تميم .
قوله : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } « إنْ » هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر ، وهو أغلبُ أحوالِها ، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور ، وزعم الكوفيون أنها بمعنى « ما » النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرةً ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء ، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه .
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ « كبيرةً » « على خبر » كان « واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [ عن أبي عمرو ] برفعِها ، وفيه تأويلان ، أحدُهما - وذكره الزمخشري - : أنَّ » كان « زائدةٌ ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى ، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله :

756 فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فإنَّ قولَه « كرام » صفةٌ لجيران ، وزادَ بينهما « كانوا » وهي رافعةٌ للضميرِ ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل « لنا » خبراً مقدماً ، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران . والثاني : أنَّ « كان » غيرُ زائدةٍ ، بل يكونُ « كبيرةً » خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً ، وهو توجيهٌ ضعيفٌ ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك .
قوله : { إِلاَّ عَلَى الذين } متعلِّقٌ ب « كبيرة » ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنْ قيل : لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه ، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك ، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي ، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، وقال الشيخ : « هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه : وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين ، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه » وقد تقدم جوابُ ذلك .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } [ آل عمران : 179 ] { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان أحدُهما : - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ « كان » محذوفٌ ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار « أَنْ » وجوباً ، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم ، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ . واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً . ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله : /
757 سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقولُ الثاني للكوفيين : وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال : « وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و » أَنْ « بعدها مُرادَةٌ ، فيصيرُ التقدير على قولهم : وما كان الله إضاعةَ إيمانكم ، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم ، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ » أَنْ « بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم ، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا .

واعلم أنَّ قولَك : « ما كان زيدٌ ليقومَ » بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من : « ما كان زيدٌ يقومُ » ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط ، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه ، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ .
وقرأ الضَّحاك : « ليُضَيِّع » بالتشديد ، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من « ضاع » القاصر ، يقال : ضاع الشيء يضيع ، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه ، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي : فاحَ فمادةٌ أخرى .
قوله : { لَرَءُوفٌ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر : لَرُؤفٌ على وزن : نَدُس ، وهي لغةٌ فاشية كقوله :
758 وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ ... يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما
وقال آخر :
759 يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً ... كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ
وقرأ الباقون : « لَرَؤُوف » على زنة شَكُور ، وقرأ أبو جعفر : « لَرَوُفٌ » من غير همزٍ ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ . والرأفة : أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها ، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما : رَئِفٌ على وزن فَخِذ ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب . وإنما قُدِّم على « رحيم » لأجلِ الفواصل .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

قوله تعالى : { قَدْ نرى } : « قد » هذه قالَ فيها بعضُهم : إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ ، وجَعَلَ ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر :
760 لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ ... مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
وقال الزمخشري : « قد نرى » : ربما نرى ، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر :
761 قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ
قال الشيخ : « وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ ، لأنه شَرَحَ » قد نرى « بربما نرى ، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه : ثم قال : » ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور . ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه لم تُوضَعْ للكثرةِ « قد » مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا ، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ « .
قوله : { فِي السمآء } : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنه المصدرُ وهو » تقلُّب « ، وفي » في « حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ . والثاني : أنَّها بمعنى » إلى « أي : إلى السماء ، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه ب » في « ، قال تعالى : { [ لاَ يَغُرَّنَّكَ ] تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] . والثاني من القولين : أنه » نرى « وحينئذ تكونُ » في « بمعنى » مِنْ « أي : قد نَرى مِن السماء ، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ . والثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من » وجهِك « ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه ، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه » وجهك « وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل : كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه .
قوله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، أي : فوالله لَنُوَلينَّكَ ، و » نُوَلِّي « يتعدَّى لاثنين : الأول الكاف والثاني » قبلةً « ، و » ترضاها « الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً ، قال الشيخ : » وهذا - يعني « فلنولينك » - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه : قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها .
قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد } : « وَلَّى » يتعدَّى لاثنين أحدُهما « وجهك » والثاني « شطرَ » ويجوز أن ينتصبَ « شطر » على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس ، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه ، والأولُ أوضحُ ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى .

والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، قال :
762 ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً ... وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ
وقال :
763 أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي ... صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ
وقال :
764 وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ ... هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا
وقال ابن أحمر :
765 تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ ... قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا
وقال :
766 وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو ... كِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال :
767 إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها ... وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ
كل ذلك بمعنى : نحو وتِلْقاء . ويقال : شَطَرَ : بَعُد ومنه : الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه ، يقال : شَطَر شُطوراً ، والشَّطيرُ : البعيدُ ومنه منزل شَطِير ، وشَطَر إليه أي أقبل . وقال الراغب : « وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر ، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار .
وقوله : { حَيْثُ مَا كُنْتُمْ } في » حيثما « هنا وجهان ، أظهرُهما : أنها شرطيةٌ ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ » ما « بعدها خلافاً للفراء ، ب » كنتم « ، في محلِّ جزم بها ، و » فولُّوا « جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم ، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] واعلم أنَّ » حيث « من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ . قال الشيخ : » وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها ، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ ، والإِضافةُ موضَّحةُ لِما أُضيف ، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ ، فإذا وُصِلَتْ ب « ما » زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها ، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ « .
والثاني : أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط ، والناصبُ له قولُه : » فَوَلُّوا « قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها » ما « وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ . وأصل وَلُّوا : وَلِّيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا . وقوله : » شَطْرَه « فيه القولان ، وهما : إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم .
قوله : { أَنَّهُ الحق } يُحْتمل أن تكونَ » أَنَّ « واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ ل » يَعْلَموْن « عند الجمهور ، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين ، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان .

وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها : يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه : « فولُّوا » . والثاني : على الشطر . والثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله « فَلَنُوَلِّينَّكَ » إلى الغَيْبة .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي : الحقُّ كائناً مِنْ ربهم . وقرىء : « عمَّا يعملون » بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون/ التفاتاً من خطابِهم بقولِه : « وجوهكم - كنتم » . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً .

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } : فيه قولان ، أحدُهما قولُ سيبويهِ وهو أنَّ اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و « إنْ » شرطيةٌ ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه ، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ ، و « تَبِعوا » وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، أي : ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي .
الثاني : وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن « إنْ » بمعنى « لو » ، ولذلك كانَتْ « ما » في الجوابِ ، فَجَعَلَ « ما تَبِعوا » جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو ، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ ب « ما » وحدَها ، بل لا بُدَّ من الفاءِ ، تقول : إن تَزُرْني فما أزورك ، ولا يجيز الفراء : « ما أزورك » بغير فاء . وقال ابن عطية : « وجاء جوابُ » لَئِنْ « كجوابِ لو ، وهي ضدُّها في أَنْ » لو « تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و » إنْ « تَطْلُب الاستقبالَ ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ ، لأنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه » قال الشيخ : « هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ ل » إنْ « وقولُه بعدَه : الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه ليسَ لإِنْ ، وتعليلُه بقولِه : » لأنَّ أحد الحرفين يَقَعُ موقعَ الآخرِ لا يَصْلُحُ علةً لكونِ « ما تَبِعوا » جواباً للقسمِ ، بل لكونِه جواباً لإِنْ ، وقوله : « قولَ سيبويه » ليس في كتابِ سيبويه ذلك ، إنما فيه أن « ما تَبِعوا » جوابُ القسمِ ، ووقعَ فيه الماضي موقعَ المستقبلِ ، قال سيبويه : « وقالوا : لَئِنْ فَعَلْتَ ما فَعَلَ يريد معنى ما هو فاعِلٌ وما يَفْعَلَ » .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ قولَه : « ما تَبِعُوا » فيه قولان ، أحدُهما : أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ . والثاني : أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو . وقال أبو البقاء : « ما تَبِعوا » أي : لا يتَّبعوا ، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ ، ودخلَتْ « ما » حَمْلاً على لفظِ الماضي ، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ ، وقال الفراء : إنْ هنا بمعنى لو « وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً ، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ .

قوله : { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } « ما » تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً ، فعلى الأولِ يكون « أنتَ » مرفوعاً بها ، و « بتابع » في محلِّ نصبٍ ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و « بتابعٍ » في محلِّ رفعٍ ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه ، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم . وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } من وجوهٍ أحدُها : كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ .
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين : إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً ، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في اللفظِ ، لأنَّ قبلَه { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } . وقُرِىء « بتابعِ قبلتِهم » بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان . واختُلِفَ في هذه الجملةِ : هل المرادُ بها النهيُ أي : لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع . والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً ، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت } كقولِه : « ولَئِنْ أَتَيْتَ » . وقولُه : « إنَّك » جوابُ القسمِ ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه ، قال الشيخ : « لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً ، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [ فيه ] ، لأنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها ، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً ، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم ، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له ، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً » .
و « إذَنْ » حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه ، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ : أن تكونَ صدراً ، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ وألاَّ يكونَ الفعلُ حالاً ، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ ، ولم تتأخَّرْ لِئَلاَّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي .
قال الشيخ : « وتحريرُ معنى » إذَنْ « صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها ، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ » قال : « والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين ، أحدُهما : أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك : أزورُك .

فتقول : إذاً أزورَك ، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة ، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ . الوجه الثاني : أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال ، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه ، وذلك ، نحو : « إنْ تأتني إذاً آتِكَ » ، و « واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ » فلو أُسْقِطَتْ « إذاً » لَفَهُمَ الارتباطُ ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو : « أزورك » فتقول : « إذاً أنا أكرمُك » ، وجاز توسُّطُها نحو : « أنا إذاً أكرمُك » ، وتأخُّرها . وإذا تقرَّر هذا فجاءت « إذاً » في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم ، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه « . انتهى كلامُه .
واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ ، وهي مركبةٌ من همزة وذال ونون ، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبوها الكُتَّاب على ذلك ، وهذا نهايةُ القولِ فيها . /
وجاء في هذا المكان { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } وقال قبلَ هذا : { بَعْدَ الذي جَآءَكَ } [ البقرة : 120 ] وفي الرعدَ : { بَعْدَ مَا جَآءَكَ } [ الرعد : 37 ] فلم يأتِ ب » من « الجارةِ إلاَّ هنا ، واختصَّ موضعاً ب » الذي « ، وموضِعَيْنِ ب » ما « ، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ » الذي « أَخَصُّ ، و » ما « أشدَّ إبهاماً ، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى ، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ ، وحيث أتى بلفظِ » ما « أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ ، أحدُهما : القِبلةُ ، والآخرُ : بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] . قال » وأما دخولُ « مِنْ » ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [ على ] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم ، والذي يقال في هذا : إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ } : فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها : أنَّه مرفوع بالابتداءِ ، والخبرُ وقوله « يَعْرفونه » . الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هم الذين آتيناهم . الثالث : النصبُ بإضمار أعني . الرابعُ : الجرُّ على البدلِ من « الظالمين » . الخامس : على الصفةِ للظالمين . السادس : النصبُ على البدلِ من { الذين أُوتُواْ الكتاب } في الآيةِ قبلَها .
قوله : « يَعْرفونه » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في « الذين آتيناهم » . الثاني : أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان ، أحدُهما : المفعولُ الأولُ لآتيناهم ، والثاني : المفعولُ الثاني وهو الكتاب ، لأنَّ في « يَعْرفُونه » ضميرين يعودان عليهما . والضمير في « يَعْرفونه » فيه أقوالٌ ، أحدُهما : أنه يعودُ على الحقِّ الذين هو التحوُّل . الثاني : على القرآن . الثالث : على العِلْم ، الرابع : على البيتِ الحرام ، الخامس : على النبي صلى الله عليه وسلم وبه بدأ الزمخشري ، واختاره الزجاج وغيرُه ، قالوا : وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه . قال الشيخ : « بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله : » قولِّ وجهَك « إلى الغيبة » .
قوله : { كَمَا يَعْرِفُونَ } الكافُ في محلِّ نَصْبٍ . إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ ، التقديرُ : يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم ، وهذا مذهبُ سيبويه ، وتقدَّم تحقيقُ هذا . و « ما » مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون ، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ « يكتمُون الحق » يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ ، وقيل : متعلَّقُ العلم هو ما على الكاتمِ من العقابِ ، أي : وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق ، فتكونُ إذ ذاكَ حالاً مبيِّنةً .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

قوله تعالى : { الحق مِن رَّبِّكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده ، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للعهدِ ، والإِشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه « يكتمون الحقَّ » أي : هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك ، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره . الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو الحقُّ من ربك ، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ . الثالث : أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : الحقُّ من ربِّك يعرفونه ، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من « الحق » ، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني .
وقرأ علي بن أبي طالب : { الحقَّ من ربك } نصباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم ، قاله الزمخشري الثاني : أن يكونَ منصوباً بإضمار « الزم » ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [ في ] قوله : « فلا تكونَنَّ » الثالث : أنه يكونَ منصوباً ب « يَعْلَمون » قبلَه . وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية ، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي : وهم يعلمونَه كائناً من ربك ، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو :
768 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه : نحو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] دونَ : لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه ، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه : « لا تكُنْ ظالماً » نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي : في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف : لا تَظْلِمْ ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام .
والمتراءُ : افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ ، ومنه المِراء قال :
769 فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه ... إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ
ومارَيْتُه : جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه ، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال : تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو : تجاوَروا ، واجتوروا . وقال الراغب : « المِرْيَةُ : التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك ، والامتراءُ والمُماراةُ : المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية ، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ » ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى ، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك ، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى :
770 تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... ن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون ، قال : « ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا : الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [ كأنهم ] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها » .

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } : جمهورُ القراء على تنوين « كل » ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و « وِجْهَةٌ » مبتدأُ مؤخرٌ ، واختُلِفَ في المضافِ إليه « كل » المحذوفِ فقيل : تقديرُه : ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان ، وقيل : ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ . وفي « وِجْهَة » قولان ، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه - : أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه ، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ . قال سيبويه « ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ : وِعْدَة ، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ : عِدَة ، والثاني : أنها مصدرٌ ، ويُعْزى للمازني ، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذِكْر حَذْفِ الواو من المصادر : » وقد أثبتوا فقالوا : وِجْهَة في الجِهة « ، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها ، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ إثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه ، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه : وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت : إنَّ » وِجْهَة « مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه . وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا .
قوله : { هُوَ مُوَلِّيهَا } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة ، واختُلِف في » هو « على قولين ، أحدَهما : أنه يعودُ على لفظِ » كل « / لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه ، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر : » مُوَلاَّها « على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي . والثاني : أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي : الله مُوَلِّي القبلةِ إياه ، أي ذلك الفريقُ .
وقرأ الجمهورُ : » مُوَلِّيها « على اسمُ فاعل ، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه ، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول ، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو » ها « العائدُ على الوجهة ، وقيل : على التوليةِ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ » هو « إلى الفريق ، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى ، وقرأ بعضُهم : » ولكلِّ وِجْهَةٍ « » بالإِضافة ، ويُعزى لابنِ عامر ، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها : - وهو قولُ الطبري - : أنها خطأ وهذا ليس بشيء ، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ .

والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء : أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ ، قال الزمخشري : « المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها ، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ ، كقولِك : لزيدٍ ضَرَبْتُ ، ولزيدٍ أبوه ضاربه .
قال الشيخ : وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ : لزيدٍ ضَرَبْتُه ، ولا : لزيدٍ أنا ضَاربُه ، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن ، وهما : إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً ، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً ، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه :
771 هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه ... والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أنَّ الضميرَ في » يدرسه « للمصدرِ ، أي : يدرس الدرسَ لا للقرآن ، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه . وأمَّا تمثيلُه بقوله : » لزيدٍ ضَرَبْتُ « فليس نظيرَ الآية لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره ، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال ، فتقدِّرَ عاملاً في » لكلِّ وِجْهةٍ « يفسِّره » مُولِّيها « لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى ، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ ، تقول : زيداً مررت به أي : لابست زيداً مررتُ به ، ولا يجوزُ : لزيدٍ مررتُ به ، قال تعالى : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] وقال :
772 - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً ، وأمَّا تمثيلُه بقولِه : لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي .
الثالث : أن » لكلَّ وجهةٍ « متعلِّقٌ بقوله : » فاستبقوا الخيراتِ « أي : فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به ، كما يُقَدَّمُ المفعولُ ، ذكرَه ابنُ عطية ، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ » لكلِّ وجهةٍ « في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها ، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو » مُوَلٍّ « وهو » ها « ، وتكون عائدةً على الطوائفِ ، ويكونُ التقديرُ : وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط ، و » مُوَلٍّ « مِمَّا يتعدَّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه . وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه ، وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل ب » مُوَلّ « ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقدير : اللهُ » مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها ، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة .

قوله : { فاستبقوا الخيرات } « الخيرات » منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ ، التقديرُ : إلى الخيرات ، كقول الراعي :
773 ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ ... سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ
أي : إلى سواكم ، وذلك لأنّ « استبق » : إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق ، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه .
والخَيْرَات جمع : خَيْرة وفيهما احتمالان : أحدُهما : أن تكونَ مخففةً من « خَيِّرَة » بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو : مَيْت في مَيّت . والثاني : أن تكونَ غيرَ مخففةٍ ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة ، يقال : رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل . والسَّبْقُ : الوصولُ إلى الشيءِ أولاً ، وأصلُه التقدُّمُ في السير ، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم .
قوله : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } « أين » اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و « ما » مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز ، وهي ظرفُ مكانٍ ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ ، و « تكونوا » مجزومٌ بها على الشرطِ ، وهو الناصبُ لها ، و « يأتِ » جوابُها ، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

قولُه تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ } : « مِنْ حيثُ » متعلِّقٌ بقوله : « فولِّ » و « خرجْتَ » في محلِّ جَرٍّ بإضافة « حيث » إليها ، وقرأ عبد الله « حيثَ » بالفتح ، وقد تقدَّم أنها إحدى اللغات ، ولا تكونُ هنا شرطيةً ، لعدم زيادةِ « ما » ، والهاءُ في قولِه : « وإنَّه لَلْحَقُّ » الكلامُ فيها كالكلامِ عليها فيما تقدَّم . وقرىء « تَعْلَمون » بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدَّم .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ } : هذه لامُ كي بعدها « أَنْ » المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ ، و « لا » نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ } [ الأنفال : 73 ] ، و « أَنْ » هنا واجبةُ الإِظهارِ ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِه : « فَوَلُّوا وجوهَكم » . وقال أبو البقاء : متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك لئلاَّ ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، و « للناس » خبرٌ ل « يكون » مُقَدَّمٌ على اسمها ، وهو « حُجَّةٌ » و « عليكم » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً ، ولا يتعلَّقُ ب « حُجَّة » لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه ، وهو ممتنعٌ ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ ، وقد قالَ بعضُهم : « يتعلَّق بحُجَّة » وهو ضعيفٌ . ويجوزُ أن يكونَ « عليكم » خبراً ليكون ، ويتعلَّقُ « للناسِ » ب « يكون » على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه ، وذكَّرِ الفعلَ في قوله « يكونَ »؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي ، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً .
قوله : { إِلاَّ الذين } قرأ الجمهور « إلاَّ » بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح . فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون/ في تأويلها على أربعةِ أقوال أظهرُها : - وهو اختيارُ الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه استثناء متصلٌ ، قال الزمخشري : « ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ : ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم ، وأَطلْق على قولِهم » حجة « لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة . وقال ابن عطية : » المعنى أنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة ، وسمَّاها حُجَّة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم « . الثاني : انه استثناءٌ منقطعٌ فيُقَدَّر ب » لكن « عند البصريين وببل عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ : لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ . ومثارُ الخلافِ هو : هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً . الثالث : - وهو قولُ أبي عبيدة - أن » إلاَّ « بمعنى الواو العاطفةِ ، وجَعَلَ من ذلك قولَه :
774 وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان
وقولِ الآخر :
775 ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا

تقديرُ ذلك عنده : « ولا الذين ظلموا - والفرقدان - ودار مروان » وقد خَطَّأه النحاةُ في ذلك كالزجاج وغيره . الرابع : أنَّ « إلا » بمعنى بَعْدَ ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قولَ الله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] ، وقولَه تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] تقديرُه : بعد الموتةِ وبعدَ ما قد سَلَف ، وهذا من أفسدِ الأقوالِ وأنْكَرِها وإنما ذكرْتُه لغرضِ التنبيه على ضَعْفِه .
و « الذين » في محلِّ نصب على الاستثناءِ ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً . وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في « عليكم » ، والتقديرُ : لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم ، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة ، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ : { إِلاَّ عَلَى الذين } كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك .
وإمَّا قراءةُ ابن عباس ف « ألا » للاستفتاح ، وفي محلِّ « الذين » حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه : « فلا تَخْشَوْهم » وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً ، كأنه قيل : مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم ، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال ، أي : لاَ تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم . الثاني : أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةَ الفاءِ . الثالث - نقله ابن عطية - : أن يكونُ منصوباً على الإِغراء .
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } وجعل « إلى » حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع ، والتقديرُ : لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين ، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ « إلا الذين » بتخفيف « إلا » فاعتقَدَ ذلك فيها ، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم « . و » منهم « في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ويحتمل أَنْ تكونَ » مِنْ « للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان .
قوله : { وَلأُتِمَّ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : أنه معطوفٌ على قوله » لئلا يكونَ « كأن المعنى : » عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ ، فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين ، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى . الثاني : أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ ، فكأنه قيل : واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم . الثالث : أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه : « ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم . الرابع : وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها ، والواوُ زائدة ، تقديرُه : واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي . وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ للمضارعِ فينسبكُ منها مصدرٌ مجرورٌ باللامِ ، وتقدَّم تحقيقُه ، و » عليكم « فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلقَ بأُتِمَّ ، والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي ، أي : كائنةً عليكم .

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

قوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } : في الكافِ قولان ، أظهرُهما : أنَّها للتشبيه . والثاني : أنها للتعليل ، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ . واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنها متعلقةٌ بقوله : « ولأتِمَّ » تقديرُه : ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم ، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا ، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 138 ] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 12 ] ، [ ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى ] : ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم . الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون ، تقديرُه : يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ ، أي : اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا . الثالث : - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] ، أي : جَعْلاً مثلَ إرسالِنا . وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ . الرابع : أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو « اذكروني » ، قال الزمخشري : « كما ذَكَرْتُكُم بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي : اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال ، ثم صار : مثلَ ذكرِ إرسالِنا ، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك » قال أبو البقاء : « كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط » يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها . [ وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله ] لاشتغالِه بجوابِه و « اذكروني » قد أُجيب بقولِه : « أذكرْكم » فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه ، قال « ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو : إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ ، فيكونُ » كما « و » فأذكركم « جوابين للأمرِ ، والأول أفصحُ وأشهرُ ، وتقول : » كما أحسنت إليك فأكرمني « فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له » .
وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ : « لا نعلم خلافاً في جوازِه » وأمَّا قولُه : « إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ » وجعلُه « كما » جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب . قال الشيخ : وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها « . انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك .

الخامس : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من « نعمتي » والتقديرُ : ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً ، أي : مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ .
وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها ، وهو قولُه : « فاذكروني » أي : اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً ، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ ، وجَعَلَ بعضُهم منه : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقولَ الآخر :
776 لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ي : لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ .
وفي « ما » المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه . والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، و « رسولاً » بدلٌ منه ، والتقديرُ : كالذي أرسلناه رسولا ، وهذا بعيدٌ جداً ، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ « ما » على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث : أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه :
777 لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ ... كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ
ولا حاجةَ إلى هذا ، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاَّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المتقدِّم . و « منكم » في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل « رسولاً » وكذلك ما بعدَه من الجمل ، ويُحْتمل أن تكونَ الجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله : « منكم » ، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على/ التجدُّدِ والحدوثِ ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له ، وهنا قَدَّم التزكيةَ على التعليمِ ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه ، وهناك المرادُ بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها ، وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } بعد قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه .

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

وقوله تعالى : { واشكروا لِي } : تقدَّم أنَّ « شكر » يتعدَّى تارةً بنفسِ وتارةً بحرفِ جَرٍّ على حدٍّ سواءٍ على الصحيحِ ، وقال بعضُهم : إذا قلت : شكرْتُ لزيدٍ فمعناه شَكَرْتُ لزيدٍ صَنيعَه ، فَجَعَلُوه متعدِّياً لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجَرّ ، ولذلك فسَّر الزمخشري هذا الموضعَ بقولِه : « واشكُروا لي ما أَنْعَمْتُ به عليكم » . وقال ابن عطية : « واشكروا لي واشكروني بمعنى واحد ، و » لي « أفصحُ وأشهرُ مع الشكر ، ومعناه نعمتي وأيادِيَّ ، وكذلك إذا قُلْتَ : شَكَرْتُك ، فالمعنى شَكَرْتُ لك صنيعك وذَكَرْتُه ، فَحَذَفَ المضافَ ، إذ معنى الشكرِ ذِكْرُ اليدِ وذِكْرُ مُسْدِيها معاً ، فما حُذِفَ مِنْ ذلك فهو اختصارٌ لدلالةِ ما بقي على ما حُذِفَ » .

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } : خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : لا تقولوا : هم أمواتٌ ، وكذلك « أحياءٌ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : بل هم أحياءٌ ، وقد راعى لفظَ « مَنْ » مرةً فأَفْرَدَ في قولِه « يُقْتَلُ » ، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه { أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } واللامُ هنا للعِلَّة ، ولا تكونُ للتبليغ ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا . والجملةُ من قولِه : « هم أمواتٌ » في محلِّ نصب بالقول لأنها محكيَّة به ، وأما { بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ } فيتحمل وجهين ، أحدهما ألاَّ يكونَ له محلٌّ مِنَ الإِعرابِ ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ ، ويُرَجِّحُه قولُه : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم . والثاني : أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه ، بل قولوا هم أحياء ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى ، وحُذِفَ مفعولُ « يشعرون » « لِفَهْمِ المعنى أي : بحياتِهم .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } : هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ . وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وما فيه من الخلاف .
قوله : « بشيءٍ » متعلِّقٌ بقولِه : « لَنَبْلُوَنَّكَ » والباءُ معناها الإِلصاقُ ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ « شيء » ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد . وقرأ الضحاك بن مزاحم « بأشياء » على الجمعِ ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه : وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا ، وقولُه « من الخوف » في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قوله : { وَنَقْصٍ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على « شيء » والمعنى : بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ ، والثاني : أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ ، أي : وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال ، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ .
قوله : { مِّنَ الأموال } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص ، وهو يتعدَّى إلى واحد ، وقد حُذِفَ ، أي : ونقصِ شيء مِنْ كذا . الثاني : أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لذلك المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا . الثالث : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ ، والتقديرُ : ونقصٍ شيئاً كائناً من كذا ، ذكره أبو البقاء ، ويكونُ معنى « مِنْ » على هذين الوجهين التبعيضَ . الرابع : أن يكونَ في محلّ جَرٍّ صفةً ل « نَقْص » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً ، أي : نقصٍ كائنٍ من كذا ، وتكونُ « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . الخامس : أن تكونَ « مِنْ » زائدةً عند الأخفش ، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ .

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

قوله تعالى : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين ، وهو الأصحُّ . الثاني : أن يكونَ منصوباً على المدحِ . الثالث : أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : هم الذين ، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ . الرابعُ : أن يكونَ مبتدأ ، والجملةُ الشرطيةُ من « إذا » وجوابِها صلته ، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } .

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

قوله تعالى : { أولئك } : مبتدأٌ ، و « صلواتٌ » مبتدأٌ ثانٍ ، و « عليهم » خبرُه مقدَّمٌ عليه ، والجملةُ خبرُ قولِه « أولئك » ، ويجوزُ أَنْ تكونَ « صلوات » فاعلاً بقوله : « عليهم » . قال أبو البقاء : « لأنه قد قَوِيَ بوقوعِهِ خبراً . والجملةُ من قولِه : » أولئك « وما بعدَه خبرُ » الذين « على أحِد الأوجه المتقدِّمِة ، أو لا محلَّ لها على غيرِه من الأوجه ، و » قالوا « هو العاملُ في » إذا « لأنه جوابُها ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك ، وتقدَّم أنها هل تقتضي التكرارَ أم لا؟
قوله : { إِنَّا للَّهِ } » إنَّ واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، والأصل : إنَّنا بثلاث نوناتٍ ، فَحُذِفَتِ الأخيرةُ من إنَّ لا الأولى ، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها ، ولأنها طَرَفٌ والأطرافُ أَوْلَى بالحَذْفِ ، لا يُقال : « إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانَتْ مخففةً ، والمخففةُ لا تعملُ على الأفصح فكانَ ينبغي أن تُلْغَى فينفصلَ الضميرُ المرفوعُ حينئذٍ إذ لا عمل لها فيه ، فدلَّ عَدَمُ ذلك على أنَّ المحذوفَ النونُ الأولى » لأنَّ هذا الحَذْفَ حَذْفٌ لتوالي الأمثالِ لا ذاك الحَذْفُ المعهود في « إنَّ » و « أصابَتْهم مصيبةٌ » من التجانسِ المغاير ، إذ إحدى كلمتي المادةِ اسمٌ والأخرى فِعْلٌ ، ومثلُه : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] { وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] قوله : { وَرَحْمَةٌ } عَطْفٌ على الصلاة وإن كانَتْ بمعناها ، فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ لاختلافِ اللفظين كقولِه :
778 وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله :
779 أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
قولُه : { مِّن رَّبِّهِمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لصلوات ، و « مِنْ » للابتداءِ ، فهو في محلِّ رفعٍ أي : صلواتٌ كائنةٌ من ربهم . والثاني : أن يتعلَّقَ بما تَضَمَنَّه قولُه « عليهم » من الفعل إذا جَعَلْناه رافعاً لصلوات رَفْعَ الفاعلِ ، فعلى الأولِ يكونُ قد حَذَفَ الصفةَ بعد « رحمة » أي : ورحمةٌ منه ، وعلى الثاني لا يَحْتاج إلى ذلك . وقولُه { وأولئك هُمُ المهتدون } نظيرُ : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] .

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

قوله تعالى : { إِنَّ الصفا } : « الصَّفا » اسمُها ، و { مِن شَعَآئِرِ الله } خبرُها . قال أبو البقاء : « وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ ، تقديرُه : » طوافُ الصفا ، أو سَعْيُ الصفا « . وألفُ الصَّفا عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً ، قالوا : صَفَوان ، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ ، وهو الخُلُوصُ ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل : الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو : صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة ، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا : صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ ، وأصْفاء ، والأصل : صُفُوو وأَصْفاو ، فَقُلِبَتِ الواوان في » صُفُوو « ياءَين ، والواوُ في أصفاء همزةً ككساء وبابه . والمَرْوَةُ : الحِجارة الصِّغارُ ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل : الصُلبة ، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف ، وقيل البيض وقيل : السُّود ، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين . والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم ، وجمعها : مَرْوٌ ، كقوله :
780 وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ ... عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ
والشعائر : جمع شَعيرَة وهي العلامةُ ، وقيل : جمع شِعارة ، والرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ ، والأجود » شعائِر « بالهمزِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب . /
قوله : { فَمَنْ حَجَّ البيت } » مَنْ « شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ ، و » حَجَّ « في محلِّ جَزْمٍ ، و » البيتَ « نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ ، والجوابُ قولُه : » فلا جُناحَ « . والحَجُّ لغةً : القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى ، قال :
781 لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ
والاعتمارُ : الزيارةُ ، وقيل : مطلقُ القصدِ ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان .
وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } الظاهرُ أنَّ » عليه « خبرُ » لا « ، و » أَنْ يَطَّوَّفَ « أصلُه : في أَنْ يَطَّوَّفَ ، فَحُذِف حرفُ الجر ، فيجيء في محلِّها القولان ، النصبُ أو الجرُّ . والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه » بهما « . وأجازوا بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها : أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه » فلا جُناحَ « على أن يكونَ خبرُ » لا « محذوفاً ، وقدَّره أبو البقاء : » فَلاَ جُنَاحَ في الحج « ويُبْتدَأ بقولِه : { عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ } فيكونُ » عليه « خبراً مقدماً و » أَنْ يطَّوَّفَ « في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ ، قال أبو البقاء هنا : » والجيدُ أن يكونَ « عليه » في هذا الوجهِ خبراً ، و « أَنْ يَطَّوَّفَ » مبتدأً « .
ومنها : أن يكونَ { عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ } من بابِ الإِغراءِ ، فيكونَ » أَنْ يَطَّوَّفَ « في محلِّ نصبٍ كقولك ، عليك زيداً ، أي : الزَمْه ، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ ، حكى سيبويه : » عليه رجلاً لَيْسَني « ، قال : وهو شاذ .

ومنها : أَنَّ « أَنْ يطَّوَّفَ » في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل « لا » والتقديرُ : فلا جُناحَ الطوافُ بهما . ومنها : « أَنْ يطَّوَّفَ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في « عليه » ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ ، والتقديرُ : فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما . وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما ، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ .
وقراءةُ الجمهور « أَنْ يَطَّوَّفَ » بغير لا . وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب : « أَنْ لا يَطَّوَّفَ » قالوا : وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله . وفي هذه القراءةِ احتمالان ، أحدُهما : أنَّها زائدة كهي في قولِه : { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقوله :
782 وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين . والثاني : أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه ، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } [ البقرة : 230 ] ، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً .
وقرأ الجمهورُ : « يَطَّوَّفَ » بتشديد الطاءِ والواوِ ، والأصلُ : يَتَطَوَّف ، وماضيه كان أصله : « تَطَوَّفَ » ، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه : يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة ، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ .
وقرأ أبو السَّمَّال : « يَطُوف » مخففاً ، من طاف يَطُوف وهي سهلة . وقرأ ابن عباس : « يَطَّاف » بتشديد الطاء مع الألف وأصله : يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه : أطْتَوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً ، ووَقَعَتْ تاءُ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا : أطَّلَب يَطَّلِبُ ، والأصل : اطْتَلَب يَطْتَلِبُ ، فصار : اطَّاف وجاء مضارعُه عليه : يَطَّاف . هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ فيها الطاءُ الأولى . وقال ابن عطية : « فجاء يَطْتَاف أُدْغِمَت التاءُ - بعد الإِسكانِ - في الطاءِ على مَذْهَبِ مَنْ أَجازَ إدغامَ الثاني في الأولِ كما جاءَ في » مُدَّكِر « ، ومَنْ لم يُجِزْ ذلك قال : قُلَبَتِ التاءُ طاءٍ ثم أُدْغِمت الطاءُ في الطاء ، وفي هذا نظرٌ لأنَّ الأصليَّ أُدْغِم في الزائد وذلك ضعيفٌ » .
وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين ، أحدُهما : كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له ، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني . والثاني : أنه قال كما جاء في « مُدَّكِر » لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال : مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا ، وسيأتي تحقيقُ ذلك .

ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال ، والأصلُ : اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً ، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم : اعتاد اعتياداً ، والأصل : اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك .
قوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قرأ حمزةُ والكسائي « تَطَوعَّ » هنا وفي الآية الآتية بعدها : يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً ، وقرأه الباقون : « تَطَوَّع » فعلاً ماضياً . فأمَّا على قراءتهما فتكونُ « مَنْ » شرطيةً ليس إلاَّ ، لعملِها الجزمَ . وأصل يَطَّوَّع . يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في « يطّوّف » وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه . وقولُه : « فإنَّ الله » جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي : فإنَّ الله شاكرٌ له . وقال أبو البقاء : « وإذا جَعَلْتَ » مَنْ « شرطاً لم يكنْ في الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ لأنَّ ضميرَ » مَنْ « في تطوَّع » وهذا يخالِفُ ما قَدَّمْتُ لك نَقْلَه عن النحويين من أنه إذا كان أداةُ الشرطِ اسماً لَزِمَ أن يكونَ في الجوابِ ضميرٌ يعودُ عليهِ وتقدَّم تحقيقُ ذلك .
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً ، والكلامُ فيها كما تقدَّم . والثاني : أن تكونَ موصولةً و « تَطَوَّعَ » صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و « فإنَّ الله » خبرُه ، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط ، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي : شاكرٌ له ، وانتصابُ « خيراً » على أحدِ أوجهِ : إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : تَطَوَّع بخيرٍ ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه :
783 تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو غيرُ مقيسٍ . الثاني : أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي : تطُّوعاً خيراً . والثالثُ : أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً ، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ ، أو على تضمينِ « تَطَوَّعَ » ، فعلاً يتعدَّى ، أي : مَنْ فَعَلَ [ خيراً متطوِّعاً به ] . وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } وجهين ، أحدُهما : الجزمُ على القولِ بكونِ « مَنْ » شرطيةً والثاني : الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

قوله تعالى : { مَآ أَنزَلْنَا } : مفعول بيكتمون ، و « أَنْزلنا » صلتُه وعائدُه محذوفٌ ، أي أنزلناه . و « من البيناتِ » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها حالٌ من ما الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً من البينات . الثاني : أَنْ يتعلَّق بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء ، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدَّ الفعلُ إلى ضميرٍ ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ ، والعاملُ فيه « أنزلنا » لأنه عاملٌ في صاحبها .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى ، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين ، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين . والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على « ما » الموصولةِ . وقرأ الجمهور « بَيَّنَّاه » ، وقرأ طلحة بن مصرف « بَيَّنه » على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ . و « الناس » متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه .
وقوله : { فِي الكتاب } يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ بقوله : « بَيَّنَّاه » . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في « بَيَّنَّاه » أي : بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب .
قوله : { أولئك يَلعَنُهُمُ } يجوز في « أولئك » وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مبتدأً و « يلعنُهم » خبرُه والجملةُ خبرُ « إنَّ الذين » / . والثاني : أن يكونَ بدلاً من « الذين » و « يَلْعَنُهم » الخبرُ لأنَّ قولَه : « ويَلْعَنُهم اللاعنون » يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو « يلعنهم الله » وأَنْ يكونَ مستأنفاً . وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دلالةً على التجدُّد والحُدوث ، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا ، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم . وفي قوله « يَلْعَنُهم اللهُ » التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال : نلعنهم لقوله : « أنزلنا » ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً ، والمستثنى منه هو الضميرُ في « يلعنهم » . والثاني : أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعِنوا قبل أن يتوبوا ، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة ، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا ، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء .
قوله : { وَمَاتُوا } هذه واوُ الحال ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا : إنَّ حذفَها شاذ .
وقوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ } « أولئك » مبتدأ ، و « عليهم لعنةُ اللهِ » مبتدأً وخبرٌ ، خبرٌ عن أولئك ، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن « إنَّ » . ويجوزُ في « لَعنةُ » ، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن « أولئك » وتقدَّم تحريرُه في { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] قوله : { والملائكة } الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله . وقرأ الحسن بالرفع : { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } ، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى ، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ إليه فموضعُه رفعٌ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ ، والتقدير : أَنْ لَعَنَهم ، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ ، فَعَطَفَ « الملائكةُ » على هذا التقدير ، قال الشيخ : « وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له ، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ ، هذا إذا سَلَّمْنا أن » لعنة « تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج ، ألا ترى أنَّ قولَه : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] ليس المعنى على تقديرِ : أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين ، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث » ونقلَ عن سيبويه أن قولَك : « هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً » بنصب « عمراً » أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال : « المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح » .
ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه ، الأولُ : أَنْ تكونَ « الملائكةُ » مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي : وتَلْعَنُهم الملائكة ، كما نَصَبَ سيبويه « عمراً » في قولك : « ضاربُ زيدٍ وعمراً » بفعلٍ محذوفٍ . الثاني : أن تكونَ الملائكةُ عطفاً على « لعنة » بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ : ولَعْنَةُ الملائكةِ ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه . الثالث : أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره : والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم « . وهذه أوجهٌ متكلفة ، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر :
784 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ
برفع » الفُضُلُ « وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك ، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ . و » أجمعين « من ألفاظِ التأكيدِ المعنوي بمنزلة » كل « .

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

قوله تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ من الضمير في « عليهم » ، قوله « لا يُخَفَّفُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مستأنفاً . الثاني : أن يكونَ حالاً من الضمير في « خالدين » فيكونَ حالان متداخلان . الثالث : أن يكونَ حالاً ثانيةً من الضميرِ في « عليهم » ، وذلك عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ . وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجه بناءً منه على مذهبِه في ذلك .

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

قوله تعالى : { وإلهكم إله وَاحِدٌ } : خبرٌ المبتدأ ، و « واحدٌ » صفةٌ ، وهو الخبرُ في الحقيقةِ لأنه محطُّ الفائدةِ ، ألا ترى أنه لو اقْتُصِر على ما قبلَه لم يُفِدْ وهذا يُشْبِهُ الحال الموطِّئةَ نحو : مررتُ بزيد رجلاً صالحاً ، فرجلاً حالٌ وليست مقصودةً ، إنما المقصودُ وَصْفُها .
قوله : { إِلاَّ هُوَ } رفعُ « هو » على أنَّه بدلٌ من اسم « لا » على المحلِّ ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ « لا » وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ولا يجوزُ أن يكونَ « هو » خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي : لا إله لنا ، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ « لا » المبنيَّ معها اسمُها عاملةٌ في الخبر ، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ « هو » خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ .
واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ « إله » قال : « لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ : » لا رجلَ لا زيدَ « ، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من » اله « ولا مِنْ » رجل « في قولك » لا رجلَ إلا زيدٌ ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا : « لا رجلَ إلا زيدٌ » فالتقدير : لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد ، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من « رجل » ، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا ، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع ، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [ لا ] ، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم « لا » لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه « . وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا : هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ ، وإنما كان يُشْكِلُ لو أجازوا إبدالَه من اسمِ » لا « على اللفظِ وهم لم يُجِيزوا ذلك لعدمِ إمكانِ تكريرِ العاملِ ، ولذلك مَنَعوا وجهَ البدلِ في قولِهم { لا إله إلا اللهَ } وجعلوه انتصاباً على الاستثناء ، وأجازوه في قولك : » لا رجلَ في الدارِ إلا صاحباً لك « لأنه يمكنُ فيه تكريرُ العاملِ .
قوله : { الرحمن الرحيم } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن يكونَ بدلاً من » هو « بدلَ ظاهرٍ من مضمر ، إلاَّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ ، ويمكن .

الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد/ ولا سيما عند مَنْ يجعلُ « الرحمنُ » علماً ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة . الثاني : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو الرحمنُ ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ ب « هو » مرتين . الثالث : أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه : « وإلهُكم » أَخْبر عنه بقولِه : « إله واحد » ، وبقولِه : « لا إله إلا هو » ، وبقولِه : « الرحمن الرحيم » ، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً ، الرابع : أن يكونَ صفةً لقولِه : « هو » وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين : أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ صفةَ مدحٍ ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب . ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً ل « هو » هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قوله تعالى : { الليل والنهار } : « الليل » قيل : هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال : ليلة وليل كتمرة وتمر ، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل ، بل الليالي جمع لَيْلة ، وهو جمعٌ غريب ، ولذلك قالوا : هو جَمْع ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر :
785 في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ ... ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل ، والكيكة : البيضة . وأمّا النهار فقال الراغب : « هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس » ، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار ، وقال ثعلب والنضر بن شميل : « هو من طُلوع الشمس » زاد النضر « ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار » . وقال الزجاجِ : « أولُ النهار دُرورُ الشمسِ » ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة ، وقيل : « لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر ، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال :
786 لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ ... ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع ، ومنه : » النهار « لاتساعِ ضوئِه عند قوله { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] .
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله ، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف ، ومنه : { جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، وقال زهير :
787 بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ
وقال آخر :
788 ولها بالماطِرُون إذا ... أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا
وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ ، قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولين ، وقيل : النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ : وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها ، فيكونُ اليومُ تابعاً لها . وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له ، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه ، وعلى الثاني جاءَ على الأصل .
قوله : { والفلك } عطفٌ على » خَلْقِ « المجرورِ ب » في « لا على » السماواتِ « المجرورةِ بالإِضافة ، والفُلْك [ يكون واحداً كقولِه : { فِي الفلك المشحون } [ الشعراء : 119 ] وجمعاً ] كقوله : { فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] فإذا أُريد به ، الجَمعُ ففيه أقوالٌ ، أحدُها : قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ - » أنه جمعُ تكسير « فإنْ قيل : جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما ، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في » حُمُر « و » نُدُب « وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل .

وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا ، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين الواحدِ والجمع نحو : « جُنُب » و « شُلُل » أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا : « فُلْكان » عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه : ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان ، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص ، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب ، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال ، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان .
الثاني : مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب . الثالث : أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد ، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً .
وإذا أُفْرِدَ « فُلْك » فهو مذكرٌ قال تعالى : { فِي الفلك المشحون } قالوا : - ومنهم أبو البقاء - : ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله : { والفلك التي تَجْرِي } فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ . وأصلُه : من الدوران ومنه : « فَلَك السماء » لدورَانِ النجومِ فيه ، وفَلْكَةُ المِغْزَل ، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها . وجاءَ بصلةِ « التي » فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ ، وقوله « في البحر » توكيدٌ ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه ، فهو كقولِه : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قوله : « بما يَنْفَعُ » في « ما » قولان « أحدُهما : أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وعلى هذا الباءُ للحال أي : تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ . الثاني : أنها حرفيةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي : تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها .
قوله : { مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ } : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي : أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدَها : أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه . والثاني : أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ . والثالثُ : أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه : » من السماء « بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ .
فإنْ قيل : كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ ، لا تقول : أخذت من الدراهم من الدنانير . وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ » مِنْ « الثانية » للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوزُ ذلك [ فيه ] كما تقدَّم . ويجوز أَنْ تتعلَّقَ « مِنْ » الأولى بمحذوفٍ على أنها حال : إمّا من الموصولِ نفسِه وهو « ما » أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي : وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء .

قوله : { فَأَحْيَا بِهِ } عَطَفَ « أحيا » على « أنزل » الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات . و « به » متعلق « بأحيا ، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة ، وكلُّ هذا مجازٌ ، فإنه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في » به « يعودُ على الموصول . /
قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } يجوزُ في » بَثَّ « وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على » أنزل « داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه » فَأَحْيا « عطفٌ على » أنزل « فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد ، وكأنه قيل : » وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا . هذا نصُّ الزمخشري . والثاني : أنه عطفٌ على « أحيا » .
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها ، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ « فيها » يعودُ على الأرض ، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه : وبث به فيها ، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ : أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما ، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي ، قال : « وهو جائز شائع في كلامهم ، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه ، وأنشدَ شاهداً عليه :
789 ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ ... وهواه أطاع يَسْتويانِ
أي : والذي أطاع ، وقوله :
790 أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ... ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ
أي : ومَنْ ينصرُه .
وقوله :
791 فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ ... بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ
أي : ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] أي : وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه : { والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] . ثم قال الشيخ : » وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ « - يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال : » وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ :
792 وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ
أي : عَلْقم عليه ، وقوله :
793 لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني ... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه
أي : أَصْعَدْتِني به .
قوله : { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } يجوز في « كل » ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها : أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ « مِنْ » تبعيضيةً . الثاني : أن تكون « مِنْ » زائدةً على مذهب الأخفش ، و « كلَّ دابة » مفعول به .

ل « بَثَّ » أيضاً والثالث : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ « بَثَّ » المحذوفِ إذا قلنا إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه : وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي « مِنْ » حينئذ وجهان؛ أحدهما : أن تكونَ للبيان . والثاني : أن تكونَ للتبعيض .
وقال أبو البقاء : « ومفعولُ » بَثَّ « محذوفٌ » تقديرُه : وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ « ، وظاهرُ هذا أنَّ { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته .
والبَثُّ : نَشْرٌ وتفريق ، قال :
794 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ
ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي ، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا : » نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه « بالوجهين . والدابَّةُ : اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة :
795 كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ ... صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ
وبقول الأعشى :
796 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ
وبقوله : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير .
قوله : { وَتَصْرِيفِ الرياح } » تصريف « مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل ، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : وتصريفِ الرياحِ السحابَ ، فإنها تسوقُ السحابَ ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ ، والفاعلُ محذوفٌ أي : وتصريفِ اللهِ الريحَ . والرياحُ : جمعُ ريح جمعَ تكسير ، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ : رِوْح ، لأنه من راح يروح ، وإنما قُلِبَتْ في » ريح « لسكونها وانكسار ما قبلها ، وفي » رياح « لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ ، وهو إبدالٌ مطردٌ ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا : أَرْواح قال :
797 أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ ... فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثلُه :
798 لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه ... أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال » الأرياح « في شعرِه ، فقال له أبو حاتم : » إن الأرياح لا تجوزُ « فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح . فقال أبو حاتم : هذا خلافُ ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ورَجَعَ . قال الشيخ : » وفي محفوظي قديماً أنَّ « الأرياح » جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، والأصلُ : أَعْواد لأنه من عاد يَعُود ، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ « . قلت : ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح ، كما قالوا : التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد ، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ .

قال ابنُ عطية : « وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه : { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ ، وفي الحديث : » الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً « لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب » . انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها . وإنما الذي يقال : إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما ، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ .
وقرأ هنا « الريح » بالإِفراد حمزةُ والكسائي ، والباقون بالجمع ، فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها : جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك ، وإفرادُها على إرادة الجنس .
والسحابُ : اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ ، سُمِّي بذلك لانسحابِه ، كما قيل له : حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو ، ذكر ذلك أبو علي ، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله : « المُسَخَّر » كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله : { سَحَاباً ثِقَالاً } [ الأعراف : 57 ] ، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } / [ الحاقة : 7 ] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان : التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى .
والتسخيرُ : التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ . وقال الراغب : « هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه » .
قوله : { بَيْنَ السمآء } في « بين » قولان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : « المُسخَّرِ »؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير . والثاني : أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً بين السماء و « لآياتٍ » اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر ، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه .
وقوله : { لِّقَوْمٍ } في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه « يَعْقِلون » الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

قوله تعالى : { مَن يَتَّخِذُ } : « مَنْ » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه ، ويجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكون موصولةً . الثاني : أن تكونَ موصوفةً ، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها ، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ ، أي : فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في « يتَّخذ » حَمْلاً على لفظِ « مَنْ » .
قوله : { مِن دُونِ الله } متعلِّقٌ بيتَّخذ . والمرادُ بدون هنا : غَيْر ، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى « غير » مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت : « اتخذتُ من دونِك صديقاً » أصلُه : اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً ، فهو ظرفٌ مجازيٌّ . وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه ، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً ، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ . و « يتَّخِذُ » يَفْتَعِلُ من الأخْذِ ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو : أَنْداداً « . وقد تقدَّم الكلامُ على » أنداداً أيضاً واشتقاقه .
قوله : { يُحِبُّونَهُمْ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً ل « مَنْ » في أحدِ وجهَيْها ، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في « يتَّخِذُ » . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً ، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم ، والمرادُ بهم الأصنامُ ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم ، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم . الثالث : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في « يَتَّخِذ » ، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في « يتَّخِذُ » ، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم .
قوله : { كَحُبِّ الله } الكافُ في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ . والحُبُّ : إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً ، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً : أصبْتُ حبة قلبِه نحو : كَبِدْتُه . وأَحْبَبْتُه : جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه ، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال : أَحْبَبْتُه فهو محبوب ، ومُحَبّ قليلٌ كقوله :
799 ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه ، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعَّف وشَذَّ كسرُه ، ومحبوب أكثر من مُحَبّ ، ومُحِبّ أكثر من حابّ ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه ، وقال :
800 - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ

والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبه والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله ، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين : حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ .
وقال ابن عطية : « حُبّ » مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه : كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ « . انتهى ، وقوله » للفاعل المضمر « يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو : » كُمْ « أو » هِمْ « ، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم ، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه .
وقال الزمخشري : » كحُبِّ اللهِ : كتعظيمِ اللهِ ، والخُضوعُ له ، أي : كما يُحَبُّ اللهُ ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ « . انتهى . أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ : أعني الجوازَ مطلقاً . والثاني : المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ . والثالث : التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو : عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في » حُبّ « أن يُبْنى للمفعولِ ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة : » نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن « برفعِ » ذو « عطفاً على محلّ » الأبتر « لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي : أن يُقْتَلَ الأبترُ . ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا .
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم ، وقال : » ليس بشيء « ، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين ، أي : يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله ، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ » . وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ .
وقرأ أبو رجاء : « يَحُبُّونهم » من « حَبَّ » ثلاثياً ، و « أَحَبَّ » أكثرُ ، وفي المثل : « مَنْ حَبَّ طَبَّ » .
قولُه : { أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } المفضلُ عليه محذوفٌ ، وهم المتخذون الأنداد ، أي : أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم ، وقال أبو البقاء : « ما يتعلَّقُ به » أشدّ « محذوفٌ تقديرُه : » أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ « والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم . ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره .

وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن « حُبَّ » مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل ، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه . فأمَّا قولُهم : « ما أحبَّه إلي » فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين . و « حباً » تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه : حُبُّهم للهِ أشَدُّ .
قوله : { وَلَوْ يَرَى الذين } جوابُ لو محذوفٌ ، واختُلِفَ في تقديره ، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة : قرأ ابنُ عامر ونافع : « ولو ترى » بتاءِ الخطابِ ، و « أن القوة » و « أن الله بفتحِهما ، وقرأ ابنُ عامر : » إذ يُرَوْن « بضم الياء ، والباقون بفتحِهما . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون : » ولو يرى « بياء الغيبة ، » أنَّ القوة « و » أنَّ الله « بفتحِهما ، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر : » ولو تَرَى « بالخطاب ، » إن القوة « و » إن الله « بكسرهما ، وقرأت طائفةٌ : » ولو يرى « بياء الغيبة ، » إن القوة « و » إن الله « بكسرهما . إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو ، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه : » أن القوة « ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه : » وأنَّ الله شديدُ العذابِ « / وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد . أمَّا مَنْ قَدَّره قبل » أنَّ القوةَ « فيكونُ » أنَّ القوةَ « معمولاً لذلك الجوابِ . وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ : لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً ، والمرادُ بهذا الخطابِ : إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ . وعلى قراءةِ الكسرِ في » إنّ « يكونُ التقديرُ : لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً ، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم ، أو يكونُ التقديرُ : لاستعظَمت حالَهم ، وإنما كُسِرَتْ » إنَّ « لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك : لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان ، فقولك : أنه مكرِمٌ للضِّيفان » عِلَّةٌ لقولِك « أَحْسَنَ إليك » .
وقال ابنُ عطية : « تقديرُه : ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً » وناقشه الشيخ فقال : « كان ينبغي أن يقولَ : في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف » إذ « وهو الوقتُ لا الحالُ ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ » لو « غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي » لو « ، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً ، وهو نظيرُ قولِك : » يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه « فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد » انتهى .

وتقديرُه على قراءةِ « يرى » بالغيبة : لعلموا أنَّ القوةَ ، إنْ كان فاعل « يرى » « الذين ظلموا » ، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ : لَعَلِمَ أنَّ القوة .
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه : شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة « ترى » بالخطابِ : لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم ، ويكونُ فتحُ « أنَّ » على أنه مفعولٌ من أجلِه ، أي : لأنَّ القوةَ لله جميعاً ، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو : « أكرِمْ زيداً إنه عالم ، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ » ، أو تكونُ جملةً معترضةً بين « لو » وجوابِها المحذوفِ . وتقديرُه على قراءةِ « ولو يرى » بالغيبة إن كان فاعلُ « يرى » ضميرَ السامعِ : لاستعظَمَ ذلك ، وإنْ كان فاعلُه « الذين » كان التقديرُ : لاستعظَموا ما حَلَّ بهم ، ويكونُ فتحُ « أنَّ » على أنها معمولةٌ ليرى ، على أن يكونَ الفاعلُ « الذين ظلموا » ، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ « أنَّ » مسدَّ مفعولهما ، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ .
وأمَّا قراءةُ « يرى الذين » بالغَيبة وكسرِ « إنَّ » و « إنَّ » فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي : لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه « الذين » : لقالوا : ويكونُ مفعولُ « يرى » محذوفاً أي : لو يرى حالهم . ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ : لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين ، وإنما كُسِرتا استئنافاً ، وحَذْفُ جوابِ « لو » شائعٌ مستفيضٌ ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن . وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر ، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه ، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً . قال امرؤ القيس :
801 وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
وقال النابغة :
802 فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ
ودَخَلَتْ « إذ » وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعِه ، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] ، وكما قال الأشتر :
803 بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى ... ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
فأوقع « بَقَّيْتُ » و « انحَرَفْتُ » - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه : « إنْ لم أشُنَّ » .

وقيل : أَوْقَعَ « إذ » موقع « إذا » وقيل : زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا ، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه ، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا ، وهو في القرآن كثيرٌ .
وقراءةُ ابنِ عامر « يُرَوْنَ العذاب » مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين ، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو ، والثاني هو « العذابُ » ، وقراءةُ الباقين واضحةٌ .
وقال الراغبُ : « قوله » : « أنَّ القوة » بدلٌ من « الذين » قال : « وهو ضعيفٌ » قال الشيخ : « ويصيرُ المعنى : ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا » . وقال في « المنتخب » : « قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء » ، قال : « لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم » وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان .
قوله : { جَمِيعاً } حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً ، لأنَّ تقديره : « أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً » ، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة ، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها ، و « أنَّ » لا تعملُ في الحال ، وهو مُشْكلٌ ، فإنَّهم أجازوا في « ليت » أن تعمل في الحال ، وكذا « كأنَّ » لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في « أنَّ » لِما فيها من معنى التأكيد . و « جميع » في الأصل : فَعِيل من الجَمْعِ ، وكأنه اسمُ جمعٍ ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد ، قال تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ، وتارةً بالجمعِ ، قال تعالى : { جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] ، ويَنْتَصِبُ حالاً ، ويؤكد به بمعنى « كل » ، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ « كل » ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان ، تقول : « جاء القومُ جميعُهم » لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين « جاؤوا معاً » .

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

قوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ } : في « إذْ » ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها بدلٌ من « إذ يَرَوْن » . الثاني : أنها منصوبةٌ بقولِه « شديدُ العذاب » الثالث : - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً . و « تَبَرَّأ » في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . والتبرُّؤُ : الخلوصُ والانفصال ، ومنه : بَرِئْتُ من الدَّيْن ، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه : { إلى بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] . والجمهورُ على تقديم « اتُّبِعوا » مبنياً للمفعول على « اتَّبعوا » مبنياً للفاعل . وقرأ مجاهد بالعكس ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ .
قوله : { وَرَأَوُاْ العذاب } في هذه الجملة وجهانِ : أظهرهُما : أنها عطفٌ على ما قبلها ، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف ، تقديرُه : « إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا ، وإذْ رَأَوا » . والثاني : أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ ، و « قد » معها مضمرةٌ ، والعاملُ في هذه الحالِ : « تَبَرَّأ » أي : تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ .
قوله : { وَتَقَطَّعَتْ } يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ « تَقَطَّعَتْ » على « تَبَرَّأ » ، ويكون قوله : « ورأوا » حالاً ، وهذا اختيار الزمخشري ، أو عَطَفَتْ على « رأوا »؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين ، أو حالٌ للضميرِ في « رَأوا »؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا « ورأوا » حالاً .
والباءُ في « بهم » فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهُما : أنَّها للحالِ أي : تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو : « خَرَج بثيابه » . الثاني : أن تكونَ للتعديةِ ، أي : قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ : تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ « أي : فَرَّقَتْهم . الثالث : أن تكون للسببية ، أي : تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة . الرابع : أن تكونَ بمعنى » عن « ، أي : تَقَطَّعت عنهم .
والأسبابُ : الوَصْلاتُ بينهم ، وهي مجازٌ ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء : عيناً كان أو معنىً ، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ ، قال زهير :
804 ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه ... ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ : البديع هو الترصيعُ/ ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ ، وهو هنا في موضعَيْن ، أحدُهما { اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ : من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني : { وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } وهو كثيرٌ في القرآنِ { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 73 ] .

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

قوله تعالى { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته « لو » ، ولذلك أُجيبت بجواب « ليت » الذي في قوله : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز « ، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه : لتبرَّأنا ونحوُ ذلك . وقيل : » لو « في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمني ، والفعلُ منصوبٌ ب » أَنْ « مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو » كَرَّة « والتقديرُ : لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله :
805 لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : » فنتبرأ « منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه : لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ » فَحَلَّ « كرة » إلى قولِه « أَنْ نَرْجِعَ » لأنه بمعناه وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه ، ويتركون الاسمَ على حالِه ، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو : « لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك » فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ . والقائل بأنّ « لو » التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر :
806 فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ ... فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه :
807 بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً ... وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ « أنَّ » تُفْتَحُ بعد « لو » كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه :
808 يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ ... حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي : أنَّ النحاة قالوا : « كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي » ، [ و ] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال : وإلا في جوابِ التمني ب « لو » ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار « أَنْ » بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له ، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ . قال الشيخ : « والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت ، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت » لو « فرع الفرع ، فَضَعُفَ ذلك فيها .
قوله : » كما « الكافُ موضعُها نصبٌ : إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم ، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي : نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم ، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ .

وقال ابنُ عطية : « الكافُ في قوله » كما « في موضعِ نصبٍ على النعت : إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه : متبرئين كما » . قال الشيخ : « وأمّاً قولُه » لحال تقديرُه متبرئين كما « فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ » ما « مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال ، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ » قال : « وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً ، وهي خلافُ الأصلِ ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه » .
قوله : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ } في هذه الكافِ قولان ، أحدُهما : أنَّ موضعَها نصبٌ : إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ ، أي : يُريهم رؤيةً كذلك ، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك ، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك ، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا . والثاني : أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء . قال الشيخ : « وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل » . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال ، والتقدير : مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ ، وقيل : الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ .
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ بصريةً ، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة ، أولُهُما الضميرُ والثاني « أعمالَهم » و « حسراتٍ » على هذا حالٌ من « أعمالهم » . والثاني : أن تكون قلبية ، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها « حسرات » و « عليهم » يجوزُ فيه وجهان : أن يتعلَّق ب « حسراتٍ » لأنَّ « يَحْسَر » يُعَدَّى بعلى ، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : على تفريطهم . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات ، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ .
والكَرَّةُ : العَوْدَةُ ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً ، قال :
809 أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها
والحسرةُ : شِدَّةُ النَّدَمِ ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ ، واشتقاقُها : إمَّا من قولِهم : بعيرٌ حَسِير ، أي : منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

قولُه تعالى : { مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } : « حلالاً » فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَن يكونَ مفعولاً ب « كُلوا » ، و « مِنْ » على هذا فيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تتعلَّق بكُلوا ، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ . والثاني : أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من « حلالاً » وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً ، ويكونُ معنى « مِنْ » التبعيض . الثاني : أن يكونَ انتصابُ « حلالاً » على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديرُه : شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي ، واستبعدَه ابنُ عطية ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ ، والذي يَظْهَرُ في بُعْدِه أنَّ « حلالاً » ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه ، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ . الثالثُ : أَنْ ينتصِبَ « حلالاً » على أنه حالٌ من « ما » بمعنى الذي ، أي : كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً . الرابع : أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : أكلاً حلالاً ، ويكون مفعولُ « كُلوا » محذوفاً ، و « ما في الأرض » صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ ، ذكره أبو البقاء ، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي ، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألاَّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون « مِنْ » مزيدةً على مذهب الأخفش تقديرُه : كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً . الخامس : أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على « ما » قاله ابنُ عطية ، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً .
و « طيباً » فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن يكونَ صفةً لحلالاً ، أمَّا على القول بأنَّ « مِنْ » للابتداءِ متعلِّقة ب « كُلوا » فهو واضحُ ، وأمّا على القولِ بأنّ « مِما في الأرض » حالٌ من « حلالاً » ، فقال أبو البقاء : « ولكنَّ موضعَها بعد الجارِّ والمجرور ، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ » وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع ، تقول : « جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً » بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ : « جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ » كان في جوازه نظرٌ . الثاني : أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي : أكلاً طيباً . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ في « كُلوا » تقديرُه : مستطيبين ، قاله ابنُ عطية ، قال الشيخُ : « وهذا فاسدٌ في اللفظ/ والمعنى ، أمّا اللفظُ فلأنَّ » الطيِّب « اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال : طيبين ، وليس » طيب « مصدراً فيقال : إنما لم يُجْمَع لذلك .

وأما المعنى فإنَّ « طيباً » مغايرٌ لمعنى « مستطيبين » لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ ، تقول : طاب لزيدٍ الطعامُ ، ولا تقولُ : « طابَ زيدٌ الطعام » بمعنى استطابه « .
والحَلالُ : المأذونُ فيه ، ضدُّ الحرام الممنوع منه . [ يُقال : ] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ ، ويقال : حَلال وحِلُّ ، كحرام وحَرَم ، وهو في الأصل مصدرٌ ، ويقالُ : » حلٌِ بِلٌّ « على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ . وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها ، وقرىء ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] بالوجهين .
قوله : { خُطُواتِ } قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص : خُطُوات بضم الخاء والطاء ، وباقي السبعة بسكون الطاءِ ، وقرأ أبو السَّمَّال » خُطَوات « بفتحها ، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ » خَطَوات « بفتح الخاء والطاء ، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز .
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ » فَعْلَة « الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب - : السكونُ وهو الأصلُ ، والإِتباع ، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً . وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء ، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح : أنَّ المفتوحَ مصدرٌ ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى ، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف ، وقيل : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء .
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان ، أحدُهما : - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ ، و » خُطُؤات « جمع » خِطْأَة « إِنْ سُمِعَ ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا ، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ . والثاني : أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه .
قوله : { إِنَّهُ لَكُمْ } قال أبو البقاء : » إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ بحالِه ، وهو أبلغُ من الفتح ، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ : لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم ، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا ، ومثلُه :
810 لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ « انتهى . يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك ، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ » إنَّ « المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ : قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة ، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة ، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ .

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

قوله تعالى : { وَأَن تَقُولُواْ } : عطفٌ على قولِه « بالسوءِ » تقديرُه : « وبأنْ تقولوا » فيحتملُ موضعُها الجرَ والنصبَ بحسب قولي الخليلِ وسيبويه . و « الفحشاءُ » مصدرٌ من الفُحْش ، كالبأساء من البأْسِ . والفُحْشُ قُبْحُ المنظر ، قال امرؤ القيس :
811 - وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
وتُوُسِّع فيه حتى صارَ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مستقبَحٍ معنىً كان أو عيناً .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

قولُه تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } : الضميرُ في « لهم » فيه أربعةُ أقوال ، أحدُها : أنه يعود على « مَنْ » في قولِهِ : { مَن يَتَّخِذُ } [ البقرة : 165 ] وهذا بعيدٌ . الثاني : أنه يعودُ على العرب الكفَّار لأنَّ هذا حالُهم . الثالث : أنه يعودُ على اليهودِ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافِهِم . الرابعُ : أنه يعودُ على الناسِ في قولِهِ : { يَا أَيُّهَا الناس } [ البقرة : 168 ] ، قاله الطبري ، وهو ظاهرٌ ، إلاَّ أَنَّ ذلك يكونُ من بابِ الالتفات من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، وحكمتُه أنهم أُبْرِزوا في صورةِ الغائبِ الذي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ ، حيث دُعِيَ إلى شريعةِ اللَّهِ والنورِ والهدى فأجابَ باتِّباع شريعةِ أبيه .
قوله : { بَلْ نَتَّبِعُ } بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه : لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا ، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ : « اتَّبِعُوا » لفسادِهِ . وقال أبو البقاء : « بل » هنا للإِضرابِ عن الأول ، أي : لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ ، وعلى هذا فيقالُ : كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية ، وإلاَّ في قولهِ : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق } [ السجدة : 3 ] فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله : « أم يقولون افتراه » كان إضرابَ انتقالٍ ، وإن اعتبرْتَ « افتراه » وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ .
قوله : { أَلْفَيْنَا } في « ألفى » هنا قولان ، أحدُهما : أنها متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ ، لأنها بمعنى « وَجَدَ » التي بمعنى أصابَ ، فعلى هذا يكونُ « عليه » متعلِّقاً بقولِهِ « أَلْفينَا » . والثاني : أنها متعدِّية إلى اثنين ، أولُهما « آباءَنا » والثاني : « عليه »؛ فَقُدِّمَ على الأولِ . وقال أبو البقاء : « هي محتملةٌ للأمرين ، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين » قال أبو البقاء : « ولامُ أَلْفَيْنَا واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً » يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى .
قوله : { أَوَلَوْ } الهمزةُ للإِنكار ، وأمَّا الواو ففيها قولان ، أحدُهما : - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ . وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ : هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري ، ولذلك قَدَّرَه هنا : أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب ، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال : « والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ ب » لو « في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ ، فإذا قال : » اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك « فالمعنى : وإنْ أَحسَنَ إليكَ ، وكذلك : » أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ « » رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ « المعنى فيهما : » وإنْ « ، وتجيء » لو « هنا تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسبُ ما قبلها ، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعلُ ، ولتدلُّ على أن المرادَ بذلك وجودُ الفعلِ في كل حالٍ ، حتى في هذه الحالِ التي لا تناسبُ الفعلَ ، ولذلك لا يجوزُ : » اضربْ زيداً ولو أساء إليكَ « ولا : » أَعْطُوا السائل ولو كان محتاجاً « ، فإذا تقرَّر هذا فالواوُ في » ولو « في الأمثلةِ التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدرةٍ ، والمعطوف على الحالِ حالٌ ، فَصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حاليةً على حالٍ مقدرةٍ ، وصَحَّ أن يقالَ إنها للعطف من حيث ذلك العطفُ ، والمعنى - والله أعلمُ - أنها إنكارُ اتِّباعِ آبائِهِم في كلِّ حالٍ حتى في الحالة التي تناسِبُ أنْ يَتَّبِعُوهُمْ فيها وهي تَلَبُّسهم بعدمِ العَقْلِ والهدايةِ ، ولذلك لا يجوزُ حذف هذه الواوِ الداخلةِ على » لو « إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها ، وإنْ كانتِ الجملةُ الحاليةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحالِ ، لأنَّ مجيئَها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييدِ الجملةِ السابقةِ بهذه الحال .

فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ ، حتى هذه الحالُ ، فهما معنيانِ مختلفانِ ، ولذلك ظهر الفرقُ بين : « أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك » وبين « أكْرمْ زيداً ولو جَفَاك » انتهى . وهو كلامٌ حَسَنٌ/ وجوابُ « لو » محذوفٌ تقديرُه : لاتَّبعوهم ، وقدَّره أبو البقاء : « أفكانوا يَتَّبِعونهم » وهو تفسيرُ معنىً ، لأن « لو » لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام .
قوله : { شَيْئاً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ به ، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي ، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى : لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ . والثاني : أن ينتصبَ على المصدريةِ ، أي : لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ . وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ .

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } : اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً ، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً ، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلاَّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ .
وقد اختلفُوا في ذلك : فمنهم مَنْ قال : معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ . ومنهم مَنْ قالَ : هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به . ومنهم مَنْ قال : هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به . فهذه أربعةُ أقوالٍ .
فعلى القولِ الأولِ : يكون التقديرُ : « وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً » . وقيلَ : يكون التقديرُ : ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ .
قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - « إلاَّ أَنَّ قولَه { إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً » . قال الشيخ : « ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ ، والصنَمُ لا يسمع ، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ » قال : « ونحن نقول : التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ لا في خصوصياتِ المدعوِّ ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به » .
وقيل في هذا القولِ : - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى ، فالمعنى : بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها ، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ « يسمع » ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ ، ويكونُ العائدُ على « ما » الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى ، تقديرُه : بما لا يَسْمَعُ منه ، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما ، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم . وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ « يَسْمَعُ » ضميراً يعود على « ما » الموصولةِ ، وهو المنعوقُ به . وقيل : المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون ، والمعنى : مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم ، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم . فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ « مثل » مبتدأً و « كمثلِ » خبرَه ، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ .
وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل : معناه : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني .

وقيل التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ ، وقال قائلُ هذا : كما تقولون : « دَخَلَ الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي » . وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ .
وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ : وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك ، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول . قال الزمشخري : « ويجوز أن يُرادَ ب » ما لا يَسْمَعُ « الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ » وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ « ما » على العقلاءِ ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه « ما » .
وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه : « مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به » واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه ، فقائلٌ : هو تفسير معنىً ، وقيل : تفسيرُ إعرابٍ ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان : حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ « داعيهم » وقد أثبتَ نظيره في الثاني ، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ ، وقد أثبت نظيرَه في الأول ، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه ، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها . وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ الصناعي : وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بالمنعوقِ به . وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر ، وابن خروف والشلوبين ، قالوا : العربُ تستحسنُ هذا ، وهو من بديعِ كلامِها ، ومثلُه قولُه : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [ النمل : 12 ] تقديرُهُ : وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ ، فَحذَف « تَدْخُلْ » لدلالة « تَخْرُجْ » وَحَذَفَ « وَأَخْرِجْهَا » لدلالةِ : « وَأَدْخِلْ » ، قالوا : ومثلُهُ قولُه :
812 وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان ، إذ هما حركةٌ وسكونٌ ، ولكنَّ تقديرَه : إني إذا ذكرتُكِ عَراني انتفاضٌ ثم أفترُ ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة ، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه .

وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به ، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى ، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ . قال الراغب : « فلما شَبَّه قصةَ الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به » .
والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى .
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ « مثلُ الذين » مبتدأٌ ، و « كمثل الذي » خبرُه : إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ ، أي : مَثَلُ داعي الذينَ ، أو من الثاني : أي : كمثلِ بهائِمِ الذي ، أو على حَذْفَيْنِ : حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني ، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله . وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .
والنَّعِيقُ : دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم ، قال :
813 فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما ... مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا
يقال : نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها ، والمصدرُ : النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ ، وأمّا « نَعَقَ الغرابُ » فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ/ .
قوله : { إِلاَّ دُعَآءً } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ « يَسْمَعُ » ولم يأخُذْ مفعولَه . وزعم بعضُهم أنَّ « إلاَّ » زائدةٌ ، فليسَ من الاستثناء في شيء . وهذا قولٌ مردودٌ ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ « إلاَّ » في قولِهِ :
814 حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا
فقد ردَّ الناسُ عليه ، ولم يقبلوا قوله . وفي البيت كلامٌ تقدَّم .
وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً : وهو قولهُ : { لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء ، وكأنَّه قيل : لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً ، وإنما المعنى : لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم ، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها ، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ ، فكأنه قيل : ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ . وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ .
وهنا سؤالٌ آخرُ : وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك ، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ . ذكر ذلك عليُّ بن عيسى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

قولُه تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ } : مفعولُ « كُلوا » محذوفٌ ، أي : كُلوا رزقَكم . وفي « مِنْ » حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ ب « كلوا » . والثاني : أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ ، أي : كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم . ويجوزُ في رأيِ الأخفش أن تكونَ « مِنْ » زائدةً في المفعولِ به ، أي : كلوا طيباتِ ما رزقناكم . و « إنْ كُنْتُمْ » شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ ، أي : فاشكروا له . وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى « إذ » ضعيفٌ . و « إياه » مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ ، وانفصالُهُ واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلا في ضرورةٍ كقولِهِ :
815 إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا ... وفي قولِهِ : { واشكروا للَّهِ } التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال : « واشكرونا » .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } : الجمهُور قرؤوا « حَرَّم » مشدَّد مبنياً للفاعِلِ ، « الميتة » نصباً ، على أنَّ « ما » كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ ، وفاعلُ « حَرَّم » ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى . و « الميتةَ » مفعولٌ به . وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها . وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ ، وهو أن تكونَ « ما » موصولةً ، و « حَرَّمَ » صلتها ، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، تقديرُهُ : حَرَّمه ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ « إنَّ » و « الميتةُ » خبرُها .
وقرأ أبو جعفر : « حُرَّم » مبنياً للمفعولِ ، فتحتملُ « ما » في هذه القراءةِ وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ « ما » مهيِّئَةً ، و « الميتةُ » مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني : أن تكون موصولةً ، فمفعولُ « حَرَّمَ » القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على « ما » الموصولةِ ، و « الميتةُ » خبرُ « إنَّ » .
وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي : « حَرُمَ » بضمِّ الراء مخففةً ، و « الميتةُ » رفعاً « و » ما « تحتملُ الوجهين أيضاً ، فتكونُ مهيئةً ، و » الميتةُ « فاعلٌ بحَرُم ، أو موصولةً ، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على » ما « ، وهي اسمُ » إنَّ « ، و » الميتةُ « خبرُها .
والجمهورُ على تخفيفِ » المَيْتَة « في جميع القرآنِ ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ » المَيْت « مخفَّفٌ من » الميِّت « وأن أصلَه : مَيْوِت ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ الآية : 27 ] في آلِ عمران . ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن » المَيْت « بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه ، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ . وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه ، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ ، ثم قال : » ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] . وأمَّا قولُه :
816 - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ ... فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ
[ فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء ] .
وأصل « مَيِّتة » : مَيْوِتَة ، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها ، وقال الكوفيون : أصلُه : مَوِيت ، ووزنُه فَعيل .
واللحمُ معروفٌ ، وجمعه لُحوم ولُحْمان ، يُقال : لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم ، أي : غَلُظَ ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم : اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ ، أي : أَطعَمَهم اللحمَ ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ .

والخنزير حيوانٌ معروفٌ ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب . والثاني : أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي : ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر . وقيل : الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ ، يقال : هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ .
قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ } « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، ومَحَلُّهما : إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على « الميِّتة » ، والرفعُ : إمَّا على خبر إنَّ ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ . و « أُهِلَّ » مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في « به » ، والضميرُ يعودُ على « ما » ، والباءُ بمعنى « في » . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : في ذَبْحِه ، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ . والإِهلالُ : مصدرُ أَهَلَّ أي : صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه : الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه ، واستهَلَّ الصبيُّ . قال ابن أحمر :
817 يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها ... كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ
قال النابغة :
818 أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها ... بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ
وقال :
819 تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ
قوله : { فَمَنِ اضطر } في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، فعلى الأولِ يكونُ « اضطُرَّ » في محلِّ جَزْم بها .
وقوله : { فلا إِثْمَ } جوابُ الشرطِ ، والفاءُ فيه لازمةٌ . وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه : « اضطُّرَّ » من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً ، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ . ومحلُّ { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني .
والجمهورُ على « اضْطُرَّ » بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها ، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل : « اضْطُرِرَ » بكسرِ الراءِ الأولى ، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها . وقرأ ابن محيصن : « اطُّرَّ » بإدغام الضادِ في الطاء . وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } [ البقرة : 126 ] .
وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون « مَنْ » على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث . وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو : { وَلَقَدِ استهزىء } [ الأنعام : 10 ] { قُلِ ادعوا } [ الإسراء : 110 ] قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ . إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في { أو } [ المزمل : 3 ] و { قل } [ 110 : الإسراء ] فضمَّهما ، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو : { مَحْظُوراً انظر } [ 20-21 : الإسراء ] ، واختُلف عنه في : { بِرَحْمَةٍ ادخلوا } [ الأعراف : 49 ] ، واختُلف عنه في : { خَبِيثَةٍ اجتثت } [ إبراهيم : 26 ] ، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى .
قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } نصبٌ على الحالِ ، واختُلِفَ في صاحبها ، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في « اضطُرَّ » ، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه : « اضطُرَّ » ، قالا : تقديرُه : فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ .

قال الشيخ « ولا يتعيَّن ما قالاه ، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه : { غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهرُ والأَولى ، لأنَّ في تقديره قبل » غيرَ باغ « فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : » غيرَ باغ « .
و » عادٍ « اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه ، والأصلُ : عادِوٌ ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو . وهذا هو الصحيحُ ، وفيه قولٌ ثانٍ : أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ : عادِو ، فأُعِلَّ بما تقدَّم ، ووزنُه : فالِع ، كقولهم : شاكٍ في شائِك من الشوكة ، وهارٍ والأصل هائر ، لأنه من هار يَهُور ، قال أبو البقاء : » ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ « غير » جاز « يعني فكان يقال : ولا عادياً .
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو : { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما ، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم . وضابطُ محلِّ اختلافهم : كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً ، نحو : » فَمَنِ اضطُرَّ « { فَمَنِ اضطُرَّ } { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } [ المزمل : 3 ] { وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ } [ يوسف : 31 ] { قُلِ ادعوا الله } [ الإسراء : 110 ] { أَنِ اعبدوا } [ المائدة : 117 ] { وَلَقَدِ استهزىء } [ الأنعام : 10 ] » محظوراً انظر « : وفُهِم من قولي » كلمتين « الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو : { إِنِ الحكم } [ الأنعام : 57 ] فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة . ومِنْ قولي : » ضمةً لازمةً « الاحترازُ من نحو : { أَنِ امشوا } [ ص : 26 ] فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع .
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما : وهما : » قُل ادْعُوا « » أو انْقُصْ منه « ، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو : » محظوراً نظر « ، واختلف عنه في لفظتين : { خَبِيثَةٍ اجتثت } [ إبراهيم : 26 ] { بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة } [ الأعراف : 49 ] / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

قوله تعالى : { مِنَ الكتاب } : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه العائدُ على الموصولِ ، تقديرُه : أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ ، فالعاملُ فيه « أَنْزَلَ » ، والثاني : أنه الموصولُ نفسه ، فالعاملُ في الحالِ « يكتمون » .
قوله : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } الضميرُ في « به » يُحْتَمَلُ أن يعودَ على « ما » الموصولةِ ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه : « يكتمون » وأَنْ يعودَ على الكتابِ ، أظهرها أوَّلُها ، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ ، أي : يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل .
قوله : { إِلاَّ النار } استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه ، وهذا من مجاز الكلام ، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم : « أكل فلانٌ الدمَ » يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ ، قال :
820 فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً ... لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ ... رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقال :
821 أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ ... بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال :
822 يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : ثمن إكاف .
وقوله : { فِي بُطُونِهِمْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أَنْ يتعلَّقَ بقولِه : « يأكلون » فهو ظرفٌ له . قال أبو البقاء : « وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم ، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النارِ . قال أبو البقاء : » والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم ، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك ، والتقدير ، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال : « وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً ، و » في بطونِهم « حالاً من أو صفةً له ، أي : في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ » إلا النار « منصوباً على الاستثناءِ التام ، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ . إلا أنه قال بعد ذلك » وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ . والثالثُ : أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول « كُلوا » محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

قوله تعالى : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ } : في « ما » هذه خمسةُ أقوالٍ ، أحدها : - وهو قولُ سيبويه والجمهور - أنها نكرةٌ تامةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ ، وأنَّ معناها التعجب ، فإذا قلت : ما أحسنَ زيداً ، فمعناه : شيءٌ صَيَّر زيداً حسناً . والثاني : - وإليه ذهب الفراء - أنَّها استفهاميةٌ صَحِبها معنى التعجب ، نحو : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والثالث : - ويُعْزَى للأخفش - أنها موصولةٌ . والرابعُ : - ويُعْزَى له أيضاً - أنها نكرةٌ موصوفةٌ . وهي على الأقوالِ الأربعةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، وخبرُها على القولين الأوَّلين الجملةُ الفعليةُ بعدها ، وعلى قولَيْ الأخفش يكون الخبرُ محذوفاً ، فإنَّ الجملةَ بعدها إمَّا صلةٌ أو صفةٌ . وكذلك اختلفوا في « أَفْعل » الواقع بعدَها أهو اسمٌ - وهو قولُ الكوفيين - أم فعلٌ؟ وهو الصحيحُ . ويترتبُ على هذا الخلافِ خلافٌ في نَصْبِ الاسمِ بعدَه : هل هو مفعولٌ به أو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به . ولهذا المذاهبِ دلائلُ واعتراضاتُ وأجوبةٌ ليس هذا موضوعَها .
والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها ، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى . ومعنى « على النار » [ أي ] على عَمَل أهلِ النارِ ، وهذا من مجازِ الكلام .
الخامس : أنَّها نافيةٌ ، أي : فما أصبرَهم اللهُ على النار ، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله } : اختلفوا في محلِّ « ذلك من الإِعراب . فقيل : رفعٌ ، وقيل : نصبٌ . والقائلون بأنه رفعٌ اختلفوا على ثلاثةِ أقوال ، أحدُهما : أنه فاعلٌ بفعل محذوفٍ ، أي : وَجَبَ لهم ذلك . والثاني : أنَّ » ذلك « مبتدأٌ ، و » بأنَّ الله « خبرُه ، أي : ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أَنْزَل اللهُ في القرآنِ من استحقاقِ عذابِ الكافر . والثالث : أنه خبرُ والمبتدأ محذوفٌ ، أي الأمرُ ذلك ، والإِشارةُ إلى العذابِ ، ومَنْ قاله بأنه نصبٌ قدَّره . فَعَلْنا ذلك ، والباءُ متعلقةٌ بذلك المحذوفِ ومعناها السببيةٌ .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله } : قرأ الجمهور برفع « البر » ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه . فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ « ليس » ، و « أن تُوَلُّوا » خبرها في تأويلِ مصدرٍ ، أي : ليس البرُّ توليتكم . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه . وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و « أن تُوَلُّوا » اسمها في تأويلِ مصدرٍ . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام ، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به ، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ . وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال : لأنها تُشْبه « ما » الحجازية ، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر :
823 سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم ... وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر :
824 أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله : « بأن تُوَلُّوا » بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ « ليس » كثيراً .
وقوله : { قِبَلَ } منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله « تُوَلُّوا » ، وحقيقةُ قولك : « زيدٌ قِبَلك » : أي في المكانِ الذي قبلك فيه ، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى « عند » نحو : « قِبَل زيدٍ دَيْنٌ » أي : عندَه دَيْنٌ .
قوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ « البِرَّ » اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ ، والأصلُ : بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة « فَطِن » ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها ، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان ، كأنه قيل : ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن . الثاني : أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه : « ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن » . الثالث : أن يكونَ الحذفُ من الثاني ، أي : ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن ، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه ، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى ، ونظيرُ ذلك : « ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف » ولا يناسِبُ « ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف » . الرابع : أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو : « رجلٌ عَدْلٌ » . ويُحكى عن المبردِ : « لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ : » ولكنَّ البَرَّ « بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن » البَرَّ « اسم فاعل تقول : بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل .

الخامس : أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو : « رجل عَدْل » أي عادل ، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو : « أقائماً وقد قعد الناس » في قولٍ ، وهذا رأيُ الكوفيين .
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل ، وأن أصلَه بارٌّ ، فجُعل « بِرَّاً » ك « سِرّ » ، وأصلُه : سارٌّ ، وربٌّ أصله رابٌّ . وقد تقدَّم ذلك .
وجَعَلَ الفراء « مَنْ آمَنَ » واقعاً موقِعَ « الإِيمان » فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه ، كأنه قال : « ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله » . قال : « والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد :
825 لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ ، والمعنى : لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى .
وقرأ نافع وابن عامر : » ولكنْ البِرُّ « هنا وفيما بعد بتخفيف لكن ، وبرفع » البرُّ « ، والباقون بالتشديد ولنصب ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } [ البقرة : 102 ] ، وقرىء : » ولكنَّ البارَّ « بالألف وهي تقوِّي أنَّ » البِرَّ « بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ .
وَوَحَّد » الكتابَ « لفظاً والمرادُ به الجمعُ ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ ، أو أرادَ به الجنسَ ، أو أراد به القرآنَ ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ .
قوله : { على حُبِّهِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، العاملُ في » آتى « ، أي : آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه . والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم ، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد ، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ . أظهرُها : أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه . الثاني : أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله : » آتى « أي : على حُبِّ الإِيتاء ، وهذا بعيدٌ من حيث المعنى . أمّا من حيث اللفظُ . فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل . وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير :
826 تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً ... كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ
والثالث : أن يعودَ على الله تعالى ، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ/ المُؤتي . وقيل : هو ضمير المؤتَوْن . أي : حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه ، وليس بذاك .

و « ذي القربى » على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط ، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه . الرابع : أن يعودَ على « مَنْ آمن » ، وهو المُؤْتِي للمال ، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً ، أي : « حُبِّه المال » ، وأن يكونَ « ذوي القربى » ، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله .
قال ابن عطية : « ويجيء قولُه : » على حُبِّه « اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ » . قال الشيخ : « فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد ، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها ، وهذا مفردٌ وله محلٌّ ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين ، وهما » المال « و » ذوي « فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ » .
قوله : { ذَوِي } فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى ، وهل هو الأولُ و « المالَ » هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام ، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني : أنه منصوبٌ ب « حُبِّه » على أنَّ الضميرَ يعودُ على « مَنْ آمن » كما تقدَّم .
قوله : { واليتامى } ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على « ذوي » . وقال بعضُهم : « هو عطفٌ على » القُرْبى « ، أي : آتى ذوي اليتامى ، أي : أولياءَهم ، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ » ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء ، يقال : « أتيتُ السلطانُ الخراجَ » وإنما أعطيتُ أعوانَهُ .
و « ابن السبيل » اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [ به ] الجمعُ ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ .
قوله : { وَفِي الرقاب } متعلِّقٌ بآتى . وفيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ ضَمَّنَ « آتى » معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ ، كأنه قال : وَضَع المالَ في الرقاب . والثاني : أن يكونَ مفعولُ « آتى » الثاني محذوفاً ، أي : آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها ، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون . وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها .
قوله : { وَأَقَامَ الصلاة } عَطْفٌ على صلةِ « مَنْ » وهي : آمن وآتى ، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان ، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم .
قوله : { والموفون } في رفعه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على « مَنْ آمن » ، أي : ولكنَّ البِرَّ المؤمنون والموفون . والثاني : أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : هم المُوفون . وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ « الصابرين » على المدحِ بإضمارِ فعلٍ ، وهو في المعنى عَطْفٌ على « مَنْ آمن » ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ .

قال الفارسي : « وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً ، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ .
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على » ذوي القربى « أي : وآتى المالَ الصابرين؟ قيل : لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون . والثالث : أن يكونَ » الموفون « عطفاً على الضمير المستتر في » آمَنَ « ، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك . وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في » الصابرين « وجهان ، أحدُهما : النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم ، والثاني : العطفُ على » ذوي القربى « ، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي ، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها .
وقوله : { إِذَا عَاهَدُواْ } » إذا « منصوبٌ بالموفُون ، أي : الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ : » والصابرون « ، وحكى الزمخشري قراءَة : » والموفين « و » الصابرين « .
قال الراغب : وإنما لم يَقُلْ : » وأوفى « كما قال » وأقام « لأمرين ، أحدُهما : اللفظُ ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ . والثاني : أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها ، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر ، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد » وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ .
و « حين البأسِ » منصوبٌ بالصابرين ، أي : الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ .
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان ، أحدُهما : - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ ، وألفُهما للتأنيث ، والثاني : أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف . والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال : بَئِس يَبْأَس إذا افتقر . قال الشاعر :
827 ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً ... يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً ، بَؤُسَ الرجلُ أي : شَجُع .
قوله : { أولئك الذين صَدَقُوا } مبتدأٌ وخبرٌ ، وأتى بخبر « أولئك » الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به ، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم ، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

قوله تعالى : { القصاص فِي القتلى } : أي : بسببِ القتلى ، و « في » تكون للسببية كقوله عليه السلام : « إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة » أي : بسببها . و « فَعْلَى » يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ البقرة : 85 ] .
قوله : { الحر بِالْحُرِّ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والتقديرُ : الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ ، أو مقتولٌ بالحُرِّ ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه ، فإن الباءَ فيه للسبب ، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً ، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت : الحُرَّ كائنٌ بالحر ، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً ، أي : قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر . وأجاز الشيخ أن يكونَ « الحُرُّ » مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر ، يَدُلُّ عليه قولُه : { القصاص فِي القتلى } فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر ، وفيه بَعْدٌ .
والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً ، نحو : قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً ، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه ، لأنه اتباعُ دمِ المقتول .
والحُرُّ وصفٌ ، و « فُعْل » الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس ، قالوا : حُرّ وأحرار ، ومُرّ وأمرار ، والمؤنثة حُرَّة ، وجمعها على « حرائِر » محفوظُ أيضاً ، يقال : حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً .
قوله : { فَمَنْ عُفِيَ } يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً . وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء . وعلى الأول يكونُ « عُفِي » في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه : « فاتِّباع » على الأول ، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ ، وجائزةٌ في الثاني ، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر . والظاهرُ أنَّ « مَنْ » هو القاتلُ ، والضميرُ في « له » و « أخيه » عائدٌ على « مَنْ و » شيءٌ « هو القائمُ مقامَ الفاعلِ ، والمرادُ به المصدرُ ، وبُني » عُفِي « للمفعولِ وإن كان قاصراً ، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ المؤمنون : 101 ] . والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه ، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه . وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ ب » عن « ، تقول : عَفَوْتُ عن زيد ، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ ، تقول : عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ ، والآيةُ من هذا الباب/ أي : فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ . وقيل » مِنْ « هو وليُّ الدمِ . أي : مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ ب » شيء « حينئذٍ ذلك المستحِقُّ ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ ، ويُراد بالشيء الديةُ و » عُفِي « بمعنى يُسِّر على هذين القَولين ، وقيل : بمعنى تُرِكَ .

وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر « عُفِيَ » بمعنى « تُرِكَ » قال : فإنْ قلت : هَلاَّ فَسَّرْت « عُفي » بمعنى « تُركَ » حتى يكونَ « شيء » في معنى المفعول به . قلت : لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ ، ولكن « أعفاه » ومنه : « وَأَعْفوا اللَّحى » فإنْ قلت : قد ثَبَتَ قولُهم : عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله ، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه : فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ . قلت : عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها ، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها ، وترى كثيراً مِمَّن يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه ، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها .
قال الشيخ : « إذا ثَبَتَ أنَّ » عَفَا « بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ » عَفَا « لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به ، فقد يتعادَلُ الوجهان : أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و » عفا « المتعدِّي بمعنى » مَحَا « لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً » فإن قيل : تُضَمِّنُ « عَفَا » معنى « تَرك » فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس ، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ . وقيل : إن « عُفِيَ » بمعنى فَضِلَ ، والمعنى : فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات ، مِنْ قَوْلِهِم : عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ . وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها .
قوله : { فاتباع بالمعروف } في رَفْع « اتباع » ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية : فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ ، وَقَدَّره الزمخشري : فالأمرُ اتِّباع . قال ابنُ عطية : « وهذا سبيلُ الواجباتِ ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] . قال الشيخ » ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أثبَتُ وأكدُ ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا ، كما قالوا في قوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] .
الثاني : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : فليكن اتِّباعُ . قال الشيخ : « هو ضعيفٌ إذ » كان « لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد » إنْ « - الشرطية و » لو « لدليلٍ يَدُلُّ عليه » .
الثالث : أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر ، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه ، أي : فعليه اتِّباع ، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه ، أي : فاتِّباع بالمعروفِ عليه .

قوله : { بالمعروف } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ . الثاني : أن يكونَ وصْفاً لقوله « اتِّباع » فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ . الثالث : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ : فعليه اتِّباعُه عادلاً ، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار .
قوله : { وَأَدَآءٌ } في رفعِهِ أربعة أوجهٍ ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه « فاتِّباعٌ » لأنه معطوفٌ عليه . والرابعُ : أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه ، وهو « بإحسان » وهو بعيدٌ . و « إليه » في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ « بأداء » ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : وأداءٌ كائنٌ إليه .
و « بإحسانٍ » فيه أربعةُ أوجه : الثلاثةُ المقولةُ في « بالمعروف » ، والرابعُ : أن يكونَ خبرَ « الأداء » كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ « أداء » . والهاءُ في « إليه » تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأنَّ « عَفَا » يَسْتَلْزِمُ عافياً ، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما ، ومنه : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } أي الشمس ، لأنَّ في ذِكْرِ « العشيّ » دلالةً عليها ، ومثله :
828 فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما ... دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ
لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى ... وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ
فالضميرُ في « فوقهُنَّ » للإِبل ، لدلالةِ لفظِ « الحادي » عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما .
قوله : { ذلك تَخْفِيفٌ } الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و « من ربكم » في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و « رَحمة » صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي : ورحمةٌ من ربكم .
وقوله : { فَمَنِ اعتدى } يجوز في « مَنْ » الوجهان الجائزان في قولِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من كونِها شرطية وموصولةً ، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا .
قوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } يجوزُ أنْ يَكُونَ « لكم » الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه « لكم » ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من « حياةٌ » ، لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، ويجوزُ أن يكونَ « في القصاص » هو الخبرَ ، و « لكم » متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا .
وقرأ أبو الجوزاء « في القَصَص » والمرادُ به القرآنُ . قال ابن عطية : « ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص ، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل » .
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي : تَتَبَّع ، وهذا أصلُ المادة ، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد ، ومنه « القصيص » لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ ، ومنه الحديث :

« نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ » أي تَجْصيصِها .
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب : « القتلُ أَوْفَى للقتل » ويُرْوى أَنْفَى للقتل ، ويُرْوَى : أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه ، منها : أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها : أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ « أَنْفَى » و أَوْفَى « و » أكفُّ « أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه ، أي : أنفى للقتل مِنْ ترك القتل . ومنها : أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس . ومنها : أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها : أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] قوله : { ياأولي الألباب } منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . واعلم أن » أولي « اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو » ذو « من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها ، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه : { ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] ويقابِلُه في المؤنث : أُولات : وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا : لِيُفَرِّقوا بين » أُولي كذا « في النصبِ والجر وبين » إلى « التي هي حرفُ جر ، ثم حُمِل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين » أولئك « اسمَ إشارةٍ و » إليك « جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت : جاء أُلون ورأيت إلين ، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ : ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ .
والألبابُ جمعُ » لُبٍّ « وهو العقلُ الخالي من الهَوي ، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين : إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به ، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ ، يقال : لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها ، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين ، وذلك في ألفاظ محصورة نحو : عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ ، فهذه بالضمِّ وبالفتح ، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ } : « كُتِبَ » مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار . وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ « الوصيةُ » أي : كُتِب عليكم الوصيةُ ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين ، أحدُهُما : كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً ، والثاني : الفصلُ بينه وبين مرفوعه . والثاني : أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله : { الوصية لِلْوَالِدَيْنِ } أي : كُتِب هو أي : الإِيصاء .
والثالث : أنه الجارُّ والمجرورُ ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين . و « عليكم » في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين .
قوله : { إِذَا حَضَرَ } العاملُ في « إذا » « كُتِب » على أنها ظرفٌ محضٌ ، وليس متضمناً للشرطِ ، كأنه قيل : كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ « الوصية » لأنها مصدرٌ ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه ، وهو أبو الحسن ، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك ، فيكون التقديرُ : كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت .
وقال ابن عطية : « ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ » كُتِب « هو العامل في » إذا « ، والمعنى : توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب ، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل ، و » الوصيةُ « مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب . وجوابُ الشرطَيْنِ » إنْ « و » إذا « مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب » . قال الشيخ : « وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في » إذا « كُتِبَ ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ » إذا « ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ ، وهذا يناقِضُ قوله : » وجوابُ « إذا » و « إنْ » محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ ، و « كُتِب » ليس أحدَهما ، فإنْ قيل : قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ « كُتب » هو الجوابَ ، ولكنه تقدَّم ، وهو عاملٌ في « إذا » فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ . فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب ، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ « .
ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في » إذا « الإِيصاء المفهوم من لفظ » الوصية « وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في » كُتِب « كما تقدَّم . قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ : » ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في « إذا » وترتفع « الوصيةُ » ، بالابتداء ، وفيه جوابُ الشرطين على [ نحو ] ما أنشده سيبويه :

829 مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكون رفعُها بالابتداءِ ، أي : فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط ، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ « . وناقشه الشيخ من وجوهٍ ، أحدُها : أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ » إذا « معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ كما تقدَّم تحريرُه؟ والثاني : أنَّ هذا الإِيصاء : إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه ، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ لأنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألاَّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين ، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ . الثالث : قولُه » جوابُ الشرطين « والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين ، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه . الرابعُ : جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن ، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد :
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
وإنشادُه » مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه « يجوزُ أن يكونَ روايةً ، إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يُجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً ، لا في ضرورة ولا غيرها ، ويَرْوِيه : » مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره « ، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه .
ويجوزُ أَنْ تكونَ » إذا « شرطيةً ، فيكونَ جوابُها وجوابُ » إنْ « محذوفَيْن . وتحقيقُه : أنَّ جواب » إنْ « مقدَّرٌ ، تقديرُه : » كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص « ، فقولُه » فَلْيُوصِ « جوابٌ لإِنْ ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه ، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ » إذا « فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله . وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول : إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول ، وحُذف جوابُ الثاني ، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى » كُتِبَ « ماضي المعنى ، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى : يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً .
قوله : » الوصيةُ « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه » للوالدَيْن « . والثاني : أنه مفعولُ » كُتِب « وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .
قوله : { الوصية } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكون مبتدأً وخبرُه » للوالدَيْن « . والثاني : أنه مفعولُ » كُتِب « وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .
قوله : » بالمعروف « يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بنفسِ » الوصية « ، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية ، أي : حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر .

قوله : { حقاً } في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، وذلك المصدرُ المحذوفُ : إمَّا مصدرُ « كُتِب » أو مصدرُ « أَوْصى » أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً . الثاني : أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف : [ إِمَّا ] مصدرُ « كُتِب » أو « أَوْصَى » كما تقدَّم . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة ، فيكونُ عاملُه محذوفاً ، أي : حَقَّ ذلك حقاً ، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء . وقال الشيخ : « وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية ، لأنَّ ظاهرَ قولِه : » على المتقين « أن يتعلَّق ب » حقاً « أو يكونَ في موضعِ الصفة له ، وكِلا التقديرين لا يجوزُ . أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وأمَّا الثاني فلأن [ الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد ] ، وهذا لاَ يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ » على المتقين « متعلِّقٌ به . وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال : / » وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك : ضرباً زيداً ، أي : اضرِبْ « إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ ، فهذا يَرِدُ عليه .
وقال بعضُ المُعْرِبين : » إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى « المتقين » كأنه قيل : على المتقين حقاً ، كقوله : { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن .
قال الشيخ : « والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى » كُتب « لأنَّ معنى » كَتَبَ الوصيةَ « أي : حَقَّتْ وَوَجَبَتْ ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو : قَعَدْتُ جلوساً .

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

قوله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ } : « مَنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وموصولةً ، والفاءُ : إمّا واجبةٌ إن كانَتْ شرطاً ، وإمّا جائزٌ إنْ كانت موصولةً ، بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر ، وهو الإِيصاءُ . أو تعود على نفس الإِيصاء المدلولِ عليه بالوصِيَّة ، إلاَّ أنَّ اعتبارَ التذكير في المؤنثِ قليلٌ وإن كان مجازياً ، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك : هند خرجَتْ والشمسُ طلَعَتْ ، ولا يجوزُ : الشمسُ طَلَع ، كما لا يَجُوزُ : « هند خرج » إلاَّ في ضرورةٍ . وقيل : تعودُ على الأمرِ والفَرْضِ الذي أَمَرَ به اللهُ وفَرَضه . وكذلك الضميرُ في « سَمِعَه » والضميرُ في « إثمُه » يعودُ على الإِيصاء المُبَدَّلِ ، أو التبديلِ المفهوم من قولِه : « بَدَّله » .
وقد راعى المعنى في قوله : { عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ : « فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله » .
وقيل : الضميرُ في « بَدَّله » يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ . فهذه ستةُ أقوالٍ .
و « ما » في قولِه : { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : بعد : سماعِه ، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي . فالهاءُ في « سَمِعَه » على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في « بَدَّله » ، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله .

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ } : يجوزُ فيها الوجهان الجائزان في « مَنْ » قبلَها . والفاءُ في « فلا إثم » هي جوابُ الشرطِ أو الداخلةُ في الخبر . و « مِنْ موصٍ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ متعلقةً بخاف على انها لابتداءِ الغاية . الثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « جَنَفَاً » ، قُدِّمَتْ عليه ، لأنها كانَتْ في الأصل صفةً له ، فلمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . ونظيره : « أخَذْتُ من زيد مالاً » إن شِئت عَلَّقْتُ « مِنْ زيد » ب « أَخَذْتُ » ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من « مالاً » لأنه صفته في الأصلِ ، الثالث : أن تكونَ لبيان جنسِ الجانفين : وتتعلَّقُ أيضاً بخاف . فعلى القولين الأولين لا يكونَ الجانِفُ من الموصِين بل غيرُهم ، وعلى الثالث يكونُ من الموصين .
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : « مُوَصٍّ » بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها . وهما من أوصى ووصَّى ، وقد تقدَّم أنهما لغتان ، إلاَّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون { ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ } [ البقرة : 132 ] مضعَّفاً ، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن : « أوصى » بالهمزة ، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك « ووصَّى » بالتضعيف أن يقرآ هنا « مُوَصٍّ » بالتضعيف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا « مُوصٍ » مخففاً على قياس قراءتهما هناك و « أَوْصَى » على أَفْعَل . وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا : « ووصَّى » هناك بالتضعيف فقرؤوا هنا « مُوَصٍّ » بالتضعيفِ على القياس .
والخَوْفُ هنا بمعنى الخَشْيَة وهو الأصلُ ، وقيل : بمعنى العِلْم وهو مجازٌ ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ . ومِنْ مجيء الخوف بمعنى العِلْم قولُه تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] ، وقولُ أبي مِحْجن الثقفي :
830 إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني ... أخَافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقُها
والجَنَفُ لأهلِ اللغةِ فيه قولان أحدُهما : المَيْلُ ، قال الأعشى :
831 تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي ... وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا
وقال آخر :
832 هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا ... وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ
وقيل : هو الجَوْرُ . قال :
833 إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ ... ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ
يقال : جَنِفَ بكسر النون يَجْنَفُ بفتحها فهو جَنِفٌ وجانِفٌ ، وأَجْنَفَ جاء بالجَنَفِ كَألاَم جاء بما يُلام عليه .
والضميرُ في « بينهم » عائد على الموصي والورثةِ ، أو على الموصَى لهم ، أو على الورثةِ والمُوصى لهم . والظاهرُ عودُه على المَوصى لهم ، إذ يدلُّ على ذلك لفظُ « المُوصى » . وهو نظيرُ { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ } [ البقرة : 178 ] [ في ] أن الضمير يعودُ للعافي لاستلزام « عفا » له ، ومثلُه ما أنشد الفراء :
834 - وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليِني
فالضمير في « أيُّهما » يعودُ على الخيرِ والشرِّ ، وإنْ لم يَجْرِ ذِكْرُ الشِّر لدلالةِ ضِدِّه عيله ، والضميرُ في « عليه » وفي « خاف » وفي « أصلح » يعود على « مَنْ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } : « الصيامُ » مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي .
والصيام : مصدرُ صام يصوم صوماً ، والأصلُ : صِواماً ، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً ، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا : غار غُووراً ، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/ ، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال : الغُؤُور . والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً ، ومنه : صامَتِ الريحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ ، [ وقال ] :
835 خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما
وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : سكوتاً لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } . وصامَ النهارُ أي : اشتدَّ حَرَّه ، قال :
836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ ... ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ
كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ . ومَصَامُ النجومِ : إمساكُها عن السيرِ ، قال امرؤ القيس :
837 كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها ... بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
قوله : { كَمَا كُتِبَ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي : كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ . الثاني : أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي : كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ . و « ما » على هذين الوجهينِ مصدريةٌ . الثالث : أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام ، أي : صوماً مثلَ ما كُتِبَ . ف « ما » على هذا الوجه بمعنى الذي ، أي : صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم . و « صوماً » هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ، لأنَّ الصيامَ بمعنى : أنْ تصُومُوا صوماً ، قاله أبو البقاء ، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى { بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 180 ] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - « وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ ، هذا إن كانت » ما « مصدريةً ، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ » .
الرابع : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « الصيام » ، وتكونُ « ما » موصولةً ، أي : مُشْبهاً الذي كُتِبَ . والعاملُ فيها « كُتِبَ » لأنه عاملٌ في صاحبِها . الخامس : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك « بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ » كأنه يعني أنَّ « أل » فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى ، قالوا : « أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض » ومنه :

838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
[ وقولُه تعالى : ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه : { الذين مِن قَبْلِكُمْ } كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه : { خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .
قوله { أَيَّاماً } في نصبِه أربعةُ أوجه ، أظهرُها : أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه : صوموا أياماً ، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين : إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً .
الثاني : أنه منصوبٌ بالصيام ، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه ، ونَظَّرهُ بقولِكَ : « نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ » ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي ، وهو قولُه : « كما كُتِبَ » لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه . فإنْ قِيل : يُجْعَل « كما كُتِبَ » صفةً للصيام ، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً . قيل : يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ ، وهو ممتنعٌ .
الثالث : أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام ، كما قد قال به بعضُهم ، وإنْ كان ضعيفاً ، فيكونُ التقديرُ : « الصيام صوماً كما كُتِبَ » فجاز أن يَعْمل في « أياماً » « الصيامُ » لأنه إذ ذاك عاملٌ في « صوماً » الذي هو موصوفٌ ب « كما كُتِبَ » فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ .
الرابع : أن ينتصِبَ بكُتب : إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً ، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء . قال الشيخ : « وكِلا القولينِ خطأٌ : أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل ، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام . وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ ، وقد تقدَّم أنه خطأ .
و » معدوداتٍ « صفةٌ ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا ، وقولِه » جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ « .
قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان . و » أو « هنا للتنويع ، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ ، فلم يَقُلْ : » أو مسافراً « إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ .
قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } الجمهورُ على رفعِ » فَعِدَّةٌ « ، وفيه وجوهٌ أحدُها ، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ : إمَّا قبلَه تقديرُهُ : فعليه عِدَّةٌ ، أو بعدَه أي : فَعِدَّةٌ أمثلُ به . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ عِدَّةٌ .

الثالث : أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فتجزيه عِدَّةٌ . وقرىء : « فَعِدَّةً » نصباً بفعلٍ محذوف ، تقديره : فَلْيَصُمْ عِدَّةً . وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال : « ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً » . ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه : « فَصَوْمُ عدَّة » ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره : فأفْطَرَ فعدةٌ ، ونظيرُه : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي : فَضَرَبَ فانفلقَ . و « عدةٌ » بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح . ونَكَّر قوله « فَعِدَّةٌ » ولم يَقُل « فَعِدَّتُها » اتِّكالاً على المعنى . و « من أيامٍ » في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة .
قوله : { أُخَرَ } صفةٌ لأيَّامٍ . و « أُخَرُ » على ضَرْبَيْن ، ضربٍ : جَمْعُ « أخرى » تأنيثِ « آخَر » الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ . وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة ، تأنيث : « آخِر » المقابِل لأوَّل ، ومنه قولُه تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 49 ] . فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ : الوصفُ والعَدْلُ .
واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ ، فقال الجمهورُ : إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ ، وذلك أن « أُخَر » جمع أُخْرى ، وأُخْرَى تأنيث « آخَر » وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات : إمَّا مع أل وإمَّا مع « مِنْ » وإمَّا مع الإِضافة . لكنَّ « مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير ، ولا إضافة/ في اللفظِ ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ ، وهذا كما قالوا في » سَحَر « إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ إلاَّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ . ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك : » مررت بنسوة أُخَرَ « على وزن فُعَل أن يكونَ » بنسوة آخَرَ « على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديرِ مِنْ ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع . ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا .
وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ . والفرقُ بين » أُخْرَى « التي للتفضيل و » أُخرى « التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى » غير « ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة ، ولكونِ الأولى بمعنى » غير « لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو : » مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ « ولا يجوزُ : اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس . وأمَّا قوله :
839 صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها ... ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ
فإنه جعل ابنتَها جارةً لها ، ولولا ذلك لم يَجُزْ . ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في » شرح التسهيل « فَلْيُلتفت إليه .

وإنَّما وُصِفَت الأيام ب « أُخَر » من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث ، فَمِن الأولِ : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها ، وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل : عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ .
قوله : { يُطِيقُونَهُ } الجمهورُ على « يُطِيقُونه » من أطاق يُطِيق ، مثل أَقامَ يُقيم . وقَرَأَ حُميد : « يُطْوِقُونه » من أَطْوقَ ، كقولهم : أَطْوَلَ في أَطال ، وأَغْوَلَ في أَغال ، وهذا تصحيحٌ شاذ ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو : أَجْوَدَ بمعنى أجاد ، ومِنْ ذوات الياء : أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت ، وأَغْيَلَتِ المرأة ، وأَطْيَبَت ، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو : « أَغْيَمَت » و « أطْوَل » إلا أبو زيد .
وقرأ ابن عباس وابن مسعود : « يُطَوَّقونه » مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع . وقرأت عائشة وابن دينار : « يَطَّوَّقُونَه » بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ ، وأصلُه تَطَوَّق ، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً ، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] . وقرأ عكرمة وطائفةٌ : « يَطَّيَّقونُه » بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء ، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً . وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول .
وقد رَدَّ بعضُ الناسِ هذه القراءةَ . وقال ابن عطية : « تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ » وإنما قالوا بِبُطْلاَنِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق ، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً ، ولها تخريجٌ حسنٌ : وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من تَفَيْعَل ، والأصلُ : تَطَيْوَق من الطَّوْقِ ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران ، والحَوْر ، والأصلُ : تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ ، فاجتمعت الياءُ والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ ، فكان الأصلُ : يَتَطَيْوَقُونه ، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ ، فَمَنْ قَرَأَه « يَطَّيَّقونه » بفتح الياءِ بناه للفاعل ، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول . وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ ، أي : يتكلَّفون إطاقَتَه ، وذلك مجازٌ من الطَّوْقِ الذي هو القِلاَدَةُ ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم .
وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ « لا » محذوفةٌ قبلَ « يُطِيقُونَه » وأنَّ التقديرَ : « لا يُطيقونه » ونَظَّره بقولِهِ :
840 فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ
وقوله :
841 آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً ... يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله :
842 فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي
المعنى : لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ .

وهذا ليس بشيء ، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي .
والهاءُ في « يُطِيقُونَه » للصومِ ، وقيل : للفِداءِ ، قاله الفراء .
و « فِدْيَةٌ » مبتدأٌ ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه . والجماعةُ على تنوينِ « فِدْيَة » ورفع « طعام » وتوحيدِ « مسكين » وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ : « مساكين » جمعاً ، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة « فدية » إلى « طعام مساكين » جمعاً . فالقراءةُ الأولى يكونُ « طعام » بدلاً من « فِدْية » بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية ، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف ، أي : هي طعام . وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والمقصودُ به البيانُ كقولِك . خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه . وقال بعضهم : « يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ ، قال : » لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ « وهذا فاسدٌ ، لأنَّه : إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء ، أو يريدَ به المفعولَ ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ ، وليسَتْ مُرادةً هنا ، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ ، لا تقولُ : ضِراب بمعنى مَضْروب ، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول ، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله ، لا تقول : » مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه « وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال : أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟
وإنَّما أُفْرِدَت » فِدْية « لوجهين ، أحدُهما : أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ ، والتاء فيها ليست للمَرَّة ، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث . والثاني : أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ/ ، وهذا في قراءةِ » مساكين « بالجمع . ومَنْ جمع » مساكين « فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ ، أي : وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين . ونظيرهُ : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] .
وتَبَيَّن مِنْ إفراد » المسكين « أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ . والطعامُ : المرادُ به الإِطعامُ ، فهو مصدرٌ ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ ، قال أبو البقاء : » لأنه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه ، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً ، لأنه يصير تقديرُه : فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين ، فهو من باب تسميةِ الشيءِ ، بما يَؤُول إليه ، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه « .
قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] فَلْيُلْتفت إليه . والضميرُ في قولِهِ : » فهو « ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ : » فَمَنْ تَطَوَّع « أي : فالتطوعُ خيرٌ له و » له « في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : خيرٌ كائنٌ له .
قوله : { وَأَن تَصُومُواْ } في تأويل مصدرٍ مرفوعٌ بالابتداء تقديرُه : » صومكم « و » خَيْرٌ « خبرُه . ومثلُه : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وقوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ ، تقديرُه : فالصومُ خيرٌ لكم . وحُذِفَ مفعولُ العلم : إمَّا اقتصاراً ، أي : إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصاراً أي : تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه ، أو فَضْلَ ما عِلِمْتُم .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : فيه قراءتان ، المشهورةُ الرفعُ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان ، الأولُ : أنه قولُه { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه ، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ ، والقولُ الثاني : أنه قولُه : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] وليس كذلك ، لأنَّ قولِهِ : { الموت الذي تَفِرُّونَ } يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان . فإنْ قيل : أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ؟ قيل : تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله :
843 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الإِعراب - أعني كون « شهر رمضان » مبتدأ - على قولِنا : إن الأيامَ المعدوداتِ هي غيرُ رمضان ، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان .
أحدُهما : أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ الفراء : ذلكم شهرُ رمضانَ ، وقدَّره الأخفش : المكتوبُ شهرُ ، والثاني : أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ « الصيام » أي : كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدٌ جداً لوجهين ، أحدُهما : كثرةُ الفصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه . والثاني : أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله : { عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقول الأعشى :
844 لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ . ويمكن أن يوجَّهَ قولُه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ : صيامُ شهر رمضان ، وحينئذٍ يكونُ من بابِ [ بدلِ ] الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة . ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله « أياماً معدوداتٍ » في قراءةِ مَنْ رَفَع « أياماً » ، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ .
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب ، وفيه أوجهٌ ، أجودُها ، النصبُ بإضمار فعلٍ أي : صُوموا شهرَ رمضانَ . الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني - : أن يكونَ بدلاً من قولِهِ « أياماً معدوداتٍ » ، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ . الثالثَ : نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بقولِهِ : « وَأَنْ تصوموا » حكاه ابن عطية ، وجَوَّزَهُ الزمخشري ، وغَلَّطَهما الشيخُ : « بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي ، لأنَّ الخبرَ وهو » خيرٌ « أجنبي من الموصولِ ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ ، و » شهر « على رأيهم من تمامِ صلة » أَنْ « فامتنع ما قالوه .

وليس لقائلٍ أن يقول : يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ « . الخامسُ : أنه منصوبٌ ب » تَعْملون « على حَذْفِ مضافٍ ، تقديرُهُ : تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ .
وأَدْغم أبو عمر راء » شهر « في راء » رمضان « ، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما ، وقولُ ابن عطية : » وذلك لا تقتضيه الأصولُ « غيرُ مقبولٍ منه ، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس .
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان ، أشهرهُما : أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ . والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه . قال :
845 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
سُمِّي بذلك لبيانِهِ ، قال ذو الرُّمَّة :
846 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ
يقولون : رَأَيْتُ الشهرَ أي : هلاله ، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ فيه ، ويقال : أَشْهَرْنا أي : أتى علينا شهرٌ . قال الفراء : » لم أَسْمَعْ فعلاً إلاَّ هذا « قال الثعلبي : » يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ « . ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر/ وفي الكثرةِ على شُهور . وهما مَقِيسان .
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ ، أحدُهما : أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك ، كربيع لموافقتِه الربيعَ ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء ، وقيل : لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي : يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها . وقيل : لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة . وقيل : من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ يقال : نَصْلٌ رَميض ومَرْموض . وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً . أنشد المفضَّل :
847 وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى ... وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا
وقال الزمشخري : » الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء « قال الشيخ : » وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم ، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً « . وقيل : هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب .
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ » قَرَأْتُ « ، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما :
848 ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به ... يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا
وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي : جَمَعَ ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه ، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ .

واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما : أنه من باب النقلِ ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ : { قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين .
والثاني : أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين ، فيكونُ وزنُهُ على هذا : فُعالاً ، وعلى الأول . فُعْلاناً ، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ .
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ ، لأنَّهما مادتان متغايرتان . و « القرآنُ » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله ، ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه : قيل في الرابع والعشرين منه ، وقيل : أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه ، كقولك « أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ » .
قوله : { هُدًى } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن ، والعاملُ فيه « أُنْزِلَ » وهُدَىً ومصدرٌ ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : هادياً ، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً .
قوله : { لِّلنَّاسِ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ ب « هُدَىً » على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ « هادٍ » ، أي : هادياً للناس . والثاني : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه ، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ ، ولا يجوزُ أَنْ يكون « هُدَىً » خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : « هو هدى » لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو : « بَيِّنات » ، و « بَيِّنات » عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً ، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة .
قوله : { مِّنَ الهدى والفرقان } هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله : « هدىً وبَيِّناتٍ » فمحلُّه النصبُ ، ويتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ « هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ » من الهُدى والبينات « فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله ، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان . وقال بعضُهم : » المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها « . وقال ابنُ عطية : » اللامُ في الهُدى للعهدِ ، والمرادُ الأولُ « يعني أنه تقدَّم نكرةٌ ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل ، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه : { إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول }

[ المزمل : 15-16 ] ، ومِنْ هنا قال ابن عباس : « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى ، ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه لكان كلاماً صحيحاً « .
قال الشيخ : » وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا ، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ « هدى » منصوبٌ على الحالَ ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال ، وعَطَفَ عليه « وَبيِّنات » فلا يَخْلو قولُه « من الهدى » - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه « هُدَىً » أو لقولِهِ « وبيناتٍ » أَوْ لهما ، أو متعلِّقاً بلفظ « بينات » . لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل « هدى » لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً ، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه ، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته ، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ « وبينات » معطوفٌ على « هُدَى » و « هُدَى » حالٌ ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال ، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان ، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ « بَيِّنات » بقوله : « مِنَ الهدى » خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله : « هُدَىً وَبَيَّنات » معاً ، ومن حيثُ جَعَلْتَ « مِنَ الهدى » صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ « بيِّنات » على « هُدَى » فَلَزِمَ من ذلك تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ . ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط ، أو بينات فقط .
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ « بينات » لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به ، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ : منه ، أي : من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما « .
قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } » مَنْ « فيها الوجهانِ : أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً ، وهو الأظهرُ . و » منكم « في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في » شَهِدَ « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً منكم . وقال أبو البقاء : » منكم « حالٌ من الفاعلِ ، وهي متعلقةٌ ب » شِهِدَ « . قال الشيخ : » فَناقَضَ ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً ، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً « . ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي ، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه » منكم « هو متعلِّقٌ بشَهِدَ ، وهو الحالُ حقيقةً .
وفي نَصْبِ » الشهر « قولان ، أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على الظرف ، والمرادُ بشَهِدَ : حَضَر ويكونُ مفعولُ » شَهِدَ « محذوفاً تقديرُه : فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ .

والثاني : أنه منصوبٌ على المفعولِ به ، وهو على حَذْفِ مضافٍ . ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيحُ أنَّ تقديره « دخول الشهر » . وقال بعضُهم : هلال الشهر ، وهذا ضعيفٌ لوجهين ، أحدهما : أنك لا تقول : شَهِدْتُ الهلالَ ، إنما تقول : شاهَدْتُ الهِلالَ .
والثاني : أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ ، وليس كذلك . وقال الزمخشري : « الشهرَ منصوبٌ على الظرف ، وكذلك الهاءُ في » فَلْيَصُمْه « ، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك : شَهِدْتُ الجمعة ، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ » وفي قوله : « الهاء منصوبةٌ على الظرفِ » فيه نظرٌ لا يَخْفَى ، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا ب « في » ، اللهم إلاَّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه ، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به ، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ .
والفاءُ في قولِه : « فَلْيَصُمْهُ » : إمَّا جوبُ الشرطِ ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في « مَنْ » ، واللامُ لامُ الأمرِ . وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب « كَتِف » ، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ . وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل ، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن . وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء ، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء ، فقال : « مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها » ، قال : « فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو : لِيُنْذِرُ ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً » .
والألفُ واللامُ في قولِه { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ : فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به .
قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا } [ البقرة : 26 ] . و « أراد » يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ ، قال الشاعر :
849 أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
والباءُ في « بكم » قالَ أبو البقاء : « للإِلصاقِ ، أي : يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ ، أي : يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ . وفي قولِه : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } تأكيدٌ ، لأنَّ قبلَه { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } وهو كافٍ عنه . وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز : » اليُسُر والعُسُر « بضمّ السين ، واختلف النحاةُ : هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم .

قوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ ، أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك : ضَرَبْتُ لزيدٍ ، و « أَنْ » مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه : « ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة » أي : تكميلَ ، فهو معطوفٌ على اليُسْر . ونحوُه قولُ أبي صخر :
850 أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء ، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ . الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِه بالتقديم .
الثاني : أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها : أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه : « ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا » ، وهو قولُ الفراء . الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه : فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا . الثالث : أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه : « ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك » ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين . الرابع : أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه : يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا ، وهذا ضعيفٌ جداً . الخامسُ : أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه : « ولَعَلَّكم تَشْكُرون » ، تقديرُه : شَرَعَ ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصُّ كلامِه قال : « شَرَعَ ذلك ، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر ، فقولُه : » ولِتُكْمِلوا « علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة ، و » لِتُكَبِّروا « علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و » لعلَّكم تَشْكرون « علةُ الترخيصِ والتيسير ، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ » . السادس : أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا ، قاله الزمخشري ، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ . واختصارُ هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ : إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها ، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو « يُريد » .
الثالث : أنَّها لامُ الأمرِ ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه ، وهذا قولُ ابنِ عطية ، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ : لِتَقُمْ يا زيد ، وقد قرىء شاذاً : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] بتاء الخطاب . والثاني : أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان : الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها .

وقرأ الجمهورُ « ولِتُكْمِلوا » مخففاً من أَكْمل ، والهمزةُ فيه للتعدية . وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم ، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً ، والألفُ واللامُ في « العِدَّة » تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما : أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ ، والثاني : أَنْ تكونَ للجنسِ ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه ، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين . واللامُ في « وَلِتُكَبِّروا » كهي في « ولِتُكْمِلوا » ، فالكلام فيها كالكلام فيها ، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا .
قوله : { على مَا هَدَاكُمْ } هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب « تُكَبِّروا » . وفي « على » قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من الاستعلاءِ ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ . قال الزمخشري : « كأنَّه قيل : ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم » قال الشيخ : « وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ » على « ب » حامدين « التي قَدَّرها لا ب » تُكَبِّروا « ، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو : » ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم ، كما قدَّره الناسُ في قوله :
851 قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي ... أي : صَرَفَه بالقتلِ عني ، وفي قولِه :
852 ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ ... بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ
أي : متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى « . والثاني : أنها بمعنى لامِ العلَّةِ ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ .
و » ما « في قوله : { على مَا هَدَاكُمْ } فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها مصدريةٌ ، أي : على هدايته إياكم . والثاني : أنَّها بمعنى الذي . قال الشيخ : » وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن ، أحدُهما : حَذْفُ العائدِ تقديرُه : هداكُموه « وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى ، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ ، والثاني : حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ ، تقديرُه : على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه » .
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً ، فناسَبَ خَتْمَها بذلك . وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى ، وهو قولُه : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] وقولُه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 178 ] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ ، فناسَب خَتْمَها بذلك ، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً ، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها ، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ } : في « أُجيب » وجهانِ أحدُهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « قَرِيبٌ » والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي ، لأنَّ « قريب » خبرٌ أولُ .
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه : فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ . وجاء قولُه « أجيب » مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ : « يُجيبُ » بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه : « قريبٌ » لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ ، كقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وفي أخرى { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقولِ الشاعر :
853 وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ
/ ولو راعى الخبر لقال : « مَا يَرَوْنَ القَتْلَ » .
وفي قوله : { عَنِّي } و « إنِّي » التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ ، لأنَّ قبلَه ، « ولتُكَّبِّروا الله » والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ . والكافُ في « سألَكَ » للنبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ ، إلاَّ أنَّ قولَه : { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } يَدُلُّ عليه ، لأنَّ تقديره : « أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صلى الله عليه وسلم » . وفي قوله : « فإني قريب » مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه ، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان ، ونظيرُه : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] ، « » هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم «
والعاملُ في » إذا « قال الشيخ : » قولُه : أُجيبُ « يعني » إذا « الثانيةَ فيكونُ التقديرُ : أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه ، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وحذف جوابها لدلالةِ » أُجِيْبُ « عليه ، وحينئذٍ لا يكونُ » أُجيبُ « هذا الملفوظُ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوفُ ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط ، وأمَّا » إذا « الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ . والهاء في » دعوة « ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو : ضَرْبَة وقَتْلَة ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو : رَحْمة ونَجْدة ، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة .
والياءان من قولِه : » الداع - دعانِ « من الزوائدِ عند القُرَّاء ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً ، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن ، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً ويَحْذِفُها وَقْفاً ، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً ، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً .

قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } في الاستفعالِ هنا قولان ، أحدُهما : أنَّه للطلب على بابِه ، والمعنى : فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب . والثاني : أنه بمعنى الإِفعال ، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً ، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو : أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد ، واستثار الشيء وأثارَه ، واستعجله وأَعْجَله ، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو : { فاستجبنا لَهُ } [ الأنبياء : 84 ] فاستجاب لَهُمْ « ، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله :
854 وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
ولقائلٍ أن يقولَ : يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر .
واللامُ لامُ الأمر ، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب : بأنَّ » استجاب « لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو : { فاستجبنا لَهُ } [ الأنبياء : 76 ] { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] ، وأمَّا » أجاب « فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة ، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً .
والجمهورُ على » يَرْشُدون « بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين ، وقُرىء بفتحها . وماضيه رَشِد بالكسر ، وقرىء ، يُرْشَدون » مبنياً للمفعول ، وقرىء : « يُرْشِدُونَ » بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد . المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه : يُرْشِدون غيرَهم .

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

قوله تعالى : { لَيْلَةَ الصيام } : منصوبٌ على الظرفِ ، وفي الناصبِ له ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه « أُحِلَّ » ، وليس بشيءٍ ، لأنَّ الإِحلال ثابتٌ قبلَ ذلك الوقتِ . الثاني : أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ « الرفث » ، تقديرُه : أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ ، كما خَرَّجوا قول الشاعر :
855 - وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْ ... لِ للذلَّةِ إذْعان
أي : إذعان للذلة إذعانٌ ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ . الثالث : أنه متعلِّق بالرفثِ ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها ، والإِضافة [ تحصُل ] بأدنى ملابسةٍ ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف ، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك .
والجمهورُ على « أُحِلَّ » مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى ، وقرىء مبنياً للفاعلِ ، وفيه حينئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى ، أي أَحَلَّ اللَّهُ ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم . والثاني : أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } وهو المتكلمُ ، ويكونُ ذلك التفاتاً ، وكذلك في قوله « لكم » التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في : « فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا » . وعُدِّي « الرفث » بإلى ، وإنما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى الإِفضاء ، كأنه قيل : أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث .
وقرأ عبد الله « الرَّفوث » . والرَّفَثُ لغةً مصدرُ : رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ ، قال العجاج :
856 ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم
وقال الزجاج : - ويُروى عن ابن عباس - « إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة » . وقيل : الرفث : الجِماعُ نفسُه ، وأنشد :
857 - ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا ... ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ
وقول الآخر :
858 - فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ ... وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ ، وأنشد ابنُ عباس وهو مُحْرِمٌ : /
859 - وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا ... إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا
فقيل له : رَفَثْتَ ، فقال : إنما الرَّفَث عند النساء .
قوله : { كُنتُمْ تَخْتانُونَ } في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ . و « تَخْتانون » في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان . قال أبو البقاء : « وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً ، والمعنى : أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه ، وقيل : إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال ، وذَكَرَ » كان « ليحكي بها الحالَ كما تقول : إن فعلت كنت ظالماً » وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى .

و « تَخْتَانون » تَفْتَعِلُون من الخيانة ، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم : خانَ يخُون ، وفي الجمع : خَوَنَة ، يقال : خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة ، وهي ضدُّ الأمانة ، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه ، قال زهير :
860 بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا ... قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
وقال الزمخشري : « والاختيانُ : من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ ، فيه زيادةٌ وشِدَّة » يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى ، كما قَدَّمَهُ في قولِهِ الرحمنُ الرحيمُ . وقيل هنا : تختانون أَنْفُسَكُم أي : تتعهدونها بإتيانِ النساء ، وهذا يكون بمعنى التخويل ، يقال : تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام ، بمعنى تَعَهَّده ، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام ، لأنه باللامِ أشهرُ .
و « عَلِمَ » إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف ، فتكونُ « أنَّ » وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه ، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش .
وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } لا محلَّ له من الإِعراب ، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ : وقَدَّمَ قولَه : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } على { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها ، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك ، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي - :
861 إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وفيه أيضاً :
862 - لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
قوله : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } قد تقدَّم الكلامُ على « الآن » . وفي وقوعِهِ ظرفاً للأمرِ تأويلٌ ، وذلك أنه للزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً ، وتأويلُهُ ما قاله أبو البقاء قال : « والآن : حقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منكَ ، وعلى المستقبلِ القريبِ ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ ، وهو المرادُ هنا ، لأنَّ قولَه : » فالآن باشِروهُنَّ « أي : فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل » وقيل : هذا كلامٌ محمولٌ على معناه ، والتقدير : فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته
وقرىء : « واتَّبِعُوا » من الاتِّباع ، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري . وفَسَّروا « ما كَتَبَ اللَّهُ » بليلةِ القدر ، أي : اتَّبِعوا ثوابها ، قال الزمخشري : « وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير » .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } « حتى » هنا غايةٌ لقولِهِ : « كُلُوا واشربوا » بمعنى إلى ، ويقال : تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً ، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً ، إلاَّ « بان » فلازمٌ ليس إلاَّ . و « مِن الخيط » مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ ب يتبيَّن ، لأنَّ المعنى : حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ .

و « من الفجر » يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً ب « يتبيَّن »؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه ، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض ، أي : الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ « مِنْ » لبيانِ الجنس كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ . والثالث : أن يكونَ تمييزاً ، وهو ليس بشيء ، وإنما بَيَّن قولَه « الخيط الأبيض » بقولِهِ : « مِنَ الفجرِ » ، ولم يُبَيِّن الخيطَ الأسود فيقول : مِنَ الليلِ اكتفاءً بذلك ، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاك لأنَّه هو المَنُوط به الأحكامُ المذكورةُ من المباشَرَةِ والأكلِ والشُّرْبِ .
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه ، وقال : « إن وسادَك لَعَرِيض » ويُروى : « إنك لعريضُ القَفَا » وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ « الخيط الأبيض » « من الخيط الأسود » عاماً كاملاً في النزولِ . وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة ، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ : « من الفجر » ، ونظيرُهُ قولُكَ : « رأيت أسداً من زيدٍ » لو لم تَذْكُر : « من زيدٍ » لكانَ استعارةً . ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً ، حتى نَزَلَ « مِنَ الفَجْرِ » فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك .
والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي : انشَقَّ .
قوله : { إِلَى الليل } فيه وجهان : أحدُهما : أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً إلى الليل ، و « إلى » إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه ، والآيةُ من هذا القبيلِ .
« وأنتم عاكفون » جملةٌ حاليةٌ من فاعل « تباشروهُنَّ » ، والمعنى : لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً .
والعُكُوف : الإِقامَةُ والملازَمَةُ له ، يقال : عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر ، وقد قُرىء : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ } [ الأعراف : 138 ] بالوجهين وقال الفرزدق :
863 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم ... على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ

وقال الطرماح :
864 - وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً ... عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ
ويقال : الافتعالُ منه في الخير ، والانفعالُ في الشَّرِّ . وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط ، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ . وقرأ قتادة : « عَكِفُون » كأنه يقال : عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ ورَبٌّ . وقرأ الأعمش : « في المسجدِ » بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا ، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه ، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو : « ولا تباشِرُوهُنَّ » فأَطْلَقَ على الكل « حدوداً » تغليباً للمنطوقِ به ، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ ، فقيل فيها حدودٌ ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه « فلا تَقْرَبُوها » .
قال أبو البقاء : « دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه : » تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها « ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] على أحدِ القولَيْنِ ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ » حدودَ الله « على الاشتغالِ ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو : » زيداً فاضْرِبْه ، وعمراً فلا تُهِنْهُ « فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي » فلا تَقْرَبُوها « منقطعةٌ عمَّا قبلها ، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ .
والحدودُ : جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ ، ومنه قيلَ للبَوَّاب : حَدَّاد ، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور . وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه ، ولهذا يُقال : الحَدُّ مانِعٌ جامع أي : يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ . والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ .
وقال هنا : » فلا تقْرَبُوها « وفي مواضع أُخَرَ : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ومثلُه : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } [ النساء : 14 ] لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ فجاء » فلا تَعْتَدُوها « عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث ، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها ، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها .
قوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله } الكافُ في محلِّ نصب : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : بياناً مثلَ هذا البيانِ ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قولُه تعالى : { بَيْنَكُمْ } : في هذا الظرفِ وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى : لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « أموالكم » ، أي : لا تأكلوها كائنةً بينكم . وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم ، وهو في المعنى كقولِهِ : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير « دائرةً » - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى ، إلاَّ أَنْ يُقالَ : دَلَّتِ الحالُ عليه .
قولُه { بالباطل } فيه وجهان ، أحدُهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان ، أحدهما : أنه المالُ ، كأن المعنى ، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ ، والثاني : أَنْ يكونَ الضميرَ في « تأكلوا » كأنَّ المعنى : لا تأكلوها مُبْطِلين ، أي : مُلْتَبِسينَ بالباطِل .
قوله { وَتُدْلُواْ بها } في « تَدْلُوا » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه ، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ : « ولا تُدْلُوا » بإعادةِ لا الناهيةِ ، والثاني : أنَّه منصوبٌ على الصرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين ، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ . والثالث : أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي ، وهذا مذهبُ الأخفشِ ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء . قال الشيخ : « وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ : » لا تأكل السمك وتشربَ اللبن « . قال النحويون : إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً ، ألا ترى أنَّ أَكْلَ المالِ بالباطلِ حرامٌ سواءً أُفْرِدَ أم جُمِعَ مع غيرهِ من المُحَرَّمات . والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه » لِتأكلوا « عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له ، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام » .
و « بها » متعلقٌ ب « تُدْلُوا » ، وفي الباء قولان ، أحدُهما : أنها للتعديةِ ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام ، والثاني : أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلاَءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها ، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام . والضميرُ في « بها » الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل : إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها ، وليس بشيءٍ .
و « من أموال » في محلِّ نصبٍ صفةً ل « فريقاً » ، أي : فَريقاً كائناً من أموالِ الناس .
قوله : { بالإثم } تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله « لتأكلوا » وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في « لتأكلوا » ، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم . « وأنتم تعلمون » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ « لتأكلوا » ، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ « بالإِثم » غيرَ حالٍ .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

قولُه تعالى : { عَنِ الأهلة } : متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه ، يُقال : « سألَ به وعنه » بمعنىً . والضميرُ في « يَسْأَلُونك » ضميرُ جماعةٍ ، وفي القصةِ أن السائل اثنان ، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين ، أحدُهما : أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً . والثاني : من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامِهِم .
والجمهور على إظهار نونِ « عَنْ » قبل لام « الأهلَّة » وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها ، وقُرِىءَ شاذاً : « علَّ هِلَّة » وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة « أهلة » إلى لامِ التَّعريفِ ، وأدغم نونَ « عن » في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول : « لَحْمَر » من غيرِ همزةِ وصلٍ .
وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ . والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ . واختَلَفَ اللغويون : إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ : يُقال له : هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لثلاثٍ ، ثم يكونُ قمراً . وقال أبو الهيثم : « يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ » . وقال الأصمعي : « يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق » ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ ، وقيل : « يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل ، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ » ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ ، ويكونُ مصدراً ، يقال : هَلَّ الشهرُ هلالاً .
ويقال : أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد :
865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ ... وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ
وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه ، وقيل : لأنه من البيان والظهورِ ، أي : لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ ، ولذلك يُقال : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ : ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه . . . ومنه قول تأبَّط شرّاً .
866 وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه ... بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ البقرة : 173 ] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة ، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم : عِنَن وحِجَج في : عِنَان وحِجاج .
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ « الأهِلَّة » أي : عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ ، ولذلك أُجيبوا بقولِه : « قل هي مواقيتُ » وقيل : إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ .

و « للناسِ » متعلِّقٌ بمحذوفٌ ، لأنه صفةٌ ل « مواقيت » أي : مواقيتُ كائنةً للناسِ . والمواقيتُ : جَمْعُ ميقات ، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ : مِوْقات من الوقت ، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها ، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً ، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ . والميقات منتهى الوقت .
قوله : { والحج } عطفٌ على « الناس » ، قالوا : تقديرُه : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول ، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر ، وكأنه تخصَّص بعد تعميم ، إذ قولُه « مواقيتُ للناسِ » ليس المعنى لذواتِ الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي : مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب « الناس » منابَه في الإِعراب .
وقرأ الجمهورُ « الحج » بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي وحفصاً عن عاصم فقرؤوا { حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ قال سيبويه : « هما مصدران » فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتحِ هو مصدرٌ ، وبالكسرِ هو اسمٌ .
قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة : 177 ] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع « البر » ، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً ، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم .
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش « البُيوت » و « بُيوت » بضمِّ الباء وهو الأصلُ ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء ، وكذلك في تصغيره ، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً ، قاله أبو البقاء .
و « مِنْ » في قولِه : « مِنْ ظهورِها » و « من أبوابها » متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية . والضميرُ في « ظهورها » و « أبوابِها » للبيوتِ ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك .
وقوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } « كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان ، وهما : » وليس البرُّ « { ولكن البر مَنِ اتقى } عُطِف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : » وَأْتُوا البيوت « » واتَّقوا الله « . وفي التصريح بالمفعول في قوله : » واتقوا الله « دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى ، أي : اتقى الله .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قوله تعالى : { فِي سَبِيلِ الله } : متعلِّقٌ بقاتِلوا ، على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي في نصرةِ سبيلِ الله ، / والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصلِ الطريقُ ، فتُجُوِّز به عن الدينِ ، لَمّا كان طريقاً إلى الله ، وإمَّا أن تُضَمِّن « قاتلوا » معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دينِ الله . والذين يقاتلونكم « مفعولُ » قاتلوا .

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } : « حيث » منصوبٌ بقوله : « اقتلوهم » ، و « ثَقِفْتُموهم » في محلِّ خفضٍ بالظرف ، وثَقِفْتموهم أي : ظَفِرتْم بهم ، ومنه : « رجلٌ ثقيف » : أي سريعُ الأخذ لأقرانِه ، قال :
867 فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني ... فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ
وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه ، ومنه الثقافةُ بالسيف ، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة ، قال الشاعر :
686 ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا ... وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ
قوله : { مِّنْ حَيْثُ } متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في « حيث » بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي ، وبإضافة « لدى » إليها . و « أَخْرجوكم » في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه . ولم يذكر « للفتنة » ولا « للقتل » - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً ، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر .
قوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ } قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : « ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم ، فإنْ قاتلوكم » بالألف من القتال ، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل . فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل ، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى . وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان ، أحدُهما : أن يكونَ المجازُ في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم . ومنه { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال : « فما وَهَنوا » أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم ، وقال الشاعر :
869 فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ ... وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ
أي : فإنْ تقتلوا بعضنا . وأَجْمَعوا على « فاقتلوهم » أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم ، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
و « عند » منصوبٌ بالفعل قبله . و « حتى » متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى « إلى » ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَن » كما تقرَّر . والضميرُ في « فيه » يعودُ على « عند » ، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا ب « في » ، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها ، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ « في » اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ « في » ، لا يُقال : « الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره ، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه . ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } أي : فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه .

قوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ } فيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « جزاءُ الكافرين » خبرُه ، أي : مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش . والثاني : أن يكونَ « كذلك » خبراً مقدماً ، و « جزاءٌ » مبتدأ مؤخراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ . و « جزاء » مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي : جزاءُ الله الكافرين . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « الكافرين » مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، تقديرُه : كذلك يُجْزى الكافرون ، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ .

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

ومتعلق الانتهاء محذوف؛ أي : عن القتال . وانتهى « افتعل » من النهي ، وأصلُ انتهَوا : انتهَيُوا ، فاستُثْقِلَتْ الضمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ساكنان فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين ، أو تقول : تَحَرَّكَتِ الياء وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَتِ الألفُ وبَقِيَتِ الفتحة تَدُلُّ عليها .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

قوله تعالى : { حتى لاَ تَكُونَ } : يجوزُ في « حتى » أن تكونَ معنى كي ، وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ بمعنى إلى ، وأَن مضمرةٌ بعدَها في الحالين . و « تكونُ » هنا تامةٌ و « فتنةٌ » فاعلٌ بها ، وأمَّا { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } فيجوزُ أن تكونَ تامةً أيضاً ، وهو الظاهرُ ، ويتعلَّقُ « لله » بها ، وأن تكونَ ناقصةً و « لله » الخبرَ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً لله . و { إِلاَّ عَلَى الظالمين } في محلِّ رفعٍ خبرُ « لا » التبرئةِ ، ويجوزُ أن يكونَ خبرُها محذوفاً تقديرُه : لا عدوانَ على أحد ، فيكونُ « إلا على الظالمين » بدلاً على إعادةِ تكرارِ العامل . وهذه الجملةُ وإنْ كانَتْ بصورةِ النفي فهي في معنى النهي ، لئلا يلزم الخُلْفُ في خبره تعالى ، والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء ، أَبْرَزَتْه في صورةِ النفي المَحْضِ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتةَ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك ، وعكسُه في الإِثباتِ إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشيءِ أبرزوه في صورة الخبرِ نحو : { والوالدات يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 17 ] وسيأتي .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر } مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ/ تقديرُه : انتهاكُ حرمةِ الشهرِ الحرام بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ ، والألفُ واللامُ في الشهر الأول والثاني للعهد ، لأنهما معلومان عند المخاطبين ، فإنَّ الأولَ ذو القعدة من سنة سبع ، والثاني من سنة ست .
وقرىء : « والحُرْمات » بسكون الراء ، ويُعْزى للحسن ، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه : هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين ، عند قوله { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] وقوله : { فَمَنِ اعتدى } يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ فتكونُ الفاء جواباً . والثاني : أن تكونَ موصولةً فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر ، وقد تقدَّم لذلك نظائر .
قوله : { بِمِثْلِ مَا اعتدى } في الباء قولان ، أحدُهما : أن تكونَ غيرَ زائدةٍ ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا ، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه . والثاني : أنها زائدةٌ أي : مثلَ اعتدائه ، فتكون : إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : اعتداء مماثلاُ لاعتدائه ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي : فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه . و « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً ، أي : مثلَ ما اعتدى عليكم به ، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } : في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعول به لأن « ألقى » يتعدَّى بنفسه ، قال تعالى : { فألقى موسى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ] ، وقال :
870 حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ ... وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله :
871 وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً ... من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : « والمعنى : ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم » إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله :
872 . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم ، ويكون معناها السبب كقولِك : لا تُفْسِدْ حالَك برأيك . الثالث : أن يضمَّن « ألقى » معنى ما يتعدَّى بالباء ، فيُعدَّى تعديته ، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره : ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة ، كقولك : أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي : طَرَحْتُه على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس ، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن « ألقى » يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ ، فإنه قال : « وقال المبرد : ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ » .
والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ ، يُقال : هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة . وقال الزمخشري « ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة ، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار والجُوار » ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها ، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد ، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل ، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ . وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء ، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأَولى أن يقال : إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر . وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة . قال ابن عطية : « وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام » وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري .
وزعم ثعلب أن « تَهْلُكَه » لا نظير لها ، وليس كذلك لِما حكى سيبويه . ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن : التَّنْفُلة والتنصُبة .
والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَة : ما أمكن التحرُّزُ منه ، والهَلاكُ ما لا يمكن . وقيل : هي نفسُ الشيء المُهْلِك . وقيل : هي ما تَضُرُّ عاقبتُه . والهمزة في « ألقى » للجَعلِ على صفة نحو : أَطْرَدْتُه أي : جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها ، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول ، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول ، كأنه قيل : لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قوله تعالى : { والعمرة للَّهِ } : الجمهورُ على نصب « العمرة » على العطفِ على ما قبلها و « لله » متعلقٌ بأتِمُّوا ، واللامُ لامُ المفعولِ من أجله . ويجوزُ أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ من الحج والعمرة ، تقديره : أتِمُّوها كائنين لله . وقرأ عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت : « والعمرةُ » بالرفع على الابتداء ، و « لله » الخبر ، على أنها جملةٌ مستأنفةٌ .
قوله : { فَمَا استيسر } ما موصولةٌ بمعنى الذي ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها في محلِّ نصبٍ أي : فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر ، وهذا مذهبُ ثعلب . والثاني : ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : فعليه ما استَيْسر . والثالث : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى ، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو : تكَّبر واستكبر ، وتَعَظَّم واستعظم . وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب .
والحَصْرُ : المَنْعُ ، ومنه قيل للمَلِك : الحَصِير ، لأنه ممنوعٌ من الناس ، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ . فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً ، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا :
873 وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ ... عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وفَرَّق بعضُهم ، فقال الزمخشري : يقال : أُحْصِر فلانٌ إذا معه أمرٌ من خوف أو مرض أو عجز ، قال تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، وقال ابن ميادة : « وما هَجْرُ ليلى أن تكون تباعَدَتْ » ، وحُصِر إذا حبسه عدوٌّ أو سجن ، هذا هو الأكثرُ في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء/ مثل : صَدَّه وأصدَّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضاً فإنه قال : « والمشهورُ من اللغة : أُحْصِر بالمرضِ وحُصِر بالعَدُوِّ . وعكس ابن فارس في » مجمله « فقال » حُصِر بالمرضِ وأُحْصِر بالعَدُوّ « وقال ثعلب : » حُصِر في الحَبْسِ أقوى من أُحْصِر « ، ويقال : حَصِرَ صدرُه أي : ضاق؛ ورجل حَصِر : لا يبوحُ بسرِّه ، قال جرير :
874 وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا ... حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا
والحَصيرُ معروفٌ لامتناعِ بعضه ببعض ، والحصير أيضاً المِلك كما تقدَّم لاحتجابه . قال لبيد :
875 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ
قوله : { مِنَ الهدي } فيه وجهان : أحدُهما : أن تكونَ » مِنْ « تبعيضيةً ويكونَ محلُّها النصبَ على الحال من الضمير المستتر في » اسْتَيْسر « العائدِ على » ما « أي : حالَ كَوْنِهِ بعض الهَدْي . والثاني : أن تكون » مِنْ « لبيان الجنس فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أيضاً .
وفي الهَدْي قولان ، أحدُهما : أنه جمعُ هَدْيَة كجَدْي جمع جَدْيَة السَّرْج . والثاني : أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع المفعول أي : المُهْدَى ، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجمعِ .

قال أبو عمرو بن العلاء : « لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً » .
وقرأ مجاهد والزهري : « الهَدِيُّ » بتشديد الياء ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا . والثاني : أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو : قتيل بمعنى مَقْتُول .
و « مَحِلَّه » يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ ، ولم يُقْرَأ إلاَّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلاَّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً . وفَرَّق الكسائي بينهما ، فقال : « المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار » .
وقيل : { مِنكُم } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من « مريضاً »؛ لأنه في الأصل صفةٌ له ، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً . وتكونُ « مِنْ » تبعيضيةً ، أي : فَمَنْ كان مريضاً منكم . والثاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً ، قال الشيخ : « وهو لا يكادُ يُعْقَلُ » . « ومَنْ » يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً .
قوله : { أَوْ بِهِ أَذًى } يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل : أما الأولُ فيكونُ « به » هذا الجَارُّ والمجرور معطوفاً على « مريضاً » الذي هو خبرُ كان ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ . ويكونُ « أذىً » مرفوعاً به على سبيلِ الفاعليةِ ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد رَفَع الفاعل عند الكل ، فيصيرُ التقديرُ : فَمَنْ كان كائناً به أذى من رأسِهِ . وأما الثاني فيكونُ « به » خبراً مقدَّماً ، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ ، وفي الوجهِ الأولِ كان نصباً ، و « أذىً » مبتدأٌ مؤخَّرٌ ، وتكونُ هذه في محلِّ نصبٍ لأنها عَطفٌ على « مريضاً » الواقع خبراً لكان ، فهي وإنْ كانَتْ جملةً لفظاً فهي في محلِّ مفردٍ ، إذ المعطوفُ على المفردِ مفردٌ ، لا يقال : إنه عاد إلى عطفِ المفرداتِ فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفرقِ . وأجازوا أن يكونَ « أذى » معطوفاً على إضمارِ « كان » لدلالةِ « كانَ » الأولى عليها ، وفي اسمِ « كان » المحذوفَةِ حنيئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ ضميرَ « مَنْ » المتقدمة ، فيكونُ « به » خبراً مقدماً ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لكان المضمرةِ . والثاني : أن يكونَ « أذى » ، و « به » خبرَها ، قُدِّم على اسمِها .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « أو به أذى » معطوفاً على « كان » ، وأَعْرَبِ « به » خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والهاءُ في « به » عائدةٌ على مَنْ . وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه ، قال : « لأنه كان قد قَدَّمَ أن » مَنْ « شرطيةُ ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً ، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ .

فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل : فإذا جَعَلْنَا « مَنْ » موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون « به أذى » معطوفاً على « كان »؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ « مَنْ » الموصولةَ إذا ضَمِّنَتْ معنى اسم الشرطَ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جملةً فعليةً أو ما هي في قوتها « . والباءُ في » به « يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للإِلصاق ، والثاني : أن تكونَ ظرفيةً .
قولُهُ : { مِّن رَّأْسِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى ، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ . والثاني : أن يتعلَّق بما يتعلَّقُ » به « من الاستقرارِ ، وعلى كلا التقديرين تكونُ » مِنْ « لابتداءِ الغاية .
قوله : { فَفِدْيَةٌ } في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ ، أي : فعليه فديةٌ . والثاني : أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي : فالواجبُ عليه فديةٌ . والثالثُ : أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي : فَتَجِبُ عليه قديةُ . وقُرىء شاذاً : » فَفِدْيَةً « نصباً ، وهي على إضمارِ فعلٍ أي : فَلْيَفْدِ فديةً . و » مِنْ صيام « في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً ل » فدية « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و » أو « للتخيير ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ : فَخَلقَ فَفِدْيَة .
وقرأ الحسنُ والزهري » نُسْك « بسكون السين ، وهو تخفيفُ المضموم . والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ ، يقال : آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى ، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء ، والنبات للإِنبات .
وفي النُّسُك قولان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ يقال : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم ، والإِسكان كما قرأه الحسن . والثاني : أنه جمع نَسِيكة ، قال ابن الأعرابي : » النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة ، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام ، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً ، وقيل للذَّبِيحة « نَسِيكة » لذلك « .
قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } الفاءُ عاطفةٌ على ما تقدَّم ، و » إذا « منصوبةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التقديرَ : فعليه ما اسْتَيْسَرَ ، أي . فاستقرَّ عليه ما استيسر .
وقوله : { فَمَن تَمَتَّعَ } الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا ، والفاءُ في قولِهِ : » فما استيْسَرَ « جوابُ الشرطِ الثاني . ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ . وقد تقدَّم الكلامُ في » فما استَيْسَرَ « / فأغنى عن إعادته .
قوله : { فَصِيَامُ } في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ : » فَفِدْيَةٌ « .

وقرىء « فصيام » نصباً ، على تقديرِ فَلْيَصُمْ ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً ، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ . و « في الحج » متعلقٌ بصيام . وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي : في وقتِ الحَجِّ . ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين ، أي : وقتَ أفعالِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي : مكانَ الحج ، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ .
قوله : { وَسَبْعَةٍ } الجمهورُ على جَرِّ « سبعة » عطفاً على ثلاثة . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : « وسبعةً » بالنصب . وفيها تخريجان ، أحدهما : قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ « ثلاثة » كأنه قيل : فصيامُ ثلاثة ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المُنَوَّنِ النصبَ في « يتيماً » . والثاني : أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : « فَلْيَصُومُوا » ، قال الشيخ : « وهذا مُتَعَيَّنٌ ، لأنَّ العطفَ على الموضعِ يُشْتَرَطُ فيه وجودُ المُحْرِزِ » يعني على مذهب سيبويه .
قوله : { إِذَا رَجَعْتُمْ } منصوبٌ بصيام أيضاً ، وهي هنا لِمَحْضِ الظرفِ ، وليس فيها معنى الشرط . لا يقال : يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان ، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين ، فَعَطَفَ « سبعةٍ » على « ثلاثة » وعطف « إذا » على « في الحج » .
وفي قوله : { رَجَعْتُمْ } شيئان : أحدُهما التفاتٌ ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبلَه « فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ » فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على « مَنْ » ، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل : « إذا رجع » بضميرِ الغَيْبَةِ . وأمَّا الحملُ : فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى « منْ » ، ولو راعى اللفظَ لأفردَ ، فقال : « رَجَعَ » .
وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ } مبتدأ وخبرٌ ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به . وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ ، وفي الحديث : « وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال » ، وحكى الكسائي : « صُمْنَا من الشهرِ خمساً »
وفي قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ } - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني ، منها قولُ ابن عرفة : « العرب إذا ذكرت عددين ، فمذهبُهم أن يُجملوهما » ، وحَسَّن هذا القولَ الزمخشري بأَنْ قال : « فائدةُ الفَذْلَكَةِ في كل حساب أن يُعْلَمَ العددُ جملةً كام يُعْلَمُ تفصيلاً ، لِيُحْتَاط به من جهتين فيتأكَّد العِلمُ ، وفي أمثالهم » علمان خيرٌ من علم « . قال ابن عرفة : » وإنما تَفْعَلُ العربُ ذلك لأنَّها قليلةُ المعرفة بالحساب ، وقد جاء : « لا نَحْسُب ولا نكتُب »

، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم ، قال النابغة :
876 تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها ... لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ
وقال الفرزدق :
877 ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ ... وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام
وقال الأعشى :
878 ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي ... وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ
فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي ... وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ
وقال آخر :
879 فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً ... وأربعةً فذلك حِجَّتانِ
وعن المبرد : « فتلك عشَرَةٌ : ثلاثةٌ في الحج وسبعةٌ إذا [ رجعتم ] فَقَدَّم وأخَّر » ، ومثله لا يَصِحُّ عنه . وقال ابن الباذش : « جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول : » زيدٌ رجل صالح « يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجل . وقال الزجاج » جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثلاثةً أو سبعةً؛ لأنَّ الواوَ قد تقوم مَقامَ أو ، ومنه : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] فأزال احتمالَ التخيير ، وهذا إنما يتمشَّى عند الكوفيين ، فإنهم يُقيمون الواوَ مُقامَ أو . وقال الزمخشري : « الواوُ قد تجيء للإِباحةِ في قولِك : » جالس الحسنَ ابن سيرين « ألا ترى أنه لو جالَسَهما معاً أو أحدَهما كان ممتثلاُ فَفُذْلِكَتْ نفياً لِتَوَهُّم الإِباحة » قال الشيخ : « وفيه نظرٌ لأنه لا تُتَوَهَّمُ الإِباحه ، فإنَّ السياق سياقُ إيجاب ، فهو ينافي الإِباحة ، ولا ينافي التخييرَ ، فإن التخييرَ يكون في الواجبات ، وقد ذكر النحويون الفرقَ بين التخييرِ والإِباحةِ » .
قوله : { ذلك لِمَن } « ذلك » مبتدأٌ ، والجارُّ بعدَه الخبرُ . وفي اللامِ قولان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها ، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ . والثاني : أنها بمعنى على ، كقولِهِ : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } ، [ البقرة : 161 ] ولا حاجةَ إلى هذا . و « مَنْ » يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً . و « حاضري » خبرُ « يكن » وحُذِفَت نونُه للإِضافة و « شديدُ العقاب » من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة إلى مرفوعها ، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } : « الحَجُّ » مبتدأ و « أشهرٌ » خبرهُ ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة ، و « الحَجُّ » فِعْلٌ من الأفعال ، و « أشهرٌ » زمانٌ ، فهما غَيْران ، فلا بُدَّ من تأويل ، وفيه ثلاثةُ احتمالاتٍ ، أحدُهما : أنه على حَذْف مضافٍ من الأول ، تقديره : أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ . الثاني : الحَذْفُ من الثاني تقديرُه : الحَجُّ حَجُّ أشهرٍ ، فيكونُ حَذَفَ من كلِّ واحدٍ ما أَثْبَتَ نظيرَهُ . الثالث : ان تَجْعَلَ الحدثَ نفسَ الزمانِ مبالغةً ، ووجهُ المجازِ كونُه حالاً فيه ، فلما اتُّسِعَ في الظرفِ جُعِلَ نفسَ الحدثِ ، ونظيرُها : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] / وإذا كان ظرفُ الزمانِ نكرةً مُخْبَراً به عن حَدَثٍ جاز فيه الرفعُ والنصبُ مطلقاً ، أي : سواءً كان الحدث مستوعباً للظرفِ أم لا ، هذا مذهبُ البصريين .
وأمَّا الكوفيون فقالوا : إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو : « الصومُ يومٌ » وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو : « ميعادُك يومُ » والفراءُ يجيز نصبَهُ مثلَ البصريين ، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ « أشهر » يعني في الآية لأنها نكرةٌ ، فيكونُ له في المسألة قولان ، وهذه المسألةُ بعيدةُ الأطرافِ تضُمُّها كتبُ النحويين . قال ابن عطية : « ومَنْ قَدَّر الكلامَ : [ الحج ] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبُ الأشهر ، ولم يقرأ به أحدٌ » قال الشيخ : « ولا يلزم ذلك ، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي » .
قوله : { فَمَنْ } : « مَنْ » يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها ، و « فيهن » متعلِّقٌ ب « فَرَضَ » ، والضميرُ في « فيهن » يعودُ على « أشهر » ، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العاقلِ في القلَّةِ يُعامَل معاملةَ جمْعِ الإِناثِ على الأفصحِ ، فلذلك جاء « فيهنَّ » دونَ « فيها » ، وهذا بخلافِ قولِهِ { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] لأنه هناك جمعُ كثرة .
قوله : { فَلاَ رَفَثَ } الفاءُ : إمَّا جوابُ الشرطِ ، وإمَّا زائدةٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين . وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين « رفث » و « فُسوق » ورفعِهما وفتحِ « جدال » ، والباقون بفتح الثلاثة ، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين ، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين .
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّ « لا » ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء ، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها . و « في الحجّ » خبرُ المبتدأ الثالث ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما ، أو يكونُ « في الحج » خبرَ الأول ، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « في الحج » خبرَ الثلاثة .

ولا يجوزُ أن يكونَ « في الحج » خبرَ الثاني ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب ، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ .
والثاني : أن تكون « لا » عاملَةً عملَ ليس ، ولعملِها عملَها شروطٌ : تنكيرُ الاسم ، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا ينتقض النفيُ ، فيكونُ « رفث » اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه ، و « وفي الحجِّ » الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه . وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ « لا » عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً ، أنشد سيبويه :
880 مَنْ صَدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ
وأنشد غيره :
881 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا
وقول الآخر :
882 - أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها ... لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا
وأنشدَ ابنُ الشجري :
883 وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا
والكلامُ في هذه الأبيات له موضعٌ غيرُ هذا .
وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها ، تقديرُه : فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً ، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها ، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة ، و « في الحجِّ » متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ ، على أن المسألة من التنازعِ ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين ، وقد يمكنُ أن يُقَال : إن هذه « لا » هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب ، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً ، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله :
884 ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحريرُ هذا المذهبِ .
وأمَّا قراءةُ الفتحِ في الثلاثةِ فهي « لا » التي للتبرئةِ . وهل فتحةُ الاسمِ فتحةُ إعرابٍ أم بناءٍ؟ قولان ، الثاني للجمهورِ . وإذا بُني معها فهل المجموع منها ومن اسمِها في موضعِ رفعٍ بالابتداء ، وإن كَانَتْ عاملةً في الاسمِ النصبَ على الموضع ولا خبرَ لها؟ أو ليس المجموعُ في موضعِ مبتدأ ، بل « لا » عاملةٌ في الاسمِ النصبَ على الموضعِ وما بعدها خبرٌ ل « لا » ، لأنها أُجْرِيَتْ مُجْرى « أنَّ » في نصبِ الاسمِ ورفعِ الخبر؟ قولان ، الأولُ قولُ سيبويه ، والثاني قولُ الأخفش . وعلى هذين المذهبين يترتَّب الخلافُ في قوله « في الحج » فعلى مذهبِ سيبويه يكونُ في موضعِ خبرِ المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش يكونُ في موضعِ خبرِ « لا » ، وقد تقدَّم ذلك أولَ الكتابِ ، وإنما أُعيدُ بعضَه تنبيهاً عليه .

وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث : فالرفعُ على ما تقدَّم ، وكذلك الفتحُ ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ : وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ « لا » وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ « في الحج » خبراً عن الجميع ، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ . وأمَّا على مذهبِ الأخفشِ فلا يجوز أن يكونَ « في الحج » إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً ل « لا » . ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له .
وإنما قُرِىء كذلك ، قال الزمخشري : « لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال ، كأنه قيل : ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج » واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفثُ والفسوقُ دونَ الجدالِ بقولِه عليه السلام : « مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ » وأنه لم يَذْكُرِ الجدالَ . وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحبُ هذه القراءة ، إلا أنه أفصحَ عن مرادِه ، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفعُ بمعنى فلا يكونُ رفثٌ ولا فسوقٌ؛ أَيْ شيءٌ يَخْرُج من الحَجِّ ، ثم ابتدأ النفيَ فقال : « ولا جدالَ » ، فأبو عمرو لم يجعل النفيَيْن الأوَّلَيْن نهياً ، بل تركهما على النفي الحقيقي؛ فمِنْ ثَمَّ كان في قولِه هذا نظرٌ؛ فإنَّ جملة النفيِ بلا التبرئةِ قد يرادُ بها النهيُ أيضاً ، وقيل ذلك في قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . والذين يظهر في الجوابِ عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : « وقيل : الحُجَّةُ لمَنْ رفعهما أنَّ النفي فيهما ليس بعامٍّ ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعضِ الناسِ بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامٌّ . . . » وهذا يتمشَّى على عُرْفِ النحويين فإنهم يقولون : لا العاملةُ عملَ « ليس » لنفي الوَحْدة ، والعاملةُ عملَ « إنَّ » لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يُقال : لا رجلَ فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت ، ولا يَحْسُن ذلك إذا بَنَيْتَ اسمَها أو نَصَبْتَ بها . وتوسَّط بعضُهم فقال : التي للتبرئة نصٌّ في العمومِ ، وتلك ليست نَصَّاً ، والظاهرُ أنَّ النكرةَ في سياق النفي مطلقاً للعموم .
وقد تقدَّم معنى الرَّفَثِ والفِسْق . وقرأ عبد الله « الرَّفُوث » وهو مصدر بمعنى الرَّفث .
وقوله : { فَلاَ رَفَثَ } وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت « مَنْ » شرطيةٌ ، ورفع إن كانت موصولةً ، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى « مَنْ »؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط ، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان ، أحدُهما : أن تقدِّره بعد « جدال » تقديرُه : ولا جدالَ منه ويكون « منه » صفةً ل « جدال » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم : « السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم » تقديره : منوانِ منه .

والثاني : أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج « تقديره : ولا جدالَ في الحجِّ منه ، أو : له . ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من » الحج « . وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ/ وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ ، والأصلُ : في حَجِّه ، كقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] ثم قال : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مَأْواه .
وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله :
885 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكأنَّ نظمَ الكلام يقتضي : » فَمَنْ فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَث فيه « ، وحَسَّنَ ذلك في الآيةِ الفصلُ بخلاف البيت .
والجِدال مصدر » جادَلَ « . والجدالُ : أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة ، وهي الأرض؛ كأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلَيْن يرمي صاحبه بالجَدالَةِ ، قال الشاعر :
886 قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ ... وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
ومنه : » الأجْدل « الصقر ، لشِدَّته . والجَدْلُ فَتْلُ الحَبْل ، ومنه : زِمامٌ مجدولٌ أي مُحْكَمُ الفَتْلِ .
قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } تقدَّم الكلامُ على نظيرتها ، وهي : { مَا نَنسَخْ } ، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا . قال أبو البقاء : » ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ : وهو أن يكونَ « منْ خير » في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديرُه : وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ « .
و » يَعْلَمْه « جزمٌ على جوابِ الشرطِ ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام : فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير ، كأنه قيل : يُجازِكم ، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي : فيثيبه عليه .
وفي قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ } التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه : » فَمَنْ فَرَض « . وحُمِلَ على معنى » مَنْ « إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه .
وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال : » مِنْ خير « متعلقٌ بتَفْعلوا ، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقدرُه : » وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير « والهاءُ في » يَعْلَمْه « تعودُ إلى » خير « . وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ قبلَه كيف يَجْعَلُه نعت مصدرٍ محذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعود إلى » خير « يلزم منه خلوُّ جملةِ الجوابِ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ ، وذلك لا يجوز أمَّا لو كانَتْ أداةُ الشرط حرفاً فلا يُشْترط فيه ذلك فالصوابُ ما تقدَّم . وإنما ذكرتُ لك هذا لئلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه . والهاءُ عائدةٌ على » ما « التي هي اسمُ الشرط . وألفُ » الزاد « منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم : تَزَوَّدَ .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ } : « أَنْ » في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ ، في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ : إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهما ، وإمَّا بمحذوفٍ ، لأنه صفةٌ ل « جُناح » ، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي : جناحٌ كائنٌ في كذا . ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ ب « ليس » ، واستضعفه ، ولا ينبغي ذلك ، بل يُحْكَمُ بتخطئتِه البتة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا ، وأن يكونَ صفةً ل « فضلاً » ، فيكونُ منصوبَ المحل ، متعلقاً بمحذوفٍ . و « مِنْ » في الوجهين لابتداءِ الغاية ، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي : فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم .
قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم } العاملُ فيها جوابُها وهو « فاذكروا » قال أبو البقاء . « ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ » . وقد منع الشيخ مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام ، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً ، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة .
قوله : { مِّنْ عَرَفَاتٍ } متعلِّقٌ ب « أَفَضْتُم » والإِفاضةُ في الأصل : الصبُّ ، يقال : فاضَ الماء وأَفَضْتُه ، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً . والهمزة في « أَفَضْتُم » فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري ، وقَدَّره الزجاج فقال : « معناه : دَفَع بعضُكم بعضاً » . والثاني : أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به . قال الشيخ : « لأنه لا يُحفظ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه ، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة .
وأصل أَفَضْتُم : أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك ، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ .
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما : أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال : » لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف « . والثاني : أنه مشتقٌّ ، واختُلِفَ في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال : عَرَفْتُ عَرَفْتُ ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها ، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء .

وقيل : مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة ، وقيل : من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك ، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد . وقيل : عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان ، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال ، أظهرُها : أنه تنوينُ مقابلةٍ ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور ، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب . والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : « فإن قلت : فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان : التعريفُ والتأنيثُ . قلت : لا يخلو التأنيثُ : إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في » سعاد « فالتي في لفظِها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث ، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها ، لأنَّ [ هذه ] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها » فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ . والثالث : أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات .
والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين : الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً ، وفيه لغة ثانية : وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً وإعرابُه بالكسرةِ نصباً . والثالثة : إعرابُه غيرَ منصرف بالفتحة جراَ ، وحكاها الكوفيون والأخفش ، وأنشدَ قول امرىء القيس :
887 تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي
بالفتح .
قوله : { عِندَ المشعر الحرام } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ باذكروا . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ « اذكروا » أي : اذكروه كائنين عند المشعِر .
قوله : { كَمَا هَدَاكُمْ } فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة ، وهذا تقدير الزمخشري . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ ، وهو مذهبُ سيبويه . والثالث : أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجلِ هدايته إياكم ، حكى سيبويه « كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه » . ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ .
و « ما » في « كما » يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ مصدريةً ، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ ، أي : كهدايته . والثاني : - وبه قال الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله :

888 ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه ... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ
وقال آخر :
889 لعمرك إنني وأبا حميدٍ ... كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ
أريد هجاءَه وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبدٌ لئيم
وقد منع صاحبُ « المستوفى » كونَ « ما » كافةً للكافِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم .
والرابع : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل « اذكروا » تقديرُه : مُشْبِهين لكم حين هداكم . قال أبو البقاء : « ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ . والخامس : أن تَكونَ الكافُ بمعنى » على « كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .
قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } : » إنْ « هذه هي المخففةُ من الثقيلة ، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ ، وجازَ دخولُ » إنْ « على الفعل لأنه ناسخٌ . وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ » إنَّ « أو لامٌ أخرى غيرُها ، اجتُلِبَتْ للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فالفراءُ يزعم أنها بمعنى » إنْ « النافية واللامُ بمعنى إلاَّ أي : ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين ، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ : بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ » إنْ « بمعنى قد ، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ
الفراء ، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال .
و » من قبله « متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه » لمن الضالين « ، تقديرُه : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين . ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده ، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف ، وقد تقدم تحقيقه .
والهاء في » قبله « عائدةٌ على » الهدى « المفهومِ من قوله » كما هداكم .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معني كلمة قرية في قوامبس اللغة{جماعة يقطنون قطعة معينة من الارض}

آيات ورد فيها "قرية "  المعني الاصلي لكلمة قرية هو جماعة من الناس تآلفوا علي مجموعة معتقدات او دين وثقافة واجتماعيات يقطنون قط...